عن " المنزلق " للشهيد غسان كنفاني.. - عن " المنزلق " للشهيد غسان كنفاني.. - عن " المنزلق " للشهيد غسان كنفاني.. - عن " المنزلق " للشهيد غسان كنفاني.. - عن " المنزلق " للشهيد غسان كنفاني..
إضاءة : تنمتي قصة المنزلق من مجموعة " عالم ليس لنا " إلى الشكل الواقعي المطعّم بالفانتازيا والحكايا الشعبية.
ليس في القصة أي إشارات إلى أن الأستاذ محسن والطفل ووالده يمثلون الإنسان الفلسطيني، لكن واقع وزمن القصة يذهبان بالقارئ إلى تحقيق الجنسية والوضع السياسي لثلاثتهم، ويحددهم كلاجئين فلسطنيين، بالرغم من أن القصة قد تحدث في أي مساحة تنتمي إلى الجنوب هذا العالم الفقير المكتظ بالبؤس والقصص الحزينة.
جدير بالذكر أن لغسان طابع استثنائي في سرد واقع الفلسطيني كلاجئ، بابتعاده الدائم عن تصوير اللاجئ الفلسطيني كسوبر مان لا يمكن له أن يصاب بالاهتراء أحياناً وبالاهتزاز والاضطراب في مواقع كثيرة، وهذه ليست إدانة للاجئ، بل محاولة حقيقية للنهوض بواقع اللاجئ الفلسطيني، وهنا نستذكر الناقد الأدبي الجليل يوسف إدريس حين كتب في مقدمة الأعمال الكاملة للشهيد ما يلي " أقرأوا هذه القصص مرتين ، مرة لتعرفوا أنكم موتى بلا قبور ، ومرة لتعرفوا أن قبوركم تجهزونها وأنتم لا تدرون ، قبور الثقافة بلا ثورة والثورة بلا ثقافة. " من هذه النقطة بالتحديد ينطلق غسان كنفاني لينبش عن تلك الشخصية التي بدأ الحديث عنها، شخصية الأستاذ محسن، فهو لا يؤمن بأن المدرسة قد تعلم شيئاً، ولعلنا نجد في سرده هنا إدانة لمجمل الثقافة العربية، فهي على زخمها واكتظاظها إلا أنها لم تعطي شيئاً حقيقاً، هذه الثقافة التي منّ مدير المدرسة على طلابها بأن يحضروا إلى المدرسة دون فائدة، ليتدبر المدرس أمره معهم، ولكل مدرس قدرة ما على اتخاذ التدابير اللازمة لإدارة حصته بقوله " أي أستاذ قدير يعرف كيف يشغل حصته دون كتب "، كأن بغسان يقول لنا أن حال الأمة كامل هو التبعية والتحكم بمجريات الأمور بما يقدم لهم من أوامر صارمة لا يمكن مناقشتها، وربما نذهب إلى أبعد من ذلك لنجد أن المدير هنا قد يمثل حالة فرض السيطرة ضمن قوة استلاب الآخرين مالهم، فالمال هنا قد دفع من الطلاب، وكان حاضراً لكن أين ذهب هذا المال؟ وللمدرس أن يدير حصصه بقدرته الذاتية، الأمر متاح هنا لإسقاط مفهوم أن الثقافة لازمة لزوماً قسرياً كي يدير أحدهم شؤون أفراد آخرين، قد تكون هذه نظرة متطرفة بعض الشيء في تعميم المثال، وهنا نلجأ إلى تصغير النموذج، فالأمر يقترب بحالة أخرى إلى إدانة القيادة الراهنة التي عايشها غسان كنفاني، قيادة تفرض إدارة الأمور حسب الواقع ومعطياته، وتكسب لنفسها تجارة مربحة ضمن موقعها الطبقي، في كلا التفسيرين هنا نستطيع أن نصغر النموذج أو نقوم بتوسعته.
محسن هذا الأستاذ الذي صرح بانعدام قدرة النظريات على تعليم أحدهم، يدين تلك النظرية التي لا تسمن ولا تغني من جوع، إنما يظهر له طفل من بين كل الأطفال ليدير حصته ولا يمانع الأستاذ بهذا، ويبدأ الطفل برواية قصة والده، وقصة الرجل الغني، وهنا يبدأ الطفل بتخليص الأستاذ من مأزقه ويتحدث بالقول " "كان والدي رجلاً طيباً .. كان شعره شائباً ، وكانت له عين واحدة أما عينه الأخرى فقد أقتلعها بنفسه حين كان يخيط نعلاً سميكاً لحذاء رجل ضخم ، لقد كان مكباً على الحذاء يحاول جاهداً أن يدخل الأبرة الكبيرة في النعل ، ألا أن النعل كان قاسياً جداً ضغط كل ما في وسعه ، بلا فائدة ، ضغط أكثر ، لا فائدة ، ثم رفع الحذاء الى صدره وضغط بكل قوته فخرجت الأبرة فجأة من الناحية الأخرى ودخلت في عينه .. "،
حبكة ما سرده غسان هنا تكمن في تفاصيل قصة الطفل، فهو في كل مرة يضيف إلى الحكاية تفاصيل أخرى، كلها تنتهي بموت الأب، العامل الفقير المتكوم على نفسه في غرفة صغيرة، وقتله عمله، وربما قتلته قشور الفاكهة، وأهمال الخدم، ليس من السهل تجاوز دلالات استخدام الحكاية الشعبية في إضفاء الحدث وتتبعه في " المنزلق " فغسان برغم إدانته للنظريات والعمل ضمن أطر الواقع المفروض على اللاجئ الفلسطيني، يجد أن المأزق لا حل له سوى أولئك المسحوقين ضمن لجوئهم وفقرهم، حتى أن غسان يجرم الجميع في القصة حين يكتب " ولكنني لست مجنونا اذهب الى قصر الرجل الغني وانظر الى أحذيته فستجد عليها أطرافا من لحم أبي" هذه الصورة بالذات هي اختزال مباشر لحالة اغتصاب قدرة اللاجئ على العيش والتقرير، فالرجل الغني، مرة كان القيادة العربية، ومرة كان القيادة الفلسطينية، كلهم داسوا على جثث اللاجئين وأنتجوا تلك المأساة الكبرى التي لا تنفك أن تظهر على شكل جموع تائهة ممزقة الذاكرة هشة القرار، لا قائد لها، لأنها فقدت نفسها بالطرد والانتقال من إنسان له ماض مفقود يساوي _كرامة ، عزة ، كبرياء ، وأحترام للذات _ وله حاضر يساوي _ ذل ، إهانة ، عجز ، احتقار للذات ، وتأنيب ضمير.
