دمشق.. حديث التاريخ والذكريات - دمشق.. حديث التاريخ والذكريات - دمشق.. حديث التاريخ والذكريات - دمشق.. حديث التاريخ والذكريات - دمشق.. حديث التاريخ والذكريات
دمشق.. حديث التاريخ والذكريات
د. أحمد نوفل
1- التاريخ إن حكى.
التاريخ.. شيخ كبير انحنى ظهره وتقوس، وهو حكّاء لا يتوقف، حديثه الحكمة والتجربة والخبرة والعبرة.. وقد عركته الأيام، وأنضجته التجاريب، فما أصبح حكيماً إلا بعد أن دفع ثمناً عظيماً.
وإني أقول: إن التاريخ بعد الوحي والكون، ثالث أعظم مصادر المعرفة. وإن كان بيننا مزهوداً فيه متغاضىً عنه، متجهّماً في وجهه، مدفوعاً بالأبواب.. مع أننا أمة التاريخ.. والأمة التي ثلث كتابها تاريخ.. أعني قصص القرآن. والأمة التي يقول صحابة نبيها صلى الله عليه وسلم: كنّا نعلم أبناءنا السير كما نعلمهم السور. وكم أعدت لطلابنا: أمة بلا تاريخ شجرة بلا جذور فما بقاؤها؟ وما يميز الإنسان أنه ناطق أو ضاحك وإنما يميزه أنه كائن ذو تاريخ.
هذا التاريخ إن حكى..أدهش. فكيف إن حكى عن دمشق. هل نستمع إليه يتحدث عن دمشق منذ فجر التاريخ باعتبارها أقدم مدن التاريخ. أم نستمع إليه منذ دخول الإسلام إلى دمشق حيث بدأت هي تصنع التاريخ الحق وحق التاريخ. فبعد معركة «طبقة فحل» التي مهدت الطريق إلى اليرموك ففتح دمشق.. وما أدراك ما اليرموك التي نتشرف أنها على أرض الأردن وكذا «الطبقة». وما أدراك ما عبقرية خالد في اليرموك. ولوددت لو أن الوقت يتسع. ولكني سأتجاوز إلى صفحة من «فتح دمشق»
2- فتح دمشق سنة 14هـ.
قال أبو يوسف يعقوب بن سفيان البسوي (ت277هـ) في كتاب: «المعرفة والتاريخ»، رواية عبد الله بن جعفر بن درستويه النحوي ج3، ص296. بتحقيق أكرم ضياء العمري، وطبع وزارة الأوقاف العراقية سنة 1976 قال تحت عنوان: سنة أربع عشرة: فتح دمشق: «ثم ساروا إلى دمشق وعلى الناس خالد، وقد كان عمر عزله وأمّر أبا عبيدة فرابطوها حتى فتح الله عز وجل، فلما قدم الكتاب على أبي عبيدة بإمرته وعزل خالد استحيى أن يقريء خالداً الكتاب حتى فتحت دمشق. وكانت في سنة أربع عشرة في رجب (شهرنا هذا) ثم شتا أبو عبيدة بدمشق.»الخ أ.هـ.
إيه يا خالد! إيه يا أبا عبيدة. يا أسود الصحراء التي نشرت الضياء والإيمان والرحمة والإنسانية والعدل والقسطاس ودولة «المواطنة» والحرية والكرامة، ونبذ التعصب والطائفية، قبل أن يعرف الناس كل هذه الأوبئة.. الطائفية والمذهبية وغيرها من صور الجاهلية!
فتعالوا فانظروا بعد القرون المتطاولة وتوغل الناس في عصور النور كما زعموا، والتعليم والانفتاح، تعالوا وشاهدوا، يا من كنتم تعتبرون الدماء آخر ما يمكن أن يلجأ إليه مع الأعداء.. وإذ بها أول ما يخاطب به الشعب والأولياء والأقرباء لا الأعداء.
أحرّرتم دمشق لتنتقل بعد النور إلى الديجور والتنّور لا التنوّر؟!
إيه. كم تفتقدكم دمشق! ويقتلها الحنين إليكم.. ويقتلها الجلادون لحنينها إليكم!
