شيخ المجاهدين أحمد ياسين صفحات من حياته ودعوته وجهاده
شيخ المجاهدين أحمد ياسين صفحات من حياته ودعوته وجهاده - شيخ المجاهدين أحمد ياسين صفحات من حياته ودعوته وجهاده - شيخ المجاهدين أحمد ياسين صفحات من حياته ودعوته وجهاده - شيخ المجاهدين أحمد ياسين صفحات من حياته ودعوته وجهاده - شيخ المجاهدين أحمد ياسين صفحات من حياته ودعوته وجهاده
شيخ المجاهدين
الشهيد الحي أحمد ياسين
صفحات من
حياته ودعوته وجهاده
إعداد
الدكتور صالح الرقب
الجامعة الإسلامية- غزة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدّه الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أنّ لا إله إلا الله، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله.
"وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَاد"ِ البقرة:207.
"مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً " الأحزاب:23.
"وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ" آل عمران:146.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المقدمة:
إنّ قصف الشيخ القعيد على كرسيه المتحرك بالطائرات الحربية والصواريخ الأمريكية يؤكد عجز العدو اليهودي المتغطرس، وفشله عن مواجهة الرجال المجاهدين الربانين في ميادين القتال والمواجهة. فشيخنا الياسين الذي لم يمنعه شلل الأطراف الأربعة عن القيام بواجب الدعوة والتربية والجهاد، وعزاؤنا فيه أنه ربى جيلاً ربانياً مؤمناً، يعشق الجهاد والبندقية، ولا يعرف الانحناء إلا لله رب العالمين..جيل يحمل فكر ومنهج الإسلام العظيم، ويؤمن بطريق الجهاد والمقاومة، طريق وحيد لتحرير فلسطين وتخليصها من دنس اليهود..؟ إن الشيخ بهمته العالية، وروحه المتحركة بنور الله رغم شلله وكرسيه المتحرك قد زلزل عروش الظالمين اليهود وأعوانهم.
ليس الاستشهاد للشيخ ياسين موتاً-كما يظنّ من قتله- بل حياة حقيقية له، ملؤها نعيم الله الذي أعدّه للشهداءولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون). (وإِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ..) آل عمران:140، هذا الجزاء والاصطفاء لا ينال إلا بالجهاد في سبيل الله تعالى..وإنه لمن أعظم الطاعات والعبادات..ويا أبناء حماس وأحباب الشيخ..(وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)آل عمران:139..(وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً).
ولا نملك إلاّ نعاهد الله تعالى أن نجعل من دم شهيدنا وشيخنا القائد شموعاً تضيء لنا درب الحق والقوة والحرية..نعاهد الله تعالى أن نبقى الأوفياء لمنهج الإسلام القويم، نهج الثبات على عقيدة لا إله إلا الله..والجهاد في سبيل الله تعالى..لا نستقيل ولا نقيل، بل سنبقى بإذن الله ممن قال الله فيهموَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا). ثابتين على مسيرة الشيخ الجهادية وعلى درب الجهاد والمقاومة..نصبر على الجراح، ونصبر على الابتلاء، ونحن نعلم أن طريق الحرية والنصر والفخار محفوفة بالدماء والتضحيات..(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)آل عمران:200.
الدكتور صالح الرقب
1425هـ-2004م
المولد والنشأة:
ولد أحمد إسماعيل ياسين في قرية فلسطينية-احتلت عام 1948م- عريقة تسمى الجورة بعسقلان في يونيو-حزيران 1936م، وهو العام الذي شهد أول ثورة مسلحة ضد النفوذ الصهيوني المتزايد داخل الأراضي الفلسطينية. وعن سبب تسميته بأحمد يذكر الشيخ أنّ والدته سمعت في منامها حين حملت به هاتفاً يقول لها:أنت حملتي فإذا وضعيته فسمّي المولود أحمد، واحتفظت لنفسها بهذا الهاجس والرؤيا في النوم، حتى إذا ما تم الميلاد سمّتني أحمد.
بدأ ينمو الفتى أحمد ياسين في أسرة طيبة هادئة، كانت الوالدة امرأة فاضلة مؤمنة وطيبة، والوالد لم يعرفه جيدا لأنه مات- وعمره من أربع إلى خمس سنوات- قبل أن يكون لديه وعي كاف بمعرفته، ولم يكن يتصوره الآن، وكانت التربية للصبي أحمد منوطة بوالدته رحمها الله. كان له إخوة اثنان غيره من أمه وأبيه، وهو أصغرهم، وله أخت واحدة من أمه وأبيه، أي ثلاث إخوة وأخت، وله أيضاً أخوان من أبيه من زوجة أخرى، وله أخت أخرى من أبيه من زوجة سابقة متوفاة.
دراسته وتعليمه:
التحق أحمد ياسين بمدرسة قريته الجورة الابتدائية، وواصل الدراسة بها حتى الصف الخامس، لكن النكبة التي ألمت بفلسطين وشردت أهلها عام 1948م لم تستثن هذا الطفل الصغير فقد أجبرته على الهجرة بصحبة أهله إلى غزة، وهناك تغيّرت الأحوال، وعانت الأسرة -شأنها شأن معظم المهاجرين آنذاك- مرارة الفقر والجوع والحرمان، فكان يذهب إلى معسكرات الجيش المصري مع بعض أقرانه لأخذ ما يزيد عن حاجة الجنود ليطعموا به أهليهم وذويهم، ومن أجل ذلك ترك الدراسة لمدة عام (1949-1950م)، ليعين أسرته المكوّنة من سبعة أفراد عن طريق العمل في أحد مطاعم الفول في غزة، ثمّ عاود الدراسة مرة أخرى.
يقول الشيخ أحمد ياسين: طبعاً دخلت المدرسة، وبدأت رحلتي التعليمية في المدرسة، ومضيت طبعاً في هذه الفترة حتى أنهيت الصف الرابع الابتدائي في مدرسة الجورة الابتدائية اللي كان فيها حتى الصف السادس، وانتقلت إلى الصف الخامس..وبدينا أول شهر، وبدأت النكبة والرحيل من الجورة إلى منطقة غزة. من فضل الله –سبحانه وتعالى- طبعاً أنا بذلك تعلمت شيئا من الإنجليزية أيامها، وصرت أتكلم لغة إنجليزية، فلما ذهبت إلى المدرسة كان دخول المدرسة ذلك الوقت من العام السابع، لم يكونوا يقبلوا أقل من سبع سنين، فلما ذهبت إلى المدرسة كل الأطفال صاروا يقولوا للأستاذ هذا بيحكي إنجليزي يا أستاذ".
بعد ذلك أكمل تعليمه في المدرسة الابتدائية-سنة 1952م- في مدرسة الإمام الشافعي الابتدائية القريبة من بيته في معسكر الشاطىء، وأنهى الصف السادس الابتدائي، وكان عمره وقتها الثانية عشرة عاما، وكان حينها يعلمه المدرسان محمد أبو دية وفؤاد عيسى يوسف في مدرسة الإمام الشافعي الكائنة قرب سوق فراس، وفي نفس المدرسة أكمل المرحلة الإعدادية سنة 1955م، ثمّ التحق بمدرسة فلسطين ليكمل المرحلة الثانوية العامة سنة 1958م، وعمل بعدها مدرساً للغة العربية والتربية الإسلامية بمدرسة الرمال الابتدائية، وهي مدرسة حكومية.
وفي تلك الأثناء- في فترة الخمسينات-كان المدّ الناصري قد بلغ مداه، فيما اعتقل الشيخ من قبل المصريين بتهمة الانتماء إلى حركة الإخوان المسلمين، وعندما كان رجالات الحركة في قطاع غزة يغادرون القطاع هرباً من بطش الحكومة الناصرية كان لأحمد ياسين رأي آخر. فقد أعلن أنّ على هذه الأرض ما يستحق الحياة والجهاد..تقدّم لامتحان الثانوية العامة مرة أخرى، كي يلتحق بالجامعة انتساباً، وتقدّم إلى جامعة عين شمس عام 1964م قسم اللغة الإنجليزية، وفي 1965م تقدم للامتحان، ونظراً لظروف الاعتقالات التي حدثت عام 1965م في مصر بالنسبة للإخوان والشهيد سيد قطب فقد حيل دون عودته إلى مصر مرة أخرى.
كان الشيخ مقبلاً على التعليم الشرعي من خلال حضوره للدروس التي يلقيها المشايخ والدعاة من علماء الإخوان المسلمين القادمين من مصر أمثال الشيخ محمد الغزالي والشيخ الأباصيري، ومن خلال مذاكرته للكتب الدينية التي كون منها مكتبته الخاصة في بيته، بالإضافة إلى مؤلفات دعاة الحركة الإسلامية، حيث انتمائه لحركة الإخوان يوجب عليه مطالعة كثير من الكتب الفقهية والثقافية الإسلامية، وكان إقباله على العلم كأنّه يريد ابتلاعه، فقد كان يحب أن يعرف كل شيء، وساعده في ذلك: صفاء ذهنه، وقوة حافظته، واستثمار وقته في البحث والمطالعة. ثمّ ذكائه وقدرته على حفظ كل شيء وتخزينه، وكأنه جهاز حاسوب.
وعُرف عن الشيخ أحمد ثقافته الواسعة، وقراءاته المتعددة، واهتمامه الخاص بالقضية الفلسطينية تاريخيّا وسياسيّا، وكل ذلك ساعد على تكوين شخصيته التي بدت مبتسمة وواثقة دوما، حتى وهو مستغرقٌ في أشد حالات التفكير، أو عند تعرضه لأيِّ موقف محرج.
وقد شهد بثقافته الواسعة الشيخ عاهد عساف إمام مسجد قرية كفر لاقف شرق قلقيلية- والذي رافق الشيخ مدة تزيد عن النصف عام في سجن "كفار يونا" الصهيوني- قال:"عندما كنت أسمع عن الشيخ أحمد ياسين في وسائل الإعلام لم أكن اعلم أن هذا الشخص بهذه العقلية والقيادة بل كنت أظنّه رمزاً وعنواناً وضعته حماس فقط لا غير، إلا أنه كان قيادياً بالفطرة والخبرة بكل ما يعني ذلك، ويستحق هذه المكانة بلا منازع, فهو ملم بكافة الأمور السياسية والاقتصادية والدينية والصناعية والتجارية، حتى في الطب، ولديه زخم فكري لا يوصف، وكلّ من عرف الشيخ عن قرب يؤكّد صحة هذه المقولة."
نبوغه المبكر:
لقد عرف الشيخ أحمد بالنبوغ المبكر، والذكاء المفرط منذ نعومة أظفاره حتى بزَّ أقرانه، فهو منذ صغره صاحب همة عالية، ونفس أبية، وقلب طموح، جعلته تلك الصفات الجليلة موضع تقدير واحترام، وتبجيل وتعظيم، لكل من عرفه آنذاك أو خالطه وزامله. وممّا ساعده على ذلك: صدق القصد، وحسن التوجه إلى الله. ونشأته الصالحة في بيت هادىء ومؤمن، وكان يجد من أمّه-بعد أن فقد أبيه- الرعاية والاهتمام، والدعوات الصالحة، ثمّ العناية الإلهية، التي جعلته ذي دقة في استحضاره، وسلامة في منهجه، واستقامة في حياته، وصفاء ذهنه، وحضور بديهته، وقوة حافظته، واستثمار وقته في البحث والمطالعة.
من ذكريات الطفولة وفترة الشباب:
عايش الشيخ أحمد ياسين الهزيمة العربية الكبرى المسماة بالنكبة عام 1948م، وكان يبلغ من العمر آنذاك 12 عاما، وخرج منها بدرس أثر في حياته الفكرية والسياسية فيما بعد، مؤدّاه أن الاعتماد على سواعد الفلسطينيين أنفسهم عن طريق تسليح الشعب أجدى من الاعتماد على الغير، سواء كان هذا الغير الدول العربية المجاورة أم المجتمع الدولي. لقد نزعت الجيوش العربية التي جاءت تحارب إسرائيل السلاح من أيدي الفلسطينيين، بحجة أنه لا ينبغي وجود قوة أخرى غير قوة الجيوش، فارتبط مصيرنا بها، ولمّا هزمت هذه الجيوش هزم الشعب الفلسطيني، وراحت العصابات الصهيونية ترتكب المجازر والمذابح لترويع الآمنين، ولو كانت أسلحة الشعب الفلسطيني بيديه لتغيرت مجريات الأحداث.
يتذكر الشيخ أحمد ياسين أيام الطفولة فيقول:"عشت جزءاً كبيراً من أيام الطفولة في قرية الجورة في عسقلان-أي مناطق فلسطين 1948م- ومازلت اذكر قريتي بمساحتها ومدرستها الوحيدة، وفي تلك المرحلة كنت أذهب إلى البحر للسباحة، والى الحقول المجاورة لصيد العصافير، وفي عام 1948 بعد النكبة خرجنا إلى قطاع غزة، وبدأ الشق الثاني من مرحلة الطفولة وهي مرحلة بائسة مؤلمة شاقة، بسبب الظروف التي واجهت اللاجئين من المخيمات فتركت المدرسة لمدة عامين، وعملت في أحد المطاعم بغزة بائعا للفول والحمص، لمساعدة أسرتي ببعض المال في ظروفها القاسية بعد الهجرة واللجوء، ثمّ عدت إلى المدرسة وأكملت مشواري التعليمي في غزة، والحمد لله".
ويضيف:"وكنت ألعب الرياضة مثل كرة القدم، ولم يكن لدينا إمكانيات لشراء كرة مناسبة، لذا كنّا نصنع كرة القدم من القماش والجلد، وبالمناسبة هذه الكرة كانت ثقيلة بدون هواء لأنها محشوة بالأقمشة القديمة البالية، فقط كما كنت ألعب رياضات أخرى مثل ألعاب القوى والملاكمة التي كانت شائعة في أوساطنا في مرحلة الفتوة والمراهقة، ولم نكن نرتدي قفازات للملاكمة بل كنا نضرب بعضنا بأيدينا وقبضاتنا مباشرة إضافة إلى رياضة القفز على شاطيء بحر غزة، والجمباز فكنت أقف معكوسا ومقلوبا على رأسي وأرفع رجلي في الهواء، والسباحة وغيرها. أنا من أبناء اللاجئين من المخيمات البائسة حيث الشقاء والازدحام، وانعدام وسائل الترفيه، باستثناء هذه الألعاب التي كنت أمارسها مع زملائي".
شظف العيش:
توفي والده فتحمل بعدها عبء الأسرة من بعده، حيث ترك والده ثلاثة أشقاء وست بنات، فكان لا بد عليه أن يقوم بتربيتهم وإعالتهم لفقر أسرته ولقلة ذات اليد فعمل الصبي أحمد في الصيد في البحر، رغم أن مهنته ومهنة والده الأساسية لم تكن في يوم من الأيام النزول إلى البحر، لكن شظف العيش دفعه لترك الدراسة والعمل لسد حاجات أسرته التي تركها له والده. وبلهجته العامية يقول أخوه الحاج شحدة:"كان أحمد يتمتع بذكاء حاد بل كان أكبر من سنه فعندما شعر أن العبء أصبح ثقيلا على كاهلي عرض علي أن يساعدني في سد احتياجات الأسرة، وقال لي:أنا بدي اشتغل وأجيب مصاري هات لي وابور وآلة علشان بدي أعمل فلافل وأعمل لي خيمة على البحر علشان أبيع، وأصرف على أخواتي البنات..اشتريت له ما أراد من حاجيات الفلافل التي طلبها".
مرضه وشلله:
في السادسة عشرة من عمره تعرض أحمد ياسين لحادثة خطيرة أثرت في حياته كلها منذ ذلك الوقت وحتى الآن، فقد أصيب بكسر في فقرات العنق أثناء لعبه مع بعض أقرانه عام 1952، وبعد 45 يوما من وضع رقبته داخل جبيرة من الجبس اتضح بعدها أنّه سيعيش بقية عمره رهبن الشلل الذي أصيب به في تلك الفترة. وبالإضافة إلى إصابة الشيخ بالشلل التام، فإنّه يعاني من أمراض عدة منها فقدان البصر في العين اليمنى بعد ضربه عليها أثناء التحقيق، وضعف شديد في قدرة الإبصار للعين اليسرى، التهاب مزمن بالأذن، حساسية في الرئتين، أمراض والتهابات باطنية ومعوية، وقد أدّى سوء ظروف اعتقال الشيخ أحمد ياسين في السجون الصهيونية وعدم توفر رعاية طبية ملائمة له إلى تدهور حالته الصحية مما استدعى نقله إلى المستشفى مرات عدة.
وعن القفزة التي أوصلته إلى الشلل والكرسي المتحرك؟ يقول الشيخ أحمد:"اذكر في عام 1952م كنت أخرج مع زملائي للدراسة على شاطيء بحر غزة، وكنّا بعد أن ننتهي من مراجعة دروسنا نلهو ونلعب، وكنت أحب لعبة الجمباز والقفز، وقفزت آنذاك قفزة خاطئة فسقطت على الأرض، وأدى ذلك إلى الشلل الكامل، وبعد فترة تحسنت صحتي، وعدت امشي أتحرك، ولكن ليس كسابق عهدي، وتزوجت، وبعد ذلك عادت الآلام والمرض، مما اضطرني إلى الجلوس مرة أخرى على الكرسي المتحرك حتى الآن".
إنّ الناس اليوم في أشدّ الحاجة إلى الداعية الذي ينبغي أن يقوم بواجبات الدعوة الإسلامية، ولا ريب أن من الواجب على الداعية أن يستقيم في أقواله وأفعاله، وأن يكون قدوة صالحة للمدعوين في سيرته وأخلاقه وأعماله ومدخله ومخرجه وكل شئونه. وأن يكون صادقاً في حمل أعباء الدين، صادقاً في الأقوال، وصادقاً في التعبير عن شخصية واضحة.ولقد كان الشيخ الياسين واحداً من هؤلاء الدعاة القدوة الذين حباهم الله الصدق في كل شيء.
ولقد كانت أعماله خالصة لوجه الله تعالى من الرياء والسمعة، فهو ممن قال الله فيهم: فمن كان يرجو لقاءَ ربّه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً". سورة الكهف:110، "ليبلوكم أيكم أحسن عملاً".سورة الملك:2.
