تجديد الحياة .. في عشر ذي الحجة - تجديد الحياة .. في عشر ذي الحجة - تجديد الحياة .. في عشر ذي الحجة - تجديد الحياة .. في عشر ذي الحجة - تجديد الحياة .. في عشر ذي الحجة
تجديد الحياة .. في عشر ذي الحجة
تحتاج حياتنا بين الحين والحين إلى تجديد يعيد لها قوة الإيمان، ويحيي فيها نبض العقيدة، ويُنمّي فيها إحساس العبودية لله -تعالى-، ويدفع بها نحو ربها -عز وجل- وهي نادمة على معصيته, مجتهدة في طاعته.
تجديد يعيد إلى القلب رقته، فيخشع لآيات القرآن الكريم، ويتدبر في معانيها، وينقاد لحديث رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، ويهتدي بسنّته. تجديد ينتقل بالنفس من رتابة الأداء في العبادة إلى حضور القلب فيها، والإحساس بجمالها ومبانيها، ويقف بها عن المعاصي والمحرمات، ويبعث فيها الأمل بسعة الرحمة، وقبول التوبة، وغفران الذنوب ومحو السيئات. تجديد يتحول بحياتنا لتكون أكثر قرباً من الله -تعالى-، في فكرنا وأعمالنا ومعاملاتنا وعلاقاتنا.
وأعظم فرصة لتجديد الحياة، وزيادة الإيمان، هي أفضل الأزمنة وأشرف الأوقات، حين يدنو الله -تعالى- من عباده، ويفتح لهم أبواب المغفرة، ويجزل لهم العطاء، ويكون العمل أرجى للقبول، والدعاء أقرب للإجابة. والنفس بحاجة في كثير من الأحيان إلى ما يحفز فيها النشاط، ويشوّقها إلى التغيير، وهاهي ذي أيام العشر الأول من ذي الحجة، وما يتبعها من أيام التشريق، جاءت بما أودع الله -تعالى- فيها من فضائل، لتوقظ الهمم، وتُنشط النفوس، فليس هناك أيام جمعت من خصائص الفضل، وأسباب السعادة، كهذه الأيام، وتأمّل كم جمعت من ميزات، وحازت من فضائل:
فهي أيام عظيمة الحرمة لكونها في ذي الحجة، وهو من الأشهر الحرم، التي جعل الله -تعالى- تحريمها من الدين المستقيم، حيث قال -سبحانه-: "إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ" [التوبة: 36]، وتذكير النفس بذلك يكبح جماح شهواتها، ويذكرها بأن الذنب يعْظم كلما كانت حرمة الزمن أعظم، ولهذا حذّر الله -تعالى- عباده من تعدي الحدود فيها، فقال بعد بيان حرمتها: "فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ"، وذكّر الرسول -عليه الصلاة والسلام- الناس بذلك في شهر ذي الحجة، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطب الناس يوم النحر فقال: "يا أيها الناس أي يوم هذا". قالوا: يوم حرام. قال: "فأي بلد هذا". قالوا: بلد حرام، قال: "فأي شهر هذا". قالوا: شهر حرام. قال: "فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام؛ كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا". فأعادها مراراً، ثم رفع رأسه، فقال: "اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت". قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: فوالذي نفسي بيده، إنها لوصيته إلى أمته: "فليبلغ الشاهد الغائب، لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض"(1).
وهي أيام عظيمة؛ لأنها نالت شرف قيام ركن الإسلام الخامس في زمانها، حين يأتي الناس أفواجاً من كل فج عميق، ليبدؤوا فيها مناسكهم وشعائر حجهم، والتي تمضي بنا، لو تأمّلت، في ذكريات زمان عميق، لتحكي لنا مواقف مهيبة، وعبراً عديدة، من تاريخ بيت الله العتيق، سطّرها لنا بإيمانهم وصبرهم إبراهيم وآله -عليهم السلام-، فكان انقيادهم لأمر الله -تعالى- معالم هداية، ومواطن قدوة، في الإيمان بالله -تعالى- وتوحيده، والتوكل عليه وعبادته، يستن بها الموحِّدون في حجهم في كل زمان.
