أبرز جهود العلماء القدماء في رد الشبهات عن الإسلام و نبوة سيدنا محمد و التصدي للمطاعن فيهما
أبرز جهود العلماء القدماء في رد الشبهات عن الإسلام و نبوة سيدنا محمد و التصدي للمطاعن فيهما - أبرز جهود العلماء القدماء في رد الشبهات عن الإسلام و نبوة سيدنا محمد و التصدي للمطاعن فيهما - أبرز جهود العلماء القدماء في رد الشبهات عن الإسلام و نبوة سيدنا محمد و التصدي للمطاعن فيهما - أبرز جهود العلماء القدماء في رد الشبهات عن الإسلام و نبوة سيدنا محمد و التصدي للمطاعن فيهما - أبرز جهود العلماء القدماء في رد الشبهات عن الإسلام و نبوة سيدنا محمد و التصدي للمطاعن فيهما
الدكتور راجح السباتين
أبرز جهود العلماء المبذولة قديماً في ردّ الشّبهات عن الإسلام ونبوّة محمدٍ والتصدّي للمطاعن فيهما
أولاً: أبو الوليد الباجي
عاصر أبو الوليد الباجيّ( ) ابن حزمٍ الأندلسي، رحمهما الله، وقد جرت بينهما جلساتٌ ومناظراتٌ عديدةٌ. كان هذا الرجل من أهل العلم المتمكّنين وبالذات في علوم التوحيد والفقه وأصول الفقه، وقد زادت مصّنفاته على ثمانية عشر، كان من أبرزها (المُنتقى في الفقه) و(التسديد إلى معرفة التوحيد) و(إحكام الفصول في أحكام الأصول). وفي هذا الرجل وفي أبي بكر الطرطوشي قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، "... ولهم في الإسلام مساعٍ مشكورةٌ، وحسناتٌ مبرورةٌ ولهم في الردّ على كثير من أهل الإلحاد والبدع، والانتصار لكثيرٍ من أهل السُّنة والدين، مالا يخفى على مَن عرف أحوالهم، وتكلَّم فيهم بعلمٍ وصدقٍ وعدلٍ وإنصاف"( ).
وقد استدعى الأميرُ المقتدر بالله حاكم سرقسطة( ) آنذاك، أبا الوليد للردّ على الرسالة التي بعث بها الراهبُ الفرنسي الشّهير القدّيس "هيو"، الذي كان قائماً على دير كلوني، الذي سبق الحديث عنه. والرسالة التي نحن بصدد الحديث عنها هي مثالٌ واضحٌ على جهود علمائنا الأقدمين في الردّ على شبهات النصارى ومطاعنهم في الإسلام ونبّوةِ محمّدٍ . ولكنّ هذه رسالةٌ طويلةٌ( ) لا يسعنا إيرادها في هذا المقام، لكنّنا سنذكر أبرز ما اشتملت عليه من نقاطٍ تخدم موضوع دراستنا هذه، فقد أشار الباجيُ في رسالته إلى أنّ المسلمين يعرفون المسيحيّة تماماً وأنّ لهم اطّلاعاً واسعاً على كُتبها ومعرفةً بما فيها من التناقض والتّضاد، كما فَنَّدَ وبالتفصيل ادّعاء المسيحيين بألوهية المسيح، عليه السلام، ثم عرضَ وبالتفصيل ما في الإسلام مِن محاسنَ وفوائدَ وخيرٍ في العقيدة والشريعة والنُّظم الأخلاقية والاجتماعية ... وطلب إلى راهب فرنسا أن يحضر بنفسه إلى بلاد المسلمين ليتعرَّف عن قربٍ على الإسلام ويسمعَ آيات القرآن الكريم من أفواه المسلمين أنفسهم. ولم يكتفِ الباجيُ، رحمه الله، بذلك بل دعا هذا الراهبَ للتفكير في اعتناق الإسلام وأن يكون سبباً في إسلام مَن حوله من الناس ...
لقد لقيت هذه الرسالة اهتماماً كبيراً لدى الكثيرين من المستشرقين المتأخرين وتمّت ترجمتها إلى العديد من اللغات الأجنبيّة وكان من أبرز من اهتمَّ بها (Salo baron) و(Allen cutler) ومن قَبلهما المستشرق البريطاني الشهير دانلوب. وقد ذكر الأستاذ محمد الشرقاوي كلاماً طيّباً في تقييمه لهذه الرسالة الجوابية الهامّة للباجيّ، فقال( ): إنّ رسالةَ الباجي تُظِهرُ ـ في تقديري ـ رؤية إسلاميةً صحيحةً وعميقةً، لما عليه العقيدة النصرانية من اضطرابٍ وتناقضٍ ووهاءٍ، كما أنها تبُرز مسئولية القاضي الباجي في الدعوة إلى الله تعالى بين غير المسلمين، ووعيه بالطريق الأرشد إلى ذلك فالقضية ـ عنده ـ لم تكن مجرّدَ تدبيجِ جوابٍ على رسالة راهبٍ فرنسيٍّ بعث بها ـ مع رسولين ـ إلى المقتدر بالله حاكم سرقسطة، أقصى ما يؤمِّلهُ الباجي من ورائه، أن يرَضى المقتدرُ بالله عنه؛ لكنَّ طموحه السَّديد كان أبعدَ من ذلك وأعظم؛ إذ كان يروم تعريفَ راهب فرنسا وكبير رجالات الكنيسة فيها بمحاسن الإسلام، وما عليه النصرانية ـ بعد التحريف ـ من مجافاةٍ للعقل والمنطق، فضلاً عن مصادمتها للفطرة السليمة، بأسلوبٍ قويمٍ حكيمٍ، وإنَّ كلَّ فقرةٍ في الرسالة لتؤكِّدُ هذا المعنى وتعمقه.
ثانياً: أحمد بن عبد الصّمد الخزرجيّ
إن كان الباجيّ قد ردَّ على راهب فرنسا القدّيس "هيو" برسالةٍ جوابيّةٍ شهيرةٍ وقفنا على مضمونها في الصفحات السابقة، فإنّ أحمد بن عبد الصمد الخزرجيّ( )، هو الآخر، قد بعثّ برسالةٍ جوابيّةٍ إلى قسيسٍ كبيرٍ في مدينة طُليطلة بعد وقوعها الأول "المؤقّت" تحت حكمِ تحالفٍ عربيٍ مسيحيٍّ إبان التنازع على الحكم في ظل الحكم الإسلامي للأندلس آنذاك. وقد تحوّلت هذه الرسالة الجوابيّة فيما بعد إلى كتابٍ هامٍّ حمل عنوان (مقامع الصلبان ومراتع رياض الإيمان) أو (مقامع هامات الصّلبان ورواتع رياض الإيمان)( ).
وحسبَ مقدّمة الكتاب( ) فقد كان سقوط قرطبة في ذي الحجّة من عام خمسمائةٍ وأربعين للهجرة الموافق لعام 1145 للميلاد، على يد ابن حمدين الذي استعان بالنّصارى على منافسيه من المسلمين، فأعاث النصارى في شرق قرطبة فساداً كبيراً وأسروا بعض المسلمين وكان من هؤلاء المأسورين أحمد الخزرجيّ الذي بقي أسيراً في طليطلة من عام 540 هـ / 1145م إلى عام 542 هـ / 1147م، وقد كان عمره آنذاك اثنتين وعشرين أو ثلاثاً وعشرين سنةً. وقبل الحديث عن مضمون هاتين الرسالتين، الجوابيّة من الخزرجيّ والأولى من القس الطليطليّ فإنه من المهمّ جدّاً أنْ نعلم أنّ السَّنة التي أَلَّفَ فيها الخزرجُي "مقامع الصلبان" هي ذات السنة التي أنهى فيها روبرت الكيتوني ترجمة القرآن الكريم إلى اللاتينيّة بطلبٍ ودعمٍ من بطرس المبجّل، ممّا يُعطينا فكرةً واضحةً عن مدى الاهتمام الكاثوليكي بالإسلام في تلك الأيّام ومدى حرص القساوسة والرهبان على محاربته والطعن في عقائده وفي القرآن الكريم ونبوّة الحبيب المصطفى . ومن ضمن هذا الاهتمام جاءت رسالةُ القس الطليطلي إلى الخزرجيّ يعرضُ فيها عليه ترك الإسلام واعتناق المسيحيّة ويحاول تشكيكه في دينه من خلال شبهاتٍ كثيرةٍ أثارها حول تشريعات الإسلام في الزواج والطلاق وفي الجهاد واعتراضٍ على وصف القرآن لمريم بأنّها أختُ هارون وقدحٍ في الوصف الحسيّ الذي حمله القرآن للجنّة لما فيها من طعامٍ وشرابٍ ونكاح ...
ويمكننا بعد قراءة رسالة هذا القِسِّ الطليطلي أن نرصدَ بعض الموضوعات التي أوردها ومنها العشرة التالية:
1. الدعوة إلى الإيمان بالمسيح ابن الله.
2. إقرار القرآن بأنّ المسيح روح الله وكلمته وأنه أحيا الموتى، وأنّ سلوك المسيح يدل على ألوهيته.
3. الصّلبُ رحمةٌ ببني آدم ودليلٌ على ألوهية المسيح.
4. عدم الفائدة في شريعة الإسلام وأنّ الزواج والطلاق في الإسلام دليلٌ على أنه ليس حقاً.
5. القرآن ينسب إلى التوارة والإنجيل ما ليس فيهما (كالقتال مثلاً).
6. سخرية من القول بالنسخ في القرآن.
7. إنكار ما يذكرُ القرآنُ من إسقاط إبليس من السماء.
8. القول بتحريف التوارة والإنجيل والزبور لا يقوم عليه دليل.
9. فشُو الإسلام بالسّيف والقهر على عكس المسيحية.
10. دعوة المسلم إلى الاعتبار والتدُّبر.