يقول أحد المراسلين للصحافة الغربية:"الشيخ أحمد ياسين يشع من عينيه نور الإيمان بقضيته، وتعد كلماته قانونا بين الإسلاميين في غزة، وهو راية الإسلام، والكابوس الإسلامي بالنسبة للإسرائيليين".
1- صدقه والتزامه بدينه:
يقول الله تعالى:(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا..ليجزي لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً)الأحزاب:23-24. نعم إنّ الشيخ القائد أحمد ياسين كان من هؤلاء الصادقين عهدهم مع الله..صادقا في الالتزام بدينه..وصادقا في الالتزام بالدعوة الربانية دعوة الإخوان المسلمين التي التحق بها عندما كان شابا يافعا، كان صادقا في قيامه بتربية جيل مؤمن بدينه وعقيدته الإسلامية، وأصبح من أتباعه رجالاً وعلماء يبذلون جهدهم في الدعوة الإسلامية، صادقا مع فلسطين قضية وشعبا ومقدسات..عندما ربّى قادة ورجالاً أعدّهم من أجل الجهاد في سبيل الله تعالى، وعندما أسّس حركة المقاومة الإسلامية حماس وذراعها العسكري كتائب القسام ليكون في طليعة القوى المجاهدة في سبيل الله تعالى لتحرير فلسطين من دنس اليهود، ومن ثمّ إقامة دولة إسلامية على أرض فلسطين المسلمة.
ولقد أدرك أعداؤنا قوة وصلابة الشيخ القائد أحمد ياسين، وصلابة حركته حماس، وقوة وصلابة كتائبها القسام، قوة كتبت بماء الذهب في قلوب الموحدين، وصلابة زرعت الرعب في قلوب اليهود الغاصبين، فعمدوا إلى اغتيال هذا القائد الرباني والزعيم الروحي، حتى لا توجد القدوة الحسنة التي يسير على نهجها أبناء فلسطين البررة..وإننا إذ نفتقد اليوم قائداً ربانياً جليلاً، بلغ رسالة الدعوة، وأدى أمانة الجهاد والتربية، فعزاؤنا أن شيخنا القائد أبا محمد قد نال الشهادة التي تمناها دوماً بعد أن صلى الفجر في المسجد، وبعد أن ودعته الملائكة التي تشهد صلاة الفجر (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً) الإسراء:78، قال عليه الصلاة والسلام:(من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله، فالله الله لا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من طلبه أدركه، ومن أدركه كبه على وجهه في النار). استشهد أمام مسجد المجمع الإسلامي الذي أسسه في السبعينات ليكون مناراً للتربية الإيمانية والجهادية.
ويذكر خليل حسن ياسين ابن شقيق الشيخ -وكان واحداً من الذين عايشوه عن قرب-أحد المواقف التي تدل على التزام السيخ أحمد وهو شاب بدينه قائلا:عندما كان يقيم الشيخ في معسكر الشاطئ خرج لصلاة الفجر برغم أنّه كان مريضاً، ولم يرافقه حينها أحد، وقد تعثر الشيخ، ووقع وبقي ملقى على الأرض حتى طلوع الشمس.
2- عاش من أجل قضيته:
لقد امتلك على الشيخ حب الإسلام قلبه ونفسه، وفكره، واتصف بالتقوى والورع، والإخلاص والتواضع وسعة الصدر، وثقافة واسعة جعلته الرجل الأول في القطاع، بل امتد تأثيره إلى فلسطين كلها وخارج فلسطين. وقال مدير مكتبه إسماعيل هنية:"الشيخ ياسين هو عنوان كرامة هذه الأمة، ورمز عزتها..عاش من أجل فلسطين ومن أجل القدس، ومن أجل الأقصى، وهذه اللحظة كان يتمناها..أن يلقى الله شهيدا". وأردف يقول وتحشرج صوته من البكاء:"لقد عاش الشيخ أباً ربانياً وعالماً داعياً بارزاً، ولن تنجب هذه الأمّة مثل الشيخ أحمد ياسين".
3- تواضعه وزهده وكرمه:
ومنشأ التواضع عند الشيخ أحمد رحمه الله هو معرفته قدر عظمة ربه، ومعرفة قدر نفسه، فالشيخ عرف قدر نفسه، وتواضع لربه أشد التواضع، فهو يعامل الناس معاملة حسنة بلطف ورحمة ورفق ولين جانب، لا يزهو على إنسان، ولا يتكبر على أحد، ولا ينهر سائلا قصده، ولا يترفع عن مجالسة الفقراء المحتاجين، ومخاطبتهم باللين، والمشي معهم لحل مشكلاتهم، ولا يأنف أبدا من الاستماع لنصيحة صدرت ممن هو دونه.
وكان الشيخ زهداً في الدنيا، مع توفر أسبابها، وحصول مقاصدها له، فقد انصرف عنها بالكلية، لأنه علم أنها دار الفناء، متأسيا بزهد السلف الصالح الذين كانوا من أبعد الناس عن الدنيا ومباهجها وزينتها الفانية، مع قربها منهم فالشيخ الياسين مثالا يحتذى به وقدوة يؤتسى في الزهد والورع. ومما يدل على ذلك أنه عاش الشيخ في بيت متواضع لا يقبل أن يسكنه أفقر الناس، فمساحته ضيقة يتكون من 3 غرف غير مبلطة، ذو شبابيك متهالكة، ومطبخ متهتك أيضا. في الشتاء يكون البيت بارد جداً. وفي الصيف حار جداً، وكان يرتدي الملابس البسيطة، ويتناول طعاماً دون المتوسط.
يقول المهندس فريد زيادة-أحد الأسرى السابقين الذين رافقوا الشهيد الشيخ أحمد في السجن-:"كان لدى الشيخ كأس خاص قديم لشرب الماء، استخففت به ذات مرة، وقلت له سنحضر لك كأسا جديداً، فقال:هذا الكأس هو رفيق اعتقالي الدائم، ثمّ ضحك، وهو يقول:"سعة هذا الكوب أوقية ماء، وأنا معتاد أن اشرب يوميا 2 لتر من الماء، لذلك لا أزيد ولا انقص في الشرب عن 8 أكواب، فقلت لا بأس نحضر لك كأسا جديداً بنفس السعة فأجاب:ما ضرورة التجديد مادام القديم مازال يفي بالغرض".
لقد أرسلت السلطة الفلسطينية لجنةً هندسيةً تابعة لوزارة الإسكان لمعاينة بيت الشيخ أحمد، ومن ثمّ إعداد المخططات الهندسية من أجل هدم البيت المتواضع جداً وإقامة بيت فخم جديد يليق بمكانة الشيخ القيادية والدعوية، وبالفعل شرعت اللجنة في إعداد المخططات الهندسية، ولكن اللجنة أوقفت أعمالها لأن الشيخ أحمد رفض هذا العرض، عندما أخبره من زاره من أسرته عن نية السلطة في بناء بيت جديد له. وبعد خروجه من السجن عام 1997م رفض عرضاً من أقاربه وأحبابه بأن يهدموا بيته، ويبنون له بيتاً فخماً يليق بمكانته، كما رفض عرضا مماثلاً من أبناء حركته حماس، رفض بأن يغيّر بيته المسقوف من الإسبست، وفضّل أن يعيش كبقية أبناء شعبه من الفقراء، وأصرّ على التواجد في نفس البيت الذي عاش فيه معظم حياته السابقة، وحتى أثناء حدوث الاجتياحات اليهودية لغزة رفض تغيير مكان بيته، لأنّه كان يشعر بوفاء كبير لكل من يعرفه فكيف بالمكان الذي عاش فيه.
ومن كرمه وزهده أنه إذا أحضر أحد الزوار الهدايا المرسلة من الخارج للشيخ وضعها الزائر على الطاولة، فإنّ الشيخ أحمد يمنع أن تدخل تلك الهدايا للمنزل، بل يأمرنا أن تبقى مكانها على الطاولة، فإذا ما حضر زوار آخرون تمّ توزيع الهدايا عليهم، ولم يبق الشيخ لنفسه منها شيئا.
ومن مواقف الزهد في الحياة ما يذكره خليل حسن ياسين-ابن شقيق الشيخ وكان أحد الذين عايشوه عن قرب-:"إنّهم عندما أرادنا تركيب ستائر للمكتب ومع معرفتنا بأنّ الشيخ سيرفض ذلك انتهزنا فرصة خروجه وقمنا بتركيب الستائر، وعندما رجع ورأى ذلك بقي يقرعنا أياما عديدة بسبب ذلك، وهو يقول لنا:تكسون الجدران، أليس من الأفضل إطعام فقير بثمن الستائر؟ وقد أخبرني ابن شقيقه الدكتور نسيم أنه هو الذي أوعز بتركيب الستائر لمكتب الشيخ في فترة غيابه، لمعرفته الرفض التام من قبل الشيخ لتركيب الستائر.
4- الهدوء والاتزان والحلم وسعة الصدر:
من الصفات الحميدة، التي تميز بها الشيخ الشهيد أحمد صفة الحلم وسعة الصدر، ولا شك بل ولا ريب أن الحلم من أشرف الأخلاق، وأنبل الصفات، وأجمل ما يتصف به أصحاب كل غاية حميدة، ولقد بيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلة الحليم، وما له من أجر وثواب عظيم عند الله، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج بن عبد القيس:"إن فيك خصلتين يحبهما الله الأناة والحلم". أخرجه البخاري ومسلم. ولقد من الله تعالى على الشيخ أحمد فحباه بالحلم الأناة، ولذا اتسع صدره، وامتد حلمه، وعذر الناس من أنفسهم وخاصة ممن اختلف معهم، وأساءوا الأدب معه.
تقول ابنته مريم:" كان كثير الملاطفة والمزاح، ولا يترك مجالا للمرح إلا يستخدمه. وكان طبع والدي الهدوء والاتزان، إلاّ أنّه ذات مرة-وبعد صلاة الجمعة -دخلت علينا امرأة تولول لأنّ زوجها يريد أن يوقع بها بطشه، وكان ظالماً لها فما كان من أبي إلا أن صرخ في وجهه، وخرج عن طوره، وحدّثه غاضباً أن يكف عن هذا الأمر، وفعلاً اتزن الزوج وهدأ، وجلس مع الشيخ ليحلّ قضية الزوجة المظلومة المتظلمة".
5- كرمه وجوده:
الكرم صفة محمودة، وأكرم الورى على الإطلاق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فهو أجود بالخير من الريح المرسلة، وخاصة في رمضان. وكرم الشيخ الياسين يتمثل في إعطاءه المستمر للفقراء والمحتاجين والمساكين فهو لا يرد طلبا، ولا يمسك شيئا من ماله لا قليلا ولا كثيرا، يقول شقيقه الأكبر الشيخ شحدة أبو نسيم:كان الشيخ أحمد نشيطا ومجتهدا، عاش فترة صباه ومراهقته في رحاب المساجد، ثم التحق في بدايات شبابه بالإخوان المسلمين، حتى أصبح قائدًا للجماعة في القطاع، شارك في بناء المسجد الغربي، ثم المسجد الشمالي الذي بناه ثلاث مرات؛ حيث كان يهدم بفعل الأمطار. كان لقد كان عطوفًا كريمًا، يحب الخير، ويكثر من مساعدة الفقراء والأيتام والأرامل والطلاب المحتاجين والمرضى، وكان سخيًّا كريمًا في خدمتهم، وأذكر بأني في إحدى المرات أرسلت له العشرات ليخدمهم، حتى إننا أردنا أن نشتري له أرضًا ليبني عليها سكنًا له فلم نجد في بيته قرشًا واحدًا، فاشتريت أنا الأرض له، توفي وليس في بيته مال، عاش صابرًا فقد عانى من المرض منذ عام 52 إلا أنه لم يتأفف.(مع أسرة الشيخ ياسين إبراهيم الزعيم، موقع الإسلام اليوم 2004/3/22).
ومن المواقف الأخرى التي تدلّ على كرمه الشيخ ما قاله أبو مصعب أحد أقدم مرافقي الشيخ: كان ابنه عبد الحميد يتلقى معاش(راتب) الشيخ، كان يقول له أعطوا نصفه للمحتاجين وابقوا النصف الآخر، وعندما يأتي محتاج آخر يريد المساعدة يعطيه الشيخ من نصف ما تبقى من المعاش، مع أنّ هذا المعاش كان مصدر الدخل الوحيد للشيخ- فقد كان مدرسا متقاعدا- وعندما كانت تراجعه زوجته أمّ محمد، وتقول له:وزعت المعاش ونحن ماذا سيبقى لنا؟ يرد عليها قائلا:(ربنا يبعث لنا)، وكانت كلمته الشهيرة التي يردّدها دائما:"الله المستعان".
6- مرب فاضل:
عمل الشيخ أحمد مدرسا، وهو يعلم أن المدرس مربي الأجيال، فهو يربي ويعلم في آن واحد، وعليه يتوقف صلاح المجتمع وفساده، ولذا قام بواجبه في التعليم، فأخلص في عمله، ووجه طلابه نحو الدين والأخلاق، والتربية الإسلامية الصحيحة، يزودهم بالمعلومات النافعة، ويعلمهم الأخلاق الفاضلة، وقد كان قدوة حسنة لغيره من المدرسين في قوله وعمله، وسلوكه. وقد شهد أحد تلاميذه بأنّه كان في داخل المدرسة يعلم التلاميذ قراءة القرآن، وأداء الصلاة، ثم يجمعهم في مسجد الكنز بحي الرمال ليعلمهم القرآن والحديث. كما كان يعطيهم دروساً للتقوية في المواد التي كان يدرّسها.
وقد اعترف تلاميذه الكبار-وهم اليوم من قادة العمل الإسلامي في القطاع- بعمق وصدق تربيته..يقول الأستاذ خليل القوقا:"إن تربية الشيخ للأجيال تحمل في طياتها نظرة الشيخ للأهداف والغايات البعيدة. ولقد تبدى ذلك حينما كنت أجلس معه وبعض الزملاء، فشكى له أحدهم قلة الشباب في صلاة الفجر، فما سمع الشيخ الخبر حتى انتفض كالصاعقة وارتجفت أطرافه، حتى لكأني خلته قد وقف قائلاً والله لنجرجر في الشوارع، سمعت العبارة مع منظر الشيخ فاخترقت كياني إلى أعماقي، وقلت في نفسي وما العلاقة بين الصلاة وبين أن نجرجر في الشوارع، ومن سيجرجرنا ولماذا ومتى وكيف، وأدركت حين كبرت وحين قرأت البوابة السوداء لتعذيب الإخوان المسلمين إبان حكم الطغاة وأدركنا عمق المشوار، ومدى تصور الشيخ لبعد المشوار، وعقد أمواج الدعوة والمعركة، إنه صراع في كل لحظة، وفي كل زاوية، في كل يوم من حياتنا".
ويضيف:"طالما ركّز الشيخ لنا في قصصه ودعاباته على أن مشوار الدعوة هو مشوار أشواك وهضاب وعواصف، لأنه يدرك شراسة عدوه وقسوته، فقد روى لنا قصة ونحن في سن الحداثة قال:(خرج الجمل وابنه القاعود لجلب الحطب فصادفهما أبو الحصين في الطريق قائلاً أين أيها الجمل وابنه؟ فقال الجمل إلى الغابة لنجلب الحطب، قالها بصوت ونبرة من يدرك مهمته، ولكن القاعود قالها وهو فرح، فلما عادا من الغابة سألهما نفس (أبوا لحصين) ماذا تحمل يا جمل؟ قال: حطب، بنفس النبرة أما القاعود قالها وهو يبكي، والحزمة في ظهره، لأنه فكّر أولاً أنها رحلة ونزهة..أراد الشيخ بذلك أن ينبهنا أن رحلة الدعوة رحلة شاقة، وليست نزهة ورحلة في حديقة، أخذنا نفكر هل نحن الجمل أم القاعود؟ هذا هو الشيخ مربياً وأباً وأخاً وقائداً وجندياً رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته...فالحديث عن الشيخ حديث شيق حديث عن مدرسة شاملة لكل جوانب الحياة، لا تحدها السطور ولا الكلمات...فهي حياة رجل قاده الإخلاص والصبر والتحمل عبر هذه السنين الطوال...إلى أن قضى نحبه كما تمنى..اللهم ألحقنا به في رحاب جناتك، واجعلنا وهو بجوار حبيبك آمين".
يقول د. عاطف عدوان:من المواقف الطريفة التي ذكرها لي الدكتور الرنتيسي أنّه عندما كان مسجونا مع الشيخ أحمد في زنزانة أثناء فترة اعتقالهم من قبل قوات الاحتلال الصهيوني فقد كانت الزنزانة مليئة بالبراغيث وكان–أي الرنتيسي- يحك جسده بيديه بقوة من أثر حكة البراغيث، وقد تعجب من عدم وجود البراغيث على جسد الشيخ أحمد. فسأله سبحان الله لماذا تقفز عليك البراغيث؟ فقال الشيخ ضاحكا: لقد منّ الله عليّ بذلك لأني لا أملك يدين.
ويقول تلميذه الدكتور أحمد بحر عن نشاط الشيخ التربوي:"استقينا على يديه القرآن الكريم والسيرة النبوية، وكان يجلس معنا في حلقات في المسجد، كما كان بيته مأوى لكل الشباب، بالرغم من أن بيته كان متواضعا جدا، وفي تلك الأيام أشرفت أمه على خدماته في أغلب الأحيان..ومن نشاطات الشيخ في مسجده بالإضافة إلى الدروس وحلقات العلم إقامة مسابقات ثقافية للشباب في المسجد..وعن الآثار التي تركتها رفقته للشيخ يقول بحر: لقد كان سببا في إعطائي دفعة في الخطابة والدعوة إلى الله في المساجد، وتعلمنا منه التفاني والتضحية، وألا نكل أو نمل في دعوتنا إلى الله سبحانه وتعالى وأعطانا قوة العزيمة والصبر والأمل في النصر، وعلمنا الشجاعة والجرأة وألا نخاف الموت، وتوج هذا أيضا بتقوى الله والقرب من الله كما كان يحثنا على صلاة الفجر في جماعة، كما كانت آخر عباراته التي سمعتها هي ترديده للآية الكريمة:"وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين" آل عمران: 46.
