نور من رسائل الرافعي - نور من رسائل الرافعي - نور من رسائل الرافعي - نور من رسائل الرافعي - نور من رسائل الرافعي
نور من رسائل الرافعي
بقلم: معتز حسن أبو قاسم/ أديب وباحث
ذكر المرحوم الدكتور محمد رجب البيومي في كتابه عن مصطفى صادق الرافعي، قصة نشر الرسائل الشخصية التي كان يرسلها الرافعي إلى تلميذه محمود أبو رية، وجرّم البيومي فعل أبي رية في نشر الرسائل تلك؛ ذلك أنها رسائل خاصة قد تنطوي على ما لا يحب الرافعي أن يطلع عليه غير تلميذه، فكيف ينشرها على العلن، بل قد يكون في الفعل إساءة للرافعي وخيانة أمانة اقترفها أبو رية في حق شيخه الذي كان يحبه ويأتمنه على أخص أشيائه. أليس من المعيب أن يقوم كاتم الأسرار وأمينها بإفشائها على الأشهاد؟ يا من ائتمنك الرافعي على نفثات حزنه، ودقيق مشاعره، وخاصة نفسه، لقد أسأت الأمانة.
هذا رأي الأديب الكبير محمد رجب البيومي رحمه الله، وهو رأي معتبر موجه، ولكنه يصيب نصف الحقيقة؛ فصحيح أنه قد يكون في هذه الرسائل ما يأجج أُوار فتنة وشحناء بين الأحياء والأموات، بل بين الأحياء والاحياء، وفي هذا من صحة النظر ما فيه.
ولكن ليعذرني سيدي البيومي فأنا عندما تأملت هذه الرسائل وتدبرتها، وجدت الخَطب صغيراً لا يرقى إلى ما ظنه البيومي وتوهمه واقعاً لا محالة، وقصار ضرر نشرها يصيب من الرافعي –إن أصاب- أكثر مما يصيب غيره، وهولا يعلق بغبار نعله، قليل المؤونة في استنزال الرافعي عن السدة التي تربع فيهـــا ولـــم يراوحها.
فالرسائل تظهر هموماً كانت تثقل كاهل الرافعي وينوء بها، منها ما تعلق بالصعوبات المالية التي تواجهها كتبه حال النشر لا بعده، ومنها الأمراض الجسدية والإرهاق النفسي، حين كانت تحوم حوله وتحط رحلها أحيانا بين ضلوعه، ومنها هَمُّ الأسرة الكبيرة التي كان يقوتها، ومنها قسم الرافعي لكل جزء من حياته قسما كبيراً من روحه وصحته، فالرافعي إذا أحب أخلص حتى يصبح حبه مقدساً، وإذا عمل عملاً مما هو من خاصة الكتابة والبيان، ذهب إلى أقصى ما يطيق الفكر وتطيق اللغة. وهذا إرهاق نجد صداه فيما اشتكى الرافعي من ألم الكتابة وجبروتها.
وكلنا -في جزء من همومه- ذاك الرجل، فمن منا خلا من هم يؤرقه، ومن ألم ومصاب ينفي عن الليل السكينة، أو دين حلّ بين جوانحه يوشك أن يسكن مكان النفس، وها قد رأينا دولاً عظمى تستدين وتئن وتبكي، أما حدته وسخريته فيما يكتب والتي يزجيها في حديثه عن فلان وفلان، فهو نهج أعلنه الرافعي ولم يُسِره. وحسبك مقالاته في العقاد وطه حسين، ففيها من الهجاء ما يصلح أن يكون مثالاً يحتذى، أو مدرسة تعلم فن إنزال الصواعق أو قصف الرعود.
إذن فلا خوف ولا وجل، فالرافعي العظيم يبقى الرافعي العظيم، وكما قال البيومي حينما سئل أن يفاضل بين الرافعي والعقاد فأجاب: "العقاد عملاق كبير وقمة سامقة ولكن هناك مثله، ولكن الرافعي فرد وحده"، وقوله: ".. بل فيهم من يرى الرافعي فرداً لا نظير له في ارتقائه الأدبي، وأنا مع هؤلاء صريحاً دون أن أجمجم".
وبما أن الرسائل أصبحت بين أيدينا، فقد ارتأيت بعد أن وجدت فيها من جواهر الكلم، ودقيق الفهم والنظر، وسائغ العبارة، وروائع التفسير، وإخلاصاً في النصيحة لمن رام تعلم الادب والعربية، يصح منهجاً في العلم والتعلم أن أنقل من هذا الركاز جملاً وجمالاً، أحضنها بين يدي كمن يحضن رضيعا يخشى عليه نسمة الهواء، ثم أضعها برفق ولين على هذه الصفحات، حتى يمتد فضل هذا العالم الأديب إلى دنيا غير دنياه التي هو فيها الآن.