"ولمّا وقف الشاب الألمعيُ [أحمد الخزرجيّ] على هذه الرسالة: زجرَ موصليها وامتنع عن مراجعةِ القسيس تخوفاً منه، لكونه يومئذٍ بين ظهرانيهم وفي كُنه ديانتهم، فألحَّ الناس عليه في الجواب فكتب هذا الجواب المُسمّى "مقامع هامات الصلبان، ورواتع روضات الإيمان".. واستفتح رسالته بالبسملة والحمدلة والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍّ ثم قال: فصل: في تقديم الاعتذار عن النزول إلى إجابتك للاعتراف بأن الالتفات إلى ما لديكم يخلُّ بعقل الإنسان ودينه.. وأخذ يناقش دعاوى النصارى واحدةً واحدةً ويردّ عليها ويُبطلها، وبدأ بإبطال دعوى ألوهية المسيح عليه السلام، وتعجَّبَ من دعوة القسيس له إلى الدخول في النصرانية ... وناقش المؤلِّفُ مزاعم النصارى حول معجزات المسيح التي رفعه بها إلهاً، وهي في الحقيقة دلائل نبوته ومعالم رسالته ووقع مثلها للأنبياء على مدى تاريخ الرسالات ..."( ). ثم تَكلَّمَ المؤلِّفُ عن اضطراب الأناجيل وتناقضها وساق نماذج متعدّدةً لذلك ثم شرع في الردّ على كل الشبهات والمطاعن التي أوردها القسيس حول الإسلام وتشريعاته ونبوّة رسول الله .
لقد حملت هذه الرسالةُ الجوابيّةُ الرائعةُ التي بعث بها الخزرجي إلى هذا القس ردوداً شافيةً وافيةً على ما كان القس قد أثاره من شبهاتٍ ومطاعن. والرسالة يطول ذكرها في هذا المقام، وهي موجودةٌ بالنصّ الكامل في الكتاب السابق ذكره، وهو متوفّرٌ في المكتبات العامة ومكتبات الجامعات ولله الحمد. وقد احتوت الرسالة، إضافةً لنقض شعائر وعقائد النصارى ونقد حججهم وأدلتّهم، احتوت العديد من الردود على شبهاتهم ومطاعنهم وهي ردودٌ نراها تتكرر عند الكثيرين من المتأخرّين عن الخزرجي الذين أفادوا منها في محاججتهم للنصارى.
ويمكننا بعد قراءة هذه الرسالة الجوابية أن نرصدَ بعض الشبهات والمطاعن التي ردّها ونقضها ومن أبرزها ما يلي:
1. الرد على طعن أساقفة النصارى في الإسلام ونَبِيِّهِ.
2. شواهد من التوارة في التبشير بمحمدٍ.
3. افتراء المُضِلّين من النصارى على محمدٍّ واستدراك مجامعهم.
4. عرض أكاذيب النصارى في شأن محمد والقرآن والردُّ على هذه الأكاذيب.
5. نفي قول الرسول أنه لا يموت.
6. الاستهزاء من مُسيلمة وكتابه.
7. الردّ على إنكار النصارى لفصاحة القرآن وإعجازه.
8. الرد على إنكار النصارى لمعجزات محمدٍّ.
9. الرد على إنكار النصارى لإخبار القرآن عن الغيب.
10. ذكر معجزات محمدٍّ ومقارنتها بمعجزات غيره من الأنبياء.
11. مدى دلالة الآيات على ثبوت النبوة.
12. بشارات التوارة والزبور والإنجيل والنبوات بمحمدٍّ.
13. فضائل محمد وصفاته.
14. الردّ على القسّ في شأن التذاذ الأجسام في الجنة والاستشهاد على ذلك بما جاء في الإنجيل والتوراة والقرآن.
15. الرد على القس في أمر انتشار الإسلام بالقهر والسيف.
ثالثاً: أحمد بن إدريس القرافي
ذكر الإمام القرافي( ) في مقدّمة كتابه (الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة) السبب الذي دعاه إلى تأليف هذا الكتاب فقال( ): "إنَّ بعض النصارى قد أنشأ رسالةً على لسان النصارى مُشيراً أنّ غيره هو القائل، وأنّه هو السائل. مشتملةً على الاحتجاج بالقرآن الكريم على صحّة مذهب النصرانيّة، فوجدتُه قد التبسَ عليه المنقول.وأظلمت لديه قضايا العقول. فإنّ كتابنا العزيز وكتبهم دالةٌ على صحّة مذهبنا وإبطال مذهبهم. وأنّا أبيّنُ ذلك إن شاء الله تعالى في أربعة أبواب.
يتكوّن كتاب "الأجوبة الفاخرة" من أربعةِ أبواب. ردَّ فيه المؤلف في بابه الأوّل على خمس عشرة شبهةً من أبرز الشبهات التي أثارها النصارى على المسلمين وكان من أبرز هذه الشبهات وأشهرها شبهة خصوصيّة رسالة الإسلام بالعرب فقط، وشبهة المسيح روح الله وشبهة ودعوى إعلاء منزلة النّصارى في القرآن الكريم، وشبهه مدح القرآن لعقيدة القربان وشبهة احتجاجهم ببعض آيات القرآن الكريم لصالحهم، وشبهة دعوى الاستغناء عن شريعة محمدٍ عليه السلام. وفي الباب الثاني أجاب القرافي ـ رحمة الله ـ عن أسئلةٍ عبث بها النصارى ضدَّ المسلمين، جمَعَها في خمسة عشر سؤالاً وفَنَّدها وردّ عليها بالتفصيل. وكان من أبرز هذه الأسئلة الخبيثة دعوى انتشار الإسلام بالسيف ودعوى أنّ المسلمين على ضلال، ودعوى جواز الاتحاد والحلول بنصّ القرآن، ودعوى خلاف المسلمين في القرآن!!.
أمّا في الباب الثالث من هذا الكتاب فنرى القرافيّ، يرحمه الله، قد تحوّل من موقع المُجِيب إلى موقع السائل، ومن موقع المُدافِع إلى موقع المهاجِم فألقى على اليهود والنصارى مائةً وسبعةَ أسئلةٍ تتعلّق في صميم معتقداتهم وكُتبهم المقدّسة وشعائرهم. كما طرح عليهم أسئلةً صعبةً مُحرِجةً لهم تتعلّق بثبوت المعجزة لمحمدٍّ، ، وعن الفرق بينها وبين معجزات السابقين وعن موقف العقلاء من نبوّة محمد، ، وعن موقفهم من عدم الأكل والشّرب في الجنّة. وفي الباب الرابع والأخير أورد القرافي ـ يرحمه الله ـ إحدى وخمسين بشارةً من كتبهم كلّها تبشّر بالنبيّ محمد .
رحم الله الإمام القرافي وجيله من العلماء الذين أناروا لنا الدرب وأشعلوا مشاعل العلم والمعرفة وتصدّوا للذود عن هذا الدين ونبيّه الكريم ودستوره الخالد.
رابعاً: الإمام ابن تيمية
إنّ أبرز مؤلَّفات ابن تيمية( )، رحمه الله، فيما يتعلّق بموضوع دراستنا هو كتاب "الجواب الصحيح لمن بَدَّل دين المسيح". وقد ذكر في مقدّمة هذا الكتاب السبب المباشر الذي دعاه لتأليفه فقال( ): إنّ كتاباً ورد من قبرص فيه الاحتجاج لدين النصارى، بما يحتج به علماء دينهم وفضلاءُ ملّتهم قديماً وحديثاً، من الحجج السمعية والعقلية، فاقتضى ذلك أن نذكر مِن الجواب ما يحصلُ به فصل الخطاب، وبيان الخطأ من الصواب، لينتفع بذلك أولو الألباب، ويظهر ما بعث الله به رسله من الميزان والكتاب، وأنا أذكر ما ذكروه بألفاظهم بأعيانها فصلاً فصلاً، وأُتبِعُ كلَّ فصلٍ بما يناسبه من الجواب فرعاً وأصلاً، وعقداً وحلاًّ. وما ذكروه في هذا الكتاب هو عمدتهم التي يعتمد عليها علماؤهم في مثل هذا الزمان، وقبل هذا الزمان، وإن كان قد يزيد بعضهم على بعضٍ بحسب الأحوال، فإنّ هذه الرسالة وجدناهم يعتمدون عليها قبل ذلك، ويتناقلها علماؤهم بينهم، والنُّسَخُ بها موجودةٌ قديمةٌ، وهي مضافةٌ إلى "بولص" الراهب أسقف صيدا الأنطاكيّ كتبها إلى بعض أصدقائه ولهُ مُصنَّفاتٌ في نصر النصرانية، وذكر أَنَّهُ لمّا سافر إلى بلاد الروم والقسطنطينيّة وبلاد الملافطة، وبعض أعمال الافرنج ورومية،واجتمع بأجلاَّء أهل تلك الناحية، وفاوض أفضالهم وعلماءهم، وقد عَظَّمَ هذه الرسالة، وسمّاها: "الكتاب المنطيقي الدولة خانى المبرهِن عن الاعتقاد الصحيح والرأي المستقيم".
لقد استشعر شيخ الإسلام ابن تيمية خطورة مضامين هذه الرسالة وما انطوت عليه من مبالغاتٍ في مدح عقائد النصارى ومحاولاتٍ لإثبات صحّتها وللطعن في نبوَّةِ محمدٍّ وعدم الحاجة إليها، فقرأ هذه الرسالة وذكر في مُقدّمة كتابه أنها تتكوَّن من ستة فصول هي التالية:
الفصل الأول: دعواهم أنَّ محمداً لم يُبعث إليهم، بل إلى أهل الجاهلية من العرب، ودعواهم أنَّ في القرآن ما يدلُّ على ذلك والعقل يدلُ على ذلك.
الفصل الثاني: دعواهم أنَّ محمداً أثنى في القرآن على دينهم الذي هم عليه، ومدحه بما أوجب لهم أن يَثْبتوا عليه.
الفصل الثالث: دعواهم أنَّ نبوّات الأنبياء المتقدمين كالتوراة والزبور والإنجيل وغير ذلك من النبوّات تشهد لدينهم الذي هم عليه من الأقانيم، والتثليث، والاتحاد، وغير ذلك، بأنه حق وصواب، فيجب التمسك به، ولايجوز العدول عنه إذا لم يعارضه شرعٌ يرفعه ولا عقلٌ يدفعه.
