هواء بارد و ذكريات دافئة - هواء بارد و ذكريات دافئة - هواء بارد و ذكريات دافئة - هواء بارد و ذكريات دافئة - هواء بارد و ذكريات دافئة
الدكتور راجح السباتين
هواءٌ باردٌ ... وذكريات دافئة
جاء المساء وسكنت الطيورُ في أعشاشها وخلدت همومُ الفلاح والعامل والنجَّار إلى النوم ... جاء المساء وصَفت النفوسُ مُتَّجهةً نحو خالق السموات طالبةً العفو والمغفرة .... نامت الورود والأشجار، لكنّ الذكريات استيقظتْ في نفسي وعبقتْ في أرجاء قلبي ذكرى رحيلها وأخذت استذكرها وأقول: كُلَّما تذهبين بعيداً تأخذين جزءاً منّي معكِ ... وكلّما تهاجرين ينكسر في طيف ذكراك قلبٌ أخضرُ لم يبدأ المشوار بعد .... كلّ كلمةٍ قلِتها لا تزال عالقةً في ذهني مرتبطةً به ... قلبي كلُّه يصبو نحوكِ تماماً كأنه طفلٌ صغيرٌ يركض إلى أمّهِ. ذهبتِ فجأةً وسافرت مرتحلةً دون أن تخبري أياً من الناس بذلك، عودي لماذا لا تعودين؟؟ كلماتٌ ودعواتٌ أتلفَّظُ بها لعلّ الهواء ينقلها إلى مسامعكِ ... قد استغني عنك بهؤلاء الناس الكثيرين الذين يربطني بهم حبٌّ لا أول له ولا آخر، لكنكِ تبقين على الدوام أغلى وأعزّ الأرقام في معادلة حياتي ... تمطر الدنيا ذكريات فأختبى منها التجيء إلى مظلّة الحنين والشوق، لكنها مظلةٌ واهيةٌ كثيرة الثقوب، ثقوبٌ دقيقةٌ تتسلل الذكريات من خلالها كما قطرات ماء الشتاء في قبعات مزارعي الحي الغربي ... أمشي في البلدة الريفية المجاورة والطقس باردٌ ماطرٌ وأنفخ في يديّ بعض الهواء الساخن لربما تدفآن. يداي باردتان لكنّ صدري دافيء؛ ذلك أنه يشتعل بهذه الذكريات الهنيئة التي لطالما عشناها أياماً ولحظاتٍ في بلاد الأمل والرجاء ... موسيقى الطيور المهاجرة وصفيرها يذكرانني بالأنشودة الريفية التي اعتدنا أن نصرخ بها عندما كنا نذهب لجمع حطب الموقد ... هدوء الغروب الأحمر يثير في نفسي طيف الصمت الذي كان يظلنا عندما نجلس مع الأهل والأصدقاء ... أحبّ هذا الجدول الصغير لأنه يذكرني بعينيكِ الواسعتين عندما كانتا تفيضان بالدمع في تلك الأيام، كم كنتُ أهواكِ وأنت غاضبةٌ على وشك البكاء ... لا أريدُ أن أتكلم أكثر ... لقد ذهبَ الصّحبُ والأحباب والأصحاب ... لا أريد أن أتكلم ... لقد انتهت المعركة وانجلى ضبابها ... وبانَ وجه الحياة باسماً من جديد ... كنتُ وسأبقى أحبكِ أكثرَ من الفجر وأهواك أكثر من زهور البساتين وشقائق النعمان إذ تتفتَّحُ ربيعاً ساحراً في بواكير نيسان الجميل.
دلائلُ الإعجاز تتفلَّتُ من عينيكِ، ودقائقُ الإبداع تنبثق من جبينك أيتها الرائعة أيتها الهانئة الرقيقة ... يا مَن فاخر كلُّ ما فيها بالأصالة والحسن والإبداع وروح الطيبة ... لقد تناثر حبنا في أطراف الكون تماماً كما هو حال الغيوم الوردية الخفيفة التي تتطاير حول الشمس وقت الغروب. لا أدري لماذا استذكر شجر الزيتون عندما أراكِ؟ ألأنكِ أصيلةٌ مثله؟ ولا أدري لماذا ترفُّ في ذهني صورة حقول الأقحوان عندما أسمعُ صوتك؟ ألأنكِ رقيقةٌ مثلها؟ ولا زلتُ أجهلُ لماذا يفيض ذهني بجداول الريف ودور الطّين الأحمر التي تنكشف في قريتنا الخضراء عندما تمرُّ ذكراكِ في أفق ذهني لماذا ... لماذا؟!!