يحثُّ الإسلام على الإخاء بين أفراد المجتمع المسلم، فحثَّ على كلِّ ما يؤدِّي إلى المحبَّة بين المسلمين، ورغَّب فيه، وجعَلَ من شروط الإيمان المحبَّة في الله، فلا تدخل الجنة ابتداءً إلا بالمحبَّة؛ فعن أبي هريرة - رضِي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا تدخلون الجنَّة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا، أَوَلا أدلُّكم على شيءٍ إذا فعَلتُموه تحابَبْتُم؟ أفشوا السلام بينكم))؛ رواه مسلم (54).
فبيَّن ربُّنا أنَّ مِن حِكَم تحريم الخمر والميسِر أنَّهما سببان من أسباب العداوة بين المسلمين.
وحرَّم المعاملات والعقود التي تُوغِر صدرَ المسلم على أخيه، وتجعله يحمل عليه في صَدْره؛ فعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "نهى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يبيعَ بعضُكم على بَيْعِ بعضٍ، ولا يَخْطُب الرجل على خِطْبة أخيه حتى يتركَ الخاطبُ قبله، أو يأذَنَ له الخاطب"؛ رواه البخاري، ومسلم.
ونَهَى عن المجادلة وكَثرة المخاصَمة، وإنْ كان الشخص على حَقٍّ؛ لأنَّ المجادلة في الغالب تؤثِّر في النفوس، وتجلبُ النُّفْرة بين المتجادِلين؛ فعن أبي أُمَامة - رَضِي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أنا زعيمٌ ببيتٍ في رَبَضِ الجنة لِمَن ترَكَ المِراء وإنْ كان مُحقًّا، وببيتٍ في وسط الجنة لِمَن ترَك الكَذِب وإنْ كان مَازِحًا، وببيتٍ في أعلى الجنة لِمَن حَسن خُلُقه))؛ رواه أبو داود (4800) بإسناد حَسنٍ.
فوعَدَ مَن تَرَك المجادلة وإنْ كان الحقُّ معه ببيتٍ في أدنى الجنَّة.
إخوتي، الواحد منَّا مَهْمَا يُكِنُّ مِن خُلُقٍ ودِين، ومَهْمَا يبذلُ وسْعَه في مُداراة الناس، فلنْ يخلوَ من أحدٍ يختلف معه في بعض الأمور، وهذا شيء طبَعِيٌّ، لكنْ قد يتحوَّل هذا الخلاف إلى عداوة، وتحين الفُرصة للنيل منه؛ كما قيل:
معاشر الإخوة، الكثير منَّا، بل الأكثر يبدأ باللين والرِّفْق مع مَن يُؤْذيه بقوله أو فِعْله، فيردُّ الإساءة بالإحسان، ثُمَّ ما يلبَثُ أنْ يعامِلَه بالمثْل، فما السببُ في ذلك والجواب بيَّنه ربُّنا - تبارك وتعالى؟ فحينما قال: ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ [فصلت: 34] أعْقَبَها بقوله - تعالى -: ﴿ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [فصلت: 35].
فالبعض لا تنفَع معه المصانعة في أوَّل الأمر، فلا يرعَوِي بعد مدَّة قصيرة، بل يحتاج إلى مُدَّة طويلة قد تستمرُّ عِدَّة أشهرٍ أو سنين؛ حتى يشعرَ المعادِي بغير حَقٍّ بالتأثُّم، ويستشعرَ الخطأ، ويتغلَّب على نفْسه وشيطانه، وقد أشار ربُّنا إلى ذلك بقوله: ﴿ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا ﴾ [فصلت: 35]، فلا بدَّ من الصبر، فلنُوطِّنْ أنفسَنا على ذلك.
والسبب الثاني أشار إليه ربُّنا بقوله: ﴿ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [فصلت: 35].
فحينما تُحْسِن إلى مَن يُسِيء إليك مرَّات، يأتيك الشيطان يُوسْوس لكَ بأنَّه قد يظنُّ أنَّك خائفٌ منه، أو محتاج إليه، أو غير ذلك من الوساوس، فلا يزال بك حتى تعامِلَه بالمثْل، فهنا تحتاج النفسُ إلى تذكيرٍ بأنَّ هذا ليس ضَعفًا، وليس جُبْنًا، إنَّما هو علامة على أنَّك محظوظٌ، فأنتَ خيرٌ منه، نِلْتَ الذِّكْر الْحَسن وراحة البال في الدنيا، والثواب في الآخرة، فأنتَ محظوظٌ وليس هذا الحظُّ يسيرًا، بل هو حظٌّ عظيم.
فمَن يقابِل السيِّئة بالحسنة كثيرٌ، لكن مَن يَثبتُ منهم على هذا الأمر ويستمرُّ عليه قليلٌ.