وعزّ الشرق أوله دمشق د. أحمد نوفل - وعزّ الشرق أوله دمشق د. أحمد نوفل - وعزّ الشرق أوله دمشق د. أحمد نوفل - وعزّ الشرق أوله دمشق د. أحمد نوفل - وعزّ الشرق أوله دمشق د. أحمد نوفل
وعزّ الشرق أوله دمشق
د. أحمد نوفل
لأن عز الشرق أوله دمشق يجب أن لا تذل دمشق، وأن لا تمتهن وأن لا تنتقص حريتها ولا كرامتها، ولا يجري لها ما جرى لها..
لأن عز الشرق أوله دمشق. فإذا هانت هانت العرب والعروبة.. وإذا امتهنت امتهن التاريخ الذي تمثله دمشق. ولقد جاء على دمشق زمان وإنها لواسطة عقد الأمة ودرة المكان والزمان، وإنها لمحرك التاريخ، وجاء عليها زمان وإنها لرمز للصمود ومقارعة التتار والصليبيين وموحدة العرب.. وفي العصر الحديث كانت هي طارحة مشروع الوحدة العربية، وبادئة نهضة، ورافعة ودافعة.. فحرام أن لا تكون جماهيرها إلا في غاية الكرامة والاحترام، وحرام أن تمارس عليها أساليب القمع والترويع والاختفاء وآلاف المفقودين.. حرام أن تروع حرائرها، وأن تزوّر إرادتها، وأن يتهم أهلها زوراً بالطائفية والاندساس أو ما شاكل مما يتناقض مع حقيقة دمشق وعروبة دمشق وتدينها الفطري السمح الذي هو نموذج ومثال للتدين المستنير البعيد عن كل تشنج، والذي كان مثاله ونموذجه علماء الشام الأفذاذ المتمكنون الراسخون في العلم الذين هم نماذج الورع والاعتدال والسعة والسماحة..
ودمشق رمز التعايش وإكرام الغريب وإكرام الغريب.. بل لا غريب فيها.
استمع للشيخ الطنطاوي في كتابه: دمشق يقول: «الدمشقيون أكرم الناس، وأشدهم عطفاً على الغريب وحباً له، فهم يؤثرونه على الأهل والولد» ص13. فطلاب العلم من كل أنحاء العالم العربي والإسلامي يجدون المتسع والصدر الحاني، بل يجدون الأوقاف لرعايتهم وخدمتهم. فالمغاربة والجزائريون منهم العلماء الأفذاذ الذين استوطنوا دمشق. والشيخ محمد المبارك رحمه الله، العلامة الذي سعدنا بوجوده في الأردن سنين عدداً من ضمن مليون سوري هاجروا من سوريا زمن «التقدم». هذا الشيخ العلامة مغربي الأصل، يقول الطنطاوي عن والده الشيخ عبد القادر المبارك: «وأما المبارك فما رأيت وما أظن أني سأرى مدرساً له مثل أسلوبه في الشرح والبيان، وفي امتلاك قلوب الطلاب، وفي نقش الحقائق في صفحات نفوسهم بهذه الضوابط المحكمة العجيبة» الخ من كتاب «من حديث النفس» ص138. والشيخ شعيب الأرناؤوط والشيخ ناصر الدين الألباني: ألبانيان، أصبحا في الشام من أعلام العالم الإسلامي. والعلامة الشيخ عبد الله العلمي الغزي الدمشقي صاحب «مؤتمر تفسير سورة يوسف» الذي ما كتب مثله، واضح من اسمه من هو. حتى الشيخ الحبشي استوطن دمشق.. والخطابي والكتاني توطنا في دمشق. ومحمد أسد (ليوبولد فايس) أسلم في دمشق لما رأى من أخلاق تجار دمشق. وماذا نقول وماذا نعدد؟ فالشيخ علي الطنطاوي أصله من طنطا. هذه دمشق حاضرة الدنيا ودرة المدن.. وشاغلة الناس هذه الأيام وفي سابق الأيام حفظها الله من كل سوء، ومن كل من أرادها بسوء.
دمشق في ذكريات الشيخ علي الطنطاوي.
قال الشيخ علي الطنطاوي في مذكراته التي استغرقت ثمانية أجزاء قال يتحدث عن دمشق ونكمل عنه ما قاله ونقلناه في الحلقة السابقة، وقد كان الأستاذ يتكلم عن الجناية ضد دمشق وغوطتها، والآن نواصل ما قال: «..حتى الغوطة الشرقية، الغوطة الكبرى، ما سلمت منا ولا نجت من أذى أيدينا. في طرف الغوطة منطقة تدعى «درب الجوز» أعرفها أنا (يقول الأستاذ)، فيها من أشجار الجوز ما لا يحيط بجذع الشجرة منها رجلان إذا مدا أيديهما، لست أدري من هو العبقري الذي اختارها لمنطقة المصانع، ولا متى كان ذلك، فقامت مكان الأشجار الضخمة التي تثمر الجوز مداخن تنفث الدخان.
