هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في أوائل النصف الثاني من سورة لقمان, وهي سورة مكية, وآياتها أربع وثلاثون, بعد البسملة. وقد سميت السورة بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلى لقمان الحكيم, وهو أحد أحناف زمانه, لأنه اشتهر بالدعوة إلى التوحيد الخالص لله ــ تعالى ــ ونبذ الشرك, كما اشتهر بالحكمة وبالتزام مكارم الأخلاق, والدعوة إليها. هذا وقد سبق لنا استعراض هذه السورة المباركة, وما جاء فيها من أسس العقيدة, والدعوة إلى مكارم الأخلاق, ومن الإشارات الكونية, ونركز هنا على وجه الإعجاز العلمي والتشريعي في الآية التي اتخذناها عنوانا لهذا المقال. من أوجه الإعجاز العلمي والتشريعي في الآية الكريمة في قول ربنا ــ تبارك وتعالى ــ على لسان لقمان الحكيم وهو يعظ ابنه: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ...) أي: توسط في مشيك بين الإسراع والبطء حتى لا يكون في ذلك شيء من الاستعلاء والكبر, فخطى الإنسان على الأرض محصية عليه, (...وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ...) أي: خفضه إلى مستوى الحاجة حتى لا يكون في ذلك شيء من الرعونة وسوء الأدب, والإساءة إلى مسامع الآخرين, (...إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ *) أي: إن أقبح الأصوات لهو صوت نهيق الحمير لما فيه من العلو المفرط عند ممارسة عملية التنفس من الشهيق والزفير, وذلك من الفزع الذي ينتاب تلك الحيوانات عند رؤيتها للشياطين. وفي ذلك يروي النسائي عن أبي هريرة أن رسول الله ــ صلي الله عليه وسلم ــ قال: "إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله فإنها رأت ملكا, وإذا سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان الرجيم فإنها رأت شيطانا" (البخاري;مسلم;الترمذي). وقد ثبت بالقياس أن لصوت نهيق الحمار شدة تقدر بما يتجاوز المائة ديسيبل, وأن كثرة تعرض الإنسان لهذا الصوت الشديد قد يصيب أذنيه بالصمم, ويصيب صاحبهما بالعديد من الأمراض العصبية والبدنية. ولذلك وضعت جداول لتحديد أقصى مدة يمكن أن يتعرض لها الإنسان تحت شدة معينة من الأصوات. فإذا وصلت شدة الصوت إلى (45) ديسيبل لا يستطيع الفرد العادي أن ينام في هدوء. وعند (85) ديسيبل تبدأ آلام الأذنين, فإذا وصلت شدة الصوت إلى (90) ديسيبل لا يستطيع الإنسان أن يتحمل ذلك لأكثر من ثماني ساعات. فإذا زادت إلى (100) ديسيبل فإن هذه المدة تتناقص إلى ساعتين فقط, وإذا وصلت إلى (110) ديسيبل تناقصت مدة سلامة الإنسان إلى نصف ساعة فقط. أما إذا وصلت شدة الصوت إلى (160) ديسيبل فإن الإنسان يصاب بالصمم التام. وإذا كان نهيق الحمار يتعدي في شدته مائة ديسيبل, فإنه يعتبر من أشد الأصوات إيذاء لأذن الإنسان, وهنا تتضح لمحة الإعجاز العلمي في هذا التقرير القرآني الكريم. ويتضح وجه الإعجاز التشريعي في الآية الكريمة التي اتخذناها عنوانا لهذا المقال في دعوة الإنسان إلى القصد في المشي, والغض من الصوت, والتذكير بأن أنكر الأصوات هي تلك الأصوات الفائقة الشدة, المرتفعة النبرة, والتي تؤذي السامعين, وتسيء إليهم إساءات مادية ومعنوية, لما تحمله من صور التكبر على الخلق, والاستعلاء في الأرض, وهما خصلتان سيئتان, لا يحبهما الله ــ سبحانه وتعالى ــ ولا يحبهما رسوله ــ صلي الله عليه وسلم ــ ولذلك أمر القرآن الكريم بخفض الصوت. من هنا جاء النهي القاطع عن المبالغة في المشي بالإسراع أو البطء تكبرا واختيالا على الخلق أو استعلاء وإهمالا لهم, كما نهى عن رفع الصوت فوق الحد لأن الوقوع في أي من هذين السلوكين الخاطئين يؤذي الإنسان, كما يؤذي جميع ما حوله من المخلوقات التي تتأثر بالاستعلاء والكبر كما تتأثر بشدة الأصوات العالية, ولا يستثني منها مخلوق واحد جمادا كان أو نباتا أو حيوانا أو إنسانا. لأن العلم يثبت أن هذه المخلوقات جميعا لها قدر من الوعي, والإدراك والشعور والانفعال, والقدرة على التعبير عن كل ذلك بصورة قد لا يدركها كل الناس. والغض من الصوت هو من سمات الأدب, والتواضع, والثقة بالنفس, والاطمئنان إلى صدق الحديث, وصدق القصد. أما رفع الصوت بغير داع, والإغلاظ في القول للآخرين بغير مبرر, فكلها من مظاهر ضعف الشخصية, وسوء الأدب مع الغير, وقلة الثقة بالنفس. كما أنها من علامات الادعاء والكذب, ومن محاولات فرض الرأي الخاطئ بالقوة عن طريق رفع الصوت في شيء من الحدة والغلظة غير المبررة. من هنا جاء القرآن الكريم بهذه الآية الآمرة بالتوسط في المشي في غير تكبر, والناهية عن رفع الصوت بلا مبرر, وواصفة هذا السلوك بأنه سلوك قبيح مرذول, ونفر من الوقوع فيه, وذلك بتشبيهه بنهيق الحمار. ووصف ها النهيق بأنه أنكر الأصوات فجاء بحقيقة علمية مؤكدة تنفيرا من محاكاته, ورفضا للتشبه به. وإذا كانت الحمير معذورة في رفع أصواتها فزعا من رؤية الشياطين, فإن الإنسان ــ ذلك المخلوق العاقل المكرم ذو الإرادة الحرة ــ لا يجوز له رفع الصوت دون مبرر لأن الله ــ تعالى ــ لا يرضي عن ذلك السلوك, ويذمه غاية الذم بهذا التشبيه القرآني المعجز الذي يصل بالأمر إلى مستوي التحريم وإن لم ينطق النص القرآني بذلك. وفي ذلك يقول رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر..." وقال أيضا: "إن الله ــ عز وجل ــ أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد علي أحد, ولا يفخر أحد على أحد" (سنن أبي داود). وقال عليه الصلاة والسلام: "... ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل, جواظ, مستكبر" (صحيح البخاري). وعن أنس بن مالك رضي الله عنه ــ أنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم ــ إذا مشي, مشي كأنه يتوكأ. كذلك وصف رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم بأنه ما كان يرفع صوته في الأسواق". هذه الآية الكريمة تأمر بالقصد في المشي وبخفض الصوت احتراما للآخرين وصونا لكرامتهم. فإذا كانت الخطي على الأرض محسوبة علي كل إنسان وجب عليه التوسط بين الإسراع والبطء في المشي, بغير استعلاء أو كبر. وإذا كانت الحمير معذورة في رفع أصواتها فزعا من رؤية الشياطين, فإن الإنسان ذلك المخلوق العاقل المكرم ذو الإرادة الحرة لا يجوز له رفع الصوت فوق الحد المقبول دون مبرر. والحقائق العلمية, والضوابط السلوكية التي جاءت في هذه الآية الكريمة لما يشهد للقرآن الكريم بأنه كلام رب العالمين, ويشهد للنبي الخاتم الذي تلقاه بالنبوة وبالرسالة, فصلِّ اللهم وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلى يوم الدين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.