«تأملات عائد من غزة» - «تأملات عائد من غزة» - «تأملات عائد من غزة» - «تأملات عائد من غزة» - «تأملات عائد من غزة»
السبيل|
وتنجح المحاولة الثالثة الجادة، ودعك من الأماني والرغبات فتلك لا تسمن ولا تغني من جوع.
كانت الأولى في أسطول الحرية في أيار 2010، وكنا قاب قوسين أو أدنى من الوصول، فليس بين عسقلان وغزة ما يزيد عن عشرين كيلومترا فقط، وكان المانع هو العدو الصهيوني وما كنا نعلم أن في ذلك الخير. ولا نعلم أن علاقات دولة العدو ستنقطع مع تركيا لهذا السبب وبتسعة شهداء فقط.
كما لم نكن نعلم أن ثورات عربية ستتفجر بسبب اكتناز الغيظ والقهر بحثا عن الحرية المصادرة بعد سبعة أشهر من هذا المنع والعدوان فقط تنقص قليلا أو تزيد قليلا. وأما الثانية فكانت في الشهر السابع من العام نفسه 2010 في قافلة «أنصار 2» عن طريق العقبة، فكان النظام المصري هو العقبة في هذه المرة نظام حسني مبارك الذي لم يسمح بعبورنا الى نويبع، وبعد اسبوع من المحاولات والانتظار والمواعيد والاحتجاجات رجع الوفد كله الى عمان كسير الخاطر محزونا.
ثم كانت هذه المحاولة الثالثة في السابع من كانون الثاني 2013- مع الحملة الاوروبية الخامسة لمناصرة غزة التي ضمت مشاركين من خمس عشرة دولة وكانت ميسرة بحمد الله، فمصر ليست مصر الاولى، وإن كانت لم تتعافَ بعد وسبحان مغير الاحوال.
تأملات لا يحتملها مقال موجز، أذكر أعمقها وأبرزها وهي كثيرة حتى مع كثرة ما ينسى منها وهي تتزاحم في أولويتها..
**تهب على الطريق الممتد من القاهرة الى رفح الذي يقرب من 500 كيلومتر عواصف رملية تقطع الطريق في مرحلتين، وتعطل مرور الحافلات، استوقفني استعداد الناس لإزالة الرمال عن الطريق بأيديهم؛ لأنهم لا يملكون الادوات اللازمة وبكل بشر وسرور مع شدة البرد وأذى الرمال.
** وبالرغم من الانتظار على الحدود المصرية أكثر من ساعتين لختم الجوازات بآلية معقدة! التي رآها أهل الخبرة معنا نزهة قصيرة مقارنة مع ما سبق من الايام الخوالي عبرنا الى رفح الفلسطينية المبتسمة لنا هذه المرة، ركبنا حافلة فلسطينية غير المصرية التي جئنا بها من القاهرة، سائقها يبتسم بل هي تبتسم والارض تبتسم، وتقع أنظارنا على اول مشهد وهو سيارة محطمة تماما هي سيارة القائد القسامي الشهيد احمد الجعبري رحمه الله شهيد العدوان الاخير في 2012 على غزة، ويا لهول المنظر الذي ينبيك عن حكايات كثيرة صمتها أبلغ من النطق، فكنا بين مكبر ومسبح ومترحم وباك ومعتز ومتأمل.
لم تنته قصة الشهيد هنا إنما في زيارة بيته في اليوم التالي والاستماع الى قصص البطولة التي سطرها مع القادة الاخفياء الاتقياء من اخوانه وما بدلوا تبديلا. ويختلط الألم بالامل، فيرزق ابنه الاكبر المتبقي مؤمن الذي لم يتجاوز التسعة عشر عاما في اليوم التالي بمولود يسميه احمد عسى أن يكون خير عوض، باركنا له به مع رفيقي د. عبدالله فرج الله فهو الله العظيم الذي يأخذ ويعطي ويتلف ويخلف سبحانه.
** تأملت نتساريم! اسم انطفأ والى الابد فأصبح اليوم (المحررات) او جزءا منها، تلكم هي المغتصبات قبل تحريرها التي كان يسميها قادة الاحتلال(تل ابيب الثانيــــــة) وهي تعطي خيراتها من الفواكه والحمضيات والخضروات ومزارع الدواجن وغيرها للمزارع الفلسطيني الغزي الذي لم يكن يدخلها إلا خائفا مستأجَرا أو منفذا لعملية جريئة مليئة بالمخاطرة.
