الإسلام ونظرية: «الأمة مصدر السلطات» - الإسلام ونظرية: «الأمة مصدر السلطات» - الإسلام ونظرية: «الأمة مصدر السلطات» - الإسلام ونظرية: «الأمة مصدر السلطات» - الإسلام ونظرية: «الأمة مصدر السلطات»
د.علي العتوم
السبيل/
يطالِب الناسُ في هذا العالم الذي لا يحكمه الإسلام، بمثل هذه النظرية، ويكتبونها في دساتيرهم مادةً أساسيةً لتكون أسلوبهم في نظام الحكم؛ بمعنى أنّ الأمة هي التي يجب أنْ تكون صاحبةَ السلطان في تصريف أمورها، لا الفردُ الذي قد يطغى أو يتجبّر، منطلقين في ذلك من النهج الديمقراطي الذي أخذ به اليونان القدماء، ويسير عليه اليومَ المجتمعُ الغربيّ والدول التي تدور في فلكه.
وإذا رحنا نناقش هذه النظريّةَ –التي يرفع الناسُ في هذا العالم عقائرهم منادين بالتمسّك بها– من وجهة النظر الإسلامية مناقشةً جادةً، فسنجدها مخرومةً مما هو كفيلٌ بسقوطها من أساسها، إن لم تكن هي في الأصل ساقطةً وغير صالحة، ليُستبدَل بها نظام الإسلام الذي هو أفضل منها للبشرية بما لا يُقاس، بل ليكون الأخذُ بها افتئاتاً على شرع الله، بل على الله ذاته جل جلاله.
إننا ابتداءً لا نخالف، بل نطالب بتحديد سلطة الحاكم أو تقليصها، لتكون الأمة عن طريق من تختارهم فيما يُسمّى بالدساتير الحديثة «مجلس البرلمان»، هي التي بيدها تنصيبُ هذا الحاكم على أسسٍ سليمةٍ وإبقاؤه في سُدّة الحكم ما دام ملتزماً بهذه الأسس، أو عزله إنْ حاد عنها. إنه لا خلاف في هذا الشأن، ولكن الخلاف يكمن في النهج الذي تسير عليه الأمة في حياتها، وتختار على أساسه حكامها وممثليها.
إنّ الأصل في المفهوم الإسلامي أنَّ المشرِّع هو الله وحدَه، ومحمدٌ صلى الله عليه وسلم إنما يشرِّع بأمره؛ لأنه (إنْ هُو إلاّ وَحْيٌ يُوحَى). ومن هنا قال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحاً وَالذي أَوْحَيْنا إليك) وقال: (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُم شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) وقال: (ثُمّ جَعَلْناكَ على شَريعةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْها). فالشرع والتشريع والشريعة مصدرها جميعاً الله وحده؛ لأنه سبحانه أدرى بمن خَلَقَ وبما يصلح لهم. ولذا جاءت عبارات التشريع هكذا، لتقرر بأنّ الله صاحب التشريع، وليس الناس.
ولقد أكد الله هذا المفهوم تأكيداً شديداً، وجعله منطلق الإيمان وأساسه، فقال: (فَلا وَرَبِّك لا يُؤْمِنُونَ حتّى يُحَكِّمُوكَ فيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ، وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً). ونعى على الذين يتخذون تشريعاً غير تشريعه، وعدَّهم من الظالمين الذين يستحقون عذابه، فقال: (أمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ، ولَوْلا كَلِمَةُ الفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ، وإنَّ الظّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)، بل عد جلَّ جلاله الذين يتَّبِعون كبراءَهم فيما يشرِّعون لهم بغير شرعه آلهةً يعبدونهم، إذ قال: (اتَّخَذُوا أحْبارَهُمْ ورُهْبانَهُمْ أرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ). وعندما استغرب عديُّ بن حاتم ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: بل شرّعوا لهم فاتَّبعوهم، وذلك عبادتهم إياهم!!
إنّ الشرع في الإسلام أو الدستور بلغة العصر هو المصدر الأول الذي يستمد منه الحكمُ قوّتَه، ويأخذ منه حجّتَه في تسيير شؤون الحياة، وإلا سقطت قوته، وبطلت حجته، وهوى سلطانُه؛ إذ إنه اكتسب هذا السلطان بالتبعية، وهو التزامه بالشرع، فإذا سقطت هذه التبعية سقط هذا السلطان. وعليه فإنّ قول دساتيرنا: الأمة مصدر السلطات قولٌ غير صحيح؛ لأنّ مصدر السلطات هو الشرع، وصدق الله العظيم: (إنِ الحُكْمُ إلاّ للهِ، أمَرَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاهُ، ذلكَ الدِّينُ القَيِّمُ).
وإذا كان من أظهر معاني السلطة أو السلطان: القهر والقدرة والحجة، فإنّ كل ذلك أصلاً بيد الله لا بيد البشر. وإذا صار بيدهم فبأمره وتوكيله عن طريق شرعه. وبهذا المعنى قال تعالى: (ولَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ، فَلَقَاتَلُوكُمْ)، وقال: (ومَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً، فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ في القَتْلِ)، وقال: (ولكنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ على مَنْ يَشاءُ). فالله هو المسلِّط، وهو صاحب السلطة، ومانح السلطان ومانعه.
