تكملة كتاب وقفات في حياة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله
تكملة كتاب وقفات في حياة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله - تكملة كتاب وقفات في حياة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله - تكملة كتاب وقفات في حياة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله - تكملة كتاب وقفات في حياة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله - تكملة كتاب وقفات في حياة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله
خلقه ودينه
ولا يتسع المقام هنا لذكر كثيرٍ من صور عظيم خلقه ودينه رحمه الله ، ونذكر في هذا المقام الضيق عدة صور لعل الله أن ينفع بها :
أ. في لقاءات الشيخ رحمه الله في بيته كل خميس قبل الظهر ، كان الشيخ رحمه الله يبدأ اللقاء بتفسير آيات من القرآن الكريم ، وقد رأى أن يبدأ من الأجزاء الأخيرة لكثرة قراءتها واستماعها من الناس ، ثم يفسح المجال لكل زائر بسؤال واحد .
وفي بعض تلك اللقاءات – والتي جمعت مادتها بما عرف بـ " الباب المفتوح " – استأذن بعض الشباب بقراءة أبيات من الشِّعر نظمها في مدح الشيخ رحمه الله ، وقد قاطعه الشيخ مراراً معترضاً على مدحه وطلب تغيير تلك الكلمات التي يُمدح فيها الشيخ ، وكلما سمع مدحاً اعترض وقاطع وأوقف الطالب ، حتى قال الطالب : لا يصلح هذا يا شيخ ! إما أن أقرأ ما كتبتُ أو أتوقف ! قال الشيخ : توقف أحب إليَّ !! ولم يرض رحمه الله بهذا المديح .
والقصة حين تسمعها مباشرة في الشريط تتأثر من خُلُق الشيخ وعظيم دينه ، وقد كُتبت الحادثة فيما جمع من تلك اللقاءات ، فكانت هذه الحادثة على هذا النحو :
الطالب :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .
أما بعد يا فضيلة الشيخ : أستاذنكم في قصيدة أتلوها :
يا أمـتي إن هـذا الليـل يعقبـه
والخيـر مـرتقب والفتح منتظـر
بصحوةٍ بـارَكَ الباري مسيـرتها
ما دام فينا ابن صالح شيخ صحوتنا فجر وأنواره في الأرض تنتشر
والحق رغم جهود الشر منتشر
نقية ما بها شوب ولا كـدر
بمثله يرتجى التأيـيد والظفـر
أنا لا أوافق على هذا المدح لأني لا أحب أن يربط الحق بالأشخاص ، كل شخص يأتي ويذهب ، فإذا ربطنا الحق بالأشخاص ، معناه أن الإنسان إذا مات قد ييأس الناس من بعده .
فأقول : إذا كان بإمكانك أن تغير البيت الأخير بقولك :
ما دام منهاجنا نـهج الأولى سلفوا بمثلها يرتجى التأيـيد والظفـر
فهذا طيب .
أنا أنصحكم من الآن وبعد الآن ألاّ تجعلوا الحق مربوطا بالرجال :
أولا ً : لأنهم قد يضلون ، فهذا ابن مسعود رضي الله عنه يقول : من كان مستنا فليستن بمن مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة .
ثانياً : أنه سيموت ، ليس فينا أحدٌ يبقى أبداً ! { وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون } .
وثالثاً : أنه ربما يغتر إذا رأى الناس يبجِّلونه ويكرمونه ويلتفون حوله ربما ظن أنه معصوم ويدَّعي لنفسه العصمة وأن كل شيء يفعله فهو حق ، وكل طريق يسلكه فهو مشروع ، ولا شك أنه يحصل بذلك هلاكه ، ولهذا امتدح رجل رجلا عند النبي عليه الصلاة والسلام فقال له : " ويحك ، قطعت عنق صاحبك " .
وأنا أشكر الأخ على ما يبديه من الشعور نحوي وأسأل الله أن يجعلني عند حسن ظنه أو أكثر ، ولكن لا أحب المديح .
" لقاء الباب المفتوح " / اللقاء السابع والأربعون / السؤال 1148 .
قلت : فلعلَّ في هذا عبرة لمحبي الشهرة والباحثين عن مديح الناس وهم لا يستحقونه ! أن يروا هذا الإمام الذي يستحق المدح كيف يقابله !
ب. في إحدى عمرات الشيخ كان قد أدى العمرة مع جمع من أصحابه وقد سكنوا جميعاً في مسكن واحدٍ ، وفي أثناء رجوعهم من المسجد الحرام إلى المسكن مرَّ الشيخ رحمه الله مع مَن معه على مجموعة من الشباب اللاهي وهم يلعبون " كرة القدم " ! فوقف الشيخ بينهم ينصحهم ويوجههم للصلاة ، فكان أن قابل أولئك الشباب الشيخَ بشيء من اللامبالاة والاستهزاء ! فطلب الشيخ ممن معه أن يذهب إلى السكن ويبقى وحده مع أولئك الشباب !
فكان أن حصل للشيخ ما أراده ، فلما رأى الشباب أن الشيخ مصرٌّ على البقاء ليذهبوا معه للصلاة سبَّ عليه واحدٌ منهم سبّاً مقذعاً بكلمات قبيحة نابية !
وقد فعل ذلك حتى لا يجعل مجالاً للشيخ في أن يبقى بينهم ، وهم – بطبيعة الحال – لا يعرفون أن هذا هو الشيخ ابن عثيمين !
فتبسم الشيخ ! وأصرَّ على البقاء حتى يصلِّي الشباب ، وأن يذهب هذا السابُّ معه! وجلس الشيخ وسطهم على حجر مصرّاً على قوله .
والشباب استاءوا من مسبَّة صاحبهم لمثل هذه " الشيبة " !
فطلبوا من صاحبهم السابّ - لما رأوا إصرار الشيخ – أن يرافق الشيخ ، ومعنى كلامهم أن يمشُّوه على قدر عقله !
فذهب الشاب السابُّ أخيراً مع الشيخ !
ولما دخلوا المسكن ، استأذن الشيخ من الشاب قليلاً .
فخاطب بعضُ مَن مع الشيخ ذلك الشاب : هل تعرف الشيخ ابن عثيمين من قديم !!
فكاد الشاب أن يُغمى عليه من الصعقة !