**تأملت في زيارة سريعة للمجاهدة أم الشهداء أم نضال فرحـــــات التي ان هدّها المرض لكنه لم ينل من عزيمتها، تحدثك وكأنها من نساء السلف الصالح، تحدثك حديث المجاهدات لا حديث الثكالى، فلله درها.
**تأملت بيت الاعجوبة الامام الشهيد احمد ياسين ورأينا بيته الفخم المغطى (بالاسبست) الذي يدلف منه ماء المطر، ورأينا بقايا كرسيه المتحرك الذي استشهد عليه وهو عائد من المسجد المجاور.. وماذا يقول اهل الاعذار المتعرقلون بعجزهم وخرافاتهم، ماذا نقول نحن جميعا!
**تأملت الحالة المعنوية العالية لهؤلاء الشباب الصغار سنا والكبار همة ووعيا وتواضعا الذين ينام الناس بينما هم يلازمون أسلحتهم المتيسرة ترقب عيونهم الاخطار المتوقعة في جنح الظلام تحسبا من تسلل عدو غادر، وذهلت لما علمت ان من شروط اشغال هذه المواقع ان يكون الشاب ممن يحافظون على صلاة الفجر في المسجد، فقلت إن شعبا فيه امثال هؤلاء لن يهزم بعون الله.
** تأملت تحت الانقاض بقية فستان طفلة صغيرة وقد حرق معظمه وحقيبة صغيرة فيها بعض الدفاتر شاهدة على الحقد في بيت عائلة الدلو المدمر بالعدوان الاخير، البيت الذي فقد تسعة من ابنائه وبناته رحمهم الله جميعا.
** تأملت حال مرافقنا الكريم (ابو اسامة) حفظه الله الذي لو استطاع ان يجعل الدنيا لقمة واحدة لكرمنا بها، ولو استطاع ان يفرش طرفه لنا لفعل، وهو الرجل الكبير المسؤول المقدر الذي يعرفه معظم اهل القطاع، وليس هو وحده بهذا الخلق الكريم والحمد لله.
** تأملت حال الرجل الاول في القطاع الدكتور اسماعيل هنية رئيس الحكومة الذي استقبل الوفد في بيته المتواضع، رجلا ودودا بوجه بشوشا وبكلمات معبرة وباستماع لافت وبلسان يشكر العرب كلهم، ويعترف بالجميل ولا يلوم المقصرين أو الغافلين عن واجبهم، يخدم الضيوف بنفسه يتحرك هنا وهناك ويتناسى (الاتيكيت) والاعراف المصطنعة كسبا للهيبة، لكنه حاز محبة كل من رآه واستمع اليه ولا يتحرجون من مناداته ابو العبد، ابو العبد لم يتركنا الا بعد ان حملنا التحية للاردن والاردنيين ولأشخاص بأعيانهم.
**تأملت الدمار للمؤسسات والبيوت والملاعب الرياضية والجسور، وهي تشكو الى الله مكر الماكرين وتخاذل المتخاذلين من العرب الرسميين الذين ينتظر بعضهم متى تزول غزة عن الخارطة ويبتلعها البحر، وجدنا بقية المصاحف التي تقاسمها الاوروبيون المشاركون وبقية الحقائب والملابس الصغيرة وكراسي المقعدين وبقية أواني المطابخ والمقتنيات البسيطة، سجلت الكاميرات المشاهد كما ارتسمت في القلوب والاوضاع بدقة متناهية واختلطت بالمشاعر الفياضة، ولكن اليد قصيرة مع ثقتنا ان مع العسر يسرا وان النصر مع الصبر.
**تأملت هذا الشريط الصغير المحاصر كيف استطاع ان يقهر مكر اكبر دولة مسلحة في العالم، ليس في المنطقة فحسب حتى اضطر الى طلب الهدنة (والخائف المهزوم داخليا لن يصدق) ماذا لو كان عندنا شريط في الشرق او الشمال او الجنوب من مثل هذا الشريط؟
انها العزيمة وليست المقدرات، انها الارادة وليست الاسلحة المتطورة الحديثة، انها العقيدة الراسخة وليست الهلوسة البائسة هذا هو السر، وهذا هو المفتاح.
لم يرهقنا أهل غزة بالمطالب والاستغاثات والمساعدات إنما أحرجونا بالاعتذار عن التقصير، وهذا حال الكرماء تحسبهم اغنياء من التعفف
رددت قول الله تعالى وأنا أغادر غزة ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنَا يعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ).