"غصن الزيتون في أرض الغربة" - "غصن الزيتون في أرض الغربة" - "غصن الزيتون في أرض الغربة" - "غصن الزيتون في أرض الغربة" - "غصن الزيتون في أرض الغربة"
وُلِد غريبًا، على هامش الأيام، لا وطن يجمعه بها، ولا ذاكرة تسنده في لحظة الحنين. ومع ذلك، كان يحمل في قلبه شوقًا بجناحين، يحلّق بهما عالياً بين أسراب الغيم، باحثًا عن طيفها، عن همسة منها، عن ظل لوجه لم يعرفه جسدًا، لكنه كان يحفظ ملامحه في دفاتر الحلم والانتظار.
كان الليل صديقه، يزوره كل مساء في عباءته السوداء، ليشعل في صدره دفءَ يديها، ويلفّه بأنفاسها المتقدة شوقًا، ويهبه سكونًا تهمس فيه باسمه كما لم ينادِه به أحد. كان صوتها موسيقى خلقت لأجله، ينام على وقعها كطفل يعود إلى رحم الأمان بعد عمر من التيه.
لم يحتج عمرًا مديدًا ليصير رجلاً، فالشوق ربّاه، والبعد سقاه، والمحنة صقلته. بضع سنوات كانت كافية ليبلغ أشده في أرض لم يكن له فيها جذور، لكنه كان يزرع فيها أحلامه على استحياء.
عشقه لم يكن تقليديًا، بل من أصفى مراتب الهيام: أن تحب من لم تلتقِ بها، أن تبني لها في خيالك ملامح، وتلوّن وجهها بكل ما نضج في قلبك من حنين. ترسمها على جدران الغربة، وتسكب عليها من وهج الشوق ما يجعل الكون بأكمله يتزين بلونك أنت، أنت وحدك.
يكبر لكنه يظل بعيدًا، مثل شجرة زيتون تتحدى الصقيع، تمنح ظلّها لمن حولها، وتمنع عنهم لهب الغربة دون أن تُشفق على نفسها. في كل رحلة، يحمل صورتها من أرض المنام، يخبئها في جيبه، ويترك طيفها على جدران غرفته؛ فحتى الحيطان تشتاق حين يغيب عطرها.
ثم جاء الحطّابون... أولئك الذين لا لون لهم سوى طمعهم، منهم من يحمل قلبًا مسمومًا، ومنهم من لا يملك رأيًا، ومنهم من باع ضميره على قارعة الطريق. ولكن الأقسى... من قطع غصنًا من حقل الزيتون ذاته، وصنع منه فأسًا ليضرب به الجذع الذي لطالما ظله آواه.
يا زيتون الغربة... لا تصمت. كن بركانًا إذا لزم الأمر، دع أغصانك تصرخ في وجه الحطّابين. لتكن نارك لعنةً على كل يد خانت ظلك، وكل من استعارك ليجرحك.
ازرع صبرك في باطن الأرض، تمدد بجذورك في العمق، وعندما يحين الموعد، دع الأرض ترتجف بعودتك. دعها تميد لتسقط كل الأشواك، وكل أشجار الزينة التي غطّت على أصالتك، وتُطيح بكل من أراد لظلك أن يُمحى.
وإذا ما بلغ الشوق أقصاه، اصعد فوق الغيم، هناك فقط ستراها، ساجدة لله، تدعوه أن تعود. سلّم عليها بالحنين، وقل لها: "أنا قادم... وجذوري تنمو في صمت، تنتظر لحظة اللقاء".
سيعود الزيتون... سيعود رغم فؤوسهم، رغم غربتهم، رغم وجع المنافي. فالوطن ليس ترابًا فقط، بل هو وعد... والوعد في قلبك يا وحدات... لا يموت.