وصية أستاذنا الذي فارق - وصية أستاذنا الذي فارق - وصية أستاذنا الذي فارق - وصية أستاذنا الذي فارق - وصية أستاذنا الذي فارق
الدكتور راجح السباتين
وصيّة أستاذنا، الذي فارق…
تيقّن صاحبنا أنه مُقبِلٌ على الرحيل، وأنّ الغربة في شوقٍ للقائه بعد طول انتظار، وقد آلمته دموعُ أصدقائه الصغار وطلاب مدرسته الذين يعلّمهم وعصرت دموعه التي سالت دونما إذنٍ من أو رغبةٍ، فكتب لهم كلماته التالية والتي تجمِّعت بعد شقاءٍ عظيمٍ وتعاسةٍ قاتلةٍ ومحبةٍ جاوزت حدود المستحيل…
لست أرغبُ في كثرة الحديث عن الرحيل ولكنني يا أحبّائي أحبُّ دوماً أن أتحدّث عن بدايةٍ جديدةٍ. كنتُ ومنذ بواكير طفولتي أكره الحديث عن الرحيل، وأكره أكثر ما أكره أن أترك أصدقائي وأقْراني وأن أكون الوحيد الذي يغادر تجمّعاتهم البريئة وحارتهم الواحدة ومخيمهم الترابي ويذهب للبحث عن بدايةٍ جديدةٍ في مكانٍ جديدٍ… وأذكرُ فيما أذكر أنني كنتُ أيامها من أدهى أولاد الشارع ومن أبرعهم في إسالة الدموع وتوظيفها لكسب تعاطف المحيطين بي من الكبار والصغار… ومع تقادم الأيام وكثرة التجارب وتوسّع المدارك بدأتُ ألمس فائدة الرحيل وأتذوق حلاوة التعرف على صُحبةٍ جديدةٍ وطعم النجاح في مكان آخر، هذا إضافة لعدم القدرة على امتلاكي قرار الرفض أو الموافقة عندما تقرر عائلتنا الرحيل من بلدٍ إلى بلدٍ آخر، أو من مدينةٍ إلى أخرى أو من حيّ إلى آخر… ولمّا كبرتُ كبرتْ معي هذه المشاعر والأحاسيس ولا زلتُ إلى يومي هذا أكره الحديث عن الرحيل ولا أقبلُ التغيير بسهولةٍ، ولا زالت كلمة المرارة أكثر الأوصاف التي أراها مناسبة لأصف بها الرحيل، ولكنني تعلمتُ أنّ في كل بدايةٍ جديدةٍ خيراً وأن في كلّ تجربةٍ جديدةٍ فائدة وأن مع العسر يُسرا…
دعوني لا أرى الدموع في عيونكم بعد يومي هذا ودعوني لا أشعر بأنكم نقطة من نقاط ضعفي التي يستغلّها خصومي للضغط عليّ من جديد… دعوني أرحل لأرسم بدايتي مع أطفال آخرين وبحروف أخرى على مسرح آخر وفي مسرحيةٍ أخرى… لا أريدُ أن أرى هذا الهمّ والحزن على وجوهكم من قريب ولا من بعيد، فأنتم تعلمون كما أعلم أنّ الهموم والأحزان لا تناسب هذه الوجوه العربية الصغيرة.