ويا لها من عبرةٍ تُحيي القلوب، وتشرح الصدور، وتشوّقها للإقبال على الله -عز وجل-، حين ترى خير الناس من الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، يأتون الحج وهم يلبون، يجأرون إلى الله ويستغيثون، مع ما في زمنهم من صعوبة في السفر، ووعورة في الطريق، قال -عليه الصلاة والسلام-: "صلى في مسجد الخيف سبعون نبياً، منهم موسى صلى الله عليه وسلم، كأني أنظر إليه وعليه عباءتان قطوانيتان وهو مُحْرم، على بعير من إبل شنوءة مخطوم بخطام ليف, له ضفيرتان"(2), وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كنّا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- بين مكة والمدينة فمررنا بواد، فقال: أي واد هذا؟ قالوا: وادي الأزرق. قال: كأني أنظر إلى موسى -صلى الله عليه وسلم-... واضعاً إصبعه في أذنه له جؤار إلى الله بالتلبية [الجؤار: رَفْع الصَّوت والاسْتِغاثة]، مارّاً بهذا الوادي. قال: ثم سرنا حتى أتينا على ثنية فقال: أي ثنية هذه؟ قالوا: ثنية هَرْشى أو لَِفت. قال: كأني أنظر إلى يونس -صلى الله عليه وسلم- على ناقة حمراء عليه جبة صوف، وخطام [حبل] ناقته خُلبة [ليف]، مارّاً بهذا الوادي ملبياً"(3).
حازت هذه الأيام العشر خير يومين في العام، وهما يوم عرفة ويوم النحر، ففي يوم عرفة يدنو الله -عز وجل- ثم يباهي ملائكة السماء بأهل الموقف، فما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبيداً من النار من يوم عرفة(4)، وجعل الله -تعالى- لغير الحجيج فيه نصيباً، فمنحهم على صومه تكفير الذنوب لسنتين، سنة ماضية وسنة قابلة(5)، وهو اليوم الذي أكمل الله -تعالى- فيه الدين، فأتم النعمة على المسلمين، ونزل فيه قول الله -تعالى-: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً" [المائدة: 3].
وهو يوم الميثاق، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما-، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم -عليه السلام- بنعمان يوم عرفة، فخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنشرها بين يديه، ثم كلمهم قبلاً، قال: "أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا" [الأعراف: 172] إلى قوله: "أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ" [الأعراف: 173]")(6).
وهو اليوم المشهود الذي أقسم الله -تعالى- به في سورة البروج، "وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ" [البروج: 3]، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اليوم الموعود يوم القيامة، واليوم المشهود يوم عرفة، والشاهد يوم الجمعة"(7). وهو خير أوقات الدعاء، لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير"(8).
ويوم النحر من أيام العشر، وهو يوم الحج الأكبر، كما قال فريق من العلماء، قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "والصوابُ أن يومَ الحج الأكبر هو يومُ النَّحر؛ لقوله -تعالى-: "وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ" [التوبة: 3]، وثبت في الصحيحين أن أبا بكر وعلياً -رضي اللّه عنهما- أَذَّنَا بِذَلِكَ يَوْمَ النَّحْرِ لاَ يَومَ عَرَفَةَ. وفي سنن أبي داود بأصح إسناد أن رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "يوم الْحَجِّ الأكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ"... ويومُ عرفة مقدِّمة ليوم النَّحر بين يديه، فإن فيه يكونُ الوقوفُ، والتضرعُ، والتوبةُ، والابتهالُ، والاستقالةُ، ثم يومَ النَّحر تكون الوفادةُ والزيارة، ولهذا سُمّي طوافُه طوافَ الزيارة؛ لأنهم قد طهروا من ذنوبهم يوم عرفة، ثم أذن لهم ربُّهم يوم النَّحر في زيارته، والدخولِ عليه إلى بيته، ولهذا كان فيه ذبحُ القرابين، وحلقُ الرؤوس، ورميُ الجمار، ومعظمُ أفعال الحج. وعملُ يوم عرفة كالطهور والاغتسال بين يدي هذا اليوم"(9).
وهو يوم التقرب إلى الله -تعالى- وتوحيده بالنسك العظيم، في أكبر مشهد لتوحيد الله -تعالى- بهذه العبادة، التي ضل فيها كثير من الناس فقدموها لغيره -سبحانه- من الأصنام والأوثان والقبور، ومن ثم جاء التنبيه على توحيد الله -تعالى- فيها في آيات عديدة، كما في قوله -تعالى-: "فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ" [الكوثر: 2]، أي: وانحر لربك ذبيحتك له وعلى اسمه وحده، وأمر عز وجل بذكر اسم الله -تعالى- وحده لا شريك له على الهدايا والأضاحي، فقال: "لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ" [الحج: 28]، "وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ" [الحج: 34]، "وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ..." [الحج: 36].
عشر ذي الحجة "هي الأيامُ العشر التي أقسم اللّه بها في كتابه بقوله: "وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ" [الفجر: 1-2] "(10)، بل ورد أنها هي العشر التي أتمها الله -تعالى- لموسى -عليه السلام-، والتي جاء ذكرها في قوله -تعالى-: "وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ" [الأعراف: 142]، قال في تفسير الجلالين: ("وواعدنا" بألِف ودونها "موسى ثلاثين ليلةً" نكلّمه عند انتهائها بأن يصومها، وهي ذو القعدة، فصامها، فلما تمت أنكر خلوف فمه [رائحة فمه من الصوم] فاستاك، فأمره الله بعشرة أخرى ليