"14" الدعوة والجهاد والصبر من سبل تحقيق البشريات - "14" الدعوة والجهاد والصبر من سبل تحقيق البشريات - "14" الدعوة والجهاد والصبر من سبل تحقيق البشريات - "14" الدعوة والجهاد والصبر من سبل تحقيق البشريات - "14" الدعوة والجهاد والصبر من سبل تحقيق البشريات
5- الدعوة إلى الله:.
الدعوة إلى الله أمر عظيم هائل ، إذ يترتب عليها أمر حياة الناس ومماتهم .. أمر سعادتهم ، وشقائهم .. أمر ثوابهم وعقابهم. ويترتب عليها مصير البشرية التي إما أن تُبلَّغ إليها الرسالة ، فتقبلها وتتبعها ، فتسعد في الدنيا والآخرة .. وإما ألا تُبلَّغ إليها الرسالة فتكون تبعة شقائها في الدنيا والآخرة ، وضلالها معلق بعنق من كلف بالتبليغ فلم يبلغ . في ظلال القرآن 6/21
والدعوة إلى الله تكليف دائم بالنسبة لهذه الأمة0 ((ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون)) سورة آل عمران: 104 0 ذلك أنها أمة خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم ، التي تحمل رسالته من بعده، ورسالته صلى الله عليه وسلم موجهة إلى البشرية كافة، وإلى الزمن كله، من لدن بعثته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها0
وهى رسالة ذات شقين: شق موجه للذين لم يؤمنوا بهذا الدين بعد، لدعوتهم إلى الإيمان؛ وشق موجه للذين آمنوا، لتذكيرهم وترسيخ إيمانهم: ((وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين)) 0الذاريات "55(( ياأيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل)) 0النساء:136
و الأمة الإسلامية تمر اليوم بظروف خاصة، ربما لم تمر بها من قبل، فقد هبطت معرفتها بالإسلام إلى أدنى حد وصلت إليه في تاريخها كله، وأما ممارستها للإسلام فهي أدنى من ذلك بكثير! ولذلك فإن مهمة الدعوة اليوم أخطر بكثير من مهمتها في الظروف السابقة، فلم تعد مجرد التذكير، بل أوشكت أن تكون إعادة البناء، الذي تهاوت أسسه وأوشكت أن تنهار، في الوقت الذي تداعت فيه الأمم على الأمة الإسلامية من كل جانب، كما جاء عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :
( يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا ) فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ ؟ قَالَ : ( بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ ) . فَقَالَ قَائِلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ ؟ قَالَ : ( حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ) . أخرجه أبو داود برقم: 4297 ، وأبو نعيم في الحلية : 1/182 ، وأحمد : 5/278 والحديث صحيح .
، وكلنا ثقة أن البناء سيعود بإذن الله، وسيعود شامخاً كما كان0
والمبشرات كلها تشير إلى جولة جديدة للإسلام، ممكنة في الأرض، على الرغم من كل الحرب التي تشنها الجاهلية في الأرض كلها على الإسلام0 ولكنها مهمة شاقة في الغربة الثانية للإسلام: ((بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ)) 00أخرجه مسلم، مهمة تحتاج إلى شغل فائق وبصيرة نافذة.