ومن هنا جعل سبحانه وتعالى كل أمر غير صحيح، فاقداً للسلطة بمعناه الإسلامي، كعبادة الجاهليين للأصنام. قال تعالى -زارياً عليهم هذه العبادة-: (إنْ هِيَ إلاّ أسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أنْتُمْ وآباؤُكُمْ، ما أنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ)، وكادّعاء النصارى أنّ عيسى ابنُ الله، فقال سبحانه –منكراً عليهم كذب ادّعاءاتهم التي لا حجة لهم فيها-: (قالُوا: اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ، هُوَ الغَنِيُّ لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الأرضِ، إنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا، أَتَقُولُونَ على اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)؟!
وعلى هذا؛ فإنّ المادة (24/1) في الدستور الأردني التي تقول: «الأمة مصدر السلطات» في نظر الإسلام مخرومةٌ لا محالة؛ لأن مصدر السلطات هو الشرع. وقد يصح أنْ نقول: إن السلطة في الدولة للشعب، ولكنْ لا يصح أنْ نقول: إنّ الشعب مصدر السلطات. وقد قرأت في رسالة «نظام الحكم» للإمام البنّا فوجدته يذكر: سلطة الأمة، وسلطة الشعب، ولا يذكر أنّ الشعب مصدر السلطات؛ مما يدل على عدم إقراره بهذا الحكم. ومما أطمئن إليه في هذا الصدد أنْ نقول: إنّ السلطة للشرع، والأمة حارسةٌ له، والحاكم أو من ينيبه أو تنيبه الأمة منفذٌ له. ولعليّ أستدل على هذا بما نقله الإمام البنا في الرسالة المذكورة عن الإمام الغزالي، من قوله: «اعلم أنّ الشريعة أصلٌ، والملك حارسٌ، وما لا أصل له فمهدومٌ، وما لا حارس له فضائعٌ».
إنّ ورودَ هذه المادة في دساتيرنا –كما يقول البنّا– منقولٌ عن الأنظمة الأوروبية، وهي أنظمةٌ جاهلية لا تمت للحقِّ ولا للإسلامَ بصلةٍ، وإنما نقلناها عنهم نقلاً أعمى، وزدنا بأنْ أفرغناها من مضمونها كما هو عندهم، ومما يدل على فسادها أنّ الدستور قصد بالأمة هنا مجلسي الأعيان والنواب والحاكم، إذ ناط بهم جميعاً سلطة التشريع، وهذا افتئاتٌ على الله، إذ شرعه هو المحكَّم في أية مسألةٍ، إنْ كان فيها نصٌّ، وإلاّ فاجتهاد من روح النص، ولأهل الحلِّ والعقد دون سواهم.
وإنني لأجدني مسوقاً في هذا الأمر أنْ أستشهد بقول الأستاذ سيد قطب -وهو يعلق في الظلال على قوله تعالى: (وما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ، وما نَهاكُمْ عَنْهُ
فانْتَهُوا)-: «إنّ الأمة كلها والإمام معها، لا تملك أنْ تخالف عمّا جاء به الرسولُ، فإذا شرّعت ما يخالفه لم يكن لتشريعها هذا سلطانٌ؛ لأنه فقد السند الأول الذي يستمد منه السلطان، وهذه النظرية تخالف جميع النظريات البشرية الوضعية، بما فيها تلك التي تجعل الأمة مصدر السلطات، بمعنى أنّ للأمة أنْ تشرِّع لنفسها ما تشاء، وكل ما تشرِّعه فهو ذو سلطان، فمصدر السلطات في الإسلام هو شرع الله الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والأمة تقوم على هذه الشريعة وتحرسها وتنفذها، والإمام نائبٌ عن الأمة في هذا وفي هذا تنحصر حقوق الأمة».
ومعلومٌ أنّ دساتيرنا المتأثرة بالمناهج الغربية لا تقيم للشرع الإسلامي وزناً، حتى وإنْ نصّتْ في موادها الأولى على أنّ «الإسلام دين الدولة»؛ إذ هي عبارةٌ تقليدية وُضِعت على الأغلب لمجاملة الشعوب التي تدين غالبيتها بالإسلام، إضافةً إلى أنها مع الزمن أضحت شكلاً لا معنى تحته. حتى هذه المادة التي نحن بصدد مناقشتها: «الأمة مصدر السلطات» بمعناها الغربي، لا تطبق في بلادنا تطبيقها عندهم، إذ عندنا الحاكم أو الحزب هو مصدر السلطات في كل شيء.
إنّ علينا إذا أردنا أنْ نكون أصحابَ حقًّ جادّين، ودُعاةَ إسلامٍ حقيقيين، أنْ نطالب بتحكيم شرع الله، وأنْ يكون الشرع هو صاحبَ السلطة والسلطان والحاكم في كل أمورنا، دِقِّها وجِلِّها، وإلا عُدّ ذلك منّا –لا سمح الله– تفريطاً بالمسؤولية وتضييعاً للأمانة . وإنّ خطوةً واحدةً على الطريق صحيحةً خيرٌ من آلافٍ متعثراتٍ.