وقال : ماذا قلت ؟ من هذا الشيخ ؟
قال : هذا الشيخ ابن عثيمين ! ألا تعرفه ؟؟
فما كان من الشاب إلا أن تأثر من موقفه ذاك وبكى ، فلما حضر الشيخ قبَّل رأسَه وطلب منه المسامحة !
وما كان من الشيخ إلا أن يسامحه وهو الذي صبر عليه وهو يسبه ويشتمه ، ثم علَّمه الوضوء والصلاة، فالتزم ذلك الشاب على يد الشيخ رحمه الله .
فانظر إلى هذه الهمة ، وهذا الحرص ، وذلك الصبر من الإمام رحمه الله .
ت. ولما أفتى الشيخ رحمه الله بفتيا معلومة اتهمه بعض الناس بتهم شتى ، تتعلق باعتقاده ! والشيخ مقتنع بما قال وله في ذلك سلف مثل شيخ الإسلام رحمه الله.
وفي مرَّة زاره شبابٌ من طلبة العلم ومعهم أسئلة ، ومن ضمن تلك الأسئلة ما يتعلق بتلك الفتوى ، وما قيل في الشيخ – رحمه الله - .
فأجاب الشيخ ، ومن ضمن إجابته قال : إن الناس إذا رأوا إنساناً مشهوراً ! تكلموا عليه وطعنوا فيه حسداً من عند أنفسهم … إلخ .
وراح الشباب ومعهم التسجيل .
وفي الليل اتصل الشيخ رحمه الله بالشاب الذي أحضرهم إليه طالباً منه الشريط !!
فاستغرب الشاب – أولاً – اتصال الشيخ ، واستغرب أكثر من هذا الطلب !!
فطلب الشاب التوضيح من الشيخ عن سبب طلبه الشريط قال الشيخ : هناك كلمة قلتُها ما كان ينبغي لي قولها ! وأرى أن تحذف من الشريط ! وهي قولي " إنساناً مشهوراً " !! فهذه فيها تزكية للنفس أرى أن تحذف !!!
ث. وقد عرض على الشيخ تولي القضاء من قبل مفتي المملكة العربية السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ - رحمه الله - الذي ألح على فضيلته بتولي القضاء ، بل أصدر قراره بتعيينه ، فطلب منه الإعفاء ، وبعد مراجعات واتصالات سمح بإعفائه من منصب القضاء .
ج. وكان الشيخ رحمه الله متواضعاً ، فعلى كبَر سنِّه وكثرة علمه ، لم يمنعه ذلك من الاستفادة حتى ممن هو أقل منه سنّاً وعلماً ، أو من غير أهل العلم الشرعي ، ونذكر في ذلك صورتين :
1. الأولى : أنه لما كان يدرِّس تلامذته شرح صحيح البخاري ، ذكر مسألة ما يخرج من المرأة من رحمها ، وذكر أنه طاهر ويوجب الوضوء ، وذكر أن ابن حزم – رحمه الله – كان من المخالفين ، وقال – رحمه الله – لتلامذته :
ولكني لم أر له سلفاً في ذلك ، فإن رأيتم له سلفاً فيا حبذا !.. وقال :
أنتم جزاكم الله خيراً ساعدونا !!
2. والثانية : حدَّث بها الشيخ عادل الكلباني فقال :
وأذكر لكم موقفاً شهدته مع فقيدنا الوالد الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين - تغمده الله بواسع رحمته ، وأدخله فسيح جنته - فقد كنا في زيارة له منذ أعوام جاوزت ثمانية - لم أعد أذكر - وكان عنده مجموعة من الأطباء ، من بينهم الدكتور " البار " ، وكان فضيلتُه يسألهم عن الدماء وأحوال المرأة في حيضها ونفاسها ، وكان تلميذاً نجيباً !! ، لم يدعْ مسالةً إلا سأل عنها ، ثم لما فرغ ، وأجابه الأطباء عن مسائله قال : إن مسألة الحيض من معضلات الفقه ، والتي تشكل علينا دائماً ، فأردت الاستزادة من أهل الاختصاص ، حتى نفتي عن علم .
رحمك الله أيها الشيخ . أ.هـ
فلله درك يا إمام ما أعظم خلقك وما أمتن دينك ، ورحمك الله من قدوة صالحة .
اهتمامه بالعالم الإسلامي
والشيخ – رحمه الله – كان له اهتمام بالمسلمين في العالم ، وبالمجاهدين منهم فكان رحمه الله يفتي بدفع الزكاة لهم ، ويؤيدهم ويطلع على أحوالهم ، ويلتقي بوفودهم.
وفي أوائل الجهاد في الشيشان كان قد خصهم بدروس – سمعتُ بعضها – في المسجد الحرام في العشر الأواخر منه ، وأنهى كلمته بدعاء بليغ لأن ينصرهم الله ويثبت أقدامهم .
وله الموقف نفسه في الجهاد في البوسنة وأفغانستان وفي غيرها من بقاع العالم .
فرحمه الله ورفع درجته فما كان يشغله العلم والتعليم عن إخوانه المسلمين وأحوالهم.
وهذا بعض ما قاله الإخوة في الشيشان بعد وفاة الشيخ رحمه الله :
(( وإن ينس الناس فضل شيخنا :
فلن ننسى : وقوفه معنا في الحرب الأولى ودعمه لنا بما يستطيع أثناء الحرب ، وكان بعد الحرب حريصاً على افتتاح المعاهد وإنشاء المحاكم الشرعية .
ولن ننسى مناصحته لنا وتوجيهه الدائم في شأن المحاكم وتطبيق الشريعة .
ولن ننسى وقوفه معنا أيضاً في حربنا هذه سواءً بماله يوم أن أرسل لنا زكاته وقال هي لمصرف الجهاد فقط ، أو وقوفه معنا بتوجيه الناس إلى دعمنا.
ولن ننسى اتصاله اليومي أو شبه اليومي بنا ليسمع أخبارنا وينظر في حاجتنا ومشاكلنا ومسائلنا الشرعية .
ولن ننسى دعاءه لنا في السر والعلن من فوق منبره وفي دروسه ومحاضراته وفي قيامه وسجوده .