واليوم- في غربة الإسلام الثانية- تواجه الدعوة والدعاة ضرورة بذل الجهد في الأمرين معاً: التعريف والتربية0
فالتعريف بالإسلام لقوم يعرفون بعضه ويجهلون بعضه، ويظنون في الوقت ذاته أنهم يعرفونه كله، مشكلة تحتاج إلى جهد ليس بالقليل0
أما التربية- بالنسبة للقاعدة على الأقل- فمشكلة تحتاج إلى جهد أكبر؛ لتعدد مجالات التربية المطلوبة من جهة، ولأن النفوس لا تتخلى عن مألوفاتها بسهولة، ولا تستجيب استجابة فورية لكل ما يطلب منها من تكاليف00 فضلاً عن كون المطلوب ليس مجرد بناء نفوس مؤمنة، بل إعداد شخصيات فائقة التكوين، تصلح لحمل المهمة الضخمة التي تواحهها0 ومن المهم- إلى الدرجة القصوى- أن نعرف كيف ندعو الناس00 فالأزمة التي يمر بها العالم الإسلامي اليوم أزمة حادة، ربما كانت أشد أزمة مرت به في التاريخ00 وتجمع الأعداء لحرب الإسلام، بما لم يسبقه من قبل تجمع بهذا الحجم وبهذا الإصرار0 وحاجة البشرية إلى الإسلام اليوم لا تقل عن حاجتها إليه يوم أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لم نسر في طريق الدعوة على خطى مستبصرة، مستمكنة في ذات الوقت، فقد لا نصل إلى ما نهدف إليه، وقد يذهب الكثير من جهدنا بغير طائل حقيقى
كيف ندعو الناس لمحمد قطب :المقدمة
6- الجهاد في سبيل الله :
فرض الله الجهاد على كل مسلم فريضة لازمة حازمة لا مناص منها ولا مفر معها ، ورغب فيه أعظم الترغيب ، وأجزل ثواب المجاهدين والشهداء ، فلم يلحقهم في مثوبتهم إلا من عمل بمثل عملهم ومن اقتدى بهم في جهادهم . ومنحهم من الامتيازات الروحية والعملية في الدنيا والآخرة ما لم يمنح سواهم ، وجعل دماءهم الطاهرة الذكية عربون النصر في الدنيا وعنوان الفوز والفلاح في العقبى ، وتوعد المخلفين القاعدين بأفظع العقوبات ، ورماهم بأبشع النعوت والصفات ووبخهم علي الجبن والقعود ، ونعني عليهم الضعف والتخلف ، وأعد لهم في الدنيا خزيًا لا يرفع إلا إن جاهدوا ، وفي الآخرة عذاباً لا يفلتون منه ولو كان لهم مثل أحد ذهباً ، واعتبر القعود والفرار كبيرة من أعظم الكبائر وإحدى الموبقات المهلكات .
وقد عرف شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله تعالى الجهاد بقوله: "والجهاد هو بذل الوسع - وهو القدرة - في حصول محبوب الحق، ودفع ما يكرهه الحق"(.
وقال أيضاً: "••• وذلك لأن الجهاد حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه الله
من الإيمان والعمل الصالح، ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان"(.
وتحت هذا المعنى العام للجهاد يدخل جهاد النفس في طاعة الله تعالى وترك معاصيه، وجهاد الشيطان وجهاد المنافقين، وجهاد الكفار، ومن ذلك جهاد البيان والبلاغ، ومدافعة الفساد والمفسدين؛ بل إن جهاد الكفار بالسنان إن هو إلا جزء من القيام بفريضة الأمر بالمعروف الأكبر - وهو نشر التوحيد - والنهي عن المنكر الأكبر - وهو الشرك بالله عز وجل والكفر به - وذلك بعد دعوة الكفار إلى التوحيد ورفضهم له أو لدفع الجزية•
الجهاد مكمل لحقيقة الإيمان :
إن حقيقة الإيمان لا يتم تمامها في قلب حتى يتعرض لمجاهدة الناس في أمر هذا الإيمان. مجاهدتهم بالقلب بكراهة باطلهم وجاهليتهم والعزم على نقلهم منها إلى الحق والإسلام. ومجاهدتهم باللسان بالتبليغ والبيان. ورفض باطلهم الزائف، وتقرير الحق الذي جاء به الإسلام. ومجاهدتهم باليد بالدفع والإزالة من طريق الهدى حين يعترضونه بالقوة الباغية والبطش الغشوم!.. وحتى يتعرض في تلك المجاهدة للابتلاء والأذى، والصبر على الابتلاء والأذى، والصبر على الهزيمة والصبر على النصر أيضاً - فالصبر على النصر أشق من الصبر على الهزيمة. ثم يثبت ولا يرتاب، ويستقيم ولا يتلفت، ويمضي في طريق الإيمان راشداً صاعداً.