الفصل الرابع: فيه تقرير ذلك بالمعقول، وأنَّ ما هم عليه من التثليث ثابتٌ بالنظر المعقول، والشرع المنقول، موافقٌ للأصول.
الفصل الخامس: دعواهم أنهّم مُوَحِّدون، والاعتذار عمّا يقولونه من ألفاظٍ يظهر منها تعدد الآلهة، كألفاظ الأقانيم، فإنّ ذلك مِن جنس ما عند المسلمين من النصوص التي يظهر منها التشبيه والتجسيم.
الفصل السادس: أن المسيح، عليه السلام، جاء بعد موسى، عليه السلام، بغاية الكمال، فلا حاجة بعد النهاية إلى شرعٍ يزيد على الغاية، بل يكون بعد ذلك شرعاً غير مقبول.
وقد بَيَّنَ ابن تيمية في المقدمة ذاتها المنهج الذي سيعتمده في ردِّ دعوى النصارى الباطلة هذه فقال( ): ونحن ولله الحمد والمنَّةُ نبيِّنُ أنَّ كلّ ما احتجوا به من حجةٍ سمعيّةٍ من القرآن، أو من الكتب المتقدّمة على القرآن، أو عقليّةٍ فلا حجّة لهم في شيءٍ منها، بل الكتب كلّها مع القرآن، والعقل حجّة عليهم لا لهم، بل عامّة ما يحتجون به من نصوص الأنبياء ومن المعقول، فهو نفسه حُجّةٌ عليهم، ويظهر منه فساد قولهم، مع ما يفسده من سائر النصوص النبوية، والموازين التي هي مقاييس عقلية.
يُعَدُّ كتاب "الجواب الصحيح" أضخم ما كتبه ابن تيمية في الردّ على النصرانية ونقد عقائدها وشبهاتها حول الإسلام والقرآن الكريم ونبوّة محمدٍ ، وقد زادت فصوله على مائةٍ وخمسةٍ وتسعين فصلاً في النسخة التي بين أيدينا( ) في هذه الدراسة. ومن أبرز الفصول التي خطَّها ابن تيمية، رحمه الله، فيما يخدم موضوع دراستنا هذه مايلي:
1. شبهات النصارى على رسالة محمدٍّ وردّها.
2. معجزات محمد .
3. ردُّ احتجاجاتهم ببعض الآيات على خصوصيّة الرسالة.
4. ردُّ دعوى خصوصية الإسلام لكون القرآن أنُزِلَ بلسانٍ عربيٍ.
5. الردُّ على زعمهم الاستغناء برسل الله إليهم عن رسالة محمد .
6. ردُّ زعمهم بأنَّ عدل الله يقتضي أن لا يُطالَبوا باتّباع إنسانٍ لم يأت إليهم.
7. الردّ على النصارى في احتجاجهم بأنّ الله مَدَحَهم.
8. الردّ على دعواهم بتعظيم الإسلام لمعابدهم.
9. رفضُ دعواهم وجوب التمسك بدينهم بعد بعثة محمد .
10. ردّ دعوى النصارى في أنَّ القرآن أقرَّهم على ما هم عليه.
11. نقض دعواهم أنّ القرآن أثبتَ في المسيح اللاهوتَ والناسوتَ.
12. إثبات الفضل والكمال لرسول الله ولشريعته ولأُمّته.
13. فصلٌ في دلائل النبوة.
خامساً: الشيخ عبد العزيز بن حمد آل معمر
قد لا يكون هذا الشيخ( ) من الأعلام المشهورة في بلادنا ولكنه، رحمه الله، قد ترك لنا مؤلَّفاً هامّاً نسأل الله تعالى أن يكتبه له صدقةً جاريةً تبقى إلى يوم القيامة. وهذا المؤلَّفُ يأتي في صميم هذه الرسالة ويخدم موضوعها بوضوح، هذا المؤلَّفُ هو "منحة القريب المجيب في الردّ على عبّاد الصليب"( ). وقد حكى الأستاذ محمد سيّد المسير سبب إقدام الشيخ عبد العزيز آل معمر على وضع هذا الكتاب فقال( ):
قد واجه به المؤلِّفُ كتاباً في التنصير خطَّهُ المندوب الإنجليزي في البحرين بعنوان "مفتاح الخزائن ومصباح الدفائن" يشتمل على طعونٍ في الرسالة الإسلامية والرّسول محمدٍّ ، ويشيد بالنصرانية، وبعث المندوب الإنجليزي بكتابه هذا إلى حاكم البحرين الشيخ عبد الله بن خليفه ليعرضه على العلماء المسلمين فانبرى له الشيخ عبد العزيز بن حمد آل معمر وسجَّلَ الردَّ في فترةٍ وجيزةٍ وسلَّمهُ لحاكم البحرين.
ومن المفيد قبل الشروع في الحديث عن أهمّ محتويات هذا الكتاب التنبيه إلى عدم الخلط بينه وبين كتاب "تحفة الأريب في الردّ على أهل الصليب" وهو من وضع عبد الله الترجمان الأندلسي الذي هداه الله إلى الإسلام بعد أن كان في السابق قسيساً إسبانياً يحمل اسم "إنسليم تورميدا".
في بداية كتابه عرض الشيخُ عبد العزيز، رحمه الله، النص الكامل لما كتبه المندوب الإنجليزي في البحرين، آنذاك، ثم أتبعه بالردود الشافية الوافية على ما ذكر. ويتكوَّنُ هذا الكتاب من خمسةِ مقاماتٍ (ما يعادل الأبواب) طويلةٍ تندرج تحتها مجموعةٌ من الفصول، وناقش في هذا الكتاب مجموعةً من المواضيع أبرزها ما يلي:
1. تحريف النصارى للدين الذي جاء به عيسى ابن مريم، عليه السلام، ودور المجامع الكنسّية في ذلك.
2. تحريف كتب النصارى واختلافاتها وتناقضاتها مع بعضها البعض.
3. تحريف النصارى لصفات الرسول محمد الواردة في كتبهم المقدسة.
4. المناقشة التفصيلية لمقارنة المندوب الإنجليزي بين محمدٍّ وعيسى، عليهما السلام، وفيها ردّ على أسباب ترجيح المقارنة لصالح المسيح عليه السلام، وختم بأنّ الترجيح بين الأنبياء والرسل لا يعود لنا نحن البشر بل لله تعالى.
5. أفاض المؤلف في ذكر فضائل وشمائل الحبيب المصطفى .
6. الردود على شبهات النصارى حول بعض آيات القرآن الكريم التي تصف المسيح بأنه روحٌ من الله تعالى، وبيان التفسير الصحيح لهذه الآيات والفهم الذي يجب أن تندرج تحته.
7. الإفاضة في تعداد وشرح معجزات الرسول ووجوهها.
8. الرد على شبهة انتشار الإسلام بالسيف وبيان الحكمة من تشريع الجهاد.
9. توضيح الحكمة من تشريع الطلاق وتشريع تعدد الزوجات.
سادساً: الشيخ رحمت الله الهندي
ليس من قبيل المبالغة القول إنَّ الكتاب الذي أَلّفه الشيخ رحمت الله الهندي( )، رحمه الله، والذي يحمل عنوان "إظهار الحق"( ) هو أثمن وأهم الكتب التي رصدتها هذه الدراسة فيما يتعلق بالرد على عقائد المسيحية ودفع شبهات ومطاعن الرهبان عن الإسلام ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك لأمرين:
أمّا الأمر الأول: فيرجع إلى الظروف التي دفعت الشيخ الهندي لعقد مناظرته الشهيرة مع القسّيس فندر، والتي تُعتَبرُ مادةُ هذا الكتاب تدويناً لنصوصها وأحداثها وتوثيقاً لها، فقد حدث أنَّ المنصّرين في الهند في الخمسينات من القرن الثامن عشر قد جعلوا من الشوارع والأماكن العامّة والأسواق في القارّة الهندية منابر لنشر الكفر البواح، يتحدّون المعتقدات الإسلامية، ويهاجمون العلماء، ويصفونهم بالخور والجبن وضعف الحجّة، وأنهم ليسوا بقادرين على إثبات صحّة هذا الدين، وعلى رأسه هذا القرآن، ورسالة محمدّ ، ليصلوا إلى هدفهم من إثبات ألوهيّة عيسى عليه السلام، وأحقيّة دين المسيح المخلِّص للعالم بزعمهم إلى غير ذلك. وشنّوا حملةً لا هوادة فيها على طبقات الشعب المسلم، يوردون عليه شبهاتٍ وأوهاماً وتفسيراتٍ حسب أهوائهم، يقتطعونها من كتاب الله وسنة رسوله يلبسونها ثوب الحق ويدّعون أحقيّتها زوراً وبهتاناً، وعاش المسلمون فترةً قاسيةً ومحنةً أطاشت عقولهم، وشلَّت نشاطهم، فنهض رحمتُ الله الهندي لِيُعلِنَ التحدّي ويذود عن الإسلام وقرآنه الكريم ونبوّة الحبيب المصطفى في هذا الوقت القاتل والموقف الصعب.
أما الأمر الثاني: فيرجع لعبقريته، رحمه الله، في عقد المناظرة وتمكُّنِه منها حيث كان يناقش كل قضيةٍ يأتي عليها من كلِّ زاويةٍ بدّقةٍ تامّةٍ وتجرُّدٍ نزيهٍ، ثم يتناولها بالتفنيد والنّقد من المصادر نفسها التي يعتمد عليها الخصم، ومن أقوال علمائهم حتى يتّضح الحقُّ، ويبرهن على عبودية المسيح عليه السلام، وعلى وجود التحريف والتناقض في الإنجيل والتوراة بعرض النصوص ومقابلة بعضها البعض، وعلى تنزيه ساحة النبوة والأنبياء من كل نقيصةٍ ومذمّةٍ، وعلى أنَّ القرآن الكريم لا تناقض فيه ولا اختلاف. ثم كان لا يفوته رحمه الله أن يدعم الحقَّ بالأدلَّة من كتاب الله وسنّة رسوله، ليجمع بين الحُجّتين.