ولن ننسى ما أخبرنا به طلابه أنه كان من شدة اهتمامه بقضيتنا ، كان يقرأ على طلابه في المسجد الأخبار التي ننشرها في موقعنا ثم يختم بالدعاء لنا .
ولن ننسى أنه هو أول من أفتى بوجوب مناصرتنا ، وأول من وضح الرؤيا للناس عن أوضاعنا ومدى شرعية جهادنا ، ولقد كان لفتواه تلك بالغ الأثر حيث تتابعت علينا بعد فتواه النصرة والمؤازرة .
وإن ينس الناس ذلك كله أو يجهلونه فإننا لن ننسى مواقف الشيخ في قضايا المسلمين جميعها .
وهو الذي خصص من وقته كل أسبوع ساعة أو أكثر لقيادة المجاهدين في البوسنة، فكان يفتي لهم وينظر حاجتهم ويسمع أخبارهم ويستبشر بها وينشرها ، وقد حدثونا عن موقف له لا ننساه وهو أن قيادة المجاهدين في البوسنة سألوه عن حكم القتل خطأ وماذا يجب على القاتل وبعد الإجابة قال : أما دية المقتول فعلي وسأرسلها لكم إن شاء الله .
وله قبل ذلك مواقف مشرفة مع جهاد إخواننا في أفغانستان فمن إفتاء بدعمهم ومناصرتهم بكل طريقة ، ومناصحة للقادة واهتمام بشؤونهم ، إلى عمل دائم يترجم فيه اهتمامه بقضايا المسلمين .
ولم يكن الشيخ بعيداً عن " أرتيريا " و" الفلبين " لا بماله ولا فتواه ولا جهوده .
هذا هو الجانب الجهادي من حياة الشيخ الذي قد يخفي على الناس .
فإن كان الناس لا يعرفون جهود الشيخ هذه ، فمعهم عذر فإن الشيخ علم في الزهد والورع والاستخفاء بالأعمال ، فقد أقبلت إليه الدنيا وأدبر عنها والكل يعرف هذا عنه رحمه الله .
ولو أردنا استيعاب مواقفه المشرفة رحمه الله مع قضايا الجهاد لطال بنا المقام ، فكيف لو أنا تحدثنا عن علم الشيخ ودعوته ودروسه وإنفاقه ونصحه للناس وإفتائه ومنهجه وطريقته وزهده وورعه و.. و .. إلخ . ..)) .
مزاحه
كان النبي صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقّاً ، وكان الشيخ ابن عثيمين رحمه الله مرحاً حلو المداعبة ، وكان ذلك مما يضفي جوّاً مريحاً على الطلبة أثناء تحصيلهم العلم والجد في طلبه ، وله في ذلك مواقف منها :
أ. أنه جاءه عامي - أثناء درسه في الحرم ، وهو جالس على كرسيه -من خلفه ، والشيخ يشرح ويدرِّس فقرب هذا العامي من الشيخ وتخطى الرقاب حتى وصل إلى الشيخ من خلفه، فكأنه أرعب الشيخ قليلاً لأنه جاءه من الخلف .
قال العامي : عندي سؤال يا شيخ !!!
قال الشيخ : " وراك – لماذا - تسورتَ المحراب " ؟؟؟ - أو كلمة نحوها - !
ثم أصر العامي على السؤال ، ولم يعرف طبيعة الدرس ، والشيخ يمازحه ويلاطفه ويمتنع عن الإجابة !
فلما أصرَّ العامي : توجَّه الشيخ للطلبة وقال : هل تسمحون له بالسؤال ؟
فكلهم أجاب : نعم نسمح !
فسأل العامي - وأجاب الشيخ - وانصرف .
ب. قصة طريفة مع الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
المكان : مكة المكرمة .
الوقت : قبل وفاة الشيخ ابن باز رحمه الله .
الشخصيات : الشيخ ابن عثيمين ، وسائق تاكسي .
= صلَّى الشيخ ابن عثيمين في الحرم المكي ، وأراد بعد خروجه من الحرم الذهاب إلى مكان يحتاج الذهاب إليه إلى سيارة .
= أوقف الشيخ ابن عثيمين سيارة تاكسي ، وصعد معه .
= وفي الطريق ، أراد السائق التعرف على الراكب !
= السائق : من الشيخ ؟
= الشيخ : محمد بن عثيمين !
= السائق : الشيخ ؟؟؟؟ - وظن أن الشيخ يكذب عليه ، إذ لم يخطر بباله أن يركب معه مثل الشيخ- .
= الشيخ : نعم ، الشيخ !
= السائق يهز رأسه متعجبا من هذه الجرأة في تقمص شخصية الشيخ !
= الشيخ ابن عثيمين : من الأخ ؟
= السائق : الشيخ عبد العزيز بن باز !!!!!!!!!!
فضحك الشيخ .
= الشيخ : أنت الشيخ عبد العزيز بن باز ؟؟؟!!!
= السائق : " إذن هل أنتَ الشيخ ابن عثيمين " ؟؟؟
= الشيخ : لكن الشيخ عبد العزيز ضرير ، ولا يسوق سيارة !!
ثم تأكد للسائق أنه هو الشيخ حفظه الله ، ووقع في إحراج .
ح. وفي قصة طريفة حصلت بيني وبين الشيخ رحمه الله في حج العام المنصرم : أنني حججتُ عن طريق الطائرة ، فتوقفت الطائرة في المدينة لتباشر بعدها مسيرتها إلى " جدة " وبين مطار المدينة والميقات مسافة قريبة .
وكنتُ في ذلك اليوم متعباً جدّاً ، وكنتُ حريصاً على أن تكون نية إحرامي فوق الميقات بالضبط ! لكنني لم أستطع ذلك ونمت ! حتى مرَّت الطائرة على الميقات ولم أنو الإحرام !
فاستيقظتُ بعده بقليل وعلمتُ أننا مررنا على الميقات فسارعتُ إلى النية !
ثم قدَّر الله تعالى أن ألتقي بالشيخ رحمه الله في " العزيزية " بعد درس الظهر في أحد مساجدها ، فتبعتُ الشيخ وكان وحده – تقريباً – فأخذتُ أشرح له ما حصل معي .
فقال الشيخ : كان الأصل أن تحرم حتى لو قبل الميقات بقليل ، وقد نبهنا على ذلك للمسافرين بالطائرة .