والمرء حين يجاهد الناس في أمر هذا الإيمان فهو يجاهد نفسه كذلك في أثناء مجاهدته للناس؛ وتتفتح له في الإيمان آفاق لم تكن لتتفتح له أبداً وهو قاعد آمن ساكن، وتتبين له حقائق في الناس وفي الحياة لم تكن لتتبين له أبداً بغير هذه الوسيلة. ويبلغ هو بنفسه وبمشاعره وتصوراته، وبعاداته وطباعه وانفعالاته واستجاباته، ما لم يكن ليبلغه أبداً بدون هذه التجربة الشاقة العسيرة.
وهذا من الفطرة التي فطر الله الناس عليها. إذ جعل صلاح هذه الفطرة في المجاهدة لإقرار منهج الله للحياة البشرية، عن طريق الجهد البشري، وفي حدود الطاقة البشرية كذلك.
ثم إن هذه المجاهدة ومن يصاحبها من الابتلاء، هي الوسيلة العملية لتمحيص الصفوف - بعد تمحيص النفوس - ولتنقية الجماعة من المعطلين والمعوقين والمرجفين، ومن ضعاف النفوس والقلوب، ومن المخادعين والمنافقين والمرائين.
هذا الدين :ص12-13 بتصرف .
منزلته في القرآن :
قال تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:216)
وقال (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) سورة النساء74
وقال (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) إلى قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) .الأنفال :60-65
وقال ( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) التوبة 29
وقال تعالى : (انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)التوبة :41
وقال تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) . التوبة :111
ولهذا لم يترك المسلمون الجهاد في أي عصر من عصورهم ، قبل هذا العصر المظلم الذي ماتت فيه نخوتهم ، ولم يفرطوا فيه حتى علمائهم والمتصوفة منهم والمحترفون وغيرهم ، فكانوا جميعاً على أهبة الاستعداد .
فقد كان عبد الله بن المبارك الفقيه الزاهد متطوعاً في أكثر أوقاته بالجهاد ، وكان عبد الواحد بن زيد الصوفي الزاهد كذلك ، وكان شقيق البلخي شيخ الصوفية في وقتها يحمل نفسه وتلامذته على الجهاد .
وكان البدر العيني شارح البخاري الفقيه المحدث يغزو ويدرس العلم سنة ويحج سنة ، وكان القاضي أسد بن الفرات المالكي أميراً للبحر في وقته ، وكان الإمام الشافعي يرمي عشرة ولا يخطئ كذلك كان السلف رضوان الله عليه ، فأين نحن من هذا التاريخ؟ .الرسائل لحسن البنا :260
ارتباط الجهاد بالدعوة إلى الله :
إن الجهاد في سبيل الله ليس هدفا منفصلا عن الدعوة إلى الله ، بل هو مرتبط بها ارتباطا كاملا .. يدور القتال لأجل الدعوة ويتوقف لأجل الدعوة فهو إذن وسيلة من وسائل الدعوة إلى الله ، وقوة من قواها لإخراج الناس من عبادة العباد ، إلى عبادة الله الواحد الأحد ، وليمضي الجيل المؤمن بالدعوة بكل قواها ، وسلامة نهجها ، حتى تكون كلمة الله هي العليا .
