من دروس الهجرة النبوية - من دروس الهجرة النبوية - من دروس الهجرة النبوية - من دروس الهجرة النبوية - من دروس الهجرة النبوية
30\11\2012
تكلمنا في حلقة سابقة عن بعض المعاني في هذا اليوم الأغر العظيم، ومما قيل هناك: أهمية استثمار الزمن، إذ نودع زمناً ونستقبل آخر، نودع سنة ونستهل بأخرى، وقيل إن هذا اليوم من أعظم أيام الله عبر الزمان، وأعظم أيام أمة الإسلام، وإن الاحتفاء به تذكير بأيام الله «وتبديعه» غير صحيح، فيما نرى.
وتكلمنا عن أهمية التاريخ كأحد أهم مصادر المعرفة، والسيرة هي أصدق وثيقة في علم التاريخ، سوى قصص القرآن بالطبع. وأن العبقري العظيم الفاروق جعل هذا اليوم بدء التقويم الإسلامي وبدء التاريخ الإسلامي، ولم يشأ أن نكون مقلدين للأمم، بل نكون متميزين بتاريخنا، ومما قيل: إن الهجرة سنة كونية واجتماعية وناموس الأنبياء، وذكرنا كلمة ورقة بن نوفل إذ تمنى أن يستطيع نصرة النبي صلى الله عليه وسلم إذ يخرجه قومه. هذه بعض المعاني، والآن نواصل الرحلة مع بعض دروس حدث الهجرة. والدرس الذي نبتدئ به: لماذا كانت الهجرة سنة وناموساً في حياة الأنبياء وحملة الحق والدعاة؟ وقد هُدد عدد من الأنبياء بالإخراج من البلاد (أخرجوا آل لوط من قريتكم) (لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا) (وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين) إلخ.
ومبدأ الهجرة في هذه الحالة أن الباطل لا يطيق الحق ولا يقبل التعايش معه، ويعجز عن محاجته حجة بحجة، ورأياً برأي، فيلجأ إلى القوة وهو يملكها، والحق غالباً ما يكون أو يبدأ الرحلة أعزل منها، وهذه زبدة قصة فتية الكهف: (إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم..) من هنا خرجوا من ديارهم وفي محطة من محطات طريق الخروج أووا إلى الكهف، فكان من قصتهم ما كان؛ لتكون عبرة على الزمان، ومن عبرها الكثيرة: الهجرة فراراً بالدين متى خشيت الفتنة في الدين، أو الإزهاق للروح، أو العنت في العيش، كما هاجر الأصحاب رضي الله عنهم إلى الحبشة ثم كانت هجرة المدينة، فقد هاجر المسلمون الهجرتين.
وملخص قصة موسى مع فرعون مطلب واحد: (أن أرسل معنا بني إسرائيل) (فأرسل معي بني إسرائيل)؛ أي السماح بالهجرة، كما هو عنوان كتاب «ليوبولد سنغور» عن شعبه الإفريقي (السنغال) مخاطباً الاستعمار الفرنسي وهذه ترجمته الإنجليزية وقد حاز الكتاب وقتها جائزة نوبل: let my people go أي: «أطلق سراح شعبي»، إنها الحرية، هذه هي القضية،
وهذه هي نصيحة مؤمن آل فرعون لموسى أن اخرج وهاجر: (فاخرج..») (فخرج منها خائفاً يترقب).
ففكرة الهجرة في حياة أهل الحق أن أهل الباطل لا يطيقون دعوة من يدعو إلى التغيير، فهم يقتلون الأنبياء، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، ولا يقبلون التعايش والصراع السلمي والتدافع الحضاري، وإنما يردون بالبطش والقتل أو النفي والتشريد، أو التنازل عن الدين والمبدأ، فيختار الدعاة أهون الحلول وهو الهجرة والارتحال مع غلاوة الوطن، ولكن الدين أغلى.