فإن سال من قلمي حبر اعترض كلام الرافعي مقدماً أو خاتماً، فلن يلبث بيان الرافعي أن يجوس خلاله ويعفي آثاره ويدرس رسومه، وبذلك أكون قد حفظت أدبي مع الرافعي وخفرت ذمته، رحمك الله أيها الرافعي وأجزل مثوبتك في العالمين.
ثم ارثه مع شكيب أرسلان:
إن الذي قد ضم جسمك للثرى
قـد ضم فيه العبقري الاكبرا
كـــــــــــــان ابن بحر واحداً ففضـــــــلتـــــه
بـــــــــأوائل كــــــــــــــانوا جميعاً ابحرا
(الرافعيين) الالـــــــى فـــــرعـــوا العلى
وتــــــــدبروا في كــــــــــــل فنٍّ عبقرا
هي عزة أبقى أبو حفـــــــص لهـــــــا
مجداً يتيه على السماك ومفخـرا
من مثل نادرة الزمان المصـــــطفى
سلطان من وشى الطروس وحبـرا
إلا تكن قــــد أنجبت إلا أبـــــــــــــــــا
سام كفـــــــاها أن تســــــــــود وتفـــــخــــــــرا
- سئل عن كتب النحو فأجاب عن أمتعها وأنفعها قائلاً: ".. فيشق عليّ أن أدُلك على غرضك منها؛ لأني لست على بينة من قوتك في فهم كتب القوم والبصر بها،... لدللتك على "شرح الكافية للرضي"، و"شرح الشافية في الصرف" فاشترهما وضم إليهما كتاب "متن التوضيح لابن هشام وشرحه"، فإن لم تنتفع بالأولين انتفعت بالآخرين" (ص13).
- ولما سئل عن الأدب، أكد الرافعي "المواهب الوراثية"، ثو دل سائله على أقرب الطرق قائلاً: ".. فاجتهد أن تكون مفكراً منتقداً وعليك بقراءة كتب المعاني قبل كتب الألفاظ، وادرس ما تصل إليه يدك من كتب الاجتماع والفلسفة الأدبية في لغة أوروبية، أو فيما عُرّب منها،.. وتفقه في البلاغة بكتاب "المثل السائر"، وهذا الكتاب وحده يكفل لك ملكة حسنة في الانتقاد الأدبي، وقد كنت شديد الولوع به" (ص15).
- "سألتني عن قاموس عربي تشتريه، فليس لك أحسن ولا أوفى من "لسان العرب"، فإن أعياك أن تجده لقلة نسخه فالتمس "تاج العروس" وأظنه كثير الوجود، وينبغي أن تجمع إليه "القاموس المحيط" للفيروزأبادي؛ فإن التاج شرح له، وضم إليها "أساس البلاغة للزمخشري" (ص18).
- ثم نجد الرافعي يتحرج في نقد كتاب لم يقرأه، ولكن سمع عنه وهو "ذكرى أبي العلاء" قائلاً: "ولم أقرأ ذكرى أبي العلاء، ولا أعرف ما هي، ولكن أخبرني أحد الذين ساعدوا في تأليفها وهم ثلاثة غير صاحبها (يقصد طه حسين) أنها ليست مما يقال، إنه هناك، ولا علم لي بالغيب وأستغفر الله ولعلها من الكتب الممتعة" (ص20).
- "اقرأ كل ما تصل إليه يدك فهي طريقة شيخنا الجاحظ، وليكن غرضك من القراءة اكتساب قريحة مستقلة، وفكر واسع، وملكة تقوى على الابتكار" (ص22).
- تحدث عن رفده بعض الناس بمقالات كان يمليها عليهم: ".. وهناك أشياء أخرى لا أريد أن أبوح بها، ولكنها في الجملة أشياء أساعد بها رافداً، فينتحلها أهلها وينشرونها بأسمائهم، وأنا بذلك راض ومسرور" (ص24).
- في حديثه عن "ذكرى أبي العلاء"، قال بعد أن اطلعَ على فصلين منه: ".. فإن فصل بغداد منقول ببعض التصرف عن "معجم ياقوت"، ومع ذلك ففيه خطأ كثير؛ لأن ياقوت وصف أموراً تتعلق ببغداد في مواد مختلفة من معجمه، وقصّر طه في الاطلاع عليها، ومن هنا تطرّق إليه الخطأ، والفصل الآخر حشفٌ وسوء كيلة، كما يقال لأن آراء المؤلف ضعيفة واهية،... ومع ذلك فربما كــــان الكتاب مفيـــداً، وربما كان جيــــداً، ولكن الفصلين الذين وقفتُ عليهما لا شيء لا شيء" (ص26).