محسن صراع النظرية والواقع، الأخلاقية في الوعي واغتصابه، محسن كل تلك الصراعات التي يخوضها غسان نفسه كي يبحث عن الحل الذي يجعله دائماً مشدوداً إلى التناقض الذي طرأ على حياة شعبه، يعلن اكتشاف الحقيقة والمستقبل برغم وصف اكتشافه بالمجنون ويبدأ بالدفاع عنه حين ينهي روايته بقوله " ولكنه ليس مجنوناً، أنا نفسي أصلحت حذائي عند والده، وحينما عدت لأصلحه مرة أخرى قالوا لي أنه قد مات. " وطفله المجنون ما هو إلا رواية الواقع وإضفاء تفاصيل جديدة تبرز سؤال المستقبل عما حصل بالأمس ؟
في تقدمة مجموعة غسان القصصة " عالم ليس لنا " ترد جمله ( لا نعرف كيف وجدنا صديقنا مجنون !! )
تلك الحالة التي يتهيأ للمتلقي أن قد توصل إليها بطرفة عين حين تنتهي القصة، تذكرنا بطريقة ما بشخصية الكولنيل في رواية غابريل غارسيا ماركيز " ليس لدى الكولونيل من يكاتبه " حين أنهى الرواية بكلمة مفاجئة
- ماذا سنأكل ؟
- خراء.
تلك القفلة التي تصدم القارئ لكنه تفرغ شحنة داخله، شحنة صراع الكولنيل مع واقعه وتباهيه بالديك، تشبه جملة غسان كنفاني التي أنهى بها روايته على لسان الأستاذ محسن.
-ولكنه ليس مجنوناً، أنا نفسي أصلحت حذائي عند والده، وحينما عدت لأصلحه مرة أخرى قالوا لي أنه قد مات.
النهايات تتشابه في إضفاء عنصري الدهشة وايقاظ السؤال وتحفيزه لدى القارئ، فماذا بعد؟ صحيح أن الدهشة قد تسيطر على القارئ، وربما تجعله يتنفس الصعداء في لحظة ما، لكن سيبقى أثر الجملة يدور في عقله، فلماذا أقر الأستاذ بصدق رواية دهش حين سمعها لأول مرة؟ ولماذا بات يكرر القصة وكأنه جزء منها لا بل هو أحد أركانها الأساسية؟
معالم الأستاذ محسن تتفصل فيما يلي:
- شخصية سلبية، مترددة وقلقة، ومن السهل الاستحواذ عليه.
- يتكل على طفل كي يخرج من أزمة سؤاله عن جدوى المدرسة.
- يظهر كأنه مجنون آخر في الرواية.
اسقاطات هذه الشخصية، تجد مساحة من التحليل العميق إن أردنا ذلك، فكما قلنا سابقاً، هذه الشخصية تشبه إلى حد كبير واقع النظرية لدى الأمة العربية، ولدى الشعب الفلسطيني كجزء من الأمة العربية، لكن هنا تظهر شخصية اللاجئ بوضوح، ذلك اللاجئ الذي لم يكن مجرد شعب يشبه البدو الرحل فلم يحدث فرقاً في هجرته، بل هو كيان لا زال تحت الصدمة، فشخصية الأستاذ محسن تعبر إلينا كي توضح حالة الصدمة التي يعيشها اللاجئ الفلسطيني، كما تظهر حالة انعدام الوزن في تقييم الأشياء من حيث جدواها من عدمه، وتنتظر أي مساعدة خارجية تعينه على فهم واقعه الجديد، ولكن التركيز على مسألة النظرية هنا، يأتي من سياق مقدمة القصة التي أشار إليها الشهيد غسان كنفاني حين أثار سؤال الأستاذ محسن حول جدوى المدرسة، فهي لا تعلم، لقد تعلم ذلك بنفسه، فشك الأستاذ محسن، لا ينطوي على توصيف نفسية المجتمع الفلسطيني في الشتات وحسب، بل يدخل إلى تفاصيل الفكر والثقافة العامة التي يحملها هذا اللاجئ، وتلك المسودة العامة التي شابها الكثير من الفشل، فعن أي ثقافة وفكر يتحدث هنا غسان؟ بل من يقصد بذلك بالتحديد ؟