3- لقطة من فتح دمشق كما في رواية كتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام:
«قال: لما نزل خالد بن الوليد مرج الصفّر (مكان قرب دمشق كانت فيه مواقع للمسلمين..) قال واثلة بن الأسقع الليثي: ركبت فرسي، ثم أقبلت، حتى انتهيت إلى باب الجابية (من أبواب دمشق) فخرجتْ خيل عظيمة، فأمهلتها حتى إذا كانت بيني وبين دير بن أبي أوفى حملت عليهم من خلفهم وكبرت، فظنوا أنهم قد أحيط بمدينتهم، فانصرفوا راجعين، وشددت على عظيمهم، فدعسته بالرمح، فقتلته، وضربت بيدي إلى برذونه فأخذت بلجامه، فركضت، فلما رأوني وحدي أقبلوا عليّ، فالتفتّ، فإذا رجل قد ندر(خرج) من بين أيديهم، فرميت بالعنان على قربوس السرج، ثم عطفت عليه فدعسته بالرمح، فقتلته، ثم عدت إلى البرذون، واتّبعوني. ثم كذلك. حتى واليت بين ثلاثة. فلما رأوا ما أصنع انطلقوا راجعين. وأقبلت حتى أتيت مرج الصفّر. ثم أتيت خالد بن الوليد. فذكرت له ما صنعت. وعنده عظيم الروم قد كان خرج إليه يلتمس الأمان لأهل المدينة.
فقال له خالد: هل علمت أن الله قد قتل فلاناً؟ (يعني خليفته) فقال ما معناه: معاذ الله. فأقبل واثلة بالبرذون فلما نظر إليه عظيم الروم عرفه» إلى آخر القصة وإنما أردت أن أنقل لك لقطة من شجاعة المسلم، ولقطة من كتاب الأموال، لأبي عبيد.
4- ذكريات الشيخ علي الطنطاوي عن دمشق.
«ما العيش إلا الذكريات». هكذا قال الشيخ علي رحمه الله في كتابه ذكريات. وشبه الإنسان بالنبات «يمتص حياته من أرضه بجذوره، فإن نقلته منها تقطعت فذبلت الأوراق وتراخت العروق. فالإنسان في هذا كالنبات وجذوره ذكرياته، فإن نقلته إلى بلد ما له فيها ذكرى وما تربطه بها رابطة أحسّ كأن قد انقطع سلك حياته».
وقد زار الشيخ علي دمشق بعد غياب فكتب يقول: حيل بيني وبين زيارة الشام، بعد أن كتبتُ عنها ما لم يكتب مثله أحد من أهلها وشاركت أهلها النضال للاستقلال. ذهبت إليها بعدما انقطعت عنها أو قُطعت، فهبطت بي الطيارة في المطار الجديد، فنظرت إلى البلد من بعيد فقلت: كأنه هو.»
هذي دمشق. فلم لا أحس فرحة الآيب إلى بلده؟ لماذا أراها متغيرة في عيني؟ توجهت بي السيارة إلى البلد، بعد طول الفراق، حتى بلغنا دمشق. ولكني لم أشعر بأنها دمشق. وحسبت الطيارة ضلت الطريق فهبطت غيرها.
أريد دمشق مربع أسرتي، ومرتع صباي، ومغنى فتوتي. فأين هي دمشق التي تشممت ريّاها، ونشقت صَبَاها، ونشأت في حماها؟
أهذي هي دمشق؟ فما لها تغيرت معالمها وتبدلت أزياؤها؟ ما للوجوه غدت غير الوجوه؟ أبدلت الدنيا أم صرت غريباً في بلدي؟
أما الخيام فإنها كخيامهم وأرى نساء الحي غير نسائها
وطفت في هذه الشوارع المتشابهة أفتش عن دمشق التي عرفتها وأحببتها. ومن يعرف دمشق (تلك) ويملك نفسه إلا يحبها؟ وطفقت أسأل المحسنين من المارين: ألا من يدلني على دار الحبيب؟ ولكن ما من مجيب. حتى هبت نسمة من جهتها شممت فيها طيبها، فهداني أريجها إلى مكانها. فإذا أنا في ساحة «المرجة»، تلك التي كانت طرف البلد فصارت وسط القديم منه، ذلك أن المدن كالناس تعيش وتموت، وتنمو وتشب، ثم تهرم وتشيخ.. ودخلت سوق الحميدية.. ثم تكلم الأستاذ عن «البيمارستان النوري» أي المستشفى الذي أقامه السلطان نور الدين زنكي. ولن أحدثكم عن عظمته، فاذهبوا فابحثوا عن تاريخه. يقول الشيخ.
ثم انعطفت يساراً فدخلت زقاق الفخر الرازي وفيه قبر له، ولهذا القبر قصة طريفة... (وأنا إنما أقبس لكم قبسات لأشوقكم فقط لتطلعوا على ذكريات الأستاذ..)