فقلتُ : إنني أحببتُ أن أحرم من فوق الميقات بالضبط لظني أنه لا بدَّ من ذلك .
قال الشيخ : لا ، الأمر بالنسبة للطائرة يختلف ، ويجوز قبل الميقات بقليل للاحتياط ولعدم ضبط ذلك في الجو كما هو الأمر في البر .
فقلتُ للشيخ : وماذا عليَّ الآن ؟
فقال الشيخ : عليك شاة تذبحها هنا وتوزعها على فقراء مكة !
قلت – ممازحاً الشيخ - : ألا يكفيني يا شيخ " سجود السهو " !! عن خطئي ذاك ؟!!
فضحك الشيخ رحمه الله – وعرف أنني غير جاد بقولي ذاك – وقال : لا ، سجود سهوك ! أن تذبح شاة وتوزعها على فقراء مكة !
رحم الله الشيخ وأسكنه فسيح جناته .
تنظيمه للوقت
والشيخ رحمه الله يعد من نوادر العصر في هذا الأمر ، فلو علمتَ مشاغله ومناصبه لقلتَ إن هذا يحتاج إلى ضعف وقت اليوم ليقوم بأعماله !
لكن الله تعالى وفق الشيخ وبارك في وقته ، وكم سمعنا ساعته تصدر صوتاً في الوقت المعيَّن لانتهاء الدرس ليبدأ بعدها بالأسئلة !
وحياته عجيبة وهي مثال للمسلم الحريص على وقته ، فهو يؤم المصلين ويدرس في المسجد ويدرس في الجامعة ويخطب الجمعة ، ويجيب على أسئلة الناس على الهاتف ويلبي دعوة الناس في أفراحهم ، ومناسباتهم ، ويحضر في " الرياض " اجتماع " هيئة كبار العلماء " ويشرف على سكن الطلاب ويزورهم هناك ويجلس معهم ، ويقوم بإلقاء المحاضرات على الهاتف ، ويجيب على أسئلة المراسلين له الكتابيَّة ، ويسجِّل حلقات في الإذاعة ، هذا عدا عن قيامه بواجب أهله ، ومناصحته لأهل المسئولية وغيرهم .
وعن برنامجه اليومي قال ابنه إبراهيم :
إن الوالد - رحمه الله - كان عادة ما يستيقظ قبل صلاة الفجر ويوتر ثم يصلي الفجر ويرجع إلى البيت ويرتاح قليلاً ، ثم بعد ذلك يبدأ اليوم إذا كان عنده محاضرة استعد لها ، وإلا جلس للكتابة والرد على مكالمات السائلين حتى وقت الظهر ، ثم يذهب للمسجد لصلاة الظهر ، ثم يرجع للبيت مرة ثانية لمكتبته حتى يحين وقت الغداء ، وهي الفرصة التي يلتقي فيها بأبنائه ! وحتى في هذه اللحظة يضع التليفون بالقرب منه لمباشرة الرد على الأسئلة ، ثم بعد الغداء يجلس ويرد على التليفون ثم يذهب لصلاة العصر ويجلس بعدها بالمسجد قليلاً ، حيث يلتقي غالباً ببعض أهل القضايا والحاجات، ثم يعود للبيت ويجلس بالمكتبة حتى صلاة المغرب ، ثم يذهب لصلاة المغرب ليبدأ بعدها الدرس إلى العشاء ، ثم بعد صلاة العشاء يعود للبيت ، ودائماً ما يكون لديه برنامج بعد العشاء وحتى حوالي التاسعة والنصف إما خارج " عنيزة " أو عبر التليفون أي في بلدان المملكة أو أحيانا خارج المملكة في هولندا وألمانيا وكثير من الدول ، فيكون على اتصال بالمراكز هناك ، ويقوم بإلقاء محاضرة ربما امتدت لساعة عبر التليفون ، ثم بعدها يجلس إلى القراءة حتى حوالي الحادية عشرة .
هذا هو يومه العادي .أ.هـ
ومن حرص الشيخ على تنظيم وقته فإنه كان لا يخلط وقتاً بوقت ، فوقت الدرس ليس هو وقت الأسئلة ، ووقت القراءة ليس هو وقت الإجابة على الأسئلة ، وهكذا .
وقد حدَّث الشيخ عثمان الخميس – أحد تلامذته – عن هذا فقال :
إن الشيخ العثيمين – رحمه الله - كان شديد الحرص على استغلال وقته ، فكان يسمح للطلبة أن يقرءوا عليه الكتب ويستفتوا أثناء ذهابه إلى منـزله من المسجد ، فيما إنه لا يسمح أبداً بسؤاله أثناء خروجه من بيته إلى المسجد لأنه وقت استغفاره وذكره ومراجعته لكتاب الله !!.
مرض الشيخ
قال أحد أبناء الشيخ رحمه الله وهو عبد الله الصالح العثيمين :
لقد جاء اكتشاف مرض الشيخ - رحمه الله – متأخراً ، وكان اكتشافه أول الأمر في مستشفى الملك فهد بالحرس الوطني ، وقد قام المستشفى - إدارة ومختصين - بما يُشكرون عليه من عناية ، ثم أجريت له فحوصات أخرى في مستشفى الملك فيصل التخصصي ، ونال من إدارته والمختصين به كل عناية ورعاية ، فجزى الله الجميعَ في المستشفيين خير الجزاء ، وقد اختلفت آراء الأطباء سواء من كشفوا عليه أو من اطلعوا على التقارير عنه ، واستشيروا حولها في طريقة علاجه ، فكان منهم من رأى علاجه بالأشعة والكيماوي ، ومنهم من لم ير ذلك ، وفي تلك الظروف كان الشيخ محمد متردداً لِما رآه من اختلاف وجهات نظر الأطباء ، ولمزيد من الاطمئنان - تشخيصا وعلاجا - جاءت مشورة ولاة الأمر في هذا الوطن له كي يسافر إلى أمريكا ، حفظهم الله ورعاهم وجزاهم أفضل ما يجزي به عباده الصالحين على ما أبدوه تجاهه من عطف وما قاموا به من رعاية ، وقد أكدت الفحوصات هناك ما تُوصل إليه من تشخيص في المملكة ، واستقر الرأي الطبي على أن يعالج مدةً بالأشعة ، مع جرعات مخففة بالكيماوي ، ثم يبدأ العلاج بالكيماوي وحده ، وسُرَّ الشيخ محمد بذلك ، وقدم إلى الوطن ليبدأ في مستشفى الملك فيصل التخصصي ما استقر الرأي الطبي عليه ، [ وعولج ] بالأشعة فعلا ، على أن الأطباء رأوا أخيراً أن سلبيات علاجه بالكيماوي أوضح من إيجابياته ، ففضلوا عدم علاجه به، وقبِل الشيخ ما فضَّلوه.