ومن المفيد أن نقف عند هذه المناظرة قليلاً لأنها، كما أسلفنا، مَادّةُ الكتاب الذي نحن بصدد الحديث عنه وأصله( )، وسببها المباشر أنَّ قسيساً شهيراً اسمه "فندر" قد قَدِمَ من إنجلترا قام بنشاطٍ كبيرٍ وحماسٍ زائدٍ، في مناظرة علماء الهند، وقد تحدّاهم تحدّياً سافراً، وقام بجولةٍ في مديريات الهند، يخطب في المجامع، ويدعو إلى النصرانية. وقد استفحل أمر "فندر" ورأى أنَّ الجّو قد خلا له، فازداد جرأةً وتحدّياً .. رأى الشيخُ، رحمه الله، أنه لا سبيل إلى الحدِّ من نشاط هؤلاء القسيسين ومقاومتهم، وفي مقدّمتهم وعلى رأسهم القس "فندر" وإعادة الثقة إلى نفوس المسلمين، إلاّ مناظرة "فندر" في جمعٍ حافلٍ يحضره المسلمون والمواطنون، والحكّام الأوربيون، والنصارى المتنصّرون.
وكان "فندر" كثير الاستدلال بكتابه "ميزان الحق" فخوراً متبجّحاً به، ويرى أنه ليس من السهل معارضته، ونقضه من علماء المسلمين.
حرص الشيخ، رحمه الله، على مناظرة القس "فندر" كلَّ الحرص، فراسله في هذا الموضوع، وألـحَّ عليه بالظهور أمام الجمهور وعلماء المسلمين، واستعان في ذلك بكلِّ مَن يرى فيه غناءً أو تأثيراً، ولمّا رأى القسُّ أنّه لا مناص له من هذه المناظرة، قبلها وتقرَّر عقدُ مجلس المناظرة في 11 من رجب سنة 1270هـ (10 من إبريل 1854م) في "أكبر أباد –أكر" إحدى مديريات الولاية الشمالية الرئيسية والتي كانت ساحةً للنشاط التنصيري في الهند، وفي حيٍّ من أحيائها المعروفة بحارة "عبد المسيح".
بدأ الحفل في اليوم المُعَيّنِ، والساعة المحددة وقد حضر ولاةُ المديرية من حُكّامٍ وقضاة، وبعض كبار موظفي الثكنة الإنجليزية من الإنجليز، وحضر القس الشهير (فندر) والقس (وليم كلين) وعددٌ كبيرٌ من أعيان البلد ووجهائه، ومن أبناء البلد المسلمين والمسيحيين والسّيخ، وكان الدكتور محمد وزير خان بجوار الشيخ رحمت الله يساعده ويتعاون معه، وكان موضوع البحث والمناظرة خمسَ قضايا هي:
1. التحريف في الكتاب المقدس (العهد القديم والجديد).
2. وقوع النسخ.
3. التثليث.
4. نبوّة محمدٍّ .
5. صدق القرآن وصحّته.
وقد تَقرَّر أنّه إذا انتصر الشيخُ رحمت الله في هذه المناظرة يدخل "فندر" في الإسلام، وإنْ كان العكس يتنصَّرَ الشيخ... أسفرت هذه المناظرة التي لفتت أنظار المعنيين بالقضية في داخل البلد وخارجه، وكانت حديث النوادي، والشغل الشاغل، والمقيم في البلد، عن اعتراف القس "فندر" بوقوع التحريف في ثمانيةِ مواضعَ من الإنجيل، فقال الشيخ رحمت الله الهندي: (إنكَ ما دمتَ قد اعترفتَ بوقوع التحريف في الإنجيل، فقد أصبحَ هذا الكتابُ مشكوكاً فيه برمَّته)( ) وانتهى البحث على ذلك. ولم يرجع القس إلى البحث والمناظرة في اليوم الثالث، وكان من الواضح أنه انسحب عن ميدان المناظرة، وكان انتصاراً رائعاً للجانب الإسلاميّ، قَويت به معنويةُ المسلمين، وتشجّعوا على مواجهة القسّيسين وردّ دعاواهم، وفقدت الدعوة التنصيرية الكثير من اعتبارها وقيمتها. وبالطبع فإنَّ القس "فندر" قد نكث بوعده ولم يدخل في الإسلام.
أمّا عن السبب الذي دعا الشيخ رحمت الله الهندي إلى تدوين هذا الكتاب فهو كذلك مذكورٌ في مقدّمته( )، حيث طلب منه السلطان التركيُ عبد العزيز ورئيس الوزراء خير الدين باشا تأليف كتابٍ بالعربية يشمل المسائل الجوهرية، والمواضيع الأساسية، والمباحث الحقيقية بين الإسلام والديانة المسيحية، والتي تُبطلُ مزاعم اليهود والنصارى مع إيراد كلِّ ما حصل في المناظرة بالهند، وطلبوا من الشيخ البقاء في تركيا لإكمال هذه الخدمة الإسلامية الدينية المحضة، فرأى من الواجب عليه تأليفَ كتابٍ يكون بمثابة حصنٍ منيعٍ بين الإسلام والمذاهب الباطلة، فشرع في تأليف هذا الكتاب الجليل في شهر رجب عام 1280هـ، وأكمله في ستة أشهر. وطُبع في تركيا تحت الرعاية السلطانية، وَوُزِّعَ في البلدان العربية والإسلامية، كما تُرجم إلى اللغة الإنجليزية والألمانية والفرنسية، كما اهتم السلطان بترجمته إلى اللغة التركية باسم "إبراز الحق" وقد علَّقتْ جريدة "لندن تايمز" في ذلك الوقت بعبارة: "لو داومَ الناسُ على مطالعة وقراءة هذا الكتاب لتوقَّفَ انتشارُ الدين المسيحي كلياً، وتأبى النفوس من قبوله ويرجعون إلى الإسلام".
وقد طبع هذا الكتاب عشرات المرّات في تركيا ومصر وسورية ولبنان، وقام القسيسون ورجال الهيئات التنصيرية بمصادرة نُسخِهِ وإتلافها حتى لا تصل إلى أيدي الناس في البلدان العربية. والجدير بالذكر أيضاً أنّ الهيئات المختصة بالهند في عهد الحكومة البريطانية منعت طبعَ وتداول مؤلفات الشيخ رحمت الله، ومجازاة كلّ مَنْ يقوم بطبع ونشر مؤلفاته، ولكن مع ذلك ظلت كتبه، رحمه الله، محفوظةً مصونةً في البيوت والمكتبات القديمة، وفي صدور العلماء ورجال التاريخ.
ويرى العَّلامةُ الشيخ أبو الحسن الندوي، رحمه الله، أنَّ كتاب "إظهار الحق" الذي بين أيدينا، يمتاز على غيره بعدة ميزات من أهمها( ):
أولاً: أنّ المؤلف آَثَرَ خطّة الهجوم على خطّة الدفاع التي لا تزال أقوى وأكثرَ تأثيراً في النفس، فإنها تُلجئ الخصمَ إلى أن يتّخذ موقف الدفاع، وأن يقف في قفص الاتهام، ويدافع عن نفسه وينفي التهمة.
ثانياً: أنّ المؤلِّفَ تجنَّب البحوث الدقيقة التي يتَّسعُ فيها مجال الجدال، ويكثر فيها القيل والقال، بل اعتمد في الكتاب على التناقضات الواضحة، والبديهيات الجليّة، التي لا تقبل التأويل، واستخرجَ منها نتائج، كنتائجَ رياضيةٍ لا يختلف فيها اثنان، فقد أثبتَ أنّ التوراة والإنجيل مليئةٌ بالاختلافات والتناقضات، وقد وقعت فيها أخطاء فاحشة عدَّ منها مائةً وثمانية أخطاء، وبرهنَ بذلك على أنها كلّها ليست إلهاماً من الله، وأنّ التحريف قد وقع في "الكتاب المقدس" لا محالة.
ثالثاً: تعرَّضَ المؤلِّفُ فيه لمغالطات النصارى وتمويههم، وردّ عليها في أسلوبٍ سائغٍ مُقنعٍ، وتعرَّض لإثبات النسخ ووقوعه في الديانتين السابقتين وصحفهما.
رابعاً: وضع المؤلف العلاَّمةُ حقيقةَ عقيدة التثليث النصرانية على محكّ العقل، ونقدها نقداً علمياً يستسيغه كلُّ مَن رزق العقل السليم والذوق الصحيح.
خامساً: لم يكتف المؤلف بنقد المسيحية وعقائدها وصحفها، بل أضاف إلى ذلك الحديث عن القرآن الكريم وإثبات أنه كلام الله، لا شكَّ في ذلك، وأجاب في هذا الصدد على كلّ ما عارضه به النصارى، واعترضوا على القرآن، وذكر في ذلك نبذةً عن سيرة الرسول ومعجزاته والبشارات التي وردت في شأنه. وقد ذكر ثماني عشرة بشارةً، وحقَّقَ صحّة الأحاديث، لذلك كان الإقبال على هذا الكتاب كبيراً والعناية به عظيمةً.
ويمكننا بعد قراءة هذا الكتاب القيِّم الضّخم أن نقفَ فيه على الكثير من المواضيع التي تهمّ وتخدم موضوع دراستنا هذه، والتي تأتي في البابين الخامس والسادس منه، وذلك بعد الانتهاء من الأبواب الثلاثة الأولى من نقدِ ونقضِ وتفنيدِ كتب العهد القديم والعهد الجديد وإثبات تحريفهما وإبطال التثليث. ومن أبرز ما يهمّنا فيه حديثه، رحمه الله، عمّا يلي:
1. إثبات كون القرآن الكريم كلام الله ومعجزاً ودفع شبهات القسيسين على القرآن وقولهم بأنه ليس في الدرجة القصوى من البلاغة، وأنه مُخالِفٌ لكتب العهد العتيق والجديد في مواضع وبالتالي فهو ليس من كلام الله. وقد أفرد لذلك مائةً وسبع صفحات.
2. دفع شبهات القسّيسين الواردة على الأحاديث النبوية الشريفة. وقد أفرد لذلك خمساً وثلاثين صفحةً.