وأما الحدث الذي لا يستطيع الدكتور أحمد بحر أن ينساه فهو ذلك اليوم الذي طلب منه الشيخ إعطاء درس للمصلين في المسجد بعد صلاة العصر، وقال له يا سيدي الشيخ ماذا أقول للناس، وكان الشيخ يريد أن يعلمه الخطابة ويقول الدكتور أحمد بحر:"عندما وقفت أمام الناس كانت أرجلي ترتجف وتصطك ببعضها ولكن الله أعانني، وبعد ما تكلمت أمام الناس، ورغم أنني كنت ارتجف لكني وجدت تشجيعا من الجميع، وكانت تلك فاتحة خير، والحمد لله أكرمني الله، وأصبحت خطيبا بفضل الشيخ رحمه الله".
وأيضاً قد مارس الشيخ الياسين التربية في مسجد الشاطىء والمجمع الإسلامي وغيرهما، كما مارسها من خلال الأسر، والحلقات الإيمانية التي تعقد لشباب الإخوان المسلمين، وقد تربى على يديه في هذه الحلقات وفي المساجد الكثيرون ممن أصبحوا فيما بعد علماء وقادة ومجاهدين، حيث كان الشيخ المجاهد يوجه ويربي برغم مرضه وإعاقته، وبرغم انشغاله الدائم في دروب الجهاد؟
وكان في تربيته يتبع القول بالعمل ومن ذلك:أنه استطاع يمنع فتيات المدارس من المشاركة بالرقص في احتفال عيد النصر التي كانت تجري في القطاع بمناسبة خروج القوات اليهودية منه عام 1956م، حيث حرَض أولياء أمور الطالبات على منع بناتهن من ذلك، ولمّا اتخذت إدارة التعليم قراراً بفصل الطالبات لرفضهن المشاركة في الاحتفال تمّ تهديد مساعد الحاكم الإداري بخروج مظاهرة كبرى غداً من مخيم الشاطىء احتجاجاً على فصل الطالبات، مما جعل الحاكم العام يؤنّب مدير التعليم ويأمره بإعادة الطالبات فورا إلى مدارسهن.(أحمد بن يوسف:أحمد ياسين الظاهرة المعجزة وأسطورة التحدي، المركز العالمي للبحوث والدراسات، ص14).
7- عدم موالاته لأعداء دينه:
ويبين ذلك في مواقفه الواضحة من التقارب مع اليهود والأمريكان وغيرهم، بل إننا نلحظ من منهجه جانب الشدة في التعامل مع كثير من الحكام العرب الذين لم تنتفع بهم الأمة، يقول الشيخ رحمه الله تعليقا على موقفه بعد موت عبد الناصر وقد جاء إلى المسجد ليخطب الجمعة والناس يظنونه سوف ينعى عبد الناصر..يقول:"جاي أخطب خطبة، بيفكروني جيت أأبِّن عبد الناصر أنا طلعت وخطبت لهم خطبة على عكس ما يريدون..يعنى بأقول فيها:(وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين) وحظيت المبادئ اللي بيعيشها الإنسان، وليش بيعيش، فإذا عاش للإسلام والدعوة الإسلامية فهو اللي يستحق، وإذا عاش لغير الإسلام، ولغير الدعوة الإسلامية فلا يبكي عليه".
ومن مواقفه في ذلك:أنّ مستشرقاً سويديا جاء إلى قطاع غزة لنشر المذهب البهائي فيه، وقد اتفق مع إبراهيم الخالدي شيخ الطرق الصوفية في قطاع غزة وقتها، ولكن الشيخ أحمد وبعض أصحابه استطاعوا بفضل الله تعالى فضح المستشرق وأتباعه وبيان خطورة ما يريدون نشره بين الناس، حيث تم كشف أمرهم في المساجد، وتحذير الناس من شرهم، مما أدى إلى فشل المستشرق في تحقيق خطته لنشر البهائية في القطاع. .(أحمد بن يوسف:أحمد ياسين الظاهرة المعجزة وأسطورة التحدي، المركز العالمي للبحوث والدراسات، ص15).
8- تفانيه في خدمته شعبه:
يقول الشيخ أحمد ياسين:"طول عمري أقضيه في العمل، وحتى وأنا موجود في بيتي أعمل، لا توجد ساعة عندي بدون عمل، يأتي المسلم يشكو شكواه، يأتي الفقير يقدم شكواه، يأتي أبو السجين يشكو شكواه، تأتي المطلقة تقدم شكواها، أنا بيتي مفتوح لكل الناس على كافة مستوياتهم، للأرملة والفقير، والتعبان، والمريض ومن عنده مشكلة إسلامية، ومن يريد أزور المنطقة، الشغل يأخذ كل وقتي". وكان الشيخ الشهيد حاسما في اتخاذ القرارات.
ويقول أحد المجاهدين: ذكر أحد الأخوة أنّه حضر خلال زيارته للشيخ في أحد الأعياد حينما تدخل الشيخ الرمز لحل مشكله تمثلت في خلاف وقع بين فريقين لكرة القدم لمسجدين في غزة حيث تصاعد الخلاف إلى الشجار. فكان الشيخ القائد يسأل عن كل صغيرة وكبيرة عن سبب الخلاف، واستغل الشيخ زيارة الفريقين له، وقام بنقاشهم حول أسباب الخلاف لدرجة أظهرت علم الشيخ بقوانين كرة القدم، وفي نهاية الأمر توصل الشيخ إلى حل يرضي الطرفين يتناسب مع قوانين اللعب من جانب، وأخلاقيات المسلم.
وكان الشيخ الياسين يتابع حلّ الكثير من المشكلات ودياً- دون لجوء أصحابها إلى المحاكم- من خلال لجان الإصلاح، التي أسسها في غزة، وكانت جهود الشيخ الإصلاحية أحد الأسباب في حب شريحة كبيرة من المجتمع الفلسطيني له رغم انشغاله في قيادته لحركة حماس. وإن الناس ليزحمون حوله أينما وجد، في المسجد، في المنزل، في المكتب، وهو يصغي لكل منهم في إقبال يخيل إلى كل واحد منهم أنه المختص برعايته، فلا ينصرف عنه حتى يقضي حاجته، ويسهل أمره، وييسر مطلبه.
إنّه كان يعطي الجانب الاجتماعي، والإصلاح بين الناس أهمية كبيرة توازي في تأثيرها الجانب السياسي، وكانت له صولات وجولات في هذا الأمر، وهو ما جنب الفلسطينيين إراقة الكثير من الدماء، من خلال عمله على حل مشكلات وقضايا معقدة ظلت عالقة لسنوات طويلة في المحاكم، لم يغلق الشيخ في يوم من الأيام باب منزله في وجه أحد قصده ليحل له مشكلة، لاسيما الضعفاء من الناس، كما أن كافة شرائح وفئات وطوائف المجتمع كانت تتوجه إليه لحل مشكلاتها، بمن في ذلك العديد من المسيحيين.
ومن تفانيه في خدمة مجتمعه أنه في الفترة ما بين 1975-1976م طلب الشيخ أحمد من أبنائه شباب الحركة الإسلامية القيام بتنظيف شوارع غزة المهملة نظافتها من قبل بلديتها، وكان الشيخ يشرف بنفسه على حملة النظافة من خلال سيارة متواضعة يملكها أحد أحبابه.(أحمد ياسين الظاهرة المعجزة وأسطورة التحدي، المركز العالمي للبحوث والدراسات ص 16)
يروي الشيخ زياد عنان من مدينة غزة الذي رافق الشيخ فترة الثمانينات خلال عمل الشيخ الشهيد في الإصلاح، أنه لم يكل أو يمل يوما فكان يبدأ يومه منذ ساعات الفجر وحتى نومه يستقبل المواطنين في منزله المتواضع الذي قسمه نصفين نصف لأسرته ونصف لاستقبال الناس، ومتابعة شكاويهم وقضاياهم، يقول الشيخ زياد عنان:"إنه في أحد أيام رمضان انتهى الشيخ من حل قضية قبل الإفطار بدقائق وأثناء نقلي له على كرسيه إلى داخل المنزل الذي كان فيه مع أهل بيته فوجئنا برجل يدخل علينا، ويرجو الشيخ أن يسمع شكواه فما كان مني- شفقة على الشيخ- إلا أن عاتبت الرجل على حضوره في وقت غير مناسب، وطلبت منه أن يعود في وقت آخر وتابع عنان:ردّي لم يعجب الشيخ وقال: لي أنا لم أطلب منك أن ترد على الرجل: وإذا كنت قد تعبت فاذهب إلى بيتك..هذا كان رد الشيخ الشهيد الحي الذي أنهكه العمل على شكاوى الناس طوال اليوم، وحين جاء وقت تناوله الإفطار آثر أن يستمع للرجل حتى النهاية ليمتد الوقت بالشيخ دون إفطار لما بعد العشاء.
وأضاف عنان:"أن الشيخ ياسين قال لي بعد أن ذهب الرجل، أهكذا الدعوة يا زياد..هذا الموقف لم أنسه في حياتي..علمني الشيخ كيف أتعامل مع الناس، حيث قال لي:"أنت تريد أن توصل رسالة إسلامية للناس، فكيف تريد أن تكون إنسانا داعية للحق بسلوكك هذه الطريقة، وكان دائما يوصينا أن نكون رفقاء بالناس، ولا نستخدم أي أسلوب قاس، مع أي منهم حتى المعتدي".
9- أمله أن يرضي الله عنه:
يقول الشيخ أحمد ياسين:أنا إنسان عشت حياتي أملي واحد، أملي أن يرضي الله عني، ورضاه لا يكتسب إلا بطاعته، وطاعة الله تتمثل في الجهاد من أجل إعلاء كلمة الله في الأرض، ومن أجل تطهير أرض الله من الفساد الذي يقيمه أعداء الله في الأرض، فإذا ما حققت الهدف الأول، وهو:تطهير الأرض الإسلامية من الاغتصاب، وقام عليها النظام الإسلامي فهذه هي أمنيتي، التي أسعى إليها، وأرجو الله أن ألقاه عليها فإذا تحققت فذلك فضله، وإن مت قبل أن تتحقق قد بدأت الطريق وخطوت خطوات:(وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) يوسف: من الآية21.
10-ذو قلب رحيم:
لقد كان شيخ فلسطين إنساناً يحمل هموم الوطن وهموم الشعب رغم مرضه الشديد كان قلبه كبيراً يتسع لكل أبناءه من المواطنين حتى الأطفال الذين أحبوه، كان الشيخ يحتضنهم ويقبلهم بكل حنان، كان الأطفال ينتظرونه كل يوم عند خروج الشيخ لأداء الصلاة فيلتفون حوله ويذهبون برفقته إلى المسجد، هذا هو الإمام الراحل وهذه هي أخلاقه الإسلامية التي نقلها إلى أبناءه من شعبه الذي أحبهم وأحبوه والذين عاهدا الله أن يسيروا على دربه بمواصلة المقاومة والجهاد في سبيل الله.( ومضات من حياة الإمام الشهيد الشيخ أحمد ياسين: موقع المركز الفلسطيني للإعلام).
يقول أسامة المزيني صهر الشيخ ياسين:"كان مربيًا يتبع تعاليم الإسلام في كل مجالات الحياة، فلم يكن السياسي المحنك أو الداعية أو القائد أو المربي الفاضل فقط، إنما كان الإنسان الذي يمتلك القلب الرحيم، والعلاقة الاجتماعية الواسعة..تعامل مع أصهاره كأنهم أبناء له فلم يشق عليهم بالمهور، بل تعدى الأمر في بعض الأحيان لتقديم المساعدة المالية لأصهاره تفوق المهر الذي دفع لزواج بنته..لم يكن يبخل علينا بوقته الضيق، وكان يشاركنا في أفراحنا وأحزاننا، على الرغم من انشغاله الدائم، وذلك من أجل إدخال السرور في قلوبنا..وعلى الرغم من أنه كان مستهدفًا من قبل إسرائيل فإنه كان يرفض ترك بيته، وكان دائمًا موجودًا بداخله والناس كلهم لا يعلمون بذلك، فقد كان يتمتع بتحد كبير رغم استهدافه".
وتقول:أم حسام زوجة عبد الغني نجل الشيخ ياسين:"له العديد من المواقف الحلوة التي نسجت بالذاكرة، وكان يحب الأطفال كثيرًا وحنونًا على أحفاده، ودائما يسعى لإسعادنا..صاحب قلب واسع يستمع لكل مشاكل البيت والأبناء، وكان يداعب الأطفال أيام العيد ويوزع عليهم الحلوى والهدايا". وتقول زوجه أم محمد بكلمات محملة بالحزن على فراقه:"كان ينفذ لي أي طلب أرغب به، وقضيت معه حياة هنيئة من غير تعب أو مشقة، وكان حنونًا على جميع أبنائه وأحفاده".
11- اعتزازه بالله تعالى:
يقول الشيخ عاهد عساف أحد مرافقيه في السجن:"للشيخ المجاهد مواقف عزة وكرامة وإباء، منها عندما حضر أحد ضباط الموساد إليه وقال له:إنّ كتائب القسام تطالب بإطلاق سراحك في بيان نشر من بيروت مقابل الكشف عن جثة الجندي أيلان سعدون, فردّ عليه الشيخ بعزة وكرامة:أنا لا أقبل على نفسي أن يفرج عنّي مقابل جثة، صعق الضابط الصهيوني من جواب الشيخ، وقال له: أنت تعرف مكان الجثة, وخلال حديث ضابط الموساد مع الشيخ المجاهد يقول عاهد التفت إليّ هذا الضابط وقال ليّ:"أنت سيفرج عنك قريبا فماذا أوصاك الشيخ "فقلت له:"أوصاني بالتمسك بديني، ودعوتي، وصلاتي ومساعدة الآخرين، وكان جوابي له بالعبرية, وعلى الفور التفت إلى الشيخ قائلا له:"ماذا أوصيت مرافقك, فردّ عليه الشيخ بنفس الكلمات، مع أنّه لم يعلم ما جرى بيني وبين الضابط، وقتها غادر الضابط زنزانة الشيخ بلا رجعة مذهولا".
ويضيف الشيخ عساف:"جاء مدير سجن كفار يونا ذات مرّة يطلب ودّ الشيخ في جلسة حوار، وكان ردّ الشيخ:ليس لدي وقت أضيّعه معك، أحمرّ وجه المدير الصهيوني أمام ضبّاطه، ورجع يجر أذيال الخيبة والفشل".
ويصف الدكتور أحمد بحر شخصية القائد الشهيد فيقول: كان الرجل الذي تجمع عليه فرسان الحركة وأبناؤها، وإذا ما قال الشيخ كلمة فإنّ الجميع يبادر إلى تطبيقها، وذلك لثقة أبناء الحركة الإسلامية في صدق وإخلاص الشيخ، ولقد عرفنا معاني العزة والكرامة منه، وفي اعتقادنا فإنّه كان يتحدّث بعزة الله، وبقوة الله وبنصر الله، ولذلك كان لا يخاف الموت".
لكل قائد صفات معينة يجب توافرها فيه، لكي يمتلك عوامل النجاح القيادية، وبدون تلك الصفات فإنه بلا شك لن يكون قادراً على التأثير فيمن حوله تأثيراً يمكنه من تسيير دفة الأمور على الوجه الأكمل. وقد كان لدى الشيخ الياسين مجموعة من الصفات القيادية المتميزة، فهو بحق قائد موهوب، منحه الله سبحانه وتعالى صفات القائد الناجح، ومن أبرز تلك الخصال:-
أ- القدرة على التخطيط المستقبلي:
استخدم الشيخ الياسين التخطيط المستقبلي بكافة أشكاله في بناء جماعته وحركته الإسلامية. واستخدم الشيخ التخطيط طويل المدى، وقصير المدى، فكان إذا ارتأى أنّ الحاجة فقط تدعو إلى خطة قصيرة، شرع في تنفيذها تنفيذاًَ يتلاءم والحاجة إليها، وأمّا إذا أراد أن يضع خطة طويلة الأجل، فإن تخطيطه يكون مثارا للإعجاب والدهشة، من أصحابه وأحبابه فقد كان رحمه الله يخطط للآجال الطويلة بكل دقة وعمق وتركيز، ومن الشواهد على ذلك بناء حركته من الصفر، ثم التخطيط للعمل المسلح الجهادي، رغم اعتقاله أول مرة واكتشاف تنظيمه المسلح ومصادرة نصف سلاحه.
ب-القدرة على التحليل والمقارنة:
ومن بين خصاله وصفاته العديدة القدرة على التحليل والمقارنة، وقد كان ذلك الأسلوب واحداً من أساليبه التي اعتمد عليها في ممارسة مهامه ومسؤولياته المنوطة به كأمير لجماعة دعوية(الإخوان المسلمون)، وقائد لتنظيم عسكري كبير.
ج-القدرة على اختيار الوقت المناسب لتنفيذ عمل ما:
كان الشيخ أحمد رحمه الله يمتلك القدرة على اختيار الوقت المناسب لتنفيذ عمل ما، فلم ينفذ أية خطة من خطط الدعوة بكافة أشكالها، إلا واختار لها الوقت المناسب، لذلك حينما كان إذا أقام مشاريع اجتماعية أو ثقافية أو غيرها يختار الوقت المناسب، خاصة والدعوة بدأت نبتة مباركة في بلد محتل من عدو غاشم، يتربص بالمسلمين بعشرات العملاء الذين وظّفهم لذالك. لذلك كنت ترى اٌقرب الناس إليه، وقد ظهرت عليهم علامات الإعجاب والتقدير لتلك الخطوة التي أقدم على تنفيذها. وتراهم وهم فرحين بذلك المشروع الذي أقدم عليه متفائلين بأهدافه، ومستبشرين بنتائجه، ومؤيدين له، لا لشيء إلا لأنّ شيخهم وقائدهم عرف متى ينفذ ذلك المشروع وتلك الخطة. وهذه القدرة لا تتوفر إلا لأولئك الرجال الذين منحهم الله سبحانه وتعالى مثل هذه الخصال.
د-القدرة على التأثير في الغير:
التأثير في الغير مهمة ليست سهلة, ولا تتحقق إلا في ظل قيادة واعية، فالقيادة هي القدرة على التأثير على التأثير على الغير في فكر الفرد، وفي سلوك أفراد الجماعة، ومن ثمّ تنسيق جهودهم، تعتمد القيادة الواعية على اقتناع أفراد التنظيم بالقائد وثقتهم الكبيرة به، فالقيادة تركز على قدرات واستعدادات طبيعية كامنة في الفرد تؤهله لإحداث التأثير في أفراد الجماعة. لقد كان الشيخ الياسين يتمتع بهذه الصفة القيادية الناجحة.