ثم كلمنا عن منزل الأديب الشاعر خليل مردم.. ثم زاوية الزقاق... قال الأستاذ بعد سرد عدة أماكن: فوقفت أنظر وفي العين عَبرة وفي النفس عِبرة. ثم تصورت نفسي في «نفق الزمان» والأيام تكر راجعة بي حتى وقفت على أوائل سنة1914. («آلة الزمن» قصة خيالية من تأليف هـ.ج. ولز تشبه فكرة الأستاذ عن نفق الزمان، فبدل استحضار مخزون الذكرى، تعود إلى عين الحدث كما حدث.) ثم طفق يصف دور دمشق ونوافير الماء والزحام الذي صنعت منه، وفي صحن الدار أشجار الليمون والنارنج ودوالي العنب. ثم قال: لقد أقاموا في «داريّا» معرضاً للعنب الشامي عرض فيه مئة وأربعة أنواع من العنب.. ثم قال: تلك بيوتنا هدمناها بأيدينا. كانت جنات.. تجري من تحتها الأنهار..» الخ أ.هـ.
وصدق الشيخ علي، فقد قال «عرقلة الكلبي»، الشاعر الدمشقي، من شعراء القرن السابع الهجري يصف دمشق: «أما دمشق فجنات معجلة..» ولا ننسى «ميسون الكلبية» وهي شاعرة كذلك وزوجة معاوية فهي من قوم هذا الشاعر وقصتها معروفة فلا نستطرد! نعود إلى التعليق على كلام الشيخ علي:
بالله قولوا لي: هل قرأتم قول قائل في مدينة كقول الشيخ علي في دمشق، وما قبسته غيض من فيض. استمع إليه إذ يقول –وبحق قوله-: «بعد أن كتبت عنها ما لم يكتب مثله أحد».
وقفْ ملياً عند إنكاره بلدته الحبيبة حيث وقف فيها كالغريب، أو هي «استغربت!» وكم تحز كلماته في النفس: «فأين دمشق التي تشممت ريّاها، ونَشقت صَباها، ونشأت في حماها»؟
وتأمل كيف يسمي مدينة تعدادها تعداد كل المشيخات العربية والدول المدن مجتمعة يقول عنها وعن دمشق: «ألا من يدلني على دار الحبيب؟ يا لقيس بن الملوح لوّحته الغربة، وحنينه إلى دمشق فهي ليلاه!
ثم كيف طفق يعدد زوايا دمشق تعداد الخبير البصير الملمّ بكل زقاق زقاق وزنقة زنقة!
ثم كيف وصف الدار الدمشقية التقليدية وجنتها في وسطها.. وحديثه عن «داريا» وعنبها الذي بلغت أنواعه مئة وأربعة أنواع. ثم قولته المفعمة أسى: تلك بيوتنا هدمناها بأيدينا..»
هذا، يا طويل العمر، قبل قصف الدبابات، وحصار المدرعات وقنص الشبيحة، ولك الله يا دمشق.
إيه شيخ علي فتحت مواجعنا وأيقظت هواجعنا! رحمك الله.. يا أدهش من سمعناه يتحدث في «الرائي» كما تسميه يا شيخ علي!
5- من أسماء دمشق.
جِلّق من أسماء دمشق. قال في المعجم الوسيط: جَلَق الشيء جَلْقاً كَشَفه. وجلق رأسه: حلقه. وجلق فمه عند الضحك: فتحه. وَجَلَق الحصن ونحوه وجلّقه: رماه بالمنجنيق. وتجلق: ضحك حتى بدا أقصى أضراسه. والجلَقة: مَضْحَك الإنسان. وجِلّق: اسم دمشق.
والجِلّق: حب باليمن كالقمح (ليس القات طبعاً.).»أ.هـ. باختصار.
أقول: ويبدو أن المعنى والعلاقة بين جلق ودمشق الانكشاف كما شرح الأستاذ الطنطاوي أن دمشق تراها بوضوح فهي في منطقة مكشوفة واضحة. وهي كذلك تضحك حدائقها كما قال البحتري: أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكاً.
على أن كثرة الأسماء، غالباً، ما تدل على شرف المسمى، فأسماء دمشق تعددت، ومن بين أبرز أسمائها أو أوصافها كذلك: الفيحاء.
قال المعجم الوسيط: فاح المسك فيحاً وفيحاناً: انتشرت رائحته. وقال: الفيحاء: لقب البصرة، ودمشق، وطرابلس الشام.» أ.هـ. وأعتقد أن شهرة وصف الفيحاء إنما تنصرف إلى دمشق حيثما ذكرت.
ومن بين أوصافها: «عاصمة الأمويين». و»أقدم مدن التاريخ»
وحفظ الله دمشق وكل سوريا ورفع عنها كيد الكائدين ونجاها من تآمر المتآمرين ولنا معها لقاء إن شاء الله.. في «الطريق إلى دمشق» الحلقة القادمة.