3. إثبات نبوّةٍ محمد ودفع مطاعن القسيسين فيها ودفع شبهات علماء النصرانية والردّ عليها، وقد أفرد لذلك مائةً وتسعاً وستين صفحةً.
4. دفع مطاعن القسيسين المتعلّقة بالجهاد، وعدم ظهور المعجزات على يد رسول الله وبيان كذب ذلك، ودفع الشبهات المتعلقة بزوجات الرسول ، ثم دفع شبهة أنّه كان مُذنباً. وقد أفرد، رحمه الله، لهذه الردود والدفوع أربعاً وخمسين صفحةً.
رحم الله الشيخ الهندي الكيرانوي وجعل هذا العمل الجبّارَ في ميزان حسناته إلى يوم الدين، فله أجرُه وأجرُ مَن قرأه وأفاد منه في الذّود عن هذا الدين والحبيب المصطفى إن شاء الله تعالى.
سابعاً: نعمان بن محمود الألوسي
يُعتبرُ الإمام الألوسيّ( )، رحمه الله، مؤلف كتاب "الجواب الفسيح لما لفَّقَهُ عبد المسيح"( ) خيرَ مَن ردَّ ردّاً شافياً وافياً على "الرسالة الإسلامية والجواب المسيحي عليها" أو "رسالة عبد الله بن إسماعيل الهاشمي إلى عبد المسيح بن إسحاق الكندي". وهي الرسالة التي أوردنا نصّها وبعضاً من نصّ الرسالة الجوابيّة عليها في المبحث الثالث من الفصل الرابع السابق. وقد مرَّ معنا التشكيكُ في صحّة وجود طرفيها وأنّ أسماءهما إنما هي لشخصين وهميين. وقد تصدّى الألوسي، رحمه الله، لموضوع هاتين الرسالتين كاملاً، وكتبَ فيه باستفاضةٍ مفيدةٍ، وخلُصَ إلى نتيجةٍ مفادها عدم وجود أصلٍ قديمٍ لهما يعود لعصر الخليفة المأمون، وبل وعدم ذكرِ أيِّ مصدرٍ تاريخيٍ معتمدٍ لأيٍّ من نصيّهما أو الترجمة لصاحبهما. والذي ترجّح لديه، رحمه الله، أنّ جماعةً من النصارى المتأخّرين (من طائفة البروتستنانت) هم الذين قاموا باختلاق ووضع هاتين الرسالتين المزيّفتين وكتبوا لهما تاريخاً قديماً مزّوراً يعودُ لزمان حكم المأمون في القرن الهجري الثالث. وقد استدلَّ على صحّة استنتاجه هذا بقوله: "ومما يدلُّ على التزوير والافتراء: أنَّ المؤلِّفَ إذا ذكر آيةً من آيات التوراة أو الإنجيل يذكرُ بجوارها اسم السفر ورقم الإصحاح. والرّقم الذي يذكره هو مطابقٌ للرقم المذكور الآن في طبعات البروتستانت للكتاب المقدّس. وهذا يدلُ على أنّ المؤلِّف من البروتستانت، وأنّه من العلماء"( ).
وقد اتّبع الألوسيّ، رحمه الله، منهجاً سهلاً وسَلِسَاً في ردّه على رسالة عبد المسيح حيث كان يضع عبارات المسمّى (عبد المسيح) بنصّها ثم يُتبعها بالردِّ والتفنيد والنقد. كما صَرَّحَ، رحمه الله، في مقدّمة الكتاب بأنّه استفاد من خبرات علمائنا السّابقين في الردّ على النصارى واستعان بكتبهم مثل كتاب "هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى" للإمام ابن قيّم الجوزية، وكتاب "إظهار الحق" للشيخ رحمت الله الهندي الكيرانوي. وقام منهجه على استخدام الحجج النقليّة والعقلية على السّواء. وقد كان وقوفه على نصّ الرسالة السابق ذكرها السبب المباشر الذي دعاه لتأليف هذا الكتاب الضخم( ) النافع فقال: "رأيت في السنة الرابعة بعد الثلاثمائة وألفٍ من هجرة النبيِّ الأشرف أوراقاً مطبوعةً في لندن سنة 1880م بالضّلال والبُهتان مشتملةً على تقديم دين النصارى على سائر الأديان، طاعنةً دين الإسلام بكل قصيرِ رمحٍ وكليل سنانٍ، مزخرفةً بالأكاذيب على الله تعالى ورسوله ممّا لم تسمعها الآذان منسوبةً إلى "عبد المسيح بن اسحق الكندي" مُجيباً بها في زمن "المأمون العباسي" رسالة "عبد الله بن إسماعيل الهاشمي" حينما دعاه فيها إلى دين الإسلام القويِّ الدِّعام .. وأنّ الصائغ لهما عصريٌ، أو زنديقٌ متقدمُ العصر أراد ترويجَ الغيّ، وأن ينسخ نور الشمس بالفيء. ولعمرى أنّ باطلها لا يخفى على ذي عينين .. ولقد قدّمتُ رِجْلاً وأخّرت أخرى عن ردِّ باطلها، وبيان عاطلها، واستعظمتُ أن أنطلقَ ولو على طريقةِ النقل بكلماتها، أو أحرِّرَ بقلمي على سبيل الردّ قبيحها، لأنَّ ما فيها يحكي العواءَ على بدر السماء، غير أنَّ جَهَلةَ النصارى ربما يختلجُ في أذهانهم عجزُ المسلمين عن ردِّ هذيانهم فأسرعتُ لردّ الجواب، واقتديتُ بمنَ قبلي من الأجلّة الداخلين في هذا الباب، الذين أتوا بالحكمة وفصل الخطاب، فشرعتُ فيه طالباً للتوفيق والإمداد، متكلاً على من تنزّهَ عن الصاحبة والأولاد، سائلاً منه جلَّ وعزَّ الهدايةَ والتيسيرَ والحفظَ من كيد الأعداء والحُسّاد، مُسميّاً له بـ الجواب الفسيح لما لفقه عبد المسيح"( ).
وقد لا يكون هذا الكتاب الذي بين أيدينا شهيراً، وهو قليلُ التداول، قليل الوجود في المكتبات لكنّه هامٌ تصدّى فيه المؤلف لنقد معتقدات اليهود والنصارى كما تصدّى للردّ على كلّ الشبهات التي ذُكرت في الرسالة السابقة ردوداً شافية، خُصوصاً إذاما تذكّرنا أنّ الشبهات الواردة فيها هي الجذر الأساس للكثير من الشبهات المُغرِضة الموجودة اليوم على بعض مواقع الإنترنت المسيحية التي تخصّصت في الإساءة للإسلام والحبيب المصطفى . وقد كان من أبرز هذه الشبهات التي أجاب عليها الألوسيّ، رحمه الله:
1. شبهة مرض موت النبي .
2. شبهة إنتشار الإسلام بالسّيف.
3. شبهة كتابة القرآن بعد موت النبي .
4. شبهة اللحن والتحريف الموجودين في اللغة العربية.
5. شبهة خداع النبي للعرب بالنبوّة وأنّه لم يكن نبيّاً.
6. شبهة وجود التناقض في القرآن.
7. شبهة ظهور المعجزات والخوارق على يد أيِّ إنسانٍ.
8. شبهة أنّ المسلمين الذين يُقتلون في سبيل الله ليسوا شهداء.
9. شبهة أنّ القرآن يدعو إلى الملذّات والشّهوات.
10. شبهة أنّ المسلمين ضالّون.
رحم اللهُ الإمام الألوسي، العلاّمة الذي سَخَّرَ جهده ووقته وإمكانياته للذود عن دين الله تعالى وحبيبه المصطفى، وردّ السّهام إلى نحور أصحابها المُبغضين الكارهين ....
ثامناً: الشيخ عبد الرحمن الجُزيري
في معرض حديثنا عن الردّ على مؤلَّفٍ بعينه، وكما استعرضنا في الصفحات الماضية "الردّ على الرسالة الإسلامية والجواب المسيحي عليها" نستعرض فيما هو آتٍ الردّ على كتاب القس فندر المُسمّى "ميزان الحقّ". وهو الكتاب الذي كان هذا القس يُكثرُ الاستشهاد به في مناظرته للشيخ رحمت الله الهندي، رحمه الله، ويرى أن المسلمين لا طاقة لهم به، ولا يقدرون على معارضته والردّ عليه. وقد انبرى الشيخ عبد الرحمن الجزيري( )، رحمه الله، للردّ على هذا الكتاب في كتابٍ سمّاه "أدلة اليقين في الردّ على كتاب ميزان الحق"( ). ومع أنّ الشيخ رحمت الله الهندي قد تصدّى في كتابه "إظهار الحق" للرّد على كتاب القس فندر وبذل مجهوداً عظيماً في الردّ على فرضيّاته ونظرياته، إلاّ أنّ الشّيخ الجزيري قد ألف "أدلة اليقين" للردّ على الكتاب المذكور ذاته وقد علََّلَ ذلك بقوله: "نعم أنّ الأستاذ الجليل المرحوم الشيخ رحمت الله الهندي، أكرم اللهُ مثواه، قد بذل مجهوداً كبيراً في الردّ على بعض نظريات هذا الكتاب وأقام الدلائل القاطعة على تحريف التوارة والإنجيل في كتابه "إظهار الحق" ولكن قد جاء بعد ذلك قسيسٌ آخر اسمه "الدكتور تسدل" فأضاف إلى هذا الكتاب مطاعنَ كثيرةً وحذف منه عباراتٍ جمّةً ليردَّ بذلك على الأستاذ الشيخ رحمت الله. وقد زعم أنَّ زيادته هذه بناها على الكشف العلميّ. فمن أجل ذلك كلّه رأيتُ أن أردَّ على كتاب ميزان الحق في جميع ما جاء به وبذلك يتم الردّ على جميع المبشّرين"( ).