- وعندما سئل أن يكتب في موضوع ما قال: ".. فإني لا أكتب عندما أريد، ولكن يضطرني الموضوع نفسه إلى الكتابة فيه" (ص27).
- ولما سئل عن كتب المنطق أجاب قائلاً: "أما كتب المنطق فلا فائدة فيها إلا تفتيق الذهن، وهذه الفائدة على أتمها في كتب الكلام العربية كـ"المقاصد والمواقف" وغيرها، على أن ذلك لا يمنع من قراءة المنطق العربي اليوناني، ولكن المتأخرين جعلوا هذا الفرع من العلم غاية في الترتيب والسهولة والفائدة، وأريد بالمتأخرين علماء الفرنج" (ص28)، ثم قال: ".. يمكنكم أن تبدؤوا القراءة في الكتب المقررة لطلبة الأزهر، وهي شروح وحواش كلها مفيدة" (ص29).
- ".. وأما البارودي فقد كان نابغة دهره الذي نشأ فيه"، "على أنك تجد نحو 200 بيت من أحسن شعر البارودي في الجزء الثاني من كتاب "الوسيلة الأدبية للمرصفي"، وهو كتاب قديم طبع من أربعين سنة، وكان المرصفي أستاذ الرجل"، ".. وبالجملة فإن الرجل شاعر فحل مجوّد، وإن كان ضيق الفكر، ضعيف الحيلة في إبراز المعاني واختراعها" (ص31).
- وصوّب قول ابن الاثير في الصابي في مسألة ترادف السجع قائلاً: "والصابي على قوته في الترسل ضعيف في السجع، لا يبلغ فيه منزلة البديع ولاجرم كان ذلك من ضعف فيه" (ص33).
- حكمة فتأمل، يقول: ".. وكيف تريد أن تكون رابط الجأش إلا عند الخوف، وان تكون شجاعاً إلا عند الفزع، وأن تكون فيلسوفاً إلا عند المصائب، ليس من فضيلة إلا هي قائمة على أنقاض رذيلة، ولا من رذيلة إلا كان أساسها فضيلة متهدمة، فكن رجلاً أكثره من روحه" (ص35).
- وصية لتلميذه أبي رية: "فإذا اوصيتك فإني أوصيك أن تكثر من قراءة القرآن ومراجعة الكشاف تفسير الزمخشري، ثم إدمان النظر في كتاب من كتب الحديث كالبخاري أو غيره ، ثم قطع النفَس في قراءة آثار ابن المقفع (كليلة ودمنة، واليتيمة، والأدب الصغير) ثم "رسائل الجاحظ"، وكتاب البخلاء، ثم "نهج البلاغة"، ثم إطالة النظر في كتاب الصناعتين، "والمثل السائر" لابن الاثير، ثم الاكثار من مراجعة "أساس البلاغة" للزمخشري، فإن نالت يدك مع ذلك كتاب الأغاني، أو أجزاء منه و"العقد الفريد"، و"تاريــخ الطبري" فقـــد تمـــت لك كتب الأسلوب البليغ" (ص40-41).
- بعد أن شرح عباراتٍ من كتابه المساكين لأبي رية قال: "والخلاصة أن مدار العبارات كلها التخيل وتصوير الحقائق بألوان خيالية لتكون أوقع في النفس، ومن هنا كان الذين لا معرفة لهم بفنون المجاز أو لا ميل لهم إلى الشعر، لا يميلون إلى كتابتي ولا يفهمونها حق الفهم، مع أن المجاز هو حلية كل لغة وخاصة العربية، ولا أعد الكاتب كاتباً حتى يبرع فيه، وهذا الذي جعلني اكثر منه مع أنه متعب جداً، ولكني أرمي إلى تربية ملكات القرّاء وإعطائهم أمثلة من التصور" (ص50).
وقيل له يوماً : هل تكره الموت؟
فقال: لا بل أكره ذنوبي، أما الموت فهو اكتشاف العالَم الأكبر، نسأل الله حسن الخاتمة.
وقيل له ما هي وصيتك إذا حضرتك الوفاة؟
فقال: هي تكرار المبدأ الذي وضعته لأولادي:
النجاح لا ينفعنا، بل ينفعنا الامتياز في النـجاح.