وهو كذلك وسيلة من وساءل حماية الدعوة ، وحماية الدعوة ، وحماية المسلمين أنفسا ، ودارا، وثروات ، ومنهاجا .. وهو كذلك وسيلة لدفع الدعوة في الأرض حتى تبلغ الناس كافة ، حين لا تنفع الحكمة والموعظة الحسنة ، ولا يكفي جهاد اللسان والبيان ، وحين تصد الدعوة عن غايتها ، وتقفل الدروب والمسالك أمامها ، وتبذل الجهود لخنقها .لقاء المؤمنين :2/164
فالجهاد في سبيل الله لإقرار منهج الله في الأرض ، وإعلان سلطانه على البشر ، وتحكيم شريعته في الحياة لتحقيق الخير والصلاح والنماء للناس هو صفة العصبة المؤمنة التي يختارها الله ليصنع بها في الأرض ما يريد ، وهو يجاهدون في سبيل الله ، وتحت رايته ، لا في سبيل أنفسهم ، ولا في سبيل قومهم ، ولا في سبيل وطنهم ، ولا في سبيل جنسهم ، ولا تحت أي راية من الرايات ، بل في سبيل الله لتحقيق منهاج الله ، وتقرير سلطانه ، وتنفيذ شريعته ، وتحقيق الخير للبشر عامة ، إنهم ليس لهم في هذا الأمر شيء ، وليس لأنفسهم من هذا حظ، إنما هو لله ، وفي سبيل الله بلا شريك .).
نهاية السول للأسنوي :1/95
الجهاد سبيل التغيير وتحقيق البشريات :
إن التغيير الإسلامي الذي تنشده الأمة الإسلامية لا يمكن تحقيقه من غير جهاد ، وبدون صياغة جيل مجاهد ، فالمهمة التغييرية مهمة شاقة ، فالقوى الظاهرة والخفية القابضة على الزمام في عالمنا قوى شريرة ، وقد هيأها أعداء الإسلام لهذا الدور من زمن بعيد ، وهي تعمل ليل نهار على خفت صوت الإسلام بشتى الطرق والوسائل ، وإزالة هذه القوى ، وإقامة الإسلام مكانها ليس بالأمر السهل ، فهي ستتشبث بمواقعها حتى النفس الأخير ، وذلك يحتاج أولا وقبل كل شيء إلى تربية جهادية تخرج أنماطا من المجاهدين ، يحبون الموت كما يحب الناس الحياة ، ويعيشون هم الإسلام وقضاياه ليلهم ونهارهم .
لا بد من بناء قاعدة صلبة متينة تستطيع أن تصمد في هذا الصراع الجبار وتقف في وجه المؤامرات ، وتجاهد في كل المجالات والجبهات ، وتدفع ثمن التمكين لدين الله في الأرض من زهرة شبابها ) . ركائز الإيمان بين العقل والقلب لمحمد الغزالي :ص75
7-الصبر على مشاق الطريق :
إن الله تعالى جعل الصبر جواداً لا يكبو، وصارماً لا ينبو، وجنداً لا يُهزم، وحصناً حصيناً لا يُهدم،وهو مطيّة لا يضل راكبها ، فهو والنصر أخوان شقيقان،فالنصر مع الصبر، وهو أنصر لصاحبه من الرجال بلا عدّة ولا عدد، ومحله من الظفر محل الرأس من الجسد، وهو سبيل النجاح والفلاح، وهو فضيلة يحتاج إليه الإنسان في دينه ودنياه، فحال الإنسان إما بين صبر على أمر يجب عليه امتثاله وتنفيذه ، ونهي يجب عليه اجتنابه وتركه، وقدر يجري عليه اتفاقاً، ونعمة يجب عليه شكر المنعم عليها، وإذا كانت هذه الأحوال لا تفارقه فالصبر لازم إلى الممات، فالحياة لا تستقيم إلا بالصبر، فهو دواء المشكلات لدار الابتلاء، والصبر زاد المجاهد إذا أبطأ عنه الصبر، وزاد الداعية إذا أبطأ عنه الناس بالإجابة، وزاد العالم في زمن غربة العلم، بل هو زاد الكبير والصغير ، والرجل والمرأة ، فبالصبر يعتصمون وإليه يلجئون وبه ينطلقون.