كتبه في جريدة الجزيرة - الطبعة الأولى - محليــات الخميس 23 ،شوال 1421 ، العدد10339
الدرس الأخير للشيخ رحمه الله في الحرم المكي
قال بعض إخواني الشباب ممن حضروا ذلك الدرس :
الدرس الأخير لفقيد الأمة وفقيد العلم في الحرم كان درس العبرات ..!!
كنت ممن استمع إلى درسه الأخير - قدس الله روحه - في ليلة الثلاثاء المتمم للثلاثين من رمضان لهذا العام 1421هـ .
وكان لحضور هذا الدرس أهمية في نفسي لسببين :
أولهما :أنه قبل ذلك اليوم بيومين أخذ المرجفون يشيعون بالهاتف والإنترنت خبراً كاذباً عن وفاة الشيخ – قدس الله روحه – فنكذّب الخبر بصفتنا قد استمعنا للدرس في الحرم .
والثاني : أننا نعلم حقيقة ما ألـمَّ بالشيخ من داء عضال ، أجمع الأطباء قديما وحديثا على أن من وصلت حالته إلى ما وصلت إليه حالة الشيخ قد أصبحت أيامه معدودة إلا أن يشاء الله شيئاً …
وكان صوت الشيخ – قدس الله روحه – يشير [ لما ] وصلت إليه حاله من تدهور في الصحة العامة ، ونحول شديد في جسمه نقله عنه كل من رآه ، لا سيما وأن مرض السرطان – أجارنا الله وإياكم – معروف عنه أنه يسبب آلاماً رهيبة ومبرحة للمصاب به لا يمكن التغلب عليها إلا بجرعات كثيرة من دواء مخدر ( كالمورفين )، ولا أشك في أن الشيخ – قدس الله روحه – وكما سمعنا أيضا - قد رفض تعاطي ذلك الدواء وآثر الاحتساب فعلى الله أجره ولله الأمر من قبل ومن بعد ..
كنت أستشف من خلال صوت الشيخ مقدار ما يعانيه ، ولكنه كان مصرّاً على إلقاء درسه كالعادة حتى لو لم يستمر إلا ثلث ساعة أو أقل من ذلك ، [ وعندما ] تشتد وطأة المرض عليه يغيب عن الحرم .. وقد افتقدناه حوالي أربعة أيام من الشهر لشدة ما ألم به ، ثم عاد ونحن بين خوف ورجاء ..
كان درس ليلة الثلاثين درساً عجيباً مفرحاً ومحزناً اختلطت فيه الفرحة بالخوف ، واختنقت فيه العبرات ..!!
كانت الفرحة بسماع صوت الشيخ المُتعب وتمثل الفرح في أنني تأكدت من كذب خبر وفاته المشاع يومها ..
بدأ الشيخ بالحديث بصوت أثقلته الآلام ، فتحدث عن العيد وأن الله سبحانه وتعالى جعل للمسلمين ثلاثة أعياد – الأضحى والفطر والجمعة - حق للمسلمين أن يفرحوا فيها بما أنعم الله عليهم من توفيق للأعمال الصالحة ، وفصّل فيها قليلا ، ثم انتقل إلى الإجابة على الأسئلة ..
وقد أطال الشيخ - قدس الله روحه - درسه تلك الليلة على غير ما اعتدناه في هذه السنة من اختصار حتى أن الدرس في الأيام السابقة لذلك اليوم ربما لم يكد يستغرق العشرين دقيقة ، إلا أن الدرس الأخير أخذ أكثر من خمس وثلاثين دقيقة أجاب فيه - قدس الله روحه - على أسئلة كثيرة..!!
ثم اقتربت النهاية ، وتسارعت الأنفاس ، واضطربت نبضات القلوب خوفاً من أن هذا الدرس ربما يكون آخر العهد بشيخنا الحبيب الذي طالما ارتوينا من معينه ، واستنرنا بنور علمه وفقهه !!
لا أدري كيف كان حال من حولي حيث أخذت أتخيل أننا ربما لا نلقى حبيبنا بعد عامنا هذا بل بعد درسنا هذا !!
لا أدري عما كانت آخر الفتاوى لانشغال الفكر بالتفكير في أن هذا ربما كان آخر العهد ، ولكن سرعان ما انتبهت على انتهاء الأسئلة وقال الشيخ بعدها قولة حُفرت في الذاكرة !!
نعم لا زلت أذكر آخر كلمات نطق بها الشيخ فأوشك على البكاء وأبكى من استمع له ..!!
قال الشيخ بصوته المتعب : وحيث أن هذه الليلة هي ليلة الثلاثين من رمضان فسيكون هذا آخر درس لهذا العام !!
يا للهول آخر درس !!! لقد قال الشيخ : آخر درس ؟؟!! نعم قالها ، ولكن قال بعدها وخنقته العبرة: لهذا العام ، ولكن كان لسان الحال يقول : بل آخر درس إلى الأبد ..!!!
كان صوت لسان الحال أعلى من ذلك الصوت المثقل بالآلام فكأن الشيخ لم يقل : لهذا العام ، وكأننا ما سمعناه قال إلا : آخر درس إلى الأبد !!!
إنا لله وإنا إليه راجعون ..اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلفنا خيراً منها !!
نعم والله ..كان هذا ما شعرت به وشعر به من حضر ذلك الدرس الذي لا يُنسى أبد الدهر ..!!
حتى لقد رأيتُ من نقل عن الشيخ – قدس الله روحه – قوله هذا ( آخر درس لهذا العام ) ، ولكن الناقل قد أسقط الكلمة الأخيرة وما قال إلا ( آخر درس ) !! ولا أشك في أنه لقي ما لقينا ونقل عن الفقيد ما قال لسان الحال لا ما قال هو ..!!