يا أخوتي الصغار إنّ لنا في هجرة رسولنا الكريم، صلى الله عليه وسلم، ورحيله من مكة إلى المدينة دروساً لا تنقضي فوائدها؛ فقد خرج عليه السلام من مكة مع أنّ مولده وطفولته وصباه وشبابه كانوا فيها وكان يقول مخاطباً مكة: "والله إنكِ أحبُّ بقاع الأرض إلى قلبي…" ولكنه تركها ورحل، تركها وخرج إرضاءً لله تعالى، وبحثاً عن الأفضل والمستقبل… يا أصدقائي، أعلم أنّ الرحيل معادلةٌ صعبةٌ ولكنّني أعلمُ في المقابل أن البحث عن المُستقبل يفضلُ حُبّ الالتصاق بالماضي ألفَ الف مرةٍ. ومن يدري فَلربّما قضت إرادة الله تعالى بالتقائنا مرة أخرى ولرُبّما كان مصيرنا أن نعود للتجمُّع كما النجوم تتجمّع وللتألُّق كما النجوم تتألق… يؤسفني تمام الأسف أنّ الأوضاع باتت على غير النحو الذي كنتُ أرتضي وأنّ الرياح قد جرت بما لا تشتهي سفني، ولكن لا بأس إن كان هذا هو قدرنا لا بأس فإنّا مُلاقوه ولو بعد حين… أعلم يا أخوتي الصغار أنني أنا الذي اخترتُ المواجهة والاحتكاك وأعلم كذلك أنني أنا الذي ارتضيتُ لنفسي أن أكون في خطِّ النار، ويخفف عني في ذلك اعتقادي بأن نيل الشهادة في خطّ النار أشرف وأعظم مائة مرة من الموت بين خطوط الجليد وتحت رُكام الثلوج والصقيع الذي غطىّ كل معالم الحضارة والثورة والتفوق في بلادنا العربية… لا يتركنَّ أحدكم الأمل ولا يحيا دونه فهو الشعار الذي رفعناه منذُ التقينا وهو الوقود الذي أمدّنا بالطاقة في أيامنا الحلوة كلّها، وهو وحده الشعار الذي نرفعه عندما نفترق وعندما نلتقي من جديد إن شاء الله، ولا يغفلنّ أحدكم عن التوكل على الله لحظةً فهو السقف الذي أظلنا وحمانا طيلة العهود السالفة، وهو السلاح الوحيد الذي كان وسيلة الحسم في معاركنا مع "أهل الحضارة" على امتداد اللحظات والدقائق وتعاقب الليل والنهار فيما سلف. إنني أكتبُ كلمات الألم هذه وأنا أشعر بأنَّ الشمس في طريقها للاندثار وأن الكواكب آخذة في الانتثار، أكتُبُها وأرى حبّات المطر متجمدة معلّقة بين السماء والأرض… كان همّي الأكبر ولا زال أن أراكم في أحسن صورة وأفضل حال. أردتُكُم أن تكونوا أحسنَ مني وأجود. أردتُكم أن تعيشوا طفولتكم بكل ما تحملهُ في مدلولات البراءة والجمال وأن تبتعدوا عن تلك الوحوش الكبيرة التي تعمل جاهدةً لإخراجكم من شرنقة الطفولة قبل الأوان، وما كانت حروبي إلا دفاعاً عنكم. كنت أدعوكم للصدق والاستقامة والأمانة بينما كانت الوحوش تدعوكم للكذب والانحراف والدَّجَل، كنتُ أدعوكم للبراءة والجمال والمحبّة بينما كانت الوحوش تدعوكم للمراهقة والطيش والابتذال مُستترةً باسمِ الحب، هذا الحب المظلوم في عالمنا العربي المحكوم عليه بالإعدام في عهد الرّخص والمادة والفراغ القاتل… أعترف بأنني لا أعرف كيف أواجه هذه الوحوش بأسلوب المدنيَّة المزيَّفِ. وأعترف بأنني لا أقدر على ما قدروا عليه من مصلحة ونفوذ ومال… لكنني، والله، أعرفُ أنني أحبكم وأعرف أنّ إلهي خيرٌ من آلهتهم؛ ذلك أن إلهي يقبل التوبة بينما آلهتهم لا تقودكم إلا إلى دروب الندم، إلهي يدعوكم إلى قصور الآخرة وروضات الجنّات والأنهار الجاريات بينما آلهتهم تدعوكم إلى قصور الدنيا المبنية على زبد الماء وقواعد السّراب ودروب الشوك ومُستنقعات الوحل البشرية. إلهي يدعوكم إلى النُّور الذي يضيء القلوب وينيرُ العقول ويتسع للشمس والأرض والقمر، وهم وآلهتهم يدعونكم إلى الظلام الدّامس الذي يقتل الأمل ويأكل الأحلام ويبعثُ التشاؤم في أرجاء الأرض كلّها.
المعركة لم تنتهِ بعد، وإن هي إلا جولةٌ خسرتها ضمن حربٍ قوامُها مائة جولة… آلمتني هموم الأطفال وأثقلني ألمهم وأخذت دموعهم من شبابي الشيء الكثير؛ فقد كنت أراهم يغرقون ويداي الصغيرتان لا تكفيان وحدهما لانتشالهم من هذه الدّوامة القاتلة. آلمتني وعود الهواء وقطرات الدّماء، آلمني واقعنا المعاصر بكل ما اختلجهُ من الذل والعبودية للتلفاز والصورة والدينار والدرهم…
وفي نهاية المطاف أجدني أقفُ على قارعة طريق في مُخَيَّمِ الوحدات أعرضُ همومي للبيع فلا أجدُ من يشتري وأعرض آلامي للتوزيع فلا أجد من يشترك، وأنثرُ أحلامي الوردية على أرصفة الطريق الموحلة فلا أجدُ من يُبالي…