الحمد لله الذي أنزل الناس منازلهم في الرعاية والاحترام.. وجعل حقوق الوالدين في أعلى مقام..
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. القائل في كتابه العزيز :{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا* وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (الإسراء: 23، 24).. والقائل في محكم التنزيل :{ وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } (الأحقاف: 15).. وأشهد أن سيدنا محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم .. يحب من أبر والديه.. ودعانا إلى برهما.. ونهانا عن عقوقهما.. القائل : << ألا أنبؤكم بأكبر الكبائر؟>> ثلاثاُ ـ قلنا : بلى يا رسول الله .. قال : << الإشراك بالله.. وعقوق الوالدين>>.. وكان متكئاً فجلس.. فقال : <<ألا وقول الزور وشهادة الزور>> فمازال يكرِّرها حتى قلنا : ليته سكت.. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الكرام البررة ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد..
ذنوبك جمة تترى عظاماً ***** ودمعك جامد والقلب قاسي
وأياماً عصيت الله فيها ***** وقد حفظت عليك وأنت ناسي
فكيف تطيق يوم الدِّين حملاً ***** لأوزار الكبائر كالرواسي
هو اليوم الذي لا ودَّ فيه ***** ولا نسب ولا أحد مواسي
اخي الحبيب :
لقد حذر الله عباده من الوقوع في معصيته.. وحضهم على التمسك بمنهجه.. والسير على طريقته.. التي تفضي بهم إلى السعادة في الدنيا والنجاة في العقبى.. كما أمرهم الله تعالى بالتفكر في العاقبة والنظر في الخاتمة.. وحذرهم من اتباع الهوى والشيطان والاغترار بالدنيا فقال سبحانه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ* وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (الحشر: 18، 19).. فمن الضروري إذا ما أقدم الإنسان على شيء أن ينظر في عاقبته بما وهبه الله من عقل ومنطق وإحساس وإدراك وقلب وضمير فقد بين الله للإنسان السبيل وأقامه على المنهج القويم والصراط المستقيم { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} (الأنفال: 42).. و<< الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني >>..
ألا يا خائضاً بحر الأماني ***** هداك الله ما هذا التواني؟
أضعت العمر عصياناً وجهلاً ***** فمهلاً أيها المغرور مهلاً
مضى عمر الشباب وأنت غافل ***** وفي ثوب العمى والغي رافل
إلى كم بالبهائم أنت هائم ***** وفي وقت الغنائم أنت نائم
وطرفك لا يرى إلا طموحاً ***** ونفسك لم تزل أبداً جموحاً
بلال الشيب نادى في المفارق ***** بحيَّ على الذهاب وأنت غارق
ببحر الإثم لا تصغي لواعظ ***** وإن أطرى وأطنب في المواعظ
وقلبك هائم في كل وادي ***** وجهلك كل يوم في ازدياد
وجهد المرء في الدنيا شديد ***** وليس ينال منها ما يريد
وكيف ينال في الأخرى مرامه ***** ولم يجهد لمطلبها قلامه
واذكر لك يا اخي بعض القصص عن البر بالأم حتى يلين قلبك.. وتؤوب إلى رشدك وقصة رجل عابد لم يستجب لنداء أمه عندما دعته فماذا كان عقابه:
القصة الأولى :
قصة صاحب البقرة الصفراء من بني إسرائيل وبره بأمه : فقد كان في بني إسرائيل رجل غني.. وله ابن عم فقير.. لا وارث له سواه.. فلما طال عليه موته قتله ليرثه.. وحمله إلى قرية أخرى.. فألقاه بفنائها.. ثم أصبح يطلب ثأره.. جاء بناس إلى موسى عليه السلام يدعي عليهم القتل.. فسألهم موسى.. فجحدوا.. فاشتبه أمر القتيل على موسى عليه السلام.. فسألوه أن يدعو الله ليبين لهم القاتل.. فأمرهم بذبح بقرة.. فقال : { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً } (البقرة: 67).. { قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً } (البقرة: 