الشيخ أحمد ياسين ذو هيبة مؤثرة، ودودة، وعندما تقابله يجذبك من أول وهلة، ويسيطر على عقلك ومشاعرك وأحاسيسك، ويثير الحماس فيك. إنّه شخصٌ وُجِــد ليبقى في الذاكرة ولا يُنسى أبداً. وهو شخصيته مبتسمة وواثقة دوما، حتى وهو مستغرقٌ في أشدّ حالات التفكير، أو عند تعرضه لأيِّ موقف محرج. وبهذه الصفة أصبحت للشيخ أحمد ياسين مكانة في قلوب أعضاء حركته لا ينافسه فيها أحدٌ، فهو الشخصية القادرة على التأثير في الآخرين في كل أحوالهم.
يقول رفيق دربه الشهيد الدكتور عبد العزيز الرنتيسي:"إنّ الشيخ أحمد ياسين عندما تتعامل معه تجد أنه يملك عقلية فذة، وقدرة على التحليل واستنباط الأمور، ولا يتكلم الكلام إلا بعد تفهم واعي، فلا يندفع في الكلام اندفاعا على الإطلاق، ولكنه يتأنى حتى يصل إلى صلب الموضوع الذي يتحدث فيه، ويأتي حديثه مركزاً، صائباً تماما..بصراحة كنت دائما إذا سمعت لرأيه أحسست بخطأ رأيي...إن لدى الشيخ قدرة على التأثير في الغير عجيبة جدا إذ يأتي المرء أحيانا ولديه مشكلة يعتقد أن حلها مستحيلا ولكن الشيخ يستطيع بعد منافسة قصيرة معه أن يجعلها مبسطة، وهو في ذلك كله يعتمد على ذكاء وحسن تقديره، وخبرته الطويلة وذاكرته القوية".
يقول ضابط عسكري في شهادة حق يقدمها عدو لعدوه الكبير- لم يكشف عن اسمه- يتحدث إلى برنامج دردشات الذي تبثه القناة الأولى في التلفزيون الإسرائيلي السبت 3-4-2004، يخدم في الجيش الإسرائيلي، وعمل سجانًا في سجن كفار يونا:"إنه لم يكن يلمس أي تصرف أو قول يدل على أن الشيخ كان ذا عقلية إرهابية أو تفكير عدواني..كنت أشعر بالراحة لمجرد الوقوف بقربه، وأعتقد أنه كان يغمر أتباعه "رفقاءه" بهذا الإحساس؛ ولذلك أحبوه...كنت أتابع وضعه داخل السجن وعلاقته برفيقيه، وطالما اعتقدت أنّ عناصر حماس سيحرقون الأرض إذا مسّه أي مكروه، لقد كان أبًا روحيًّا بحق".
هـ-القدرة على اختيار الرجل المناسب للعمل في المكان المناسب:
ومن خصال قيادته الحميدة أيضاً قدرته على اختيار الرجل المناسب ليعمل في المكان المناسب. إذ كانت له القدرة على اكتشاف الرجال القادرين على تحمل المسؤوليات، وأداء المهام المنوطة بهم. لهذا فقد استطاع مَنْ وقع عليهم الاختيار للعمل في الدوائر المنوطة بهم، ولا أدل على ذلك من موقع الشهيد القائد صلاح شحادة، وموقع الشهيد المفكر إبراهيم المقادمة، وغيرهم كثير.
وحين يثق فيمن اختاره لا يتردد في منحة الثقة بنفسه فيركن إليه أن يقوم بالعمل الكبير وهو واثق من قيامه به، يذكر الأستاذ خليل القوقا واقعة تدل على ثقة القائد فيمن اختارهم للعمل، فيقول:"أذكر قبل الانتفاضة بأشهر كنت متوجهاً للجامعة الإسلامية في الفترة الصباحية، أتفقد وضع الجامعة من اليهود فطفت حول أسوار الجامعة، فوجدت الجيش قد ضرب طوقاً حولها، وبدأ يقترب شيئاً فشيئاً، فأدركت أن الجيش يريد اقتحامها ثم يقوم بعملية تأديب على حد تعبيرهم، لأن الجامعة طالما ولا زالت مصدر الشغب والمظاهرات لإشغال اليهود في معارك في الشوارع، فهي فرصة لهم لأن عدد الطلبة في الجامعة قليل، فذهبت مسرعاً إلى الشيخ أحمد ياسين فوجدته في عرينه جالساً وعنده أحد الأطباء وأبو العبد عبد العال سائق باص المجمع، فقلت له بلهجة الملهوف وعرقي قد ملأ وجهي وتراني مضطرباً وقلت له بلهجة الآمر أعطني باص المجمع؟ فلم يقل لماذا وما الخبر؟ بل أمر أبو العبد أن يحضر الباص، ثم اتبعت الأمر الأول بالأمر الثاني أعطني هذا الرجل الجالس بجانبك، فابتسم وقال إن وافق، حضر الباص وهممت بالانصراف مع الطبيب، ولكن قبل أن أخرج فقط قال إلى أين قلت له:إن وضع الجامعة حرج جداً، وأريد أن أخرج مظاهرتين: إحداها من مسجد السلام في حي الزيتون، لتتوجه للجامعة، كي يملأ الناس الجامعة، ويفشل ما يخطط له اليهود، والثانية من مخيم الشاطئ، فلم يزد عن كلمة وفقك الله، وفعلاً قلت للطبيب الرجاء أن تقول في ميكروفون المسجد: أبناؤكم بناتكم أعراضكم في خطر، إلى الجامعة، لأنّ الأمر إذا تعلق بالعرض وفلذات الأكباد تطير العقول بالأجساد، وتخف الأرواح وترخص في سبيل ذلك".
ويضيف القوقا:"ثم انطلقت إلى مخيم الشاطئ ومن ميكروفون المسجد الأبيض وجهت النداء الساخن ليدرك الناس أبناءهم وبناتهم من براثن اليهود في الجامعة، ثم توجهت لأثبت وجودي في مدرستي التي كنت أدرس بها وخرجت مظاهرة قالوا أنها سدت عين الشمس، فملأ الناس الجامعة بالآلاف، وظل الحصار حتى قرب مغيب الشمس، فلمّا رأى الشيخ أن اليهود يرفضون وساطة الصليب الأحمر لذلك الحصار ووساطة الحاج رشاد الشوا، أراد الشيخ أن تخرج مظاهرة من المسجد العمري الكبير حتى ينشغل اليهود بالمظاهرات، وينصرفوا عن الجامعة، وفعلاً طلبوا مني الخروج من المدرسة والتوجه للمسجد العمري لإخراج المظاهرة، وإشعال مشاعرهم بعد الصلاة. ووالله لو حدثت لكانت مذبحة، لأنّ الشوارع فارغة إلا من الجنود اليهود، وسيكون الشباب والجند وجهاً لوجه، ولكن ما أن وقفت لأهتف بالناس وأحمسهم للخروج إذ بأحدهم يهمس في أذني أوقف العملية، واصرف الناس بهدوء فقد انفك الحصار، وخرجت الطالبات.
إن الشيخ أحمد لم يوقف ما سأفعل، استجاب لكل أمر طلبته منه دون سؤال، لم يدع إلى الاجتماع للقيادة ليتخذ قراراً، إنه الميدان وإنها المعركة في عقله وضميره، فهو في صراع معهم في كل لحظة وأوان، جاهز ويده على الزناد، كنت وقتها أنا القائد آمر فيطيع قائد القادة، إنه يؤمن أن الموقف هو السيد، وهو القائد الذي يفرض علينا جميعاً".
و- القدرة على تحديد الهدف:
وكان الشيخ القائد يملك صفة حميدة جداً من صفات القادة الناجحين، ألا وهي القدرة على تحديد الهدف، فليس بمقدور كل إنسان أن يحدد هدفه، وكثيرون هم أولئك الذين يتيهون في دوامة تزاحم الأهداف إلا القليلين الذين لديهم الاستعداد من جميع الجوانب في القدرة على تحديد أهدافهم. والحق يقال إن الشيخ كان يملك قدرة عجيبة في رؤية هدفه الذي يسعى إلى تحقيقه، وكان بالتالي يتمكن بكل سهولة واقتدار من تحديد أهدافه دون لبس أو غموض.
ز-القدرة النفسية والذهنية:
على الرغم من شلله المبكر والأمراض التي تزاحمت عليه خاصة بعد سن الخمسين إلا أنه كان رحمه الله لديه كقائد قدرة خاصة أخرى ألا وهي القدرة النفسية والذهنية التي مكنته تجاوز المشكلات التي كانت تصادفه أمام الضغوطات المتزامنة، سواء السياسية منها أو النفسية وخلافهما، كان من الطراز الذي يملك القدرة على مواجهة المشاكل التي تعترض طريقه بكثير من ضبط النفس، وبالابتعاد عن أي انفعال نفسي قد يؤثر على اتخاذ القرار، ومن يملك قدرة نفسية وذهنية حاضرة إزاء المشكلات التي تواجهه، فإنه بالتالي يتمكن من حلها بالأسلوب الأمثل مستغلاً في ذلك قدرته على اتخاذ القرار الحاسم، إذ إن ذلك ليس بالأمر السهل كما يعتقد البعض، حيث إن الكثير منهم لا يملكون القدرة على اتخاذ القرارات، فيظلون مترددين بين هذا وذاك. ولا أدلّ على ذلك استمرارية الانتفاضة الأولى عام 87م رغم الضغوط التي تعرّض من اليهود لها خارج السجن وداخله. ثم الضغوط من السلطة الفلسطينية، وما صاحبها من الضغوط النفسية اليهودية المتمثلة في سياسة القتل والاغتيالات والهدم والاجتياحات، وما يصاحبها من دمار كبير في الأنفس والأرواح والثمرات والأموال والممتلكات، واغتيال كبار القادة السياسيين والعسكريين من حركته. بالإضافة إلى الضغوط العربية، والمؤامرات الدولية التي حيكت لوقف الجهاد والمقاومة الحالية، وكلّنا راقب الطلبات المتلاحقة على حركته لوقف العمليات الاستشهادية ووقف قذائف الهاون والصواريخ.
ح- القدرة على اتخاذ القرار الحاسم:
يمتلك الشيخ القدرة الكبيرة على اتخاذ القرارات، فإذا ما عقد العزم، وتوكل على الله كان قراره قوياً وحازماً، ودليلاً على امتلاكه العزيمة الكافية المقتدرة، كان لا يعرف التسويف أو التردد على الإطلاق. ولهذا كانت قراراته تاريخية، وسوف يقف أمامها تاريخ بلادنا ويسطرها بكل فخر واعتزاز. ومن ذلك قرار تجميد العمل العسكري زمن حكومة السيد محمود عباس وقد أشاد بذلك القرار الحاسم والجريء أبو مازن نفسه ومعظم المحللين والخبراء السياسيين، وقد أذهل القرار اليهود أنفسهم.
ط- قوة الذاكرة:
ومن بين الصفات القيادية لهذا الرجل قوة الذاكرة وهي التي تلعب دوراً هاماً ورئيسياً في حياة أي فرد فينا، فقوة الذاكرة صفة من الصفات الواجب توافرها لدى أي قائد كي يحقق نجاحاً ما، كان رحمه الله يتمتع بذاكرة قوية فوق العادة إذا حدثك عن شيء وأجبته بإجابة ما فلا تظنن أنه سينسى ما قلته بعد فترة زمنية ما، ولهذا فقد ترك لدى جميع أصحابه ومرافقيه ومساعديه في العمل الدعوي، بل كل من عرفه انطباعاً عما يمتلك الشيخ من قوة في الذاكرة تجعله ملماً إلماماً كبيراً بما يحيط به. وممّا لا شك فيه أنّ قوة الذاكرة تجعل من يمتلكها إنساناً ملماً إلماما كافياً، ومدركاً إدراكاً واسعاً بجميع المسائل المتعلقة بأحداث أو وقائع ماضية، ومن يملك كل ذلك تكون لديه القدرة على المتابعة.
ي-القدرة على المتابعة:
القائد الناجح هو الذي يملك القدرة على متابعة ما يصدره من أوامر وتعليمات، والمتابعة هنا نقصد بها المتابعة الميدانية العملية التي تُعد وسيلة من وسائل الضبط والربط. فلا يكفي لأي إنسان مسئول أن يصدر تعليمات وأوامر دون التأكد بأنها تنفذ تنفيذاً مناسباً ومعقولاً. وقد كان الشيخ رحمه الله تعالى قائداً فذاً..فقد امتلك القدرة على متابعة قراراته متابعة مثالية. والشيخ لم يكتف فقط بمتابعة القرار والتأكد من تنفيذه، بل كان يشجع كل مجتهد ومخلص ومتفانٍ، مما أعطى للمسئولين حافزاً على المثابرة، والحماس في أداء المهام المنوطة بهم.
يقول أحد مهندسي المقاومة الشعبية التابعة لحماس:"إنّهم فوجئوا في إحدى المرات بالشيخ الشهيد الرمز يناقشهم في أدق تفاصيل عملهم في إطار الاستعدادات للتصدي لأي اجتياح صهيوني محتمل لمدينة غزة مضيفا أن حديث الشيخ الشهيد الرمز لم يكن مجرد حديثا للترف أو لاستعراض وأضاف المجاهد:"أن الشيخ اقترح طرقاً لنصب الألغام الأرضية لمواجهة دبابات الاحتلال، واهتم بمعرفة طريقة وآلية توزيع المجاهدين على مناطق مدينة غزة، والمحاور التي يمكن أن تكون مداخل لاجتياح قوات الاحتلال الصهيوني, مواقف الشيخ الشهيد القائد الرمز كانت كثيرة في هذا المجال ولا يمكن حصرها في فترة قصيرة من بعد استشهاده رغم أن الشهيد لم يكن يتدخل في العمل العسكري إلا أنه كان يحب أن يسهم مع المجاهدين في أوقات الشدة.
ك-الشورى:
يقول عاهد الشيخ عساف:"في عام 95م عندما كان الحديث يدور حول توقيع وثيقة بين حماس وفتح رفض التوقيع على الوثيقة عندما طلب منه وفد من السلطة زاره داخل السجن وقال لهم:"يوقع قادة الحركة أولاً، وبعدها أنا، وذلك لأنّه لا ينفرد في القرارات، رغم عظم مكانته وقوة تأثيره على الآخرين، فهو يعتمد الشورى كأساس في التعامل مع الجميع دون استثناء"، قال تعالى:(وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) الشورى:38. يقول الدكتور أحمد بحر:"ومن مواقف العزة التي أعزّه الله بها موقفه من عمر سليمان رئيس المخابرات المصرية، وذلك عندما قال له في مكالمة هاتفية يا سيدي الشيخ أتمنى عليك أن توقف الإشكالية، وتوقف إطلاق النار، فقال له الشيخ: لا أستطيع أن أعطيك قراراً، وسأعرض الأمر على مؤسسات الحركة، وحقيقة كان يستطيع أن يقول كلمة، ولكنّه أراد أن يعلمنا الشورى الحقيقية".
ل- الحكمة السياسية:
لقد شهد لحكمة السياسية وبعد نظره كل من عرفه وراقب حالة المقاومة الإسلامية في فلسطين الشيخ.
وقد كتبت الأكاديمية السعودية بجامعة الملك فيصل أميمة أحمد الجلاهمة في صحيفة الوطن السعودية 28/3/2004م تحت عنوان(رجل تعدت حكمته حدود جسده):" كان الشيخ رمزاً للمقاومة الإسلامية الحكيمة التي أبت خلط الأوراق وتعاملت مع القضية الفلسطينية بحكمة غاظت أعداءها. ألم يكن صمام الأمان الذي رفض تماماً أن يتحول نزاع الفلسطينيين مع المحتل الصهيوني لنزاع داخلي، خشية منه على الوحدة الوطنية وعلى الدم الفلسطيني؟"
وتضيف:"ألم يتسم بالحكمة التي ألزمته بالتريث في إصدار آرائه وتوجيهاته؟ألم يلتزم بالإقامة الجبرية طواعية لأنها صدرت من السلطة الفلسطينية؟ السلطة السياسية الفعلية للفلسطينيين. ألم يلتزم بها مع علمه يقيناً أن شريحة عريضة من الفلسطينيين تقف وراءه وتسانده؟ التزامه بهذا القرار وبغيره يعني لي الكثير، فوحدة الصفوف كانت بالنسبة لهذا الشيخ أجلّ وأعظم من معارك داخلية لن تترك خلفها إلا الدمار لأهلها، كان مدركاً أن معارك كهذه سيصفق لها الصهاينة لو قدر لها الحدوث. ثم ألم يكن هو الرافض لتحويل ساحة النزاع خارج الحدود الفلسطينية؟ كان بحكمته يعلم أن عدوه ذاك المحتل، وأن مصلحة القضية الفلسطينية تكمن في عدم فتح منافذ لصراعات دولية متعددة، رجل استوعب قوانين اللعبة التي حدد بنودها ذلك الكيان المحتل، فتعامل معها بكبرياء وحكمة أفقدتاهم ما بقي لهم من عقل، رجل تعدت حكمته حدود جسده المتهالك لتصل به إلى مصاف عظماء هذا العصر".