إنا لله وإنا إليه راجعون ..اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلفنا خيراً منها !!
أعظم الله أجرنا وأجركم في فقيد الأمة وفقيد العلم والعلماء ..
على مثل ابن العثيمين فلتبك البواكي ..
لعمــرك ما الـرزية فــقـد مال ولا شـاة تـموت ولا بـعيــر
ولكـن الـــرزية فقــد شـيخ يـمـوت لمـوته خلـق كثــير
أ.هـ
آخر ساعات الشيخ كانت مع كتاب الله
تحدث الدكتور " عامر رضوي " عن آخر ساعة في حياة فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين بأنه كان يقرأ القرآن الكريم ، ثم دخل في غيبوبة وبعدها بساعة انتقل إلى جوار ربه الكريم.
وقد وصف د. رضوي - الطبيب المعالج - الأيام التي قضاها بجوار الشيخ بأنه كان يحس بالألم لمرض الشيخ وأنه يتعامل معه مثلما يتعامل الابن مع أبيه ، وقال : وكنت أدعو الله له بالشفاء ولكن قدر الله كان أسرع .
وذكر د. رضوي بأن الشيخ رحمه الله كان قليل الكلام ، كثير الحمد والاستغفار ، وقد سمعه يقرأ سورة الفاتحة وفي مرات أخرى كان يتمتم لصعوبة حالته الصحية وعندما سأل أبناءه عن ما يتمتم به الشيخ ذكروا بأنه يقرأ القرآن .
وعن الموجودين مع فضيلة الشيخ لحظة وفاته ذكر الدكتور رضوي بأن جميع أبناء الشيخ كانوا موجودين معه بالإضافة إلى أقاربه.
وعن دخول الشيخ في حالة الغيبوبة وشعور أقارب الشيخ ذكر د. رضوي أن أبناءه كانوا محتسبين وصابرين وراضين بقضاء الله وقدره.
وعن إعلانه لحالة الوفاة وأثرها على أقارب الشيخ يقول د. رضوي : الرسول صلى الله عليه وسلم بكي على ابنه إبراهيم فما بالك بأبناء الشيخ وهم مع أبيهم إلا أنهم كانوا صابرين محتسبين الأجر عند الله ولم أشاهد منهم أي تصرف غير طبيعي سوى دموعهم التي أعتقد أن العالم الإسلامي ذرفها معهم على فقد عالم من علماء الدين .
وعن الحالة الطبية والمرض الذي كان يعاني منه فقيد الأمة أبدى د.رضوي عدم ترحيبه بالإجابة على هذا السؤال واكتفى بالقول : هذه أمانة طبية ومن حق أبنائه فقط التصريح بمثل هذه الأمور أما أنا فأعتقد أنه ليس من حقي أن أكتشف حالة الشيخ من منطلق الأمانة على أسرار مرضاي .
جنازة الشيخ
قال بعض إخواننا الذي حضورا جنازة الشيخ – رحمه الله - :
هكذا كان مشهد الرحيل ……… الذي ودعنا فيه شيخنا ابن عثيمين رحمة الله تعالى عليه ليبدأ فيه رحلة الدار الآخرة .
لقد كان مشهداً يبعث على الرهبة والإجلال لذلك العالم الفذ الذي ملأ الدنيا بعلمه مسموعاً ومرئيّاً ومقروءاً .
آه ! لو رأيت تلك الجموع التي توافدت من كل صوب لتحضر الصلاة والدفن على شيخنا الجليل …. وجوه واجمة حزينة تتعجل وصولها إلى الحرم منذ وقت مبكر …….. غص الحرم على غير عادته في مثل هذا الوقت فالصلاة صلاة عصر وليس موسم إجازة ، بل هو موسم اختبارات ومع ذلك فقد كنت تشعر أن المسجد الحرام قد امتلأ بالمصلين ……… وتتيقن تماما حينما تجد الأعناق تشرئب لتنظر إلى ذلك المسجى أَمام الإمام ، فقد وضعت الجنازة منذ الساعة الثالثة تقريباً تحت حراسة مكثفة - وليس لهم سبيل أن يضعوها إلا في ذلك الوقت فقد كان الحرم يغص غصّاً بالناس - وما عدت ترى في الصحن إلا شباباً ، وتوقفت حركة المطاف نهائيّاً ، وما أن انتهت صلاة العصر وتقدم بالجنازة ليصلي عليها إمام الحرم - حفظه الله - ونادى المنادي " الصلاة على الأموات يرحمكم الله " حتى تحس كأن القلوب انخلعت من أماكنها ، وسرى خشوع عجيب ، وصمت رهيب ، لا تكاد ترى أحداً لم يقم ولم يصل ……… فقد كان الحديث عن الجنازة يملأ أرجاء الحرم قبل الأذان وبعده .
وصُلِّي عليه رحمه الله تعالى ، وما أن فرغ الإمام من الصلاة عليه حتى تسابقت الجموع لحمله ……….. أنى لك يا " نور " – كاتب المقال - أن تصل إليه فتحمله ، [ هناك ] مئاتٌ كلٌّ يريد حمل ذلك الجثمان رحمة الله تعالى عليه ، وانطُلق به إلى مقبرة " العدل " بسيارة إسعاف من طريق خاص حيث قد أغلقت الطرق ولا تستطيع أن تصل إلى المقبرة إلا عن طريق طويل ، والجموع قد سبقت بالسيارات ، وجموع منتظرة في المقبرة ، لفيف عظيم من كل المستويات : علماء ، وطلبة علم، وعوام ، غصت بهم مقبرة " العدل " بمكة المكرمة ، وازدحمت الشوارع المحيطة بالمقبرة بسياراتهم ولك أن تتخيل ذلك الجو الكئيب الذي سيطر على الجميع ، فلا تكاد تسمع إلا " أحسن الله عزاءنا في شيخنا ، وعوض الأمة خيراً في فقده " .