67)؟!.. نحن نسأل عن أمر القتيل وتأمرنا بذبح بقرة!!.. قالوا ذلك لبعد ما بين الأمرين في الظاهر.. ولم يدروا ما الحكمة منه.. فقال موسى : { أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } (البقرة: 67).. أي أن أكون من المستهزئين بالمؤمنين.. فلما علم القوم أن ذبح البقرة من الله عز وجل استوصفوها.. ولو أنهم عمدوا إلى أدنى بقرة فذبحوها لأجزت عنهم.. لكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم.. وكان تحت ذلك حكمة وهي.. أنه كان في بني إسرائيل رجل صالح.. له ابن طفل.. وله عجله.. فأتى بهذه العجلة إلى غيضة.. وقال : اللهم إني أستودعك هذه العجلة لابني حتى يكبر.. ومات الرجل.. وصارت العجلة في الغيضة عواناً ( لا مسنة ولا صغيرة ) وكانت تهرب من كل من رآها.. فلما كبر الابن.. كان باراً بوالدته.. فكان يقسم الليلة ثلاث أثلاث.. يصلي ثلثاً.. وينام ثلثاً.. ويجلس عند رأس أمه ثلثاً.. فإذا أصبح انطلق فاحتطب على ظهره.. ويأتي به السوق.. فيبيعه بما شاء الله.. ثم يتصدق بثلثه.. ويأكل ثلثه.. ويعطي أمه ثلثه.. فقالت له يوماً : إن أباك ورّثك عجلة استودعها الله في غيضة كذا.. فانطلق وادع بإله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب أن يردها عليك.. وعلامتها أنك إذا نظرت إليها تخيل أن شعاع الشمس يخرج من جلدها.. وكانت تسمى المذهبة لحسنها وصفرتها.. فأتي الفتى الغيضة.. فرآها ترعى.. فصاح بها قائلاً : أعزم عليك بإله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب.. فأقبلت تسعى حتى قامت بين يديه.. فقبض على عنقها يقودها.. فتكلمت بإذن الله تعالى وقالت : أيها الفتى البار بوالدته اركبني فإن ذلك أهون عليك.. فقال الفتى : إن أمي لم تأمرني بذلك.. ولكن قالت : خذ بعنقها.. فقالت البقرة : بإله بني إسرائيل لو ركبتني ما تقدر عليّ أبداً.. وإنك لو أمرت الجبل أن يقطع من أصله وينطلق معك لفعل لبرّك.. فسار الفتى بها إلى أمه.. فقالت له : إنك فقير لا مال لك.. وقد شق عليك الاحتطاب بالنهار.. والقيام بالليل.. فانطلق فبع هذه البقرة.. قال : بكم أبيعها؟.. قالت : بثلاثة دنانير ولا تبع بغير مشورتي.. وكان ثمن البقرة ثلاث دنانير.. فانطلق بها إلى السوق.. فبعث الله ملكاً لُيرى خلقه قدرته.. وليختبر الفتى وبره بوالدته.. وكان الله به خبيراً.. فقال له الملك : بكم تبيع هذه البقرة؟ قال : بثلاثة دنانير واشترط عليك رضا والدتي.. فقال الملك : لك ستة دنانير ولا تستأمر والدتك.. فقال الفتى : لو أعطيتني وزنها ذهباً لم آخذه إلا برضا أمي.. فردها إلى أمه فأخبرها بالثمن فقالت : ارجع وبعها بستة دنانير على رضا مني.. فانطلق بها إلى السوق.. وأتى الملك فقال له : أستأمرت أمك؟ قال : إنما أمرتني ألا أنقصها عن الستة على أن أستأمرها.. فقال الملك : فإني أعطيك اثنى عشر على ألا تستأمرها.. فأبى الفتى ورجع بها إلى أمه فأخبرها بذلك فقالت : إن الذي يأتيك ملك في صورة آدمي ليجربك.. فإذا أتاك فقل له : أتأمرنا أن نبيع هذه البقرة أم لا؟ ففعل.. فقال له الملك : اذهب إلى أمك وقل لها : أمسكي هذه البقرة.. فإن موسى ابن عمران يشتريها منكم لقتيل يقتل في بني إسرائيل.. ولا تبيعوها إلا بملء مسكها ـ جلدها ـ دنانير.. فأمسكوها.. وقدر الله تعالى على بني إسرائيل ذبح تلك البقرة بعينها.. فمازالوا يتواصفوها حتى وصف لهم تلك البقرة.. مكافأة للولد على بره بوالدته.. فضلاً من الله ورحمه.. ثم أن الله تعالى.. أمر موسى عليه السلام.. أن يأمر قومه بضرب القتيل ببعضها فلما فعلوا ذلك.. قام القتيل حياً بإذن الله تعالى.. وأوداجه تشخب دماً.. وقال : قتلني فلان ـ أي ابن عمه ـ ثم سقط ميتاً مكانه.. فحرم قاتله من ميراثه..