المدرس والخطيب:
رغم الشلل الذي أصيب به الشيخ، فإنّه أصرّ على إكمال دراسته حتى نال شهادة الثانوية العامة، أنهى أحمد ياسين دراسته الثانوية في العام الدراسي 57/1958م ونجح في الحصول على فرصة عمل رغم الاعتراض عليه في البداية بسبب حالته الصحية، بدأ عمله كمدرس في 4 أكتوبر عام 1958م في قطاع غزة، وقصة ذلك:أنّه كان متفوقاً في الدراسة حيث حصل على نسبة عالية وبتقدير امتياز في الثانوية العامة، بعدها عقدت إدارة المدرسة امتحاناً لحوالي 1500 طالب أنهوا دراستهم الثانوية ليصبحوا معلمين، وكان الشيخ أحمد من الأوائل والمتقدمين إلا أنه رغم ذلك لم يحظ برضا رئيس لجنة التعيين- الأستاذ بشير الريس مدير التربية والتعليم يومئذ- الذي رفض حينها توظيف الشيخ بسبب إعاقته. وما هي إلا أيام قليلة حتى طرق باب بيت أهله، فإذا برجل من مدرسة الرمال الابتدائية يطلب من الشيخ أحمد أن يتوجه إلى مدرسة الرمال الابتدائية فوراً. ولم يكن نعرف حينها لماذا وما السبب الذي دعاه ليطلبه، لكن عندما وصل إلى المدرسة علم أنّ الفريق أحمد سالم الحاكم العام المصري لغزة أصدر أوامره بتوظيف الشيخ أحمد ياسين مدرساً، ويقال ربما يكون الدافع وراء تعيين الحاكم العام للشيخ مدرساً أن كان له ولد مشلول، وهكذا الشيخ مدرساً في تلك المدرسة التي كان مديرها الأستاذ محمد محمود الشوا، وبراتب شهري مقداره عشر جنيهات مصرية.
وبدأ يزاول مهنة التدريس في الثقافة الإسلامية واللغة العربية، لينشئ الأجيال على حب الدعوة والتضحية من أجل القضية الفلسطينية. وكان معظم دخله من مهنة التدريس.وفي تلك الأثناء بدأت مواهبه الخطابية في الظهور وبقوة، ومعها بدأ نجمه يلمع وسط دعاة غزة، وهو ما أدى لاعتقاله عام 1965 من قِبَل المخابرات المصرية، التي كانت تدير شئون قطاع غزة آنذاك
ولكنه لم يكتف بالتدريس، بل أخذ يجمع الطلاب المتميزين، ويحولهم إلى المساجد ليكمل لهم دروسهم، ويقيم لهم الأنشطة الثقافية والرياضية والاجتماعية.
مواقف رائعة:
- استطاع الشيخ أحمد أن يجمّع التلاميذ في المسجد ليحقق هدفين:أولاهما:محافظة التلاميذ على الصلاة في المسجد جماعة، ومن ثمّ ربط قلوبهم بالله تعالى.وثانياً:تربيتهم تربية روحية مسجدية، في زمن لم يعتاد الناس فيه أن يرتادوا المساجد. ولقد استطاع الشيخ أحمد أن يؤثر في التلاميذ فبدأوا يحافظون على الصلاة جماعة، بل ويصومون الاثنين والخميس. لدرجة أنّ أحد ضباط السلطة في ذلك الوقت ذهب لناظر المدرسة يشكو مما يقوم به المدرس أحمد ياسين، فقال الناظر لكل شاك:أنا سعيد بالمدرس أحمد ياسين، وسأكتب له كتاب شكر، فأين لنا المدرس الذي يدرّس الدّين عملياً في المسجد، وحبذا لو كان في كل مدرسة في القطاع مدرس مثله.
- ويروى أنّ أحد أولياء الأمور وهو طبيب من الشيوعيين احتج على مدير المدرسة الأستاذ محمد الشوا لأنّ ولده أصبح يصلي ويصوم النوافل..وقال يا عمّي قبلنا أن يصلي الولد، وقبلنا أن يذهب إلى المسجد، أما أن يصوم الاثنين والخميس من كل أسبوع فهذا أمر صعب ولا نقبل به, فأجابه ناظر المدرسة إجابة مفحمه-كما أجاب من سبقه من الشاكين- أخرست الرجل.(أحمد بن يوسف:أحمد ياسين الظاهرة المعجزة وأسطورة التحدي، المركز العالمي للبحوث والدراسات، ص13-14).
وبالإضافة لعمله مدرساً كان أيضاً خطيباً وداعية في المساجد في ذلك الوقت. وفي عام 1967م كان من أشدّ الخطباء حماسة في دحض الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، حيث بدأ خطيباً في مساجد غزة، وألهب مشاعر المصلين من فوق منبر مسجد العباس الذي كان يخطب فيه لمقاومة المحتل، وعمل في نفس الوقت على جمع التبرعات ومعاونة أسر الشهداء والمعتقلين.
ومن طرائف الأمور أنه لما اعتقل من الإدارة المصرية، ثم أخرج من السجن كان قد وقّع تعهدا بعدم ممارسة الخطابة والوعظ في المساجد، وفي يوم الجمعة ذهب الشيخ أحمد ليصلي الجمعة كغيره من الناس، ولكن ما أن دخل المسجد ورآه الناس حتى تدافعوا نحوه وقاموا بحمله ووضعه على المنبر ليخطب الجمعة، وكان مما قرأه في خطبته قوله تعالى:(إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُور أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌٍ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)الحج:40-38. واسترسل الشيخ أحمد في قراءة القرآن والأحاديث ممّا كان لحديثه أثر طيب في نفوس الناس الذين أخذوا يبكون، وكادت أن تحدث ثورة بعد الصلاة.(أحمد بن يوسف:أحمد ياسين الظاهرة المعجزة وأسطورة التحدي، المركز العالمي للبحوث والدراسات ص 17)
وأيضا كان شيخنا يذهب لمساجد الضفة الغربية للدعوة الإسلامية، يروي تلميذه النجيب الدكتور أحمد بحر طرفة في ذلك فيقول:في فترة وجودي في مدينة الخليل بعدما تخرج من الثانوية الشرعية زارني الشيخ أحمد ياسين في بلدة بيت أمر، ودخل المسجد في البلدة ورآه الناس فظنّوا أن الشيخ يريد أن يطلب مساعدة مالية -ربما لوضعه الصحي- فاجتمع حولي المصلون، وقالوا: ماذا يريد؟ هل يريد فلوسا؟ فوقفت أمام الناس، فقلت لهم هذا شيخنا وإمامنا أتى ليعطيكم درساً، وعندما أعطى الدرس انبهر الناس به، واجتمعوا حوله يسلمون عليه ويقبلونه.
مؤلفات الشيخ:
يقول رحمه الله:"أنا كرّست حياتي للعمل وليس للكتابة، وحياتي كلّها كانت تطبيق لما أقرأ وما أتعلم، أنقل ما تعلمت إلى واقع الحياة، فإن تعلمت آية أو حديثاً قمت وعلمته للناس..اشتغلت مدرساً ثمً أحلت إلى التقاعد، ولم أحاول أن أكتب إلا صفحات قليلة، وما يعالج واقع أراه أمامي فمثلا كتبت رسالة صغيرة عندما بدأت بعد 1967م الخمور تجتاح الأرض المحتلة تحت اسم البيرة فكتبت رسالة صغيرة "البيرة في الميزان" ولم أكتب شيئا بعد ذلك..ولدي بعض الرسائل والكتابات بخصوص الصلاة ولم أطبعها، لأنّ حياتي سخرتها للعمل، وليس للكتابة وهذا من فضل الله علي سبحانه وتعالى، وليس عيبا أن يكون الإنسان غير كاتب، المهم أن يفهم ويتعلم من واقع الحياة، وليس كل الناس ممكن أن يكونوا كتابا أو يكونوا كلهم عاملين في الميدان، ولكل خصائصه وميزاته التي تميزه..وإذا شاء الله سبحانه وتعالى وقدرنا سنكتب على الأقل ما نعرفه في حياتنا وسجوننا ومعتقلاتنا ورحلاتنا في الخارج؛ لأنه فعلا لا يوجد لدي الوقت الذي يمكن أن أكتب فيه وكل وقتي هو للقاء مع الناس.. ولا يوجد لدي فراغ".
كيف يقضي يومه؟؟
تحدث أبو محمد أحد المرافقين الدائمين للشيخ المجاهد تحدّث عن حياة الشيخ اليومية، فقال:"إنه كان يستيقظ من نومه قبل الفجر بساعة على الأقل فيتوضأ ويبدأ بصلاة القيام حتى الأذان فيصلي الفجر في المسجد أو جماعة في مكتبه مع مرافقيه وذلك حسب وضعه الصحي والأمني وبعد الفجر مباشرة يبدأ بقراءة القرآن حتى الساعة السابعة صباحا مع العلم انه في صلاة النوافل يراجع جزء يوميا من القرآن..وبعد أن يتعب من الجلوس على كرسيه ينقله مرافقوه إلى سريره ليستلقي عليه ويطالع الصحف من خلال لوحة عليها قصاصات الصحف وبعد قراءة الأخبار والمقالات ينام قليلا ويستيقظ مرة أخرى ليستعيد نشاطه من جديد ويبدأ في استقبال الزائرين من الذين يؤمون مكتبه يوميا ثم يأتي موعد صلاة الظهر ليصلي الظهر في المسجد فقد كان يصلي معظم الصلوات في المسجد خصوصا في الفترة الأخيرة وبعد ذلك يواصل استقبال الزوار...وعندما كنا نريده أن يرتاح من استقبال المواطنين ونقول له أرتاح يا شيخنا كان يرد قائلا:"متى ارتحت حتى أرتاح اليوم"؟
ويذكر أبو محمد أن الشيخ كان يخرج من المكتب في زيارات خارجية في أوقات ما بعد العصر أو بعد المغرب، وبعد العشاء يواصل مرة أخرى مقابلة الزائرين وفي نهاية اليوم يسمع ويتلقى الأخبار من خلال المحطات التلفزيونية والإذاعية ومن خلال البريد والرسائل التي تصله كما كان في ساعات المساء يدخل إلى بيته للجلوس مع زوجته وأبنائه وبناته لمدة ساعة أو ساعتين...إن الشيخ لم يكن لينام قبل الساعة الواحدة ليلا على الأقل وإذا انتابه التفكير في شيء لا يعرف النوم".
ويقول الشيخ الياسين رحمه الله:"ابدأ يومي بصلاة الفجر، ثم بعد ذلك قراءة القرآن، ثم أعود للراحة قليلا ثم أقوم للإفطار، وأبدأ العمل الذي يكون ارتباطا بمواعيد مع الناس ومقابلات لحل مشاكلهم وقضاياهم، ومناقشة همومهم في المجتمع. كذلك الاهتمام بالمساعدات المادية التي يتلقاها البعض، وأحيانا عندما لا يكون هناك مواعيد أو زوار اهتم بقراءة بعض الكتب الإسلامية التي أحتاج لمراجعتها، ثم استمع إلى النشرات اليومية التي تصدر من الإذاعات والمحطات التلفزيونية، إضافة إلى التحاليل التي تصدر من هنا وهناك. بعد ذلك تأتي صلاة الظهر، ويستمر العمل حتى الساعة 12 ليلاً في مكتبي في بيتي ثم أعود إلى الفراش الساعة الواحدة صباحا وهكذا يمر اليوم بين المطالعة والسياسة ونشرات الأخبار في الفضائيات والمقابلات الصحافية".
نشاطه السياسي:
من بين ركام الجاهلية ومع تفشي الأفكار العلمانية أخذ على عاتقه تغيير هذا الوضع وتبصير الناس بأمور دينهم، وقد كان يؤمن بأن الزمن جزء من العلاج، وأنّ رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة..والإعداد الفعلي بدأ منذ العام 1980م وبدأنا بإعداد أنفسنا لمرحلة المواجهة مع العدو الإسرائيلي بتوفير السلاح والشباب والتدريب".
ولقد شارك الشيخ أحمد ياسين وهو في العشرين من العمر في المظاهرات التي اندلعت في غزة احتجاجا على العدوان الثلاثي الذي استهدف مصر عام 1956م، وأظهر قدرات خطابية وتنظيمية ملموسة، حيث نشط مع رفاقه في الدعوة إلى رفض الإشراف الدولي على غزة مؤكدا ضرورة عودة الإدارة المصرية إلى هذا الإقليم.
وفي تصريح للشيخ الشهيد قبل استشهاده بأيام قليلة يقول الشيخ أحمد:"إنه خرج من النكبة بدرس، وأثّر في حياته الفكرية والسياسية فيما بعد وهو أن الاعتماد على سواعد الفلسطينيين أنفسهم عن طريق تسليح الشعب أجدى من الاعتماد على الغير سواء أكان هذا الغير الدول العربية المجاورة أم المجتمع الدولي..لقد نزعت الجيوش العربية التي جاءت تحارب الكيان الصهيوني السلاح من أيدينا بحجة أنه لا ينبغي وجود قوة أخرى غير قوة الجيوش، فارتبط مصيرنا بها، ولما هزمت هزمنا وراحت العصابات الصهيونية ترتكب المجازر والمذابح لترويع الآمنين، ولو كانت أسلحتنا بأيدينا لتغيرت مجريات الأحداث.
وفي برنامج شاهد على العصر الذي أذاعته فضائية قناة الجزيرة قال:"كانت القضية الفلسطينية جزءاً من حياتنا ووجداننا كنا نتنفسها مع الهواء فعلا فالظروف التي كنا نعيشها في المخيمات كانت تذكرنا ليل نهار وفي كل وقت بالمأساة والنكبة فترانا نسمع أخبار المذياع، ونتابع تطورات القضية، وبدأت تتبلور شيئا فشيئا حتى وصلنا إلى مرحلة الشباب ونحن ننظر إلى قريتنا وهي على بعد كيلو مترات من قطاع غزة، وكان السؤال المهم ماذا نفعل حتى نعود إلى أرضنا؟ حتى وصلنا إلى مرحلة بدأنا فيها تنفيذ ما نريده من العمل الجهادي، ولم أترك الشلل الذي أصابني في جسمي فرصة أن يكون عائقا أمام الاستمرار في الدعوة والعمل والبناء، وخاصة تعبئة النفوس المسلمة للقتال والمواجهة والاستشهاد.
الاعتقال الأول للشيخ:
كانت مواهب الشيخ أحمد ياسين الخطابية قد بدأت تظهر بقوة، ومعها بدأ نجمه يلمع وسط دعاة غزة، الأمر الذي لفت إليه أنظار المخابرات المصرية العاملة هناك، فقرّرت عام 1965م اعتقاله ضمن حملة الاعتقالات التي شهدتها الساحة السياسية المصرية والتي استهدفت كل من سبق اعتقاله من جماعة الإخوان المسلمين عام 1954م، وظل حبيس الزنزانة الانفرادية قرابة شهر ثمّ أفرج عنه بعد أن أثبتت التحقيقات عدم وجود علاقة تنظيمية بينه وبين الإخوان. وقد تركت فترة الاعتقال في نفسه آثارا مهمة لخصها بقوله:"إنها عمقت في نفسه كراهية الظلم، وأكدت فترة الاعتقال أن شرعية أي سلطة تقوم على العدل وإيمانها بحق الإنسان في الحياة بحرية".
وبعد هزيمة 1967 التي احتلت فيها إسرائيل كل الأراضي الفلسطينية بما فيها قطاع غزة استمر الشيخ أحمد ياسين في إلهاب مشاعر المصلين من فوق منبر مسجد العباسي الذي كان يخطب فيه لمقاومة المحتل، وفي الوقت نفسه نشط في جمع التبرعات ومعاونة أسر الشهداء والمعتقلين، ثم عمل بعد ذلك رئيسا للمجمع الإسلامي في غزة.
انتماؤه الفكري ودعوته:
اعتنق الشيخ أحمد ياسين وهو في سن مبكرة-كان وقتها تلميذاً في المرحلة الإعدادية- أفكار جماعة الإخوان المسلمين التي تأسست في مصر على يد الإمام حسن البنا عام 1928م، ولقد كان لحركة الإخوان المسلمين برامج تربوية وثقافية ورياضية في قطاع غزة في تلك الفترة، وقد أعطى البيعة لهذه الجماعة سنة 1955م، وهي السنة التي أنهى فيها المرحلة الإعدادية.
يقول الشيخ الياسين:أنا إنسان إسلامي، وتفكيري التفكير الذي كان ينتهجه الإمام حسن البنا في رسائله، وفي كتبه، يعني أنا أحب حركة الإخوان، وأتمنى أن يعود للإسلام دوره"..نحن إخوان مسلمون، تربينا ونشأنا على موائد الإخوان، وكتب الإخوان، ورسائل البنا، وكتب دعاة الإخوان، فالعلاقة التربية وعلاقة القراءة، والكتاب، والمناهج، نحن إخوان، كما هم إخوان، ونسير على مناهجهم..نحن امتداد للإخوان المسلمين في كل العالم، نحن موجودون هنا بفكر الإخوان، وبالعقيدة الإسلامية كاملة، وليس هناك أي خلاف بيننا وبينهم، كل الخصوصية التي تمتع بها هنا في فلسطين، أنّه لنا أرض محتلة، ووطن محتل، لنا مقدسات محتلة، نحن نأخذ بجانب الجهاد والمقاومة كعنصر أساسي في وجودنا وحياتنا، لأنّ الإسلام لا يمكن أن يقوم إلا على أرض مطهرة من كل اعتداء، ومن كل استعمار ومن كل احتلال صهيوني..نحن نتلقى الدعم والتأييد من كل الإخوان في العالم، ونحن نملك هذا الرصيد الإسلامي الممتد في كل جهات الوطن العربي والإسلامي، لكن ليس لنا علاقة تنظيمية، إنما علاقات الدعم، والتعاون، والأخوة، والفكر، والدراسة كل ذلك موجود بيننا.
ولقد كان الشيخ أحمد دائما ينفى علاقته التنظيمية بالإخوان المصريين، إذ يقول:"ولم يكن بيننا وبين الإخوان في مصر علاقة تنظيمية، ما فيه بيننا وبين إخوانا في مصر أي علاقات، كل بلد له همومه، وله مشاكله وله مشاغله". ويقول:"حتى في زيارتي لمصر الأخيرة كان من طلباتي إنا بدي أزور المرشد، لكن لم يتحقق لي زيارة ولا شيء من الزيارات اللي هناك، أنا اعتبر شيئا معنوياً إنك تزور إنسان".
وفى ردّه عن سؤال ما إذا كانت حركة حماس هي حركة إخوانية أم لا؟ قال الشيخ أحمد رحمه الله تعالى:"هي لاشك إنها هي خرجت كما يقولون من رحم الإخوان المسلمين هذا صحيح، لأن فكرنا ونشاطنا هو نفس الفكر والنشاط، لكن إحنا ما في بينا وبين إخواننا في مصر أي علاقات، ثم نحن نواجه واقعا فلسطينيا، ونتصرف حسب واقعنا وليس حسب واقع أي بلد عربي".