حفر له قبره ، ولحُـِّد ، وأهيل التراب عليه رحمة الله تعالى عليه ، ولم تستطع قوات الطوارئ الكثيفة المتواجدة بالمقبرة أن تمنع الشباب [ من ] أن يصلوا إلى قبر الشيخ ، فقد غلبتهم كثرة الناس فما عاد لهم إلا أن يقفوا مع الواقفين ، ووقفت تلك الجموع في رهبة عظيمة ترفع أيديها لمولاها أن يسبغ على الشيخ واسع رحمته وأن يسكنه فسيح جنته ، فلم تعد تسمع إلا همهمة دعاء وابتهال متضرع وسؤال خاشع يسألون له الرحمة .
وما انتهت مراسم الدفن إلا في الساعة الخامسة والنصف عصراً من زحمة الناس .
هنيئاً لذلك الجثمان الطاهر الذي عاش لأجل غيره فعاش كبيراً ومات كبيراً .
اختفى عن الأنظار لكنه لم يتزحزح من القلوب ….. بقيت كلماته مدوية في الآذان وعلمه مبسوط للناس وما مات من كان ذلك شأنه مثل الشيخ ابن عثيمين يفرح له فقد قدم للإسلام الشيء الكثير وشهد له البشر بالخير والعلم والفضل والبذل لا ينكر ذلك إلا حاقد ………. وعلى أمثالنا فلتبك البواكي ……… رحمة الله تعالى عليك فقد كنت لنا جميعا نعم الأب والمعلم . أ.هـ
بيان الديوان الملكي بوفاة الشيخ – رحمه الله -
انتقل إلى رحمة الله تعالى مساء أمس في جدة فضيلة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين عضو هيئة كبار العلماء اثر مرض عانى منه طويلا وسيصلى عليه في المسجد الحرام بعد صلاة عصر اليوم "الخميس" الموافق 16/10/1421هـ إن شاء الله ومن ثم يوارى الثرى بمكة المكرمة.
نسأل الله جل وعلا أن يتغمد الفقيد بواسع رحمته ومغفرته ويسكنه فسيح جنته ، وأن يلهم أسرته وذويه الصبر ويجزل لهم الأجر ويعوض المسلمين بفقده خيراً ، والحمد لله على قضائه وقدره.
إنا لله وإنا إليه راجعون .
ما حصل عند تغسيل الشيخ
ذكر المغسلون الذين قاموا بتغسيل الشيخ رحمه الله وتكفينه انهم شاهدوا نورا وبشاشة في الوجه وسهوله في التغسيل ، حتى أن المغسلين تفاجئوا من نظافة الشيخ عندما أتوا به وكانوا يعتقدون أنه قد غسل قبل مجيئه ، وبسبب ارتخاء في الفكين كان فم الشيخ مفتوحا ظاهرة أسنانه وكأنه مبتسم فحاول ابنه عبد الرحمن قفل فم الشيخ لمدة نصف ساعة ومع ذلك لم يستطيعوا ..
ولعل هذا بإذن الله من المبشرات ومن علامة حسن الخاتمة وهذا ما نرجوه للشيخ غفر الله له ولنا ولوالدينا ولجميع المسلمين . اللهم آمين .
ذكرت هذه الحادثة في مجلة " الدعوة " عدد رقم ( 1766 ) .
رؤى في الشيخ
روى أحد طلاب الشيخ ابن عثيمين وهو فضيلة الشيخ عبد العزيز بن فوزان الفوزان عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام معهد القضاء العالي والمدرس حالياً في معهد العلوم الإسلامية في أمريكا رؤيا رآها في الشيخ رحمه الله ، حيث قال في خطبة صلاة الجمعة في أمريكا – نقلها بعض الإخوة ممن سمع الخطبة - :
رأيتُ أنني ذهبت إلى منـزل الشيخ المعروف في " عنيزة " كعادتي ورأيت منـزلا غير الذي أعرفه ؛ رأيت قصراً ضخماً لا أستطيع أن أصف لكم ما به من زينه وجمال ؛ لأنه يفوق ما نعرفه ، ودخلت القصر ورأيت الشيخ أمامي في أحسن حال وأجمل صورة ، أطول من قامته المعروفة ، وفي صحة كاملة فرحب بي فجعلت أبكي وأقبِّله عن يمينه وشماله حتى هدأ روعي ، ثم أخذني وخرجنا من القصر وإذ أنا أمام الحرم المكي ؛ الناس تصلي وإذا بمجنـزرات ضخمة لم تُصنع حتى الآن تهدم البيوت المجاورة للحرم الشريف من أجل توسعة الحرم ، ثم دخلنا القصر وذهبنا إلى المجلس فوالله لا ترى آخره وفيه من النمارق والفرش والزينة مالا يتخيله أحد ، ثم ذهبت أقضي حاجةً للشيخ طلبها لنفسه ، ومن حبي للشيخ ترنمت بأبيات أمدحه فيها ، وإذ هو يسمعني فضحك .
فتنبهت من نومي ، وسألتُ أهل العلم في هذا الحلم فأفادوا : أن الشيخ إن شاء الله وجد من الله الجزاء الحسن ، وأن التوسعة حول الحرم إنما يدل على انتشار الإسلام في جميع أنحاء العالم .
هذا ما سمعته بأذني من الشيخ في خطبة الجمعة 12 يناير رحمه الله شيخنا ابن عثيمين وأسكنه فسيح جناته، وغفر الله لشيخنا عبد العزيز الفوزان وأطال الله في عمره .أ.هـ
مقال كتبته قبل وفاة الشيخ
وقد كتبتُ مقالاً قبل وفاة الشيخ بنحو ستة أشهر – وذلك لما ذهب الشيخ – رحمه الله – للعلاج في " أمريكا " - ، أرى أن فيه فائدة أجعله في أواخر كتابتي هذه :
" أعَلَى مثل مشايخنا : ابن باز والألباني وابن عثيمين نبكي ؟ فلنبكِ على أنفسنا " !
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
وبعد
فإن كان منَّا بكاء فليكن على أنفسنا ، لا على مشايخنا وأئمتنا ؛ ذلك أنهم لقوا ربهم وقد قدموا لأنفسهم ما يفرحون به .
1. فالشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله مات وقد نصر العقيدة السلفية ، وبيَّن المنهج الحق الواضح ، وألَّف عشرات الرسائل ، وأفتى آلاف الفتاوى ، وله مئات الأشرطة العلمية النافعة ، مات وقد حج أكثر من خمسين حجة وأضعافها من العُمَر ، ومئات الطلبة النابغين النابهين ، مات وأمامه شفاعات شفع فيها لمستحقيها ، وأموال قدَّمها لمحتاجيها ، وعمل خير لا يمكن إحصاؤه ها هنا .