ومن دروس الهجرة أن القرآن لم يذكر الهجرة إلا مقترنة بالجهاد، فقد ورد (هاجروا وجاهدوا..) في سورة البقرة، وورد (هاجروا.. وقاتلوا وقتلوا) في آل عمران (آمنوا وهاجروا وجاهدوا) 3 مرات في آيتين في ختام سورة الأنفال، وورد كذلك في التوبة.
وأما حدث الهجرة فقد سجلته سورة التوبة وهي سورة الجهاد بامتياز، والسياق الذي ورد فيه سياق الحديث عن الجهاد والنفرة في سبيل الله، وتأمل الآيات: (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة..)، (إلا تنفروا يعذبكم..)، (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه..)، (انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله..).
وأكتب هذه الكلمات وحمام الدم في غزة وهي مخيم للمهاجرين واللاجئين وأهل غزة الذين اختاروا طريق العزة والجهاد، فضموا إلى الهجرة طريق الجهاد، فوجب في نظر الأوغاد أن يدفعوا الثمن على هذا الاختيار. يجب أن يرضخ العالم ويركع أمام إرادة الشياطين من اليهود وبني صهيون. وإلا فالثمن باهظ قصفاً وتدميراً واغتيالاً. وقد اختار المجرمون الزمان المناسب والظرف المواتي لهذا التصعيد، ولكن الله كفيل بأن يقلب اختياراتهم على رؤوسهم.
أما ما أنجزه النبي صلى الله عليه وسلم في مهاجره فهذا حديث يطول، وأما حدث الهجرة بذاته فلن أتوقف عنده؛ لكثرة ما تكلم فيه وكتب عنه، وسأتوقف قليلاً عند حديث المنجزات التي كالمعجزات التي أنجزها النبي عليه الصلوات في مجتمع المدينة.
ولعل أعظم المنجزات هو هذه المؤاخاة التي عقد آصرتها بين المهاجرين والأنصار، وفي العادة فإن الحساسيات تحيط بالمجتمعات التي تحوي مهاجرين وأصليين، ونادراً ما يكون الحب سيد العلاقات بين الفريقين، لكن تأمل مجتمع يثرب، كما كانت تسمى، والمدينة كما سماها القرآن، والنبي المصطفى صلى الله عليه وسلم وشتان ما بين التسميتين. لقد رحُبَت المدينة، وانفسحت فيها سبل العيش وأسبابه، مع أنها بلدة فقيرة في الأصل، ولعمر الحق ما تضيق البلاد، ولكن تضيق أنفس العباد. والمكان ليس هو الذي يتسع، وإنما تتسع الأخلاق والطباع، وتأمل وصف القرآن للأنصار ومجتمع الأنصار: (والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة..).
ما هذا؟ ما الذي جعل أهل الفقر تجود أنفسهم كأنهم أصحاب ثروات؟ إنه الدين، إنه الأخوة في الدين، فوق كل أخوات الطين التي تنكشف بعد حين وترثّ العلاقات فيها وتهن ويحل الاقتتال والاحتراب.
لقد استطاع النبي بالمؤاخاة أن يصنع أروع مجتمع عرفته الأرض طيلة أعصرها.
والأمر الثاني بناء المشروع الذي التقت عليه وعلى إنجازه الأمة الجديدة كلها؛ ألا وهو المسجد الجامع الذي هو محور المجتمع وعموده وسر نشاطه، وأساس وحدته، ودار ندوته، ومجلس شوراه، ومحل عقد راياته ومواثيقه، كل ذلك مرتبط بالمسجد، إن المسجد مصدر النور في المجتمع والتنوير كذلك.
أما رأيت إلى آية النور: (الله نور السموات والأرض..) أعقبها مباشرة ذكر المسجد فقال الله بعد الآية الكريمة المذكورة: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال..).
ثم ثالثاً: نظم وثيقة الدستور، ولعله من أول ما عرفت الأرض من دساتير، موجز واضح محدد منضبط نظم العلاقات والحقوق والواجبات لكل فئات المدينة، وبين مجتمع المدينة وباقي المجتمعات، وبخاصة مجتمع اليهود.