بدأ الشيخ أحمد نشاطه الدعوي من الصفر، في زمن كان المد اليساري والقومي يجتاح الضفة الغربية وقطاع غزة، فيما يغيب التدين عن المجتمع الفلسطيني على نحو لم يحدث من قبل،عندما كان التدين بدعة وعلامة على الرجعية، ظل أحمد ياسين مصراً على أن زمن الإسلام قادم لا محالة، وأن ما تراكم من غبار على وعي الأمة لن يلبث أن يزول لتعود إلى جذورها وسرّ عزتّها. كان الشيخ يصنع البناء، لبنة إثر أخرى، كان الشيخ يلقي بذوره في أرض الإسراء والمعراج مبشراً بالغد الأفضل.
وبدأ نشاطه من خلال المسجد، ومن خلال تعليم الأطفال والشباب في المسجد علوم الإسلام والعلوم الدنيوية، ومن خلال مدارس التقوية التي تقام في المسجد في العطلة الصيفية. وكان يمارس نشاطه الدعوي في المساجد عن طريق المكتبات والخطب والدروس، الكتب، النشرات.
وقد أسس الشيخ أحمد المجمع الإسلامي، وهو مسجد ومؤسسة إسلامية متكاملة، خيرية واجتماعية ودعوية، ومع تعاقب الأيام أصبح المجمع ولفترة طويلة المؤسسة الإسلامية الأولى في قطاع غزة. وكان للمجمع الإسلامي الذي أسسه دور كبير في نشر الثقافة والوعي الديني والتعليمي في قطاع غزة، حيث كان أول رياض أطفال في القطاع، كما كان له دور في تأسيس الجامعة الإسلامية بغزة، إلى جانب أنّه أسس مدرسة الأرقم الخاصة قبل سنوات، كما أن نادي المجمع الإسلامي تفوق على مدار السنوات الماضي في رياضة تنس الطاولة، وكذلك فريق الجمعية الإسلامية تفوق في كرة الطائرة، ومثلت فرق هذه الجمعيات فلسطين في دورات عربية خارجية.
تتحدث مريم ابنته أحمد ياسين عن حياة أبيها الدعوية فتقول:"أبي يعطي نموذجاً للرجل الذي عاش للإسلام؛ فكان كله للإسلام:أوقاته وجهده وماله لدينه؛ فكان يخرج من الصباح الباكر يدور على المساجد يدعو إلى الله سبحانه وتعالى، وهو الرجل المشلول، ويكون صائما؛ فيدركه المغرب وهو في مكان بعيد عن البيت، فيمر على بقالة فيأخذ كوب لبن يفطر عليه، ثم يواصل الدعوة إلى الله، ومشواره في باقي المساجد، فما من مسجد من قطاع غزة إلا وألقى فيه درسا أو خطب فيه خطبة، وما من مخيم إلا وحرص أن يوجد فيه فردا يعمل للإسلام".
وهكذا بقي الشيخ مدافعاً عن الإسلام، وكان يركّز في كل خطوة يخطوها على نشر المعنى الصحيح لنظام الإسلام المتكامل، وهو أنّ الإسلام:عقيدة، وعبادة، وقيادة، ومصحف، وسيف، وهو حياة وشهادة.
ورغم شلله الذي أصيب به وهو في ريعان شبابه فإنّ الشيخ القعيد كان شعلة من النشاط والإيمان لا يعرف الكلل، ولا الملل من العمل وخدمة الناس؛ فقد لا يكون هناك مكان في فلسطين إلا ووصله الشيخ ياسين خلال عمله كداعية إسلامي في نصف قرن من العمل. فلم يتوقف جهده ونشاطه الدعوي عند قطاع غزة حيث مدّ الشيخ جهده نحو الضفة الغربية التي كانت تعيش ذات الحالة الفلسطينية من حيث انتشار الفكر اليساري والقومي والعلماني.
وقد امتد نشاط الشيخ الدعوي إلى الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة عام 1948م، فكان يذهب بنفسه إلى مساجد أم النور(أم الفحم) والرملة، واللد، ويافا عكا، وغيرها، وأحيانا يرسل الدعاة والمدرسين، فاستطاع بذلك أن ينشر مبادىء الإسلام، ومبادىء الدعوة الربانية التي آمن بها في أوساط أهلنا هناك. ومن طرائف ذلك:
- أنه جرى بينه وبين عبد الله نمر درويش الذي كان وقتها سكرتير الحزب الشيوعي في كفر قاسم، وكان الشيخ يركز في حديثه عن المواقف المخزية للشيوعيين من القضية الفلسطينية، وبين أن الإسلام بنظامه الرباني هو الحل للقضية وغيرها من قضايا المسلمين، ولقد تحوّل عبد الله نمر درويش الإسلام وأصبح اليوم من قادة العمل الإسلامي هناك، ويعرف منذ أكثر من عشرين سنة بالشيخ عبد الله درويش.(أحمد ياسين الظاهرة المعجزة وأسطورة التحدي، ص19).
وأذكر أن الشيخ عبد الله درويش قال في إحدى زياراته للجامعة الإسلامية بغزة:إذا كانت هزيمة 1967م تعدونها نكسة أو مصيبة إلا أننا نعدها نعمة من الله وفضلاً إذ لولاها ما عرفناكم، وما عرفنا شيئاً عن الإسلام.
- ما حكاه لي صديقنا ابن أخيه الدكتور نسيم شحدة ياسين، قال:حدّثني الشيخ: بأنّه في عام 1983م كان مع بعض الأصحاب في زيارة بعض الإخوة المسلمين هناك، وفي أثناء عودته إلى غزة أدركتهم صلاة الجمعة، وإذ بهم قد اقتربوا من مدينة الرملة، فأخذوا يبحثون عن مسجد لأداء الصلاة، فإذ بهم يسمعون صوت آذان ينبعث من أحد المساجد، فذهبوا جهة الصوت فإذ بمسجد حديث، فلما دخلوا المسجد، ورأى الناس الشيخ أحمد ياسين فرحو بمقدمه وطلبوا منه أن يخطب فيهم الجمعة، ومن تأثّر الناس به، ومحبتهم له وثقته فيه طلبوا أن يرسل لهم كل جمعة من يخطب فيهم إذ أنّهم يفتقدون الخطيب والإمام، وأخبروه بأن هذا المسجد قد أسس على أرض كان يشغلها ناد رياضي. وقد تكفّل لهم الشيخ أحمد بإرسال الدعاة والخطباء لهم، وكان ممن أرسلهم ابن أخيه صاحب هذه الحكاية.
ومع نهاية السبعينات وبداية الثمانينات كانت شجرة الشيخ تكبر شيئاً فشيئاً، ويشعر الآخرون في الساحة بخطورتها، فيواجهونها بتهم العمالة للاحتلال بسبب عدم إعلانها المواجهة المسلحة، لكنه كان يدرك ما يفعل، فالمقاومة لا تقوم على قواعد واهية، بل لا بد له من أسس متينة وراسخة..وفي العام 1983م رأى الشيخ أن الأوان قد آن لبدء مسيرة الإعداد المادي بعد أن بلغ الإعداد المعنوي مدىً طيباً بانتشار التدين في المجتمع، وبلوغ الحركة الإسلامية حداً من القوة جعلها القوة الأولى وأحياناً الثانية في الجامعات والنقابات، بل بدأت تتفوق على حركة فتح في بعض التجمعات والمؤسسات النقابية.
فقه التغيير عند الشيخ ياسين:
"عايش الشيخ الشهيد وضعا شديد الارتباك والتعقيد. فكل الرهانات على إلحاق هزيمة عسكرية بالعدو الصهيوني من قِبَل الجيوش العربية تبخرت، وكل الآمال التي تعلقت بكفاح بعض الحركات الفلسطينية تبددت، بعدما ظهرت أمارات التراجع والتهافت. في هذا الجو المشحون بالتساؤلات والذي خيمت عليه أجواء الإحباط شرع الشيخ في صياغة مفاهيمه وبناء مشروعه استنادا إلى تلك المفاهيم. أيقن الشيخ أن الباعث التغييري في أساسه لا يمكن إلا أن يكون داخلياً تستشربه النفس الإنسانية ثقافة وسلوكا حتى يغدو مهيمنا على كل شؤونها، ضابطاً لكل أفعالها حاكما لكل تصوراتها، ومن خلال تعاظم ذلك الفهم التغييري واتساع مجاله في المحيط المجتمعي تتأسس البيئة الملائمة لإقلاع تغييري يستطيع عبر الجهد الدءوب، ومن خلال التراكم والابتعاد عن الاندفاعية والفجائية أن يكرس التغيير كحقائق راسخة لا يمكن اجتثاثها بسهولة.
تعززت قناعات الشيخ الشهيد بصدقية أطروحاته وهو يعاين ما أصاب العمل الكفاحي الفلسطيني من آفات، فالاندفاع صوب العمل العسكري دون استكمال الاستعداد في ميادين التكوين والتأهيل، والتعويل على القدرة الذاتية والانصراف عن الحاضنة المجتمعية، كل ذلك آل ببعض الحركات إلى الوقوع في أسر التجاذبات، وانطراح بعضها الآخر صريعة التناطحات، حيث غشيتها غاشية الأحزاب الدنيوية في ظل محدودية الرصيد القيمي والرسالي.
آلت قيادة جماعة الإخوان المسلمين في قطاع غزة والضفة الغربية بعد عام 1968م إلى الشيخ أحمد ياسين بعد خروج الأخ الأستاذ إسماعيل الخالدي. في تلك الآونة أخذ الشيخ الشهيد في الانتقال بتصورات جماعة الإخوان إلى حيز التطبيق، ومن ثمّ نشط ونشطت معه حركته في مجال التوعية المجتمعية، ولم يكن الشيخ متعجلاً العمل الجهادي، إذ أنّه كان يدرك حجم التبعة التي سيتحملها المجتمع الفلسطيني ويتحملها هو وحركته في منازلة طويلة وممتدة مع عدو شرس، مدعوم بسند خارجي من قبل كبريات الدول.
حضّ الشيخ أتباعه على تركيز الجهد في الميدانين الدعوي والاجتماعي، فالمشروع التغييري المتركز على قاعدة جهادية لا يمكن أن يفتح أكمامه ويؤتي أكله ما لم يتم تخصيب الواقع المجتمعي بالمعاني والقيم الإسلامية، وعلى رأسها قيم الترابط والتكافل. لم يكن الشيخ الشهيد على استعداد لمفارقة تصوراته ومفاهيمه تحت ضغط الأحداث، ولذا أصرّ الشيخ على الالتزام بالمنهج التغييري الذي اقتنع بها، ورفض كل المحاولات والاستفزازات من أجل دفع الحركة ودفع المجتمع الفلسطيني بأسره إلى مجابهة العدو لم يحن وقتها. إن بناء الإنسان وصياغة المجتمع وفق المثال الإسلامي كانا الركيزتان اللتان أسّس عليهما الشيخ مشروعه التغييري.
تمثلت النواة الأولى في المشروع التغييري لدى الشيخ الشهيد بتأسيس المجمّع الإسلامي بغزة في عام 1973. وقد جسّد المجمع في معانيه ومبانيه الفهم التغييري للشيخ، فقد تكوّن المجمّع من مسجد إقتداءً بالتجربة التغييرية الأولى للأمة، حيث مثّل المسجد المحضن الأساس لصياغة الشخصية المسلمة، والموئل الذي يقصده المسلمون لتصريف كل شئونهم. إلى جوار المسجد تأسست حضانة للأطفال ومدرسة إسلامية، وناد رياضي، ودار للمناسبات، وموقع للنشاطات النسوية، وقد تنوعت تلك النشاطات بين الجوانب الدعوية والاقتصادية.
عكس إنشاء المجمّع الإسلامي بهذه الكيفية قناعات الشيخ بأنّ جذر التغيير لا يمكن إلا أن يكون اجتماعياً، وأنّ مهمّات ذلك المشروع تحتّم مشاركة كافة شرائح المجتمع في حمل مسئولياتها.
والتزم الشيخ الشهيد سياسة النفس الطويل، وظل يكابد وينافح، ومع صبره ومثابرته أخذت القاعدة المجتمعية المؤمنة بالمشروع والمنخرطة به في التعمق والاتساع، وقد كان ذلك مدعاة لظهور بعض الأصوات وانطلاق بعض الدعوات التي تطالب بفورية التفعيل الحركي لمشروع التغيير في سياق الجهاد والمقاومة، من خلال اعتماد الأساليب العسكرية. وقد تنوعت هذه الدعوات ما بين مطالبات من داخل الحركة وإن بقيت محدودة، ودعاوى من الخارج تتهم الشيخ وحركته بالقعود عن الواجب الجهادي، حتى وصل الأمر في بعض الحالات إلى رمي الشيخ وحركته بفرية ممالأة الاحتلال!! كل هذه الدعوات وتلك الاستفزازات لم تفتّ في عضد الشيخ ولم تحرفه عن مساره. كان الشيخ الشهيد يدرك منذ البدء أن الالتحام مع العدو الصهيوني وانطلاق العمل الجهادي في نسخته العسكرية هو الخيار الأوحد الذي لأجله دشّن كل هذا المشروع التغييري على هذه الشاكلة.
وقد أراد الشيخ الشهيد لهذا المشروع وللعمل الجهادي الذي هو ذروة سنامه، أراد له أن يستقر على أرض صلبة، وأن يشتدّ عوده ويستوي على سوقه، حتى يمكنه مكافأة التحديات والصمود في وجه العاديات، وألا يتحول إلى هبة وجذوة خافتة سرعان ما يرمد جمرها مع اشتداد ضراوة النزال.
عندما أنس الشيخ الشهيد استواء في الواقع المجتمعي على سوية المثال الإسلامي، وعندما اطمأن إلى أن حركته قد استكملت أهبتها، أسس هو ومجموعة من قيادات العمل الإسلامي وتلامذته حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في أواخر العام 1987. ولم يكن الشيخ بتأسيسه للحركة يتراجع عن الأهمية التي أولاها للتغيير المجتمعي، ولم يكن يرى في حركته بديلا أو عوضا عن حركة المجتمع، فقد ظل على قناعاته بأن التغيير المجتمعي أو التغيير من أسفل هو الأساس، وقد رأى في حركته طليعة لا تنوب عن المجتمع في المشروع التغييري، وإنما تساهم في المشاركة في حمل التبعة منفتحة على ذلك المجتمع، باعتباره المخزون الأساس الذي تستمد منه الحركة أسباب الفاعلية وإمكانيات الاستمرار.
فتح الشيخ الشهيد حركته لتكون جامعة وناظمة لكل الأطياف الإسلامية، واتجه الشيخ الشهيد إلى الانفتاح على كل القوى والحركات الفلسطينية على قاعدة التحاور والشراكة، وقد تواكب الإعلان عن تأسيس الحركة مع اشتعال الانتفاضة الأولى والتي سميت بانتفاضة الحجارة. منذ البواكير أعلنت حركة حماس خيارها الواضح القاضي بأن مشروع تحرير فلسطين لا يمكن الوصول إليه إلا عبر بوابة الجهاد، وإشاعة ثقافة التضحية والاستشهاد، ومنذ بداية الانطلاق استطاعت الحركة أن تحقق تناميا مطردا، وسجلت حضورا متزايدا.
ولقد وقف الكثيرون في انشداه من هذه الحركة التي تسبق أفعالها عمرها الذي حسبوه بالعد الحصري فقط منذ العام 1987م، ولم يلتفت هؤلاء إلى السنين التي سبقت إعلان الميلاد ويوم الإشهار، وما بُذل خلال تلك السنين من جهد، وما وقف خلف ذلك من فهم تغييري ثاقب لشيخ حصيف خلص إلى اللباب.
ومع توالي جوالات الصراع في الانتفاضية الأولى والثانية استطاعت حركة حماس أن تصمد في وجه أصعب التحديات، فالحركة التي سارت على منهجية الشيخ ومُثله لم تُثنها التهديدات، ولم يرهبها استهداف قياداتها وكوادرها، فأول درس تعلمته محاضن الحركة على يد الشيخ الشهيد أن التعلق لا يكون إلا بالمُثل، وأن مقدار الوفاء للأشخاص بمقدار ثباتهم على الطريق، وأن ذلك الوفاء يكتسب مصداقيته من الاستمرار على الدرب وعدم الانحناء أمام العواصف.
وإذا كانت حركة حماس قد جسّدت براعة الفهم التغييري لدى الشيخ الشهيد، فإن رهانه الأساسي على التغيير المجتمعي لم يخب، فقد تحول الجهاد إلى مطلب اجتماعي، وتفشت ثقافة الاستشهاد، وطرقت كل باب من أبواب فلسطين، وأصبحت حركات المقاومة تستهدف زخمها وتكتسب فاعليتها من الحاضنة المجتمعية".(انظر:فقه التغيير عند ياسين:علاء النادي، موقع إسلام أون لاين على الإنترنت 28/3/2004م).
ملامح الخطاب السياسي عند أحمد ياسين:
كتب أحد الكتاب مقالاً تحدّث فيه عن ملامح الخطاب السياسي عند أحمد ياسين فقال:" لم أكن من الذين يعرفون الكثير عن أحمد ياسين، لكن جولته الإقليمية بعد إطلاق سراحه في أكتوبر 1997م، وظهوره على وسائل الإعلام، والذي بدأ في برنامج "الشريعة والحياة"، كان مفاجأة. لقد فاجأني- ولعله فاجأ الجميع- بعبقرية فذة، والتي تجلت أكثر ما تجلت في مستوى خطابه السياسي، الذي لا يتوقع أن يصدر من رجل لا يتحرك فيه إلا رأسه ولسانه. إنه وإن كان أشل الجسد، فروحه وعقله في قمة الانطلاق والحيوية والعبقرية. وقد تتبعت بعد ذلك بعض تصريحاته، وحواراته، فزادتني إعجابا بخطابه السياسي. وكنت دائما أتطلع إلى أن أقرأ بحثا أو مقالة عن هذا الخطاب السياسي "الياسيني"، ولكن لم تقف عيناي على ذلك حتى في الكتابات التي كتبت بعد استشهاده التي بقيت للأسف رثائية حسب ما قرأت، لهذا أحببت أن أسجل هذه الخواطر في هذا الموضوع، ويكفي أنها تحاول التنبيه إلى أهمية دراسة هذا الجزء من عبقرية رجل قضى نحبه وما بدل تبديلا.
