هكذا هنّ نساء سوريا عندما تَنبِض قلوبهن ألمًا وحزنًا، تسقي دموعُهن أرضًا ضحَّت بأغلى أبنائها؛ لتَنبُت من هذه الدموع شجرةُ العزة والكرامة {أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم: 24].
إنهنّ كالشجرة التي غذتْها هذه الدماءُ الطاهرة، حتى أصبحت لا تُبالي بوحوش بشَّار، الذين يُحاولون ثنيَها أو كسرَها أو اقتلاعها من مكانها؛ لمجرد أنها أرادتِ العيشَ بحياة كريمة.
لقد سمعناها تنادي وتنادي: أين أنتم يا عرب، يا إسلام، يا إنسانية؟! هل ماتت ضمائركم؟ هل هذا الذي يجري في أجسامكم دماء أم ماء؟ أين نَخوتكم؟ أين رجولتكم؟ أين إنسانيتكم؟ نحن نُقصَف بكل أنواع الأسلحة، نحن نموت جوعًا وعطشًا وبردًا ورعبًا، إيران والروس والصين أرادوا التلذّذ بمسلسل قتلِنا اليومي، هل تَرضَون هذا لأبنائكم؟
لقد سمعها العالَمُ وما زال يسمعها يوميًّا، صرخاتها، آلامها، عذاباتها، تضحياتها، بؤسها وضَعْفها، سمِعَها حتى وصل حدَّ الاعتياد، وكأنه يُتابِع مسلسلاً يوميًّا لا نهاية له، كثرت حلقاته، ودخل موسوعة جينيس للأرقام القياسية في طوله وكثرة مُتابعِيه، وازديادهم يوميًّا بشكل مطَّرد، ولا حراك!
لقد حطَّمت الثورة السورية الرقمَ القياسي مقارنةً بصديقاتها من دول الربيع العربي، في عدد شهدائها ومعتقليها، ومفقوديها ومُهجَّريها، وحطَّمت معها تلك الإنسانيةَ الجوفاء، وقوانين حقوق المرأة، وحقوق الطفل، وحقوق الإنسان، وكل ما تَشدَّق به المتشدِّقون، عربًا وعجمًا، قديمًا وحديثًا.
بل لقد سجَّلتِ المرأة السورية تاريخَ عظماء كجيل الصحابيات، وثّقت صفحاته بالصوت والصورة؛ ليبقى شاهدًا ومشهودًا لأمة الإسلام بأنها لم تُقدِّم لها معتصِمًا يدافع عنها، فحمَلت السلاحَ لتدافع عن نفسها وعن كرامة أرضها؛ لتقول للعالم: إن الأنوثة لا تعني الذل، وإنه ليس في الأمة خنساء واحدة، بل خنساوات أعدْنَ للذاكرة الإسلامية قدواتِها التي ظننَّا لفترة ما قبل الثورة أنها قد ضاعتْ واختفت معها قيمتها الإسلامية االحقيقية.
والله لقد علمتُنَّنا يا حرائر الشام دروسًا في الجهاد سطَّرتُن إياها بالدماء، وحفرتُنَّ أثرَها في الوِجدان، وغيَّرتن فيها قيمَ الإنسان، ووالله لقد أخجلتُن كل مَن تشدَّق على المنابر وعلى الشاشات بكلام قد ملَّتْه أسماعُنا، وسئمنا تَرداده من مكاننا، ونحن نراكِ قد سطَّرت أروعَ الأمثلة في أرض الرباط عن التضحية والصبر والجهاد في سبيل الله.
أختاه، لقد كنت لنا القدوةَ، ولثورتنا الدافعةَ، ولأحلامنا البذرةَ التي رَويتها بدم قلبك؛ أُمًّا اكتوى قلبُها على فِراق فِلْذة كبدها ونور عينيها، وزوجةً اختنقتْ أنفاسها بفقْد شريك حياتها قتلاً أو اعتقالاً، وطفلةً فُجِعت بانفصالها عن حضن والديها، وأختًا ذاقتْ قسوة التهجير، ولم يبقَ لها عائل، فألقتْ أحمالها عند أقرب نقطة حدوديَّة، وفتاةً حرة شريفة قدَّمت للثورة أغلى ما لديها وأغلى ما تملِك كلُّ عفيفة، وسط هذا العالم الأعمى والأصم والأبكم، والذي رأى أن يُكافئها بشتى أنواع العذاب النفسي، فارفعي رأسك يا حرة الشام؛ فطُهْرك والله هو الذي سلَب من الأنجاس شرَفَهم.
بكِ أولاً سيفخر الوطنُ، وبعظيم تضحيتك كنت لنا الثورة، وما هي ثورتنا إن لم تكن دفاعًا عن كرامتك وكرامتنا؟ وما هي إنسانيتنا إن لم تكن لرفع الظلم عنك؟ وما هو جهادنا إن لم يكن دفاعًا عن الحق وعن المظلومين؟ وصدق الله - عز وجل -: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران: 12].