لم أعرف ناجى العلى إلا متاخراً - لم أعرف ناجى العلى إلا متاخراً - لم أعرف ناجى العلى إلا متاخراً - لم أعرف ناجى العلى إلا متاخراً - لم أعرف ناجى العلى إلا متاخراً
*
لم أعرف ناجى العلى إلا متاخراً
ففى طفولتى الاولى لم يصل الى أذنى اسمه ، او تترقرق امامى كلمات عنه ، وعند مراهقتى تحدثت مع رفاق الصبا فى كل شىء ، ولم أكن ادرى عنه اى شىء ، مع دخولى الجامعة رأيت حنظلة مرفوعا فى احدى مظاهرات الطلبة . طفل لا ترى وجهه . خطوط رسمه بسيطة جداً ، لكنها تحاصر القلب بغلالات الحزن ، شعرت اننى اسير فى المظاهرة وراءه ، وليس وراء أحد آخر .. انتهت المظاهرة وتفرق الجميع وبقى معى حنظلة وابى ان يغادرنى حتى الآن ... سألت عنه اجابونى بكلمتين : ناجى العلى .. صعد الاسم الى روحى كنسمات الفجر الاولى ، وتدفق اصوات العصافير مع ميلاد الصباح .
ولاننى عرفته متاخراً ، فعرفته دفعة واحدة .. وشاءت أقدارى ان يبزغ ناجى داخلى من خلال شريط سينما لمخرجنا الراحل عاطف الطيب ، فبعد أن سمعت عن ناجى العلى بأيام قليلة ، تم عرض فيلم ناجى العلى ، بل وفاز بجائزة مهرجان القاهرة وقتها ، وحدثت الازمة ، وقاد رئيس تحرير جريدة مصرية كبرى حملة ضد الفيلم وضد صناعه ، واتهمهم فى شرفهم الوطنى ، باعتبار أن ناجى العلى أحد من تطاولوا على مصر ، فحاول صناع الفيلم الدفاع عن شرف وطنيتهم المهدرة ، وايضاً عن ناجى العلى ، فحملوا الفيلم من مكان الى مكان عارضين وجهة نظرهم فى الدفاع عن الفيلم وعن الشخصية ، وفى كل الاماكن التى عرضوا فيها الفيلم كنت احد مشاهديه ، وقتها لم اسمع دفاعهم ، ولم اهتم بتلك الحملة المسعورة ضد الفيلم وضد ناجى العلى ، فقط كنت مأخوزاً بتلك الخطوط التى تمزج بين الابيض والاسود ، وتخرج رسومات لها قوة الحياة ، ودفقة الشعر عندما ينساب على الورق الابيض ، فى لحظات خارج الزمن ، وتحول ناجى العلى الى شيخى ، وتحولت دون ان ادرى الى أحد مريديه ... حاولت أن اكتب كلمات توازى حزن رسوماته الشفيف فلم أستطع .. حاولت أن اخط اشعاراً تكون فى الصفحة المقابلة لحنظلة ، فلم استطع .. حاولت أن ألملم الغصب والحزن والتمرد وجسارة روح ناجى العلى ، فلم استطع .. مع الوقت عرفت أننى لم اهجر وطنى صغيراً الى المخيمات ، ولم تغادر العصافير قلبى دون ان تعود ، ولم يتعرض جسدى وروحى الى مرارة فقد الوطن ، ولم يسرق أحد احلامى فى وضح النهار ويلقيها دون مبالاة ، ويهيل عليها تراب الصمت البغيض ، ولم اتعرض لحبس النفس الطليقة فى سجون حكومات الأعداء والأصدقاء ، ولم أشعر يوماً باستلاب الروح من مكمنها الأثير ، ولم تترقرق فى عيونى دموع الفقد للراحلين من الاهل والصحبة وابناء نفس المصير ، ولم ..... ، ولم ..... ، ولم .... فأدركت أننى مجرد مريد لرسومات خرجت من وهج الذكريات الأولى لفقد الوطن ، ومن نسمات الاحلام الرهيفة بالعودة اليه ، ومن الغضب على كل من تاجروا با لارض مقابل بريق المقاعد وحفنة الاموال ... وادركت أننى مجرد مريد لثائر أبيض لا يرضى بغير اللون الأبيض ، ولا يقبل ان تلوثه مسحة سواد ، يدق باصابعه نتوءً بارذاً فى القلب وشمساً لا تغيب ... لم أستغرب يوماً بأن خطوطه مجرد لونين ، فاللونان خطان متوازيان يسيران جنبا الى جنب : الأبيض هو حضور الوطن البعيد الى الروح والى الحياة ، والأسود هو غياب ارض الطفولة الاولى فى الجب ، تنتظر من يمد لها حبل الخروج الى الميلاد الجديد .. ولم استغرب أن يكون حنظلة ، الذى يبدو دائما من الخلف ، وكأنه بلا ملامح هو قنطرة عبور ناجى العلى من شمس طفولته الاولى ، الى غروب وطنه الأسيف .
لكل ذلك لم استطع الا ان اكون مجرد مريد لفنان لم تقدر ثلاثة رصاصات صادرة من كاتم الصوت ، ان تكتم براءة أحلامه بأن يعود الى قرية الشجرة ليستظل باروراقها التى تغطى الآن قبره فى لندن ، وتتطايرحول جسده المسجى هناك