توظيف أصالة الدين وحداثة السياسة:
فمن ملامح خطابه السياسي أنه يوظف أصالة الدين، وحداثة السياسة، لصوغ خطاب سياسي إسلامي أصيل وحديث. إن أحمد ياسين ليسا شيخا تقليديا لا يجيد إلا لعن ساس يسوس وما صدر عنهما من سياسة، كما أنه ليس سياسيا عاديا يخبط في عالم السياسة، وهو يظن أنه أهدى من كل الساسة سبيلا. إن أحمد ياسين شيخ دين، لكنه سياسي بارع، كما أنه سياسي بارع يفقه في الدين كثيرا. وإذا كانت حماس حركة تحرر عقائدية، فإن الخطاب السياسي الذي رسمه مؤسسها فك إشكالية توظيف المنطلقات العقائدية في الخطاب السياسي مع التمييز بين مطلقية هذه المنطلقات، ونسبية العمل السياسي.
ومن الأمثلة البارزة على هذا الملمح توظيفه للنظرة الفقهية إلى أرض فلسطين لتحميل كل المسلمين المسؤولية عنها، وليس حصرها في الفلسطينيين وحدهم. تلك النظرة التي يكررها دائما، وكررها في رسالته إلى الرؤساء العرب حيث قال إن" أرض فلسطين وقف إسلامي لا يجوز التنازل عن شبر منها حتى وإن كنا لا نملك الآن القوة اللازمة لتحريرها".
ومن الأمثلة أيضا إصرار أحمد ياسين الدائم على وحدة الصف الفلسطيني، وعصمة الدم الفلسطيني، وحرمة توجيه البندقية الفلسطينية إلى صدر الفلسطيني حتى لو قام بقتله، وهذا ما تجلى في صبر حماس على قتل السلطة بعض أعضائها أكثر من مرة. وهذا الخطاب يقوم على مبدأ ديني أصيل يتمثل في عصمة دم المسلم، وتجسيد معاصر لقول القرآن" لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين" المائدة:28. أما في جانب تحديث الخطاب السياسي، فأوضح دليل على ذلك استخدام مصطلح المقاومة أكثر من استخدام مصطلح الجهاد، بل إن اسم الحركة نفسه أخذ بالمصطلح المعاصر للجهاد وهو المقاومة. ولا شك أن من مبررات ذلك هو عالمية مصطلح المقاومة، خلافا لمفهوم الجهاد فهو اصطلاح إسلامي صرف. كما أن هذا الأخير يتعامل معه الآخر الأجنبي بحساسية ناتجة عن أحداث التاريخ القديم.
الوضوح:
من ملامح الخطاب السياسي "الياسيني" أنه خطاب واضح في: في عبارته، وفي وسائله، وفي أهدافه. وهذا الوضوح يثيرك إذا تابعت أحاديث أحمد ياسين وحوارته. إنك كنت تراه يعرف ماذا يريد، ولا يتتعتع في التعبير عما يريد، إنه يريد طرد المحتل باللغة التي يفهمها دون أن دون أن يؤلب عليه قريب أو بعيد. ولا حظ هذا الوضوح في رسالته للزعماء العرب حيث قال إن:"أرض فلسطين أرض عربية إسلامية اغتصبت بقوة السلاح من قبل اليهود الصهاينة، ولن تعود إلا بقوة السلاح".
ولا شك أن وضوح الخطاب السياسي، معناه وضوح الرسالة التي يتلقاها السامع سواء كان صديقا أو عدوا؛ فهو خطاب يطمئن الصديق، ولا يحير العدو. ولهذا فالعدو الإسرائيلي والأمريكي يفهم مشروع حماس، لهذا لا يفكر في الضحك عليها بالطرق الملتوية التي يحسبها الناظر سلاما، وهي خيانة واستسلام. كما أن الصديق الفلسطيني والعربي والعالمي يعرف هذا المشروع، فهو إذا عجز عن مساعدتها فيه، فلا يطمع في أن تتنازل عنه.
العالمية:
قدم أحمد ياسين نموذجا رائعا في استحضار البعد العالمي للخطاب والنضال السياسي في عصر يسمى "عصر العولمة". فقد كنت تراه يخاطب واشنطن وبرلين وجاكرتا وساو باولو وجوهانسبورغ من على مقعده المتحرك في حي الصبرة في غزة. لقد كان خطابه السياسي يحرص على استمالة الرأي العالمي إلى حقه المشروع في المقاومة بكل الحجج والبراهين: من الأديان والشرائع، وأحداث التاريخ، ومعاناة الفلسطينيين من الصهاينة..الخ. كما أنك لا تكاد تسمع من على لسان ياسين تصريحات نارية انطلقت من القلب ولم تمر على العقل. ويزداد حرص ياسين على ذلك إذا كان في محاورة مع الإعلام الأجنبي.
والشيخ في هذا يهمس في أذن كل صاحب حق مشروع مهضوم، أنه لا يكفي أن تكون صاحب حق، بل عليك أن تعرف كيف تدافع عن حقك دون أن تخسر ضمائر الشعوب العالمية في الوقوف إلى جنبك حتى لو وقف قادتها ضدك. إن إسرائيل تنفق المليارات من أجل تحسين صورتها أمام العالم، ولكن أحمد ياسين بخطابه السياسي ساهم بقوة في فضح الصورة القبيحة التي تحاول المليارات الإسرائيلية المسروقة أن تتستر عليها، وإزالة التشويه الذي يلحق صورة الشعب الفلسطيني المظلوم بدعاية إسرائيل وصانعيها، وبأخطاء بعض المسلمين وقادتهم السياسيين والفكريين على السواء.
ومن تجليات هذه الصبغة العالمية للخطاب السياسي الياسيني، إلحاحه المستمر على بيان أن إسرائيل لا تريد السلام كما تزعم، وأنه مستعد للقبول بوقف المقاومة إذا انسحب الاحتلال إلى حدود 67 كما صدرت بذلك قرارات مجلس الأمن، ولكن إسرائيل لا تقبل بذلك، وبالتالي هي الدولة المارقة على المجتمع الدولي. بل كانت حماس وياسين على رأسها تقبل بالهدنة أكثر من مرة مع إسرائيل لتقول للعالم بلسان الحال قبل المقال أن المشكلة في الصهاينة لا في المقاومة. ومن تجليات ذلك أيضا بيانه المستمر أن المشكلة القائمة ليست مع اليهود كأصحاب دين، وإنما مع اليهود الصهاينة الذين اغتصبوا الأرض وهتكوا العرض. كما لم أسمع له قط استخدام وصف اليهود بقتلة الأنبياء.
ولا شك أن هذا الخطاب له وقعه العالمي الطيب. ولا شك كان عاملا من عوامل تصويت غالبية الأوربيين على أن إسرائيل هي أكبر مهدد للسلم العالمي.
التوفيقية:
لا تكاد تسمع لأحمد ياسين إلا وتلاحظ الروح التوفيقية والتجميعية تسري في لغة ومضمون خطابه السياسي. وأشد ما تتجلى هذه الروح في موقفه المحلي والعربي. فعلى المستوى المحلي بذل ياسين جهدا كبيرا في جمع كلمة الفصائل الفلسطينية، ولم يقبل أن يكون بديلا لعرفات حتى لو أراد بعض أنصاره ذلك، وعندما وضعته السلطة الفلسطينية في الإقامة الجبرية في ديسمبر 2001م، لم يعلن الحرب كلاميا ولا عمليا، لأن رص الصفوف شرط صحة المقاومة، وسلامة وصحة المقاومة أهم من سلامة وصحة أحد قادتها، حتى لو كان أحمد ياسين.
كما قبل أحمد ياسين وإخوانه أكثر من مرة بوقف المقاومة تطييبا لخاطر إخوانهم الذين كانوا يظنون أن هذه العمليات إذا توقفت فإن إسرائيل ستتوقف عن عدوانها على الشعب الفلسطيني.لقد كان الشيخ الشهيد يدفع بالتي أحسن مع إخوانه الذين يؤذونه ويعادونه، وكانت النتيجة أن الذين بينه وبينهم عداوة أصبحوا كأنهم ولي حميم، ولهذا اجتمعت عليه كل الفصائل والشخصيات حيا وشهيدا.
ولهذا كان التساؤل الذي طرح عن تأثير غيابه على علاقات حماس بالسلطة والفصائل تساؤلا مشروعا. ولكن يبدو أن هذا الغياب لن يؤثر بإذن الله؛ لأن هذا المنهج أصبح "حماسيا" ولم يبقى" ياسنيا"، وهو ما بدا في تصريحات خلفه الشهيد د.عبد العزيز الرنتيسي الذي قال في أول تصريحاته بعد مبايعته قائدا لحماس في غزة إن الوحدة الوطنية هي العنوان الأول الذي يعمل من أجله، وقدمها على العنوان الثاني وهو تفعيل الانتفاضة.
ويتضح أيضا الملمح التوفيقي "الياسيني" في البعد العربي لخطابه السياسي، عندما يصر أن يبين كما سمعته في حواره الأخير مع قناة العربية، أن حركته تسعى لأن تجتمع الأنظمة الرسمية، والأحزاب والحركات المؤيدة والمعارضة حول دعم القضية الفلسطينية، ولا تتدخل حماس في علاقات هذه الأحزاب بحكوماتها. وفي الحقيقة فهذا البعد التوفيقي في الخطاب السياسي الياسيني كان له أثر حسن في حفاظ حماس على علاقات جيدة مع الأنظمة العربية ومعارضتها على حد سواء. ولا شك أن ياسين كان يعي أن هذا البعد لابد منه؛ لأن جمع كلمة العرب شرط من شروط تحرير فلسطين. ولهذا ركزت رسالة الشيخ ياسين إلى القادة العرب على هذا البعد، فقد قال فيها: "إن الأمة تملك من الإمكانيات والطاقات والقدرات ما يجعلها قادرة على نصرة قضاياها القومية، ووضع حد لجرأة أعدائها عليها، وإني لأرى أنه قد آن لأمتنا أن تعمل بقول الله عز وجل "وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ"، لتصبح قوة في زمن التكتلات "وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ".
الواقعية:
كان أحمد ياسين وهو يتطلع إلى المستقبل، لا ينسى واقعه المعايش، لقد كان ينظر بعين إلى المستقبل، وبأخرى إلى الواقع. إنه كان ينظر إلى واقع المقاومة وإمكانياتها البشرية والمادية، فيسير بها من الحجارة والسكاكين، إلى العمليات الاستشهادية، وقذائف الهاون وصواريخ البنا والقسام والبتار. وينظر إلى واقع السلطة والفصائل الأخرى التي تسكن معه في نفس البيت، فيحاول أن يقنع المتردد، ويعلم الجاهل، ويصبر على المعاند. وينظر إلى واقع الجيران من العرب والمسلمين، فيستبشر إذا وعوا، ولا ييأس إذا طرد وجفي. وينظر إلى واقع العالم الذي تصول وتجول فيه أمريكا كما تشاء طغمة شيطانية تديرها في العلن أو الخفاء، فيكون أول من يعطي البرهان أنه من الممكن ألا ننهزم ولا نستسلم أمامها. ولكن هذا الواقع تجده حاضرا بشكل إيجابي لا سلبي في خطاب أحمد ياسين السياسي . وفي رسالة ياسين إلى الزعماء العرب، تجد أثر ذلك. فهو يعلم أن الواقع العربي الآن غير مؤهل للقيام بدوره في تحرير فلسطين المغصوبة، ولكن هذا لا يستلزم بأية حال التخلي أو التنازل عنها، وقد قرر هذا المعنى في قوله للزعماء العرب عن فلسطين"، وهي أرض وقف إسلامي لا يجوز التنازل عن شبر منها حتى وإن كنا لا نملك الآن القوة اللازمة لتحريرها".
واجبنا نحو ياسين:
لا شك أن المتتبع لخطاب الشيخ ياسين السياسي سيكتشف ملامح أخرى كالأناة السياسية، والصلابة في الثوابت والمرونة في الوسائل، ونماذج أخرى للملامح التي ذكرت والتي لم أذكر، وسيتضح له أن أحمد ياسين أسس مدرسة في الخطاب السياسي خاصة كما أسس حركة مقاومة. ولا شك أن هذه المدرسة هي إبداع من تلميذ نجيب للمدرسة الوسطية الكبرى التي ينتمي إليها ياسين وإخوانه. كما أنه لا شك تخرج منها الكثير من النجباء في حماس، ولكن المطلوب من حماس خاصة، ومن سائر القوى الإسلامية والوطنية والقومية، أن تبحث في هذه المدرسة التي أسسها الشيخ ياسين حتى تكون منهجاً محدداً، يضاف إليه ويحذف منه، لتستفيد منه حركة حماس أولا، وباقي القوى ثانيا. ولا شك أن حماس معنية أكثر من غيرها بتكليف باحثين ومتخصصين لرسم معالم وخصائص ومقومات الخطاب السياسي عند مؤسسها أحمد ياسين، كما هي معنية بتجميع ونشر ودراسة تراثه كله. وهذا لعمري واجب في عنق حماس، ومفكري الأمة لهذا الجيل وللأجيال القادمة".
الملاحقات الصهيونية والاعتقال الأول:
كانت المرحلة، مرحلة يأس، فمنظمة التحرير خرجت مهزومة من بيروت، والأوضاع العربية متردية، ومساومات التسوية تجري هنا وهناك لإعادة الاعتراف الدولي بالقيادة الفلسطينية.
ولقد أزعج النشاط الدعوي للشيخ أحمد ياسين السلطات الإسرائيلية فأمرت عام 1982م باعتقاله، ووجهت إليه تهمة تشكيل تنظيم عسكري، وحيازة أسلحة وأصدرت عليه حكما بالسجن 13 عاما. وعن سبب سجنه هذه المرة يقول الشيخ أحمد:"إن تجميع الأسلحة والتدريب في الثمانينيات كانت عملية إسلامية نابعة من حركة الإخوان المسلمين العالمية، وفعلا جمعنا كمية من السلاح وقمنا بتخزينها وبدأنا بتدريب شبابنا عليها ولكن خبرتنا بالعملاء كانت بدائية وفعلا اندس بعض الناس في عملية الشراء والبيع للسلاح مما أوقع الأخوة في مصيدة العملاء فانكشف طرف من الخيط وانكشفت بعض الأسلحة وتم اعتقالنا ومصادرة نصف كمية السلاح التي قمنا بشرائها في ذلك الوقت وبقي عندنا نصف الكمية واستخدمتها حركة حماس بعد اندلاع الانتفاضة الأولىعام1987 كانت تجربة تعلمنا منها الكثير".
وقد اكتشف التنظيم العسكري الذي كان الشيخ يعدّ له بتجميع السلاح، وإعداد الرجال، ووجهت للشيخ عدة تهمة الأساسية منها: إقامة تنظيم عسكري وحيازة أسلحة، والعمل لإبادة دولة إسرائيل وإقامة دولة إسلامية مكانها. وحكم عليه بالسجن 13عاما، وبفترات أقل على عدد من إخوانه، منهم الشيخ الشهيد صلاح شحادة، وعبد الرحمن تمراز 12 سنة، والصيدلي محمد شهاب مدة 10 سنوات، ومحمد أحمد سمارة مدة 9 سنوات، ومحمد مهرة مدة 10 سنوات.
ووقتها قال القاضي العسكري اليهودي:إنّ هذه الأسلحة لو استخدمت ضد إسرائيل لأحدثت كارثة فيها..ولما سئلت النيابة العسكرية هذا القاضي عما سيفعله مع الشيخ؟ قال القاضي: سأعطيه ما يستحق..ولما سئل وما الذي يستحقه رجل مشلول مقعد؟ قال:هو رجل مشلول ومقعد، ولكن عنده عقلاً ولساناً ليسا مشلولين، ولا مقعدين، وهو رجل تنظيم ورجل قيادة، ورجل تأثير، ولا يؤمن منه على إسرائيل.(أحمد ياسين الظاهرة المعجزة وأسطورة التحدي:أحمد بن يوسف، المركز العالمي للبحوث والدراسات، ص21).
وبعد سنة من سجن الشيخ أحمد، وتحديداً في عام1985م خرج الأسد من عرينه(السجن) في إطار عملية لتبادل الأسرى-عددهم 1200 أسير-بين سلطات الاحتلال الإسرائيلي والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين "القيادة العامة".وفي هذه الفترة-كما يقول الشيخ نفسه- تولى الأستاذ عبد الفتاح دخان مسؤولية العمل والتنظيم، ورتّب كل الأمور والأنشطة مع إخوانه الباقين كما كانت؟
تأسيس حركة حماس
النشأة والأهداف:
نشأت حماس كحركة فلسطينية جهادية بالمعنى الواسع لمفهوم الجهاد، وتعتبر جزءًا من حركة النهضة الإسلامية، مؤمنة بأن النهضة هي المدخل الأساسي لتحرير فلسطين من النهر إلى البحر. وترى في العقيدة والمنطلقات الإسلامية أساسًا ثابتًا للعمل ضد عدو يحمل منطلقات عقائدية ومشروعًا مضادًّا لكل مشاريع النهوض في الأمة، وتضم الحركة في صفوفها كل المؤمنين بأفكارها ومبادئها المستعدين لتحمل تبعات الصراع ومواجهة المشروع الصهيوني.
يقول الشيخ الياسين عن حركة حماس وغاياتها:"أما حماس فهي حركة تحررية، تريد تحرير الأرض والإنسان، وإزالة الاحتلال عن أرضنا ومقدساتنا، وإقامة دولة فلسطينية تتبنى إن شاء الله المفاهيم الإسلامية ومستقبلها واعد، لأنّها لا تريد من الدنيا كراسي أو سلطة أو مال أو جاه، ولكن تريد أن تحرر الأرض أولا، ثم ما يصبو إليه كل شعب من دولة وحرية وتبادل للمسئولية. ودولة فلسطين قادمة إن شاء الله؛ لأنّ الله وعدنا بالنصر ونصره قادم، ونريد أن نحقق شروط الخلافة في الأرض التي يريدها الله من عباده الصالحين المستخلفين في الأرض من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والنهي عن المنكر والأمر بالمعروف، وعندها تكون هذه الفئة مؤهلة للخلافة والقيادة، "والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون".
وتعتبر المساجد ودور تحفيظ القرآن هي المنطلق لأبناء الحركة، حيث تعتمد على تربية أبنائها منذ الطفولة خلال هذه الحلقات، لتنشئتهم النشأة الإسلامية، ويكون ذلك عبر مناهج تربوية تشتمل على الجانب التعليمي والتثقيفي وتحفيظ القرآن الكريم، كما يتم متابعة الأبناء في مراحل الدراسة الأولى من خلال الحركة الطلابية الإسلامية، أما في المرحلة الجامعية فيتم من خلال الكتلة الإسلامية.
وقد شهدت فلسطين تطورًا واضحًا وملحوظًا في نمو وانتشار الصحوة الإسلامية كغيرها من الأقطار العربية، الأمر الذي جعل الحركة الإسلامية تنمو وتتطور فكرة وتنظيمًا، في فلسطين المحتلة عام 1948، وفي أوساط التجمعات الفلسطينية في الشتات، وأصبح التيار الإسلامي في فلسطين يدرك أنه يواجه تحديًا عظيمًا. وقد أسهمت المواجهات الطلابية الإسلامية، وهي الذراع الطلابية للحركة، من خلال الجامعات الفلسطينية مثل جامعة النجاح الوطنية وجامعة بير زيت في الضفة الغربية، والجامعة الإسلامية في غزة، في إنضاج الظروف اللازمة لانخراط الجماهير الفلسطينية في مقاومة الاحتلال، لذلك اتسمت الحركة بنضوج الوعي وارتفاع المستوى التعليمي لدى أفرادها.
كان الإعلان الأول لحماس عام 1987م لكن وجودها تحت مسميات أخرى في فلسطين يرجع إلى ما قبل عام 1948م حيث تعتبر نفسها امتداداً لجماعة الإخوان المسلمين التي تأسست في مصر عام 1928م. فقد اتفق الشيخ أحمد ياسين مع مجموعة من قادة العمل الإسلامي الذين يعتنقون أفكار الإخوان المسلمين في قطاع غزة على تكوين تنظيم إسلامي، لمحاربة الاحتلال الإسرائيلي بغية تحرير فلسطين أطلقوا عليه اسم "حركة المقاومة الإسلامية" المعروفة اختصارا باسم "حماس"، وكان لها دور مهم في الانتفاضة الفلسطينية، التي اندلعت آنذاك والتي اشتهرت بانتفاضة المساجد.
وبيان ذلك: أنه في 14/12/1987م، وفي تزامن مبارك مع إطلاق الانتفاضة الأولى أعلن الشيخ ومعه ثلة من إخوانه، وعلى رأسهم:الأستاذ عبد الفتاح دخان، والشهيد القائد صلاح شحادة، والشهيد المفكر إبراهيم المقادمة، والدكتور عبد العزيز الرنتيسي، أعلنوا تأسيس حركة المقاومة الإسلامية "حماس". يقول الشهيد الدكتور عبد العزيز الرنتيسي:"عند اتخاذ القرار كنا مطمئنين إلى أننا سننجح وأن هذا العمل سيؤتي ثماره".(الشيخ أحمد ياسين:حياته..وجهاده:الدكتور عاطف عدوان ص154)
ومنذ ذلك الوقت والشيخ ياسين يعتبر الزعيم الروحي لتلك الحركة. وتعتبر حركة المقاومة الإسلامية-حماس- بفضل الله تعالى أهم وأقوى حركة إسلامية داخل الأراضي الفلسطينية.
يقول الشيخ رحمه الله عن تلك المرحلة:"مع اندلاع الانتفاضة الأولى في ديسمبر 1987م كنّا كإسلاميين موجودين في الساحة، كانت الانتفاضة في بدايتها حادث عابر في الأول، ذلك أنً أن رجلاً يهودياً يركب مقطورة دهم سيارة عمال فلسطينيين عائدين من العمل داخل إسرائيل فقتل أربعة متعمداً، فثار الشعب الفلسطيني في غزة وهاج، إن هذا عمل متعمد وعدواني من الإسرائيليين، ولما جاء الإخوة في بلدة جباليا لدفن القتلى حملوا النعوش وساروا بها في شوارع واحداً، واثنين، وثلاثة، حتى استطاعوا أن يجمعوا أكبر عدد من الناس في الجنازات. اتجهت المسيرة الجنازئية إلى المقبرة الكائنة بين قرية جباليا ومعسكر جباليا للاجئين، والناس في حالة ثوران وغليان دائم، فلما رأوا مسيرة الجنازة وصلت إلى المقبرة خرج المعسكر لينضم لهم، بعد أن فرغوا من دفن الجنازات فإنّ الحماس والهيجان دفع الناس للتوجه إلى مركز الشرطة القائم بقرب المقبرة، وهاجموه بالحجارة، ورد الجنود الإسرائيليون بالنار فسقط شهيد، وسقط العديد من الجرحى، نقلوا إلى مستشفى الشفاء وذلك يوم 9 ديسمبرعام1987م.
"وامتدت المقاومة للاحتلال في اليوم التالي إلى مختلف المناطق الفلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية، فقرّرت إسرائيل إغلاق الجامعة الإسلامية بغزة حتى توقف الثورة الشعبية، وهذا الأمر جعلنا نفكر بشكل جدّي في عملية مواجهة العدو، وكيفية استمرار الانتفاضة، وكنا قد أعدّدنا أنفسنا لهذا الموقف حتى وجدنا الفرصة المناسبة، ونحن نقلنا المعركة من جباليا إلى خان يونس، وبدأت المسيرة تخرج من المساجد، والأناشيد الحماسية، وبدأت المواجهات في خان يونس..ثمّ نقلنا المواجهات إلى معسكر الشاطئ في غزة، المواجهة طوّلت، انتقلت إلى المعسكرات الأخرى، انتقلت إلى الحارات في غزة، بدأنا ننقلها، انتقلت إلى رفح، ننقلها كل مرة على حسب استعداد المنطقة في العمل والحركة".
البيان الأول لحماس:
نعم كانت الشرارة الأولى يوم 8/12/1987م التي استغلتها الحركة لإصدار بيانها الأول-والذي اعتبر إعلان ميلاد لها-هو قيام أحد سائقي الشاحنات اليهود بقتل أربعة عمال فلسطينيين دهسا في 6 ديسمبر/ كانون الأول 1987م، فتوعدت الحركة بالرد الانتقامي من سلطات الاحتلال الإسرائيلي. وساعد اندلاع انتفاضة 1987م على اتساع دائرة عملها ومعرفة الشارع الفلسطيني والعربي بها.
يقول الشيخ أحمد ياسين:"تمّ الاجتماع بيننا كقيادات في حركة حماس، وفي هذه الجلسة قرّرنا أن نصدر البيان الأول لحركة المقاومة الإسلامية حماس، الذي صدر في 14/ 12/1987م، وهو يمثل المواجهة، وأنا كنت الذي أمليت البيان الأول للأخ الذي كان قاعد بجانبي-كان يجلس مع الشيخ في بيته الدكتور عبد العزيز الرنتيسي وصلاح شحادة والمهندس عيسى النشار- أخذه وطلع طبعه ووزعناه في نفس اليوم 14/ 12/87م..وأوجد هذا في الضفة الغربية الحماس والحرارة، ثم إحنا على مستوانا كان لنا قيادة مشتركة بين الضفة وغزة، خرجت واجتمعت مع أهل الضفة، وأعطتهم صورة الواقع، وطالبتهم بالعمل كما هو موجود في غزة، وفعلاً بدأ العمل في الضفة كما هو في غزة..وبدأنا بالإعداد في تكوين مجموعات عسكرية، بدأت بعضها العمل في الداخل في منطقة جباليا وبيت حانون، بعمل عبوات ناسفة، ووضعها في الطريق للجيش وتفجيرها، وأصابت عدة سيارات إسرائيلية". لقد كانت الانتفاضة، وظهرت حركة حماس لتعلن بيانها الأول، وتثبت أنّ فلسطين أرض وقف إسلامية لا يمكن تقاسمها مع اليهود.
يحدثنا تلميذ الشيخ المبعد الأستاذ خليل القوقا عن الأيام الأولى من اندلاع الانتفاضة، والدور الرئيس الشيخ والحركة الإسلامية فيها، فيقول:" والجدير بأن نخطّه عن الشيخ:قصة الانتفاضة وكيف اتخذ قرار تفجيرها، رغم كل دعاوى المهندسين لها زورا ًوبهتاناً، كلّنا نعرف حادثة (المقطورة) التي أودت بحياة أربعة وجرحت ثلاثة من مخيم جباليا نعني أن اليوم التالي للحادثة ستودع جباليا أربعاً من فلذات أكبادها، وأنّ الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة كله سيكون في جباليا التي لم تتوقف يوماً عن الثورة والاشتباك مع اليهود طيلة الاحتلال، ففكر الشيخ كيف سيخفف الجيش عن جباليا، حتى لا تحدث تلك المذبحة إن تجمع اليهود أثناء تشييع الجنازات. ففي أثناء الاجتماع مع قيادة الحركة طرح وجهة نظره:واقترح عليهم أن يشعل القطاع صبيحة تشييع الجنازات، حتى يتفرق الجيش على كل القطاع، وفعلاً حلّ تنظيم الإخوان، وتوزعت مجموعات بقيادات ميدانية كل له عمله، فمنهم من يضع المتاريس، ومنهم من يرجم الحجارة، ومنهم من يخرج المدارس ومنهم من يوقف العمال، وبدأ ذلك قبل صلاة الصبح بنصف ساعة. وما أن طلع الصباح كانت الشمس تشرق عن صبح جديد وعن يوم عجيب، يوم كان بداية ومنعطف في التاريخ، تاريخ القضية لتخط أسطورة من نورها ومن لهيبها. واشتعل القطاع ودارت الاشتباكات في الشوارع ورجم إبليس بالحجارة واشتعلت الإطارات، وأظلمت الدنيا على بني يهود، ودبّ الرعب في قلوبهم، وصعقوا من هول المفاجأة وسقط أول شهيد، والدم يطلب الدم، وجلست القيادة في الجامعة الأربع والعشرين ساعة، وبدأت الاعتقالات، وأنشئ أنصار(2)، وكنت من أول نزلائه بعد عشرين يوماً من بدء الانتفاضة، حيث تم اعتقالي في 28/12/1987م، وصدر البيان الأول بعد أسبوع فقط من الانتفاضة..يحمل اسم حركة المقاومة الإسلامية، ثم باسم حماس بعد ذلك".
وانطلق المجاهدون يدكون معاقل اليهود، وتتوجه الأنظار مباشرة إلى الشيخ أحمد ياسين كمؤسس للمقاومة الإسلامية، وهكذا لم يبق في الميدان إلا أبناء حماس والمخلصون من أبناء القوى الفلسطينية يقودهم سيف فلسطين المصلت الشيخ أحمد ياسين. وكم مرّة حاول اليهود إقناعه بإيقاف الانتفاضة، ولكنه داعية يعرف الطريق فنادى:رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه.
أخذ الشيخ أحمد وإخوانه يبثون الحماس في أوساط الشباب المسلم من خلال البيانات، والدعوة إلى المظاهرات والاحتجاجات الجماهيرية، وإعلان الإضرابات في أيام معينة، ومن خلال المساجد التي غدت علامة فارقة في مواجهة الاحتلال الذي شعر أنه قد نجح في إسقاط خيارات المقاومة لدى الشعب الفلسطيني في الخارج والداخل.
العوامل التي ساعدت على ظهورها:
لقد ساعد على بروز حماس عدة عوامل داخلية وإقليمية ودولية، فعلى المستوى الداخلي كان استمرار الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين والممارسات الإجرامية والاستفزازية اليومية المصاحبة له حافزا على بروز الحركة. وعلى المستوى العربي والإقليمي أثرت هزيمة 1967م والتغييرات الجوهرية في فكر منظمة التحرير الفلسطينية في الثمانينيات، والذي تحول من فكر المقاومة إلى فكر المفاوضات السلمية، إضافة إلى تنامي الصحوة الإسلامية داخل المجتمع الفلسطيني، فكان لكل ذلك أثر في التمهيد لبروز هذه الحركة الجهادية على ساحة العمل العسكري والسياسي الفلسطيني.ولقد شعرت سلطات الاحتلال بخطورة الرجل فاعتقلته.
التوجهات الفكرية:
لا تؤمن حماس بأيّ حق لليهود في أرض فلسطين المسلمة، وتعمل على طردهم كلية منها، ولا تمانع في قبول وجودهم مؤقتا، وعلى سبيل الهدنة بحدود 1967م، ولكن دون الاعتراف لليهود بأي حق لهم في فلسطين التاريخية. وتعتبر صراعها مع الاحتلال الإسرائيلي صراع وجود وليس صراع حدود. وتنظر إلى إسرائيل على أنها جزء من مشروع "استعماري صليبي صهيوني" يهدف إلى تهجير الفلسطينيين من ديارهم، وتمزيق وحدة العالم العربي. وتعتقد بأنّ الجهاد بأنواعه وأشكاله المختلفة هو أقصر الطرق والسبيل الوحيد لتحرير التراب الفلسطيني, وتردّد بأنّ مفاوضات السلام مع الإسرائيليين هي مضيعة للوقت، ووسيلة للتفريط في الحقوق.
يقول الشيخ رحمه الله:"القضية الفلسطينية عربية لأنها أصلا في أرض العرب والمسلمين، وقضية إسلامية لأنها أرض فيها القبلة الأولى للمسلمين ونحن أعدنا لهذه القضية بعدها العربي والإسلامي بعد أن حاول من سبقونا إدخالها إلى قضية قومية فلسطينية فقط. ولذلك لا بد من ربط القضية بالأمة العربية لأنها هي وعاء الإسلام وبالأمة الإسلامية لأنها الدائرة الأوسع لأمتنا ومستقبلنا وديننا. ونحن لا نشعر الدول الإسلامية أو الشعوب الإسلامية أن فلسطين هي قضيتهم بل هم الذين يشعرون بذلك هم الذين يتصلون بنا من كل العالم ليؤكدوا وقوفهم إلى جانبنا لأنهم تعلموا من دينهم أن الأقصى قبلتهم وأن فلسطين أرض الإسراء والمعراج فهم متمسكون بها كما نتمسك بها وليسوا بحاجة لندفعهم للتمسك بها أو ننبههم. وأما الأنظمة ففي الغالب أنها تعيش أزمات شخصية داخلية أو مع الجيران فهي غارقة في مشاكلها وغير قادرة على متابعة مشاكل الآخرين ونحن بدورنا نسأل الله لهذه الأنظمة أن تتغلب على مشاكلها وتتوجه للوقوف إلى جانب قضايا الأمة العربية والإسلامية، لأنها قضية واحدة تمس الجميع، وتحاول إسرائيل والغرب إبادة هذه الأمة الإسلامية وصرفها عن دينها وعقيدتها".
ويقول الشيخ أحمد رحمه الله:"أما نحن فقضيتنا قضية تحرير، قضية شعب وقضية وطن، وإن شاء الله تبقى الأمة كلها خلف هذه القضية حتى التحرير؛ لأن الأقصى في خطر ومحاولة هدمه وبناء الهيكل مستمرة في كل يوم، فلا بد للأمة أن تستيقظ وتؤدي دورها في دعم المقاومة والجهاد حتى النصر والتحرير بإذن الله تعالى". ويقول الشيخ رحمه الله:"إحنا فلسطينيين وإحنا مسلمين، وبدنا الإسلام يكون نظام في الحياة وبدنا وطننا يتحرر، قضيتين، قضية الوطن وقضية المبدأ والعقيدة، أن تكون منتصرة وموجودة وقائمة في الأرض، إقامة دين الله في الأرض، ومش ممكن نقيم دين الله في الأرض، لأن أرضنا محتلة ومستعبدة إلا إذا حررناها..هذه هي الفكرة اللي كان بيدور حولها كل نشاطنا".
ويرى كثيرون في الشيخ ياسين رجلاً منح القضية الفلسطينية صبغة إسلامية بعد عقود من سيطرة القوى الوطنية واليسارية على القرار الفلسطيني، إذ نجح عبر حركة حماس في إعادة تشكيل المعادلة الفلسطينية. فالحركة التي أسسها الشيخ ياسين وعدد من نشطاء جماعة الإخوان المسلمين في غزة عام 1987م وفي الأيام الأولى للانتفاضة الفلسطينية التي تفجرت آنذاك نجحت في فرض نفسها على ساحة الصراع رغم سلسلة الضربات الإسرائيلية، ولم تفلح اغتيالات طالت عدداً من قادتها بينهم:جمال منصور وجمال سليم، والدكتور إبراهيم المقادمة، والمهندس إسماعيل أبو شنب، والمسئول العسكري في الحركة صلاح شحادة ومن قبله المهندس يحيى عياش في وقف انتشارها أو الحد من التأييد الذي تتمتع به في صفوف الفلسطينيين.
يقول المحلل السياسي خالد العمايرة: إنّ الشيخ أحمد ياسين "أعاد تعريف المقاومة الفلسطينية وأضفى الصبغة الإسلامية على المقاومة بسبب الأيديولوجية الإسلامية التي حملها وتبناها وهي أيديولوجية الإخوان المسلمين التي تقول إنّ ضياع الأراضي الفلسطينية عام 1948 كان نتيجة لغياب السلطة السياسية الإسلامية والانحطاط الذي اعترى العالم الإسلامي وخاصة غياب الخلافة"..وأضاف:"لذلك تبنى الشهيد ياسين والحركة الإسلامية بشكل عام فكرة أنه لا يمكن تحرير فلسطين دون إحراز وتحقيق حركة نهضوية إسلامية شاملة تؤدي في نهاية الأمر إلى تحرير فلسطين، وإزالة الأنظمة العلمانية الحاكمة، وهي في غالبها إما غير إسلامية أو معادية للإسلام".
وبالرغم من أنها ولدت فقط عقب اندلاع الانتفاضة الفلسطينية السابقة في عام 1987م، ولا تخفي حماس معارضتها لاتفاقات أوسلو الموقعة بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، كما يتمثل هدف الحركة على المدى القصير في ضمان انسحاب إسرائيل من الأراضي الفلسطينية المحتلة. ولا تعترف حماس بحق إسرائيل في الوجود، أما هدفها على المدى البعيد فيتمثل في إقامة دولة إسلامية على أرض فلسطين التاريخية التي كانت تحت الانتداب البريطاني والتي أقيم على معظمها دولة إسرائيل في عام ثمانية وأربعين.