قال الإمام أحمد – رحمه الله – في كتاب الزهد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : (( وجدنا خير عيشنا بالصبر))،إن الله وصف الصابرين بأوصاف وخصّهم بخصائص لم تكن لغيرهم،وذكر الصبر في نحو تسعين موضعاً من الكتاب الكريم، وأضاف أكثر الدرجات والخيرات إلى الصبر وجعلها ثمرة له.
وجعل للصابرين معيّة مع الله ، ظفروا بها بخير الدنيا والآخرة، وفازوا بها بنعمة الله الظاهرة والباطنة ، وجعل الله سبحانه الإمامة في الدين منوطة بالصبر واليقين فقال تعالى: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآيتنا يوقنون} السجدة :32 ، قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله : (( بالصبر واليقين ؛ تُنال الإمامة في الدين)).
تعريف الصبر
الصبر لغة: الحبس والكف والتجلد. لسان العرب :4/438 مادة صبر .
قال ابن القيم : حبس النفس عن الجزع والتسخط ، وحبس اللسان عن التشكي ، وحبس الجوارح عن التشويش.مدارج السالكين :2/158
ولأهمية الصبر فقد جعلت كل الأسباب المعينة على تحقيق البشريات محتاجة للصبر ، ويعد من أوجب مستلزماتها فالقيام على الايمان والعمل الصالح ، وحراسة الحق ، والعدل ، ومن أعسر ما يواجه الفرد والجماعة ، فلا بد من الصبر على جهاد النفس ، وجهاد الغير ، والصبر على الأذى والمشقة ، والصبر على تبجح الباطل ، وانتفاش الشر ، الصبر على طول الطريق ، وانطماس المعلم ، وبعد النهاية .في ظلال القرآن :6/3968
أهمية الصبر :
الصبر من عناصر الرجولة الناضجة ، والبطولة الفارعة ، فإن أثقال الحياة لا يطيقها المهازيل ، ورسالة الحياة لا ينهض بها ولا ينقلها من طور إلى طور إلا رجال عمالقة وأبطال صابرون . خلق المسلم للغزالي :ص161
ولهذا يعد الصبر من أعظم الصفات التي مدحها الله سبحانه ، وجعل أكثر الخيرات التي تصيب الناس معلقة بها :
فقد علق الله الإمامة في الدين على الصبر وعلى اليقين فقال تعالى: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآيتنا يوقنون}السجدة :32
وجعل الله الظفر بمعية الصبر فقال: { إن الله مع الصابرين}.الأنفال :46
وجمع للصابرين أمورا لم يجمعها لغيرهم {وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون* أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون}.البقرة :157
وعلّق النصر على الصبر والتقوى فقال تعالى: {بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين} آل عمران :125 .
وقد بلغ من أهميته أن صار صفة من أربع للفئة الناجية من الخسران فقال: {والعصر*إن الإنسان لفي خسر*إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}العصر :1-4
وفي بيان أهمية الصبر لتحقيق النصر لدين الله وإعلاء كلمته يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله :
(( الصبر هو زاد الطريق في هذه الدعوة ، فإن طريقها شاق حافل بالعقبات ، والأشواك ، مفروش بالدماء والأشواك ، وبالإيذاء والابتلاء ، والصبر مطلوب على أشياء كثيرة :
• الصبر على شهوات النفس ، ورغائبها ، وأطماعها ،ومطامحها ،وضعفها ، وعجزها ، وعجلتها ، وملالها من قريب .
• والصبر على شهوات الناس ، وضعفهم ، وجهلهم ، وتقصيرهم ، وانحراف طبائعهم ، والتوائهم ، واستعجالهم لقطف الثمار .
• والصبر على انتفاخ الباطل ،ووقاحة الطغيان .
• والصبر على قلة الناصر ، وضعف المعين ، ومتاعب الطريق ، ووساوس الشيطان في ساعات الكرب والضيق .
• والصبر على مرارة الجهاد لهذا كله ، وما تثيره في النفس من انفعالات متنوعة من الألم ، والغيظ والضيق ، وضعف الثقة أحيانا في الخير ، وقلة الرجاء أحيانا في الفطرة البشرية .