أمثل هذا يُبكَى عليه ؟؟
2. وشيخنا الألباني رحمه الله نصرَ السنة ، وقمع البدعة ، وأوضح المحجة ، وبيَّن صحيح السنَّة مِن ضعيفها ، وألان للناس الحديث ، وله عشرات الكتب النافعة ، وآلاف الأشرطة العلمية الشرعية .
أمثل هذا يُبكَى عليه ؟؟
3. وهذا رفيق دربهم وثالث أئمتنا الشيخ ابن عثيمين ، يلقى ربه – إن شاء الله – ولم يترك فنّاً إلا وشرحه وبيَّنه ، وله آلاف الفتاوى والأشرطة ، ومئات الطلبة بل آلاف منهم من تتلمذ عليه مباشرة ومنهم من تتلمذ على أشرطته ، ألان للناس الفقه ، فقرأ الناس الفقه وفهموه بعد كان لا يجرؤ عليه إلا الخاصَّة .
يموت الشيخ وهو صاحب همَّة عالية ، لم يمنعه مرض من إفتاء ، ودروس ، وخطبة جمعة ، لم يبع دينه بعرض من الدنيا ، أتته الدنيا وهي راغمة فركلها برجله ، وُهبت له أبنيةٌ فجعلها وقفاً على طلبة العلم، وأُعطي الأموال الطائلة فجعلها للنفقة عليهم ، أفتى ودرَّس الطلبة والمعتمرين والحجاج ، لم تأت عليه سنة إلا وفيها عدة عُمَرٍ وحجة ، كان فيها العابد والمعلِّم والمربِّي والمنفق في سبيل الله .
أمثلُ هذا يُبكَى عليه ؟؟
إخواني :
إنما يُبكى على من مات مقصِّراً لاهياً تاركاً أمر الله ، أما من مات على عقيدة صحيحة ، ومنهج صحيح ، وتعليم وتوجيه وتربية : فهنيئاً له هذه الميتة مع كثرة فتن هذا الزمان .
أسألكم بالله ألا تحبون أن تموتوا على مات عليه هؤلاء الأئمة ؟؟
فلم لا نعمل عملهم ؟ ولا نقدم لأنفسنا مثل ما قدَّموا ؟؟
وإنه وإن في القلب لوعة وحسرة على فقدان أئمة الهدى ، فإن فيه فرحاً بأنهم يقدمون على ربٍّ غفور رحيم كريم ، أسأله سبحانه أن يجزل لهم المثوبة وأن يسكنهم الفردوس ، وأن يبدلنا خيراً منهم، وأن يلحقنا بهم على خير .
والحمد لله أولاً وآخراً
أ.هـ
أخيراً
هذا ، والوقفات في حياة الشيخ – رحمه الله – كثيرة ، وإني أدعو تلامذته والمقربين منه أن يقدِّموا للأمة مثل هذه الوقفات التي تربي الشباب على تطبيق الإسلام عمليّاً، وتقدِّم للشباب أنموذجاً من العلماء العاملين ، وأن لا يكتفوا بالمدح والثناء المجرد غاضين الطرف عن المواقف الجليلة في حياة الشيخ ، فقد كان – بحق – " أمَّة في رجل " .
ولا عجب إذا عرفتَ أن هذه بعض جوانب من حياة الشيخ – رحمه الله – وعرفتَ بعدها أنه كان يقول : " اللهم إني أحب لقاءكَ فأحِبَّ لقائي " ! وقوله : " إني مشتاق إلى ربي " !!
رحل الشيخ ورحل معه ما يفرحه أن يجده أمامه ، فهل يكون الشيخ لنا قدوة صالحة في علمه وعمله وأخلاقه ؟.
أرجو ذلك ، والله الموفق لا ربَّ سواه
ملاحظة :
استفدت بعض ما سبق من مقالات كتبت في الإنترنت نقلاً عن أصحابها سواء كانوا أبناء الشيخ أو تلامذته .
كتبه :
أبو طارق
إحسان بن محمد بن عايش العتيـبي
إربد – بيت راس
17 شوال 1421 هـ
12 / 1 / 2001 م
الفهرست
الصفحة الموضوع
1 مقدمة
2 اسمه ومولده
2 علمه
2 زهده وإنفاقه
4 تعليمه
6 حادثة تبين عظيم حرص الشيخ على التعليم رغم مرضه في الليلة الأخيرة من رمضان
7 رعايته لتلامذته
7 مواقف طريفة مع بعض تلامذته
9 تنوع طرق تعليمه
10 التأليف
11 توقيره لأهل العلم
12 رؤيا عجيبة في الشيخ الألباني وموقف الشيخ ابن عثيمين منها
12 عبادته
13 نجدته وفزعته ، وفيها قصة عجيبة
16 نجدته لبعض طلبته المحتاجين
17 خُلُقه ودينه
17 أ. كراهيته للمدح
19 ب. صبره على المدعوِّين
20 ج. كراهيته لحب الظهور
21 د. نماذج من تواضعه
22 اهتمامه بالعالم الإسلامي
22 مواقف للشيخ رحمه الله في الشيشان والبوسنة
24 مزاحه
25 حادثة طريفة جدّاً حصلت للشيخ في مكة المكرمة
26 حادثة طريفة حصلت بيني وبينه – رحمه الله -
27 تنظيمه للوقت
28 مرض الشيخ
29 سفر الشيخ – رحمه الله – إلى أمريكا
29 الدرس الأخير للشيخ – رحمه الله – في الحرم المكي
32 آخر ساعات الشيخ – رحمه الله – كانت مع كتاب الله
32 ما قاله طبيبه الخاص المرافق له حتى وفاته
34 جنازة الشيخ – رحمه الله –
36 بيان من الديوان الملكي في وفاة الشيخ – رحمه الله -
36 ما حصل عند تغسيل الشيخ – رحمه الله -
36 رؤى رؤيتْ في الشيخ – رحمه الله -
37 مقال كتبته قبل وفاة الشيخ – رحمه الله - بنحو ستة أشهر
39 أخيراً
40 من أدعية الشيخ – رحمه الله -
41 الفهرست