القصة الثانية :
قصة أويس بن عامر القرني وأمه : هو رجل من اليمن فقير صغير المكانة الاجتماعية لا يؤبه له ولا يكترث به لكنه عند الله عظيم فلو أقسم عليه شيئاً لفعله الله من أجله.. عاصر الرسول صلوات الله وسلامه عليه ولكنه لم يره بسبب اهتمامه بخدمة أمه فأقعده عن الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي بخسارة الصحبة الشريفة في الدنيا ورؤية الرسول صلى الله عليه وسلم طمعاً في مرافقته في الجنة بسبب بره بأمه وانصرافه إلى خدمتها.. فأخبر الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بأمره وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم صحابته بأمره وأوصى عمر بن الخطاب إن لقيه أن يطلب منه الاستغفار فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا أتى عليه إمداد أهل اليمن سألهم : أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس فقال له : أنت أويس بن عامر؟ قال : نعم . قال : من مراد ثم من قرن؟ قال : نعم أفكان بك برص فبرئت منه إلا موضع درهم؟ قال : نعم قال : ألك والدة؟ قال : نعم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم له والدة هو بها بر لو أقسم على الله لأبره فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل>> فاستغفر لي.. فاستغفر له.. لم يصل أويس إلى تلك المكانة العظيمة رغم مكانة عمر العظيمة وفضله غير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاه أن يطلب من أويس أن يستغفر له وهذا دليل على فضل أويس وعلو مقامه عند الله تعالى حتى لو أنه أقسم على الله لأبر الله قسمه وكل ذلك لبره بأمه وزهده في الدنيا وإعراضه عنها..
القصة الثالثة :
قصة الرجل العابد الذي لم يستجب لنداء أمه وفضل العبادة عن إجابة نداء أمه واستجابة الله لدعوتها على ولدها : حيث يروى أن : كان جريج رجلاً عابداً فاتخذ صومعته فكان فيها فأتته أمه وهو يصلي فقالت : يا جريج فقال : اللهم أمي وصلاتي فأقبل على صلاته فقالت بعد ثالث يوم في ثالث مرة : اللهم لا تمته حتى ينظر في وجوه المومسات.. فذكر بنو إسرائيل جريجاً وعبادته وشدة تبتله.. وكانت هناك امرأة بغي من بني إسرائيل يتمثل بحسنها فقالت : إن شئتم لأفتننه فتعرضت له فلم يلتفت لها فأتت راعياً كان يأوي إلى صومعته.. فأمكنته من نفسها فوقع عليها.. فحملت فلما ولدت قالت : هو من جريج فأتوه فأنزلوه من صومعته وهدموها وجعلوا يضربونه فقال : ما شأنكم؟! فقالوا : زنيت بهذه البغي فولدت منك.. فلما انصرفت أتى الصبي فطعن في بطنه وقال : يا غلام من أبوك؟!! فقال : فلان الراعي!! فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به وقالوا : نبني صومعتك من ذهب قال : لا أعيدوها من لبن كما كانت.. ففعلوا..