(الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ)
أمر موسى عليه السلام قومه بدخول الأرض المقدّسة بقوله:
(يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ).
ولكنهم جبنوا عن الجهاد، وعجزوا عن دخولها، وأخبروا نبيهم أنهم لن يدخلوها ما دام القوم الجبارون فيها، وطلبوا منه أن يذهب هو وربه يقاتلان الأعداء، فإذا حرّراها دخلوها. فقدّر الله عليهم أن يتيهوا في الصحراء أربعين سنة.
و المراد بالأرض المقدّسة فلسطين وما جاورها، أو بلاد الشام على الأصح، وأقام بنو إسرائيل في فلسطين ما شاء الله لهم أن يقيموا، ثم ارتكبوا من الجرائم والقبائح ما ارتكبوا، وأحل اللهم عليهم لعنته وسخطه وغضبه، وكتب عليهم الذلّة والمسكنة والتشريد في بقاع الأرض، وسلّط عليهم الآخرين، الذين أخرجوهم من الأرض المقدّسة وشتّتوهم في العالم.
وبقي اليهود في "أرض الشتات" ينظرون إلى الأرض المقدّسة التي سموها: "أرض الميعاد"، ويحنّون إليها، ويتطلعون إلى العودة إليها، ويعدّون العدّة لاحتلالها والإقامة فيها.
ونجحوا –في هذا العصر- في تحقيق ذلك، في غفلة من المسلمين الذين تركوا دين الله، فاستحقوا سخطه وغضبه، وهزمهم اليهود في الحروب، وأقاموا كيانهم في الأرض المقدسة.
وصاروا يقنعون الآخرين على أنهم أصحاب حق في البلاد، وأنهم ينفّذون الوعد الذي أعطاه الله لهم، وأن الله كتب هذه الأرض المقدّسة لهم، وقرر أن تبقى لهم إلى قيام الساعة.
وأوردوا هذه الآية دليلاً على ما يقولون، وجعلوها شاهدة على ما يزعمون، إنها تقرر أن الله كتب لهم الأرض المقدّسة، فلماذا يحال بينهم وبينها؟.
وقد يُخدع بعضهم بكلام اليهود، ويصدقون تفسيرهم لهذه الآية، ويسلِّمون لهم بالحق المطلق في الأرض المقدسة!!.
فما معنى الآية؟ وما هو الفهم السليم لها؟.
نقول إن الله قد كتب لهم الأرض المقدسة، هذا صحيح. لكنها ليست كتابة دائمة حتى قيام الساعة، وإنما هي كتابة موقوتة.
كتبها لهم عندما كانوا مؤمنين موحدين صالحين، وكان الآخرون الذين فيها كافرين وثنيين، إن المؤمنين أولى من الكافرين بتملُّك البلاد والإقامة فيها، فكيف الأرض المقدسة فلسطين؟.
وحقق الله لليهود هذا الوعد. ودخلوا الأرض المقدسة بقيادة العبد الصالح "يوشع بن نون"، وأقاموا فيها دولة إسلامية إيمانية مزدهرة، بلغت أوْج تقدمها أثناء حكم داود وابنه سليمان عليهما السلام..
ثم خرجت يهود عن الشرع الرباني، وارتكبت من المعاصي والجرائم ما ارتكبت، واستجلبت بذلك غضب الله وسخطه ولعنته وعذابه، وفقدت بذلك حق تملُّك الأرض المقدسة والإقامة فيها، فكتب الله عليها الذل والضياع والتشريد في الأرض.
إذن كتب الله ليهود الأرض المقدسة كتابة خاصة بشروط، فلما فقدوا الشروط فقدوا الحق فيها، وكانت كتابة موقوتة بزمان، حيث كانوا مؤمنين وسط أقوام من الكافرين، لكنهم بعد ذلك أصبحوا كافرين بجانب قوم مؤمنين، حيث أخرج الله للناس الأمة الإسلامية، أمة الخلافة والوراثة، وأورث الله هذه الأمة الجديدة الأرض، وجعلها هي صاحبة الحق في الأرض المقدسة.
لهذا نقرر أنه منذ فتوح المسلمين لبلاد الشام وحكمها بالإسلام، أصبحوا هم أصحاب الحق في الأرض المقدسة، وفقد اليهود أي حق فيها لأنهم كفروا وطغوا وبغوا.
وقد وردت آيات صريحة في القرآن، تقرر هذه الحقيقة: إن القوم يستحقون الأرض ويرثونها ما داموا مؤمنين، فإذا كفروا فقدوا الحق فيها، حيث يورثها الله لمؤمنين آخرين. فالوراثة –وراثة الأرض والدين- تقوم على الدين والإيمان، وليس على التاريخ والنسب والإقامة.
وقد وضّح موسى –عليه السلام- هذه الحقيقة لقومه عندما كانوا مضطّهدين معذبين عند فرعون: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).
ولهذا عندما كانوا مؤمنين صالحين أراد الله أن يجعلهم وارثين للآخرين.
قال تعالى: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ).
ولهذا أغرق الله فرعون، وأورث بني إسرائيل –المؤمنين الصالحين- الأرض: (فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ، كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ).
بهذه الشروط ورث اليهود البلاد، ولهذه الأسباب كتب الله لهم الأرض المقدسة، وقد وردت آية تشير إلى سنة ربانية لا تتخلّف في موضوع الأرض ووراثتها. وقد أبلغ الله بني إسرائيل هذه السنّة، على لسان نبيهم داود عليه السلام.
قال تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ، إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ.
أخبر الله اليهود بهذه السنة الربانية حول الأرض ووراثتها، في أوج قوة دولتهم، وقمة تقدمهم وتمكينهم في الأرض المقدّسة. إن الأرض –ومنها الأرض المقدّسة- لكم إذا كنتم صالحين عابدين لله، فإذا خالفتم هذا العهد فلا حق لكم فيها، وسوف يأتي الله بقوم عابدين صالحين، ليورثهم إياها.
وجاء الله بقوم عابدين صالحين هم المسلمون، وأورثهم ما كان يملكه اليهود، سواءٌ في المدينة وما حولها، أو بلاد الشام ومدنها.
قال تعالى: (وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً، وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً.
بعد هذا البيان القرآني نخرج بنتيجة: وراثة الأرض على أساس إيماني إسلامي، فالأرض المقدسة كانت لليهود، فلما كفروا فقدوا أيّ حقّ لهم فيها، وأورثها الله للمسلمين، وجعلها لهم حتى قيام الساعة.