ولعلّ تصدّي اثنين من أبرز علماء المُسلمين في القرن الثامن عشر للردّ على كتابٍ بعينه أكبرُ دليلٍ على مدى خطورة هذا الكتاب على الإسلام والمسلمين. فما الذي احتواه هذا الكتاب الخطير يا تُرى؟؟ في الواقع لقد حلّل الشيخ الجزيري، رحمه الله، في مقدمة "أدلة اليقين" أقسام هذا الكتاب وأبرز ما اشتمل عليه على النحو التالي( ):
لقد قسَّم المؤلفُ كتابه إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول ادّعى فيه عدم تحريف التوراة والإنجيل وعدم نسخ شيءٍ منهما فلا الانجيلُ ناسخ للتوارة ولا القرآنُ ناسخ لشيءٍ من التوارة والانجيل، وكلُّ ما فيهما وحيٌ من الله تعالى مهما كان مضادّاً للعقل ومنافياً لما يقتضيه نظام الله في خلقه. ومها كان مشتملاً على نقائصَ في الأنبياء مِن أحطّ ما يُوصَفُ به السفلُة الأدنياء ومهما كان مشتملاً على أغاليطَ علميةٍ وتاريخيةٍ صريحةٍ لا يمكن تأويلها. وقد استدل على دعواه هذه بشهادة القرآن للتوارة والإنجيل، وبأنَّ كلام الله لا يصح تبديله ولا نسخه كما قال المسيح (تزول السموات والأرض ولا يزول كلامي) وكما قال تعالى: (لا تبديل لكلمات الله).
أمّا القسم الثاني فقد أدّعى فيه أنّ التعاليم الصحيحة النافعة هي تعاليم الإنجيل التي من بينها مسألة التثليث وصلب الإله لتخليص العالم من الخطيئة.
أمّا القسم الثالث فزعم فيه أنّ الكتاب المقدَّس (التوراة والإنجيل) لم يرد فيه شيءٌ يدلُّ على نبوّة سيدنا محمد بل الإشارات التي فيه عن النبوّة إنما هي تنطبق على عيسى عليه السلام. وقد هجم في هذا القسم على كتاب الله الكريم وعلى رسوله الصادق الأمين هجوماً جريئاً يدلُّ على جهالةٍ وسوء أدبٍ لا حدَّ لهما.
ومع أنّ كتاب القس الدكتور فندر يفيضُ بقلَّة الأدب والتطاول على القرآن الكريم والإسلام والرسول الكريم إلا أنّ الجزيري، رحمه الله، يقرِّرُ وبكل علوٍّ ونزاهةٍ وأدبٍ أَلاَّ ينزلق كما انزلقوا وكانوا بوراً فيقول( ): "وإنني أعاهد القرّاء وأشُهد اللهَ على أنني لا أحيد عن البراهين العلمية قيدَ شعرةٍ، ولا أخرج في كتابتي عن الأدب إلاّ حيث يخرجون على الله ورسوله، ومع ذلك سأُغضي عن كثيرٍ من سفاهتهم وأَكِلُ أمرهم إلى البراهين العقلية الجازمة التي تُظهرهم للناس في مظهرهم الصحيح".
وبما أنّ كتاب القس فندر كان يتكوَّنُ من ثلاثةِ أقسامٍ فقد وقع الردّ عليه في كتابٍ يتكون من ثلاثة أقسامٍ كذلك، حيث ناقش الجزيري، رحمه الله، في قسمهِ الأول أدلّة "ميزان الحق" على عدم تحريف التوراة والإنجيل ونقدها ونقضها دليلاً دليلاً. ثم استعرض الفهم الخاطئ والتفسير المغلوط الذي استدل به فندر من القرآن على صحّة التوراة والإنجيل، وساق ثلاثةَ أدلةٍ دامغةٍ على تحريف الإنجيل وساق عشرةَ اعترافاتٍ على تحريف الإنجيل وخمسةً أُخرى على تحريف التوارة، مُستنبِطاً إياها من كتاب فندر نفسه. وفي القسم الثاني من هذا الكتاب أورد الجزيري، رحمه الله، أدلّة فندر العشرة على إثبات صّحة عقيدة الثالوث ثم ناقشها ونقدها واحداً تلو الآخر. ولعلّ القسم الثالث من كتاب الجزيري، رحمه الله، هو أكثر ما يهمّنا في هذه الدراسة ألا وهو التصدّي لمطاعن "ميزان الحق" في الإسلام ونبوّة محمدٍ ، حيث ردّ على المطاعن كلّها وأقام الأدلّة على صدق رسالته عليه الصلاة والسلام، من نبؤات التوراة والإنجيل، ومن معجزات رسول الله نفسها، وردَّ على شبهات فندر حول القرآن الكريم وحسيّة الجنة ونعيمها وقام بتصويب سوء الفهم لبعض الآيات التي استشهد بها فندر على ذنب وأوزار سيدنا محمدٍ مثل آية "ووضعنا عنك وزرك" وآية "واستغفر لذنبك" كما تصدّى الجزيري، رحمه الله، للردّ على مطاعن المستشرقين في الجهاد وفي الفهم الإسلامي للقضاء والقدر، وشبهاتٍ أُخرى تتعلّق بزوجات النبي وخيالات المبشّرين حول عفّته ونزاهته، عليه السلام، وما يتخيَّلونه من أخطاء نحويّةٍ في القرآن الكريم وامتلائه بالأخطاء التاريخيّة!!!
تاسعاً: الشيخ أحمد ديدات
لكلِّ فعلٍ ردُّ فعلٍ مساوٍ له في المقدار ومعاكسٌ له في الاتجاه. هذه وباختصارٍ، كانت حكاية بداية سير الشيخ ديدات( )، في طريق دراسة المسيحيّة والكتاب المقدّس ونقد عقائدها وإسكات المبشرّين والرهبان، الذين دأبوا على الطعن في الإسلام ونبوّة الحبيب المصطفى . وقد حكى الشيخُ ديدات، رحمه الله، وابنه يوسف هذه القصّة للدكتور عبد الله قادري الأهدل( ) عند زيارته لهما عام 1999 للميلاد في فترة مرضه، رحمه الله تعالى، وقد روى الدكتور الأهدل بدوره هذه الحكاية في مؤلَّفه الضخم "سلسلة المشارق والمغارب" على لسان الداعية ديدات فقال: يقول الداعية: إنّه بعد أن انتهى من المدرسة، عَمِلَ في أحد المحلات لبيع السكر والملح والدقيق والأرز، وكان المكان يبعدُ عن مدينة دربن مائةً وخمسةً وعشرين ميلاً. وكانت توجد في الجانب الآخر من موقع الدكان إرساليةٌ مسيحيةٌ جامعيةٌ تُسمّى: (آدمز مشين) وهي تقوم بتدريس الطلاب المسيحية وتدرّبهم على مواجهة الإسلام والمسلمين بالشُّبَهِ والتشكيك في دينهم. وكان بجانب هذه الكليّة مئات المنازل الصغيرة التي يسكن فيها السُّود. وكان الطلاب المتدرِّبون يزورون أحمد ديدات والعاملين معه في الدكّان، ويُلقون عليه أسئلةً وشبهاتٍ يهاجمون بها الإسلام، ولم يكن يعرف هو وزملاؤه شيئاً عن ذلك. ومن ضمن تلك الأسئلة والشبهات ما يأتي:
هل تعلمون أنّ محمد كانُ يكثرُ من الزوجات؟
وهل تعلمون أنه أخذ القرآن عن اليهود والنصارى؟
وهل تعلمون أنه نشر الإسلام بحدّ السيف وأكره الناس على ذلك؟
قال الداعية: وقد أحال هذا الهجومُ على الإسلام حياتنا إلى بؤسٍ وعذابٍ وشقاءٍ، وأحدثَ عندنا حيرةً وقلقاً بسبب عدم معرفتنا شيئاً نردّ به عليهم. وكنت أرغبُ في ترك المحلّ والهرب إلى مكانٍ آخر، ولكنّ ذلك كان مستحيلاً، لصعوبة وجود مكانٍ آخر. وأخذت أتساءل: كيف أتصرفُ؟ ويسَّر اللهُ الحلّ! فقد كنت أقلِّبُ رزماً من الجرائد والمجّلات القديمة في مخزنٍ رئيسيٍ في العمل، وهي مليئةٌ بالغبار، فوجدت كتاباً بين تلك الجرائد تنتشرُ عليه الحشرات، وفتحته من باب الفضول .. فإذا هو باللغة العربية بعنوان (إظهار الحق) .. وقرأت الكتاب فوجدته يتناول هجمة النصارى على الإسلام في موطني الأصلي (الهند) ووجدتُ أنّ الكتاب طُبِعَ قبل ولادتي بثلاث سنوات، فقد كانت طباعته في سنة: (1915م) وأنا وُلدتُ في سنة (1918)م.
وقرأتُ الكتاب ـ إظهار الحق ـ فوجدتُ فيه من المعلومات والمناظرات ما كان له أكبر الأثر في حياتي، وجعلني أعزم على مواجهة المسيحيين، لأنّ في الكتاب ما يجعلني مُسَلَّحاً قوياً في مواجهتهم، ووجدتُ موقف النصارى هو نفس موقفهم في جنوب أفريقيا. وشعرت بعد قراءتي هذا الكتاب أنني أستطيعُ الآن أن أدفع عن نفسي وعن الإسلام. وبدأتُ أتصدى للمسيحيين بالمعلومات التي تعلّمتها من الكتاب، وأزورهم في بيوتهم كلَّ يوم أحدٍ وأناقشهم، وكنتُ أقابلهم بعد خروجهم من الكلية لأحاورهم. ومن خلال تلك المناقشة تعلّمتُ كيف أجادل وأناقش ...
ويُستفاد من هذه القصة التي رواها الشيخ ديدات ـ رحمه الله ـ أمران هامّان:
الأمر الأول: مدى مساهمة الاستفزازات التي يقوم بها الرهبان والمبشّرون، ومحاولاتهم الطعن في الإسلام ونبوّة محمدٍ ، في الكشف عن العديد من المواهب الـمُسلمة وتقديمها لنا دون قصدٍ منهم لذلك، وعلى سبيل المثال فقد ساهمت استفزازات القس الدكتور "فندر" لمُسلمي الهند في ظهور العلاّمة رحمت الله الهندي، كما ساهمت استفزازات رجالات إرسالية (آدمز مشين) لمُسلمي جنوب أفريقيا في ظهور العلاّمة أحمد ديدات، رحمه الله تعالى.