كنت إذا صعدت جبل قاسيون، وبدت لي دمشق بغوطتها، وانجلت لعيني لوحة عرضها أكثر من عشرين كيلاً (كيلومتراً)، ألفها بنظرة واحدة من شرفة داري، أرى الدنيا كلها تجمعت مصغرة فيها، فالعمران في البلد يتوسطه الجامع الأموي (جعل الأستاذ الطنطاوي للجامع الأموي كتاباً خاصاً لعلنا نقبس منه في حلقة أخرى قبسات..)
وقبة النسر التي كانت –منذ كانت- من أعظم القباب التي أقامها العقل المفكر واليد الصّناع، والحدائق والجنات من حولها، وبردى وأبناؤه الستة تجري من تحتها، والمزة (أفادنا حفيد الشيخ في تعليقه على جده أن الصواب كسرها، ويلفظها أهل الشام بفتح الميم. وهي كذلك أي بالكسر في معجم ياقوت والقاموس المحيط والتاج، وضبطها العلامة عبد القادر المغربي في عثرات اللسان).
نواصل مع «المزة تنظر إليها، وقاسيون يطل عليها، وسهول المزة والكسوة تجاورها. فيها كل ما في الدنيا من سهل وجبل، وبستان وقفر، وساقية ونهر، ومسجد وقصر، إلا البحر.
على أنك ترى حول البلد (أو كنت ترى) بحراً من الخضرة والنبت والشجر. وأرى دمشق كأنها طائر حط ليستريح، جسده وسط السور وجناحاه ممتدان إلى ميدان الحصى وحي المهاجرين. أو كأنها عروس أتعبتها حفلة الزفاف فنامت: رأسها على ركبتي قاسيون وقدماها في قرية «القدم» وقلبها حيال قلب البلد الذي يهفو إليه قلب كل مسلم، وهو المسجد، الجامع الأموي، أقدم المساجد الفخمة في ديار الإسلام (حاشا الحرمين) يقول الأستاذ: والحديث عن دمشق لا يمل، ولو أني كتبت عن كل شهر عشته فيها صفحتين لكان من ذلك كتاب أكبر من القاموس المحيط».
وعبرتنا مما قال الشيخ رحمه الله: أولاً أن نحب مدننا وأن نرتبط بها وجدانياً وعقلياً، وهذا جزء من حب أوطاننا، وأن نختزن في الذاكرة عنها أجمل الذكريات. وهل تعلم أن الشيخ الطنطاوي كتب هذا عن دمشق بعد أن غيب عنها أكثر من ثلاثين سنة أو أربعين. (والشيخ علي إن لم يكن هو نموذج الاعتدال والسماحة والسعة والتسامح فمن في الدنيا يكون ومع هذا يبعد عن دمشق) وكذا الشيخ شعيب ما زال يتغنى بدمشق لا يمل نشيدها، والذكريات تتدفق على لسانه وقلبه وعقله الذكور –زاده الله ألقاً- كأنها قطعة من قلبه تجري على لسانه.
ومن الناس من يعيش في المدن بلا عقل ولا قلب ولا روح ولا مصورة ولا خيال ولا وجدان ولا ذاكرة ولا مشاعر والبشر مختلفون. أرأيت إلى النبي الحبيب صلى الله عليه وسلم يدعو أول وصوله المدينة: اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة أو أشد. وعلم الله أنّا نرى «عمان» أجمل مدن الدنيا بجبالها وامتدادها وجوّها، ونحبها كأنها قطعة من النفس والقلب والفؤاد. ونَحِنّ إليها كما يحن الوالد إلى أولاده أو كحنين يعقوب إلى يوسف عليهما السلام. هذا معنى.
ومعنى آخر كيف تموت المدن بسوء التخطيط، وكلما مررت من سهل حوران الذي كان سلة غذاء روما، ممتداً إلى درعا، وأرى غابات الإسمنت تأكل التربة الخصيب المعطاء التي لا يعوضها شيء.. علم الله، أني كان يصيبني الحزن والغم الذي لا يعلمه إلا الله. فأماكن البناء يمكن أن تجدها في الجبال وهي للسكن «أشرف» وأنقى هواء، أما الأرض الزراعية فكيف تعوض؟ وهكذا صنعنا في القاهرة والقطر المصري. أكلنا الأرض الزراعية بالعمارات، وقمنا ندعي استصلاح الصحراء بقناة «توشكى» التي لا نعلم ماذا جرى بمئات الملايين التي أنفقت فيها.
