(أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا)
قال تعالى:
(وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً)( ).
إذا أراد الله إهلاك قرية من القرى فإنه يقيم عليهم الحجة قبل إهلاكهم، إنه يأمرهم بالطاعة والعبادة وينهاهم عن الفسوق والعصيان. ولكن المترفين في تلك القرية يعصون أمر الله، ويرفضون طاعته، ويختارون الفسوق والعصيان. عندها يحق عليها أمر الله، ويوقع بها عذابه، ويدمرها تدميراً.
هذا هو المعنى الصحيح، والفهم المستقيم للآية.
لكن بعض المسلمين قد يخطئ النظر فيها، ويخطئ فهم معناها، ويخطئ القول في تفسيرها، فيقول كلاماً، ينسب فيه لله ما لا يليق، ويثير منه إشكالات وهمية.
معنى الآية عند هؤلاء: أن الله يأمر المترفين في الآية بالفسق والعصيان، فيفسقون ويعصون، فيدمرهم الله تدميراً.
وهذا كلام خاطئ، فيه نسبة ما لا يليق إلى الله، وزَعْم أنه سبحانه يأمر بالفسق والعصيان.
والقرآن صريح في نفي هذا عن الله سبحانه بآيات صريحة.
من ذلك قوله تعالى: (وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ، قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ)( ).
وقد سبق أن تحدثنا عن هذه الآية، وصحّحنا القول فيها، وصوَّبْنا الفهم لها.
اتفق المفسرون على أن الأمر في هذه الآية: (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا)، ليس من باب الأمر بالفسق والمعصية لأن الله لا يأمر بالفحشاء.
ثم اختلفوا في المراد بالأمر.
فالإمام الزمخشري يرى أنه أمر لهم بالفسق مجازاً وليس حقيقة، ووجه المجاز عنده، أنه أنعم عليهم بالمال ليشكروا، فجعلوا هذا المال وسيلة للفسق والعصيان.
قال في الكشاف: "أمرناهم بالفسق ففعلوا. والأمر مجاز، لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم افسقوا، وهذا لا يكون. فبقي أن يكون مجازاً.
ووجّه المجاز: أنه صب عليهم النعمة صباً، فجعلوها ذريعة إلى المعاصي واتباع الشهوات، فكأنهم مأمورون بذلك، لتسبب إيلاء النعمة فيه. وإنما خوّلهم إياها ليشكروا ويعملوا فيها الخير، ويتمكنوا من الإحسان والبر، كما خلقهم أصحاء أقوياء، وأقدرهم على الخير والشر، وطلب منهم إيثار الطاعة على المعصية. فآثروا الفسوق، فلما فسقوا حق عليهم القول، وهو كلمة العذاب، فدمرهم"( ).
وكلام الزمخشري هنا لطيف وطيب وحسن. حيث اعتبر نعمة الله على الناس، ذريعة للطاعة، وسبباً للتقوى، ووسيلة للشكر.
وهؤلاء المترفون لم يستخدموا هذه النعمة كما يريد الله، ولم يؤدوا فيها حق الله، بل جعلوها ذريعة للفسق والمعصية، وهم لولا هذه النعمة لما تمكنوا من المعصية، ولولا الترف لما تمكنوا من الفسوق واتباع الشهوات.
لقد لاحظ الزمخشري تصرفهم في المال، واستخدامهم للنعمة. وهذا الْتفاتٌ منه إلى أهمية السلوك والتصرف والممارسة العملية، لأن لسان الحال أبلغ من لسان المقال، ومجال العمل أكثر دلالة على حقيقة ما في النفس.
وذهب كثير من المفسرين إلى أن المراد بالأمر في الآية، الأمر بالمعروف الذي هو ضد النهي، وأنه على ظاهره، وأن متعلقه محذوف، وأن فيها تقديراً.
ومعنى الآية عند هؤلاء: (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا): بطاعة الله وتوحيده، وتصديق رسله، واتباعهم فيما جاءوا به. (فَفَسَقُواْ): أي خرجوا عن طاعة أمر ربهم، وعصوا وكذبوا رسله. (فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ): أي وجب عليها الوعيد. (فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً): أي أهلكناها إهلاكاً مستأصلاً، وأكد فعل التدمير بمصدره للمبالغة في شدة الهلاك الواقع بهم.
وقد علق الإمام الشنقيطي في أضواء البيان على هذا القول الذي أورده بقوله: "وهذا القول الذي هو الحق في هذه الآية تشهد له آيات كثيرة".
وبقوله: "وهذا القول الصحيح في الآية جار على الأسلوب العربي المألوف، من قولهم: أمرته فعصاني، أي أمرته بالطاعة فعصى، وليس المعنى: أمرته بالعصيان"( ).
وذهب بعضهم إلى أن المراد بالأمر في الآية: أمرٌ كوني قَدَري. أي قدّرنا عليهم ذلك وسخرناهم له، لأن كُلاًّ ميسر لما خلق له.
وقال بعضهم بأن "أمَرْنا" بمعنى أكثرنا، أي أكثرنا مترفيها ففسقوا فيها.
وقال بعضهم بأن الميم فيها مشددة "أمَّرْنا" من التأمير والسلطان، وليس من الأمر، أي جعلنا المترفين أمراء وسلاطين. فيتسلطون على الآخرين ويحكمونهم، وينتج عن حكمهم الفسق والعصيان، لأن الفسق ملازم للترف الفاجر.
قال الإمام الراغب في المفردات: "وقوله: (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا)، أي أمرناهم بالطاعة، وقيل: معناه كثّرناهم. وقال أبو عمرو: لا يقال: أمَرت بالتخفيف في معنى كثرت، وإنما يقال: أمَّرْت، وآمَرْت.
وقال أبو عبيدة: قد يقال: أمَرْت بالتخفيف، نحو خير المال مُهْرَة مأمورة. وقُرئ: أمَّرنا: أي جعلناهم أمراء، وعلى هذا حمل قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا)( ). وقُرئ أمَّرنا: بمعنى أكثرنا"( ).
القراءات في الآية ثلاث:
1- أمَرْنا: بالقصر والتخفيف، من الأمر الذي هو ضد النهي.
2- آمَرْنا: بالمد والتخفيف، بمعنى كثّرنا المترفين.
3- أمَّرْنا: بالقصر والتشديد، من التأمير بمعنى التسليط والحكم.
وقد وردت أقوال العلماء والسلف بهذه المعاني الثلاثة. أوردها الإمام الطبري في تفسيره الجامع، والسيوطي في الدر المنثور.
قال ابن عباس: أمرنا مترفيها بحقّ فخالفوه، فحق عليهم بذلك التدمير.
وقال ابن عباس مرجحاً قولاً آخر فيها: أمرنا مترفيها: سلطنا شرارها فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم بالعذاب، وهو قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا).
ولذلك لما سأل نافعُ بن الأزرق –زعيم الخوارج- ابن عباس رضي الله عنهما في موسم الحج عن آيات من القرآن. سأله عن معنى (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا)، فقال: سلطنا الجبابرة عليهم فساموهم سوء العذاب.
قال له نافع: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول لبيد بن ربيعة:
إنْ يُعْطِبوا يَبْرِموا، وإنْ أُمِّروا يوماً، يصيروا للهُلْكِ والفَقَدِ
وعن أبي العالية: أمرنا مترفيها: أمّرنا عليهم أمراء.
وعن ابن عباس أنه قرأ: آمرنا. قال: أكثرنا فساقها.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا نقول للحي إذا كثُروا في الجاهلية: قد أَمروا بني فلان( ).
وبعد هذه الأقوال: نقول: المعنى الراجح للآية: أن المراد بالأمر حقيقته التي هي ضد النهي. وأن الله يأمر المترفين بالطاعة، فيخالفون أمره، ويقومون بالفسق والمعصية، فيحق عليهم أمر الله، ويوقع بهم العذاب والدمار.
والملاحظ في الآية أنها أثبتت الفسق للمترفين، ولكنها أوقعت التدمير بكل أهل القرية، مترفين وغير مترفين! فما ذنب الآخرين؟
الملاحظ أن غير المترفين معذبون معهم، إما لأنهم شاركوهم الفسوق والعصيان واتباع الشهوات، وذلك لأن المعصية تُعدي، والمترفون يحرصون على إفساد الآخرين ونشر المنكرات والمعاصي والشهوات بينهم، وطالما أنهم المتنفذون فإن الآخرين ينقادون لهم، ويستجيبون لإفسادهم. وتيار الشهوات جارف، ووباؤها منتشر.
وإما لأنهم جبُنوا عن الإنكار، وسكتوا عن الأمر بالمعروف، ولاذوا بالصمت، فلم ينكروا على المترفين فسقهم وفسادهم، ولم يأخذوا على أيديهم، ولم يُحذروا الناس من خلالهم. والله عز وجل يقول: (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً)( ).
إن هذه الآية تقرر سنة ربانية ثابتة من سنن الله في حياة البشر:
إن المترفين هم سبب الهلاك والدمار. وإن المترفين حريصون على الشر والفسق والفساد بين الآخرين. وإن المترفين مخالفون لأوامر الله، مرتكبون للنواهي والمحرمات. وإن المترفين فاسقون عصاة. وإن الترف ملازمٌ للفسق. وإن الدمار والهلاك والعذاب هو النتيجة المنطقية لكل هذه الجرائم. ولا يظلم ربك أحداً.
أشكرك اخي على هذه اللفتات الطيبة التي تأتينا
بها من دقائق التعبير القرآني
جزاك الله خير اخي الكريم
الله يجزيك الخير أخي أنس ويبارك فيك
والشكر الموصول للعلامة الخالدي حفظه الله وأطال عمره
ونسأله سبحانه وتعالى أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا وأن يزدنا علما والحمد لله رب العالمين
بارك الله فيك اخ يحيى على هذا التوضيح والاحرى بنا ان نلتجئ الى عدة تفاسير كى نحصل على تفسير آى آية من القرءان الكريم
فالفهم الخاطئ لآى آية من القرءان وتفسيرها على غير وجهها من التعدى على الله
الله يجزيك الخير أخي أبو عمارة ويبارك فيك
وحقا يجب أن نستمع في تفسير القرآن للعلماء الربانيين الذين يحسنون فهمه وتنزيله على الواقع ويبينون للناس حكمه ودرره ومقرراته والحمد لله رب العالمين