الأمر الثاني: أهميّة تأليف مثل هذا النّوع من الكتب، التي سخّر الله تعالى وسّهل لمؤلِّفيها الردَّ على أهل الكتاب وما يعتملُ في صدورهم من شبهاتٍ وأضاليل قديماً وحديثاً، ولنذكر على سبيل المثال، لا الحصر، الأثر العظيم الذي تركته قراءةُ كتاب "إظهار الحق" للشيخ رحمت الله الهندي في حياة الشاب أحمد ديدات، حيث ساهمت في استثارة طاقاته الكامنة وصنعت منه عَلَمَ المسلمين الأبرز في مبارزة ومناظرة أهل الكتاب في القرن الماضي دون منازعٍ. ولعلّ أكثر ما يفيد موضوع دراستنا هذه من حياة الشيخ ديدات، رحمه الله، هو المجهود الجّبار الذي بذله في الردّ على مطاعن الرهبان والقسيسين في الإسلام ونبوّة محمدٍ حيث أنَّ هذه المطاعن، كما أسلفنا، هي التي أوقدت في قلبه شعلة التحدّي والرغبة في الردّ على التشكيك والطّعن. وقد توضّح ذلك من خلال مناظراته العديدة ومؤلّفاته التي زادت على العشرين والتي خصّصها كلّها لنقد عقائد النصارى وردّ شبهاتهم ومطاعنهم في الإسلام والقرآن الكريم ونبوّةٍ محمدٍ .
أولاً: أبرز مناظراته( )
ما مِن شكّ في أنّ أبرز وأول مناظرةٍ سلّطت الضوء على الشيخ ديدات ـ رحمه الله ـ كانت تلك التي عُقدت في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1986م. فطيلة أكثر من خمسين سنةً قضاها ديدات في المحاضرة والمناظرة لم يكن يعرفه إلا بعضُ المختصّين في الأديان، حتى كان العام 1986م، حين لجأ إليه بعضُ الطلاب المسلمين في الولايات المتحدة الأمريكية ليُناظرَ القسّ الأمريكي التلفزيوني الشهير "جيمي سواجارت". كانت شهرة سواجارت طاغيةً، فقد وصلت إلى مائةٍ وأربعين دولةً، حيث كان الناس في هذه البلدان يستمعون إلى حديثه الأسبوعي مترجماً إلى عددٍ من اللغات، واستطاع أن يحصل على أكثر من مائةٍ وأربعين مليون دولار سنوياً، وكان يُعتبر أكثرَ المنصّرين نفوذاً في العالم. "وقد حظي سواجارت بسمعةٍ غير طيّبةٍ لدى المسلمين؛ فقد كان دائمَ الهجوم والتطاول على القرآن الكريم والرسول، ، حتى قال في أحد أحاديثه [إنَّ الخطر الذي يهدّد الحضارة الغربية الآن ليس هو الشيوعية والاتحاد السوفيتي إنما الإسلام الذي يغزو بلاد الغرب بصورةٍ مذهلةٍ]، وذَكَّرَ المشاهدين بأن لندن عاصمة فيكتوريا التي كانت تحكمُ العالم الإسلاميَّ كلَّه، أصبحت تأوي أنشطَ مركزٍ إسلاميٍ في العالم.
أمّا عن مناظرة سواجارت مع ديدات، فقد أعادت كثيراً من الراحة إلى نفوس المسلمين في أمريكا، بعد الحنق والغيظ الذي اعتمل في نفوسهم من جرّاء تطاول هذا القس الذي بدا في مناظرته مع ديدات وديعاً لطيفاً هادئاً على غير ما يعرفه الناس؛ إذا اختفت حركاته التليفزيونية أمام الهيبة التي أحاطت بالشيخ أحمد ديدات. وحينئذٍ انتبه العالَمُ لهذا الرجل المتواضع الذي جاء من جنوب أفريقيا ليتحدّى أشهر مبشّرٍ تليفزيوني، وليقفَ سواجارت مكتوفَ الأيدي أمام طلاقة هذا الرجل وحُجَجِه العقلية، لتكون بدايةَ النهاية لهذا القسّ الذي بدأ يخبو سراجُه مع هذه المناظرة، حتى انطفأ السراج تماماً حين عُرف عن سواجارت تورّطه في قضايا أخلاقيةٍ واعترافه بها، فانتهت بذلك أسطورةُ المبشِّرِ الفذّ وسقط نهائياً أمام الملايين من مشاهديه"( ).
بعد الدويّ الكبير الذي أحدثته مناظرته مع سواجارت، كان المنصّرون الكبار هم الهدف الأول للشيخ أحمد ديدات، فقد دعاهم للمناظرات التي كانت محطَّ انظار العالم، وكان من أشهر خصومه في هذه المناظرات "ستانلي شوبرج" راعي الكنيسة الإنجيلية في السويد، والمنصِّر الأمريكي "ديفيد كلارك". وفي بعض الأحيان كان المنصّرُ هو الذي يتحدّى ديدات ويطلب مناظرته؛ مثل القس "أنيس شوروش"، الذي رأى في نفسه من القوة والشجاعة والعلم أن يتحدى ديدات، حيث شوروش كان يرى أنَّ سواجارت وغيره لم يكونوا مؤهّلين لمناظرة ديدات، أما هو فكفؤٌ له؛ فهو حاصلٌ على الدكتواره في اللاهوت، ومتخِّصصٌ في نقد الدين الإسلامي وإبراز معايبه ومثالبه!.
وفي إحدى المناظرات كان الدكتور أنيس شوروش بين الحاضرين ووجَّه تحدياً لديدات، ودعاه لمناظرته فلبّى ديدات دعوته بكل سرورٍ، وعُقدِت مناظرتان كبيرتان استغرقت إحداهما أكثرَ من خمس ساعاتٍ، وساهمت هي الأخرى في رفع أسهم ديدات شعبياً وإعلامياً وقد اشتُهِرَ ديدات في موطنه بتلك المناظرات المكثّفة التي كانت تُقام في مدينة "كيب تاون". "وكيب تاون" مدينة ذات طبيعةٍ خاصة، فهي تتميز بكثافة سكانيةٍ إسلاميةٍ عاليةٍ، لكنّ أوضاع المسلمين فيها ليست على ما يرام وبالمقابل تتميز بأغلبيةٍ قويةٍ ومنظمةٍ جداً من المسيحيّين، بالإضافة إلى أنها ذات موقعٍ مهمٍّ، ولها ثقلها التجاري والسياسي. وقد كانت مناظراته مع الأسقف "جوسيه ماكدويل" في ديربان عام 1981م من أشهر مناظراته داخل جنوب افريقيا، وكان عنوانها "هل صُلب المسيح؟".
ولم يكتف الشيخ ديدات، رحمه الله، بمناظرة الرهبان والقساوسة، فقد بعث برسالةٍ إلى البابا يوحنا بولس الثاني الراحل، يدعوه فيها للحوار العلنيّ، وقد تقدّم معنا القول في دعوة هذا البابا الراحل للحوار مع المسلمين، أكثر من مرّةٍ، وفي أكثرَ من مناسبةٍ واستجابةً لدعوات البابا المتكررة أرسل الشيخ أحمد ديدات إليه رسالةً أعرب فيها عن قبوله لإجراء مثل هذا الحوار في لقاء علنيٍّ في ميدان القديس بطرس في روما مقرّ البابوية، وفي الوقت والزمان المناسب الذي يختاره البابا.
ولمّا لم يردّ البابا على تلك الرسالة، عاود الشيخُ ديدات الكرّة، وأرسل ثلاثةَ خطاباتٍ أخرى وبرقيةً، وهنا ردَّ بابا الفاتيكان مقترحاً إجراء هذا الحوار في سكرتارية الفاتيكان وليسَ في مكانٍ علنيٍّ. حينئذٍ ردّ الشيخ ديدات على بابا الفاتيكان برسالةٍ جاء فيها:
"يُسعدنا أنكم تسعون للترتيب لإجراء لقاءٍ معنا، ولكننا نتمسك بأنْ يكون هذا اللقاء علنياً،كما كان خطابنا المفتوح إليكم، والذي اقترحنا فيه مثل هذا اللقاء، وذلك من أجل البلايين المؤمنة بالمسيحية والإسلام، من أجل الحقيقة وإرضاء الربّ، ومع هذا فإنه من الممكن اللقاء معكم حسب رغبتكم في السكرتارية، ولكنَّ هناك العديد من المسلمين في جنوب أفريقيا والذين يُصرُّون على حضور هذا اللقاء، لذلك نرجو إفادتنا عن الإمكانيات المتاحة في سكرتارية الفاتيكان والخاصّة بإسكان هؤلاء، ونظراً لوجود آلافٍ آخرين ممن يرغبون في حضور هذا الحوار، فإننا نطلب أيضاً تصريحاً بتصوير اللقاء بأجهزة الفيديو حتى تصل مناقشتنا إلى الملايين الذين يودُّون الاستفادة من الحوار"( ).
وبعد أكثر من شهرين من الانتظار تمَّ إرسالُ برقيتين أُخريين، إحداهما إلى سكرتارية الفاتيكان والأخرى إلى البابا ذاته، وبعد شهرٍ آخر، تم إرسال برقيتين أُخريين دون جدوى!!.
ثانياً: أبرز مؤلَّفاته
زادت مؤلَّفاتُ الشيخ ديدات، رحمه الله، على العشرين. تخصّص معظمها في نقد معتقدات النصارى وبيان التناقضات في الكتاب المقدّس. ويعنينا في هذه الدراسة، وبالدرجة الأولى، الوقوف على أبرز مؤلّفاته التي ردّ فيها على مطاعنهم في الإسلام ونبوّةٍ محمد .
