فن صناعة الأمل - فن صناعة الأمل - فن صناعة الأمل - فن صناعة الأمل - فن صناعة الأمل
فن صناعة الأمل
عبد العظيم عرنوس
هل الأمل يُصنع؟ وهل هناك حاذقون في هاتيك الصناعة؟ وهل رأيتم من يُعلِّم هذا الفن؟ وهل للأمل صورة فنية رائعة ولها ملامحُ وسمات مُتميّزة؟!
إي والله، إنّ للأمل صناعًا، وله فن، وصوره متنوعة ذات ألوان بديعة، تسُرّ العيون، وتخلب العقول، وتبهر البصائر والأبصار.
قال وليد الأعظمي:
كُن رابط الجأش وارفع راية الأمل *** وسِر إلى اللـه في جدٍّ بلا هـزل
ثوار سوريا يصنعون الأمل في أبهى صورةٍ فنية، شخصوها متحركةً تُلوّنها الدماء القانية، وتعزف عليها الحناجر الغانية. الأمل الممتزجُ بالألم، الأمل الذي لا يتطرقُ إليه اليأس، أو القنوط. روى البزار عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رجلاً قال: يا رسول الله، ما الكبائر؟ قال: "الشركُ بالله، والإياس من روح الله، والقنوطُ من رحمةِ الله"[1].
فهم ماضون في طريقهم لا يتلكئون، يلحظون عناية الله ورعايته ومعيته، على حدِّ قول القائل: لا تمضوا في طريق اليأس ففي الكون آمال، ولا تتجهوا نحوَ الظلمات ففي الكون شموس.. إنها فُسحةُ الأمل.
قال الطغرائي:
أعلِلُ النفـس بالآمـالِ أرقبـها *** ما أضيق العيشَ لولا فُسحة الأمل
أمل صحبة عمل
الأمل هو استشراف المستقبل للوصول إلى الغاية والبغية التي تحقق مراد العبد وتطلعات الأمة، وهذا لا بد له من الأخذ بالأسباب المطلوبة لتترتب عليها النتائج المرجوّة، ولا يتم هذا بخيالاتٍ طائرة، بل يحتاج إلى جهدِ ناصبٍ، وعملٍ صالحٍ متواصلٍ، ومراقبة ومتابعة؛ {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} [الكهف: 110].
العملُ الصالح النافع في الدنيا والآخرة، وادخار ذلك للأمل الأكبر؛ {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف: 46].
روى البخاري في الأدب المفرد عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن قامت الساعة، وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاعَ أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها". وهذه هي البوصلة الموصلة، أما الكسالى القاعدون الآملون فلا حظَّ لهم ولا نصيب إلا الهلاك والبوار.
قال الأستاذ محمد الراشد: الأمل نافع ما دام يبعث الثقة، ويضادّ اليأس، ويشيرُ إلى درب الوصول، ولكنه يصبح مهلكًا متى استحال إلى أحلامٍ مغرية.
وقال علال الفاسي:
وعنديَ آمالٌ أريد بلوغها تضيع *** إذا لاعبت دهـري وتذهـب
وقال مصطفى مشهور: يلحق العمل بالعمل، والتعب بالنصب، والجهد بالمشقة، وعدم ضياع الوقت، والاستعداد لتحمل المسئولية.
وقال البحتري:
قلب يطل علـى أفكـاره ويـد *** تمضي الأمور ونفس لهوها التعب
النبلاء حين يأملون
مهما اشتدّ البلاء، وعظم الكربُ وكاد يحكم الخناق، ويشدّ الوثاق، يزداد العبدُ المؤمن أملاً؛ لأنه يُبصر بنور الله ما لا يراه غيره:
ولا يُرى من فزع رهن أسى *** يقينه في القلبِ كالطودِ رسا
يبصرٌ في غور الخطوب قبسا *** من نُصرة الله إذا ما استيئسا
فإذا المصائب هيّنة، والخطوب يسيرة، والهمة متحفزة، والأقمار المنيرة تدور حول شموسها الساطعة تكشف الدروب الموصلة للأمل.