• والصبر بعد ذلك كله على ضبط النفس في ساعة القدرة والانتصار والغلبة ،واستقبال الرخاء في تواضع وشكر ... والبقاء في السراء والضراء على صلة بالله تعالى واستسلام لقدره ورد الأمر إليه كله في طمأنينة وثقة وخشوع .
• والصبر على هذا كله – وعلى مثله- مما يصادف السالك في هذا الطريق الطويل لا تصوره حقيقة الكلمات ، فالكلمات لا تنقل المدلول الحقيقي لهذه المعاناة ، إنما يدرك هذا المدلول من عانى مشقات الطريق وتذوقها انفعالات وتجارب ، ومرارات . في ظلال القرآن :1/551-552
النصر مقرون بالصبر :
ولنعلم أن الصبر في مفهوم الإسلام ليس معناه السلبية والقعود انتظارا للفرج دون الأخذ بالأسباب ، وإنما هو حبس النفس عن اتياع الهوى والاسترسال في الجزع وتدريبها على ركوب المصاعب والمشقات ، فإن الأمة الإسلامية لن تدرك ما تحب إلا بصبرها على ما تكره .
وقد صبر النبي والمسلمون معه في مكة على البلاء في الوقت الذي سلك فيه كل السبل لبحث عن أرض خصبة ليهاجر إليها ، ويبذر فيه دعوته حتى كانت الهجرة إلى المدينة وإقامة دولة الإسلام . بينات الحل الإسلامي ص155
واليوم وأمتنا اليوم تتطلع إلى نصر الله وتمكينه لهذا الدين ، فإنها أحوج ما تحتاج إلى سلاح الصبر ، ولم يكن هذا السلاح عن عجز ، فلقد كان السلاح متوافرا في أيدي المسلمين حينئذ ، لكن الدعوة لم تلجأ إليه في تلك المرحلة ، مع اشتداد الأذى والعدوان ، ووحشية التعذيب والإجرام ، لكن كان سلاح العصبة الأولى يومئذ الصبر الجميل ، والعمل الدائب ، والتفكير المستمر ، وقيام الليل ، والإعداد والتدريب،في خشوع لله تعالى وإنابة صادقة ، وعبادة قوية ، وسعي دائب .
ولا ريب أن العاملين الصادقين من أبناء أمتنا اليوم أحوج ما يحتاجون لسلاح الصبر لتحقيق البشريات التي بشر بها النبي ، لأن طريقهم مليئة بالعقبات والمحن والابتلاءات ، وستجتمع عليهم قوى الشر ، فلن يكون لهم زاد يتزودون به مثل سلاح الصبر فقد جاء عن النبي مما ورد في سنته وعلّمنا إياه ، تهيئة نفسية لهذه المواجهة : (( إن من ورائكم أياما الصابر فيهن كالقابض على الجمر ، للعامل فيها أجر خمسين ، قالوا : يا رسول الله خمسين منهم أو خمسين منا ، قال : خمسين منكم)).
أخرجه الترمذي برقم: 2260 وقال حسن غريب، وأحمد في المسند:2/390-391
ولذلك فما على المسلم العامل لنحقيق بشريات النبي بعلو كلمة الإسلام وشأنه إلا أن يوطن نفسه على احتمال المكاره دون ضجر ، وانتظار النتائج مهما بعدت ، مواجهة الأعباء مهما ثقلت ، بقلب لم تعلق به ريبة ، وعقل لا تطيش به كربة ، يجب أن يظل موفور الثقة بادي الثبات ، لا يرتاع لغيمة تظهر في الأفق ، ولو تبعتها أخرى وأخرى ، بل يظل موقنا بأن بوادر النصر والصفو لا بد آتية ، وأن من الحكمة ارتقابها في سكون ويقين .
خلق المسلم:ص157
ولنعلم أن الصبر على المحن والابتلاءات مهما طال فسينتهي إلى النصر ، وستكون العاقبة للمتقين .