فقد خطّ الشيخ، رحمه الله، كتاب "محمد أعظم عظماء العالم" وكان قد افتتحه بكلام الأستاذ مايكل هارت صاحب كتاب “The 100: A ranking of the most influential persons in history” والذي تُرجم إلى العربية تحت عنوان المئة الأوائل، حيث صّنف فيه المؤلِّفُ هارت رسولَ الله على أنه أكثر الأشخاص تأثيراً في العالم وقال( ):
"يجوز أن يُدهِشَ اختياري محمداً ليكون على رأس قائمةِ أكثر الأشخاص تأثيراً في العالم بَعْضَ القُرّاء، وربما كان ذلك عُرْضَةً للاستفسار من آخرين، ولكنّه كان هو الرجل الوحيد في التاريخ الذي تحقق له النجاح الكامل ـ كل الكمال ـ على المستوى الديني وعلى المستوى الدنيويّ. لقد وضع مُحمِّدٌ أسس واحدٍ من أعظم الأديان في العالم، وقام بنشرها استناداً إلى مصادرَ جدِّ ضئيلةٍ، وأصبح أيضاً قائداً سياسياً عظيم التأثير. واليوم، بعد أكثر من ثلاثة عشر قرناً بعد وفاته لا يزال تأثيره قوياً واسع الانتشار".
لقد تقصَّدَ ديداتُ، رحمه الله، أن يبدأ كتابه هذا بعبارة مايكل هارت السابقة وهو يدركُ تماماً أنَّ كتابه هذا موجّةٌ لأهل الغرب المسيحي بالدرجة الأولى، ثمَّ أتبع ذلك بذكر أهمّ أحداث ووقائع السيرة النبوية الشريفة واقفاً عندها وقفةَ المحلِّلِ الواعي الذي يُدرك أنَّ كتابه هذا سيكون باباً من أبواب تعرُّفِ الغربيين عن قربٍ على شخصيّة وسيرة الحبيب المصطفى فركَّزَ على أبراز الجوانب الأخلاقيّة والإنسانية الكريمة في حياته، عليه الصلاة والسلام، واختتم كتابه بالتركيز على حقيقة كون الإسلام أسرع الأديان نمواً وانتشاراً في واقعنا المعاصر، ليفهم القارئ أنَّ أخلاقه وإنسانيته ومعاملته، عليه السلام، إنّما كانت مقدّمةً هامةً وسبباً رئيسياً لهذا النموِّ والانتشار للإسلام اليوم.
أمّا في كتابه "ماذا يقول الكتاب المقدّس عن محمد " فقد ظهرت عبقرية ديدات، يرحمه الله، وهو يسوق النصَّ تلو النصّ من الكتاب المقدّس ويفصّل القول في شرحها وبشاراتها بمحمدٍ ليخدم بذلك عنوان الكتاب والتعليق الصغير الذي وضعه تحته على الغلاف فقال (محمد مذكورٌ بالاسم في نُسَخِ الكتاب المقدّس الذي بين أيدينا).
ولئن كان مجهود الشيخ ديدات، رحمه الله، واضحاً في هذين الكتابين في التعريف بنبوَّته عليه السلام إلاّ أنّ مجهوده الأبرز والأوضح في هذا المجال كان الردَّ على كتاب "الآيات الشيطانية"( )، لمؤلَّفه المرتدِّ سلمان رشدي. وهذا الكتاب ومؤلّفه يستحقان من دراستنا وقفةً غيرَ ذاتِ عجالةٍ، وذلك لخطورة مضمونه وللآثار التي نجمت عن نشره في العالم وقد أورد ديدات، رحمه الله، الردّ الشافي على مضمون كتاب سلمان رشدي في كتابٍ سمّاه "كيف خدع سلمان رشدي الغرب". وهو الكتاب الذي ترجمه إلى العربية الأستاذ علي الجوهري وأضاف على عنوانه عبارة "شيطانية الآيات الشيطانية". وسنوردُ في مبحث الردود على شبهات ومطاعن الرهبان والمستشرقين الردّ الكامل على قصّة الغرانيق والتي تُعتبَرُ واحدةً من أبرز القصص المتهالكة التي استند عليها سلمان رشدي في كتابه السابق ... وتتلخَّصُ قصّة الآيات الشيطانية( ) في الحوارات التي كانت تنعقدُ دوماً بين الشخصيّتين الرئيسيّتين في الرواية وهما صلاح الدين جمجة، الذي هو هنديٌ عاش منذ صغره في المملكة المتحدة وانسجم مع المجتمع الغربي وتنكّر لأصوله الهنديّة، وجبرائيل فريشته الذي هو ممثّلٌ هنديٌ متخصّصٌ بالأفلام الدينية وقد فقد إيمانه بالدِّين بعد إصابته بمرضٍ خطيرٍ حيث لم تنفعه دعواته شيئاً للشفاء، حيث يجلسُ الاثنان على مقعدين متجاورين في الطائرة المسافرة من بومباي إلى لندن، ولكنّ الطائرة تتفجر وتسقط نتيجةَ عملٍ تخريبيٍّ مِن قِبلِ جماعاتٍ متطرفةٍ، وأثناء سقوط هذين الشّخصين تحصلُ تغييراتٌ في هيئتهما؛ فيتحول صلاح الدين جمجمة إلى مخلوقٍ شبيهٍ بالشيطان، وجبرائيل فريشته إلى مخلوقٍ شبيهٍ بالملاك. وفي أحد أحلام جبرائيل فريشته يرجع بنا سلمان رشدي إلى فترة صلح الحديبية ويبدأ فصلاً جديداً من الرواية بعنوان (ماهوند)، وهذا الفصل من الرواية جُرحَتْ فيه مشاعرُ المسلمين بصورةٍ عميقةٍ؛ حيث مرَّ معنا في الفصل الأول من هذه الدراسة المدلولات التي كانت تحملها تسميّة رسول الله بـ (ماهوند) بدلاً من محمدٍ . وإضافةً لهذه الإساءة القبيحة لشخصه، عليه السلام، نرى أنَّ هذا المرتدَّ رشدي قد ذكر في هذا الفصل من هذه الرواية قصّةً قذرةً تتحدّثُ عن وجود دارٍ للدعارة في مدينةٍ جاهليةٍ، كانَ يقصدُ بها مكّة المكرّمة، وأنَّ دار الدعارة تلك قد ضمّت بين جنباتها وغرفها اثنتي عشرةَ عاهرةً، وكانت الأسماء التي سمّاهن بها تتطابق مع أسماء زوجات رسول الله !!! إضافةً لاحتواء هذا الفصل من هذه الرواية على وصف تفاصيل الممارسة الجنسية التي كان ماهوند يقوم بها معهنّ!!!! لقد أثارت هذه الروايةُ القذرُ كلُّ ما فيها حفيظة المسلمين في العالم كلّه وأدت إلى خروج المظاهرات ووقوع المصادمات التي أودت بحياة أربعين مُسلماً آنذاك، ممّا استدعى علماء الأمة للنهوض والردّ، وكان أبرز الناهضين على الإطلاق الشيخ أحمد ديدات، رحمه الله، الذي توجّه في خريف عام 1989م إلى لندن وألقى محاضرةً بهذا الخصوص في أكبر قاعة بها للمحاضرات، (قاعة ألبرت الملكية) واستأجر الصالة لمدةّ خمسِ ساعاتٍ على نفقة المركز الإسلامي العالمي للدعوة الذي أسَّسه وكان يديره.
"لكنَّ الحكومة البريطانية لم تسمح للشيخ ديدات سوى بأربع ساعات، وكذلك لم توافق الحكومة البريطانية على أن يكون موضوع المحاضرة (كيف خدع سلمان رشدي الغرب How Rushdie Fooled the West) ممّا اضطرَّ الشيخ ديدات إلى تغيير الموضوع في الإعلانات إلى (تحدٍّ لعمالقة الأدب البريطاني) وقد حضر هذه المحاضرة أكثرُ من ستةِ آلاف شخصٍ من جميع الجنسيات العربية والأوروبية والآسيوية، إلاّ أنّه قد تمَّ منعُ الأطفال من الدخول مع تحذير النساء من الحضور مسبقاً أنّ في المحاضرة ما سيخدش الحياءَ الذي يسببه استدلال المحاضرة مباشرة من رواية (آيات شيطانية) التي استعمل فيها سلمان رشدي أقذرَ الألفاظ، إذ لا توجد أيّةُ صفحةٍ من روايته لا تخلو من الألفاظ البذيئة المقزِّزة والقذرة. وليس ذلك فقط بل تكلمّ رشدي عن السّود بشكل مقززٍ وعنصريٍ يدلُّ على أفكاره التي تدافع عنها دور النشر التي نشرت روايته"( ).
رحم الله الشيخ أحمد ديدات، فقد تكاملت في شخصيته كلُّ العوامل التي نرجو الله وجودها في العلماء والأساتذة الذين يتخّصصون في المجال الذي برع وتخصَّصَ فيه. لقد استفاد، رحمه الله، من وسائل الاتصال المعاصرة في نشر الدعوة وإيصال الأفكار والمعتقدات وكان يسافرُ إلى دول الغرب والقارّة الأمريكية ويناظر فيها كبار القساوسة والرهبان على اختلاف مِلَلِهم وطوائفهم، فنقل المعركة إلى أرض الغرب وحاربهم بسلاحهم وناظرهم بلغتهم الإنجليزيّة التي كان مُتقناً لها تمام الإتقان، بعكس حال الكثيرين من العلماء القدماء والمعاصرين الذين ردّوا على مؤلَّفات الرهبان ومطاعنهم بعد ترجمة أعمالهم إلى العربيّة، وبطبيعة الحال فإنّ هذا لا يقلل مِن قدرهم ومقدار جهودهم لا، ولكنّ محاججة الخصم بلُغته أوقعُ في النَّفسِ وأكثرُ جاذبيّةً وتأثيراً في المستمعين. ينبغي أن لا يغفلَ علماء المسلمين اليوم عن أهمية إتقان اللغة الإنجليزية والتي هي اللغة الأولى في عالمنا اليوم، لا لأنها لغة الأعداء كما يُقال أحياناً، ولكن لأنها وسيلةٌ من أبرز وسائل التخاطب والتواصل بين أهل الحضارات والأديان المختلفة، ولأنَّ الكثيرين من الذين يعتنقون الإسلام من أبناء الغرب لا يعرفون لغةً سواها.