ثم رابعاً: نظّم سوق المدينة أو السوق الإسلامية بعد أن علم تفرد اليهود بسوق المدينة؛ لأنه لا استقلال في السياسة ما لم يستقل الاقتصاد.
- عودة المهاجر
لم يُضع النبي الكريم يوماً واحداً وحاشاه، بل استفاد من كل ساعة في تحشيد الطاقات وتعبئة الأمة والقدرات والاستعداد ليوم فتح مكة، لقد وضع نصب عينيه العودة إلى الوطن. وها هو أخيراً ينجز ما عقد العزم عليه، ويعود المهاجر منتصراً ظافراً في فتح لمكة هو الفتح الأعظم، وانتهى الجهد والجهاد بهذا الإنجاز، لقد «جاء نصر الله والفتح» ودخل العرب «في دين الله أفواجاً..».
ما أسعد الكون كله بهذه اللحظة التي تطهر فيها بيت الله المطهر من دنس الأوثان وكل صور الشرك، والحنجرة الشريفة تصدح بقول الله العزيز: (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً)، ما أجمل العودة إلى الوطن! وما أجمل مذاق النصر في أفواه تجرعت مر الصبر سنين طويلة، لكن لحظة الفتح والفرح تنسي كل المشقات.
- دروس وعبر
لا نبالغ إن قلنا إن دروس حدث الهجرة لا تنتهي، فكلما نظر الناظرون في الحدث أسعفهم بمدد من الدروس وعدد من العبر، وما أحوج الأمة اليوم إلى الرشد والحكمة تستمدها من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد غلب العي والعجز وضعف الملكة وسوء الفهم على الموقف.
وفي زمن الإحباط ما أحوج الأمة إلى التماس الأمل والبشرى من المبشر البشير النذير صلى الله عليه وسلم وقد أرسله الله هادياً ومبشراً ونذيراً.
وفي زمن الضلالات والظلمات ما أحوج الإنسانية كلها إلى ارتشاف الهدى من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم ومن الكتاب الذي علمنا تعاليمه. وفي زمن الفرقة والتجزئة والشرذمة والتشظية ما أحوجنا إلى النبي الموحد المجمع المؤلف صلى الله عليه وسلم.
وفي زمن التقاعس عن النهوض بواجب التحرير من خلال إعلاء راية الجهاد ما أحوجنا إلى هذا الدرس؛ فلا عودة للأوطان إلا من هذا الدرب المنير وفي زمن الذوبان والانمياع في الآخرين ما أحوجنا إلى درس عمر رضي الله عنه في التقويم الهجري إشارة إلى استقلالية الشخصية والتميز والهوية.
وفي زمن التبعية الاقتصادية ما أحوجنا إلى الدرس النبوي الكريم في إنشاء سوق المدينة.
وفي غياب الدساتير وتعطيلها في عالم المسلمين نحتاج إلى استحضار درس الوثيقة.
ونحتاج إلى إعادة دور المسجد الريادي التعبوي التثقيفي التوجيهي الطليعي.
واللحمة بين المسلمين نحتاج إلى استعادتها فما أشد افتقادنا لروح الأخوة والمؤاخاة والتكافل.
وهكذا فالدروس لا تنتهي، والسيرة عجائبها لا تنقضي، والهجرة عظاتها على الدهر لا تمحي.
اللهم صلِّ على رسولنا ونبينا وسيدنا وحبيبنا وأستاذنا ومعلمنا وقائدنا وعظيمنا محمد الصادق الأمين وسلم تسليماً كثيراً
كلام جميل في دروس الهجرة النبوية
بارك الله فيك وأطال في عمرك يا أبا عمر..
اللهم صلِّ على رسولنا ونبينا وسيدنا وحبيبنا وأستاذنا ومعلمنا وقائدنا وعظيمنا محمد الصادق الأمين وسلم تسليماً كثيراً
كلام جميل في دروس الهجرة النبوية
بارك الله فيك وأطال في عمرك يا أبا عمر..