وما أبدع ما خطَّه عبد الوهاب عزام بريشته المصورة:
حجرةٌ ملؤها الظلام حوتني *** وحـوتها أشعة القمـراء
رب نفسٍ تلفّها ظلمـات *** وهي في عالم كثير الضياء
هل كان أيوب -عليه السلام- يلتجئ إلى ربه بالدعاء ليكشف عنه الضر لولا فُسحة الأمل التي لم تفارقه لحظة، فإذا البلاء شفاء؛ {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِين} [الأنبياء: 83، 84].
أم كان يخطر على بال يونس -عليه السلام- وهو في بطن الحوت، وما أدراك ما بطن الحوت! أن ينادي وهو في الظلمات، ليست ظلمةً واحدة، لولا أمله أن ينجيه ربه؛ {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 87، 88]. وما أروع هذا التعقيب الذي يشمل كل المؤمنين إلى يوم الدين (وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)؛ ليبقى الأمل مصورًا أمام أنظارهم، فلا يقنطون.
أم هل يُتصوّر من شيخٍ بلغ من الكبر عتيًّا، واشتعل رأسه شيبًا، ووهن عظمه، وامرأته عاقر، زكريا -عليه السلام- أن يتضرع إلى ربه ليهب له غلامًا زكيًّا، لولا أنه واثقٌ من تحقيق ضراعته.
هؤلاء وأمثالهم منارات الأمل للأمة الإسلامية، لتستأنف رحلتها المجيدة تنصر دين الله عز وجل.
أمل الواثق
إنه النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان قلبه مفعمًا بالأمل رغم الظلمات الكالحة، والأذى الناصب، والمعاناة المستمرة، فانعكست شمس الأمل من نفسه الشريفة إلى نفوس أصحابه وأمته.
وفي أشد اللحظات حرجًا لم يفارقه الأمل وهو مهاجرٌ مطاردٌ من المشركين، قال لسراقة: "كأني بك يا سراقة تلبس سواري كسرى". وتمر الأيام، وتصدق نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم، ويتحقق الأمل بفتح بلاد فارس. ففي دلائل النبوة للبيهقي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أُتي بفروةِ كسرى، فوضعت بين يديه، وفي القوم سراقة بن مالك، فألقى إليه سواري كسرى بن هرمز، فجعلهما في يده فبلغا منكبيه.
وفي مقام دعوة عدي بن حاتم إلى الإسلام يستشرف نبي الله المستقبل المشرق بأمل كأنه يراه رأي العين، روى البخاري عن عدي بن حاتم -رضي الله عنه- قال: بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم قال: "... فإن طالت بك حياة، لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة، لا تخاف أحدًا إلا الله -قلت في نفسي: فأين دُعَّار طيئ الذين قد سَعَّروا في البلاد- ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى. قلتُ: كسرى بن هرمز؟ قال: كسرى بن هرمز...". قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز.
فكيانه صلى الله عليه وسلم ممتلئ بالأمل، لا يخالجه أدنى شك، وسعى لتحقيقه في عزمٍ ومضاء، لا يعتريه كلل أو فتور أو يأس، حتى بلغت آماله مرادها في نصرة دين الله، وإصلاح المجتمع وتطهيره، وتحليته بالأخلاق الربانيَّة.
باعث الأمل
لا يتصور أن ينطلق المجاهد في سبيل الله أو من يريد بصدره العاري أن يرسي قواعد الحرية والكرامة في الأمة وهو يجابه الجبروت الطاغي والقوة الغاشمة، لولا أمله بإحدى الحُسنيين: النصر أو الشهادة، النصر حيث تحيا الأمة تحت راية الله، تحقق الاستخلاف الحق، الذي من أجله خلق الإنسان، أو الشهادة وهي الحسنى الثانية، غاية أنظار الآملين المتشوقين للُقْيا ربهم، مستبشرين برضوان الله، فرحين بفضله.
هذا فنُّ صناعة الأمل الفذ الفريد، يصيب منه من وفقه الله من معين الوحي الذي لا ينضب، وبمدرسة النبوة يتأسى، ومن الأتباع المهديين يغترف.. فهيَّا على طريق الأمل نسير ونحن واثقون.
[1] والحديث صحّحه السيوطي، وحسّنه المناوي والعراقي والألباني، وقال الهيثمي: رجاله موثوقون.
[2] والحديث قال عنه الحاكم والذهبي: على شرط مسلم، وصححه أحمد شاكر، وحسنه الأرناءوط والألباني، وقال المنذري: صحيح أو حسن.
موقع قصة الاسلام