من يرفع صوته بإنقاذ ما تبقى من أرض أو غابات في بلادنا؟ وآخرها غابة برقش التي كتب عنها مئات الكاتبين هنا.. ولا ندري إلى أين استقر المطاف. فكيف يعاقب من قطع شجرة، ويكافأ من يريد قطع ألفين ومئتين من الأشجار؟ ومن الذي خطرت له هذه الخاطرة الشوهاء؟! ومن عبقري التخطيط؟
وأمر ثالث العشوائية والتسيب والإهمال والفساد أسلحة دمار شامل ندمر بها مدننا وأوطاننا ونهدد بها مستقبل أجيالنا. هذه البيئة التي سخرها الله لنا لإسعادنا، أصبحت شقوة لنا. فشقينا بفعل أيدينا. فمن ينقذنا من أنفسنا؟
نكبة دمشق في شعر شوقي.
بعد أحداث سوريا الأخيرة، غدت العيون كلها معلقة بالشام، أو سوريا أو دمشق، أو القطر السوري. تنوعت الأسماء.. والمسمى الحبيب واحد. وقديماً ألمّ بسوريا جرح على يد الفرنسيين أو الفرنسيس جعل أحمد شوقي يقول قصيدته العصماء التي خلدت على التاريخ، وهذه بعض عيون أبياتها وهي أصلاً 55بيتاً:
سلام من صبا بردى أرق
ودمع لا يكفكف يا دمشق
ومعذرة اليراعة والقوافي
جلال الهول عن وصف يدق
وبي مما رمتكِ به الليالي
جراحات لها في القلب عمق
لحاها الله أنباء توالت
على سمع الولي بما يشق
تكاد لروعة الأحداث فيها
تخال من الخرافة وهي صدق
وقيل معالم التاريخ دكت
وقيل أصابها تلف وحرق
صلاح الدين تاجك لم يجمّل
ولا يوسم بأزين منه فرق
سلي من راع غيدك بعد وهْن
أبين فؤاده والصخر فرق؟
إذا ما جاءه طلاب حق
يقول عصابة خرجوا وشقّوا!!
بلاد مات فتيتها لتبقى
وزالوا دون قومهمُ ليبقوا
ويجمعنا إذا اختلفت ديار
بيان غير مختلف ونطق
وللأوطان في دم كل حر
يد سلفت ودين مستحق
وللحرية الحمراء باب
بكل يد مضرجة يدق
جزاكم ذو الجلال بني دمشق
وعز الشرق أوله دمشق
وهو كما ترى شعر يفيض وفاء وولاء وانتماء وحباً وشاعرية جياشة فياضة وارتباطاً بين أجزاء الوطن.
قال أحمد شوقي تلك الأبيات الخالدة فور سماعه مصاب دمشق. واليوم تصاب سوريا بمصاب جلل على يد ذوي القربى الذين ظلمهم أشد مضاضة من الفرنسيس.. ولم يقل في نكبة دمشق قصيدة عصماء، أو شيء يدل على الوفاء والانتماء الذي كان بين الأجزاء في مطالع القرن السابق، في وقت التخلف والانكسار.. والآن في زمن التقدم ووسائل الاتصال والصورة، يصيب مشاعرنا الانحسار..؟!
وأما قوله في البيت المطابق لواقع الحال:
إذا ما جاءه طلاب حق
يقول عصابة خرجوا وشقوا.
فقلت: يا لعجيب التوفيق والموافقات! ولا تعليق فالأمر أجلى من كل تعليق! والبيت الذي ختمت به المجموعة: وعز الشرق أوله دمشق. ولاحظ أن نهاية الشطرة الأولى دمشق، ونهاية الشطرة الثانية دمشق.. للتعزيز والترسيخ والتقرير والتوكيد والحضور. وأن تقول مصر وشاعر مصر الكبير هذا الكلام الكبير فمعناه ومغزاه كبير وفعلاً: «وعز الشرق أوله دمشق».
وعلم الله أنّا نرى «عمان» أجمل مدن الدنيا بجبالها وامتدادها وجوّها، ونحبها كأنها قطعة من النفس والقلب والفؤاد. ونَحِنّ إليها كما يحن الوالد إلى أولاده أو كحنين يعقوب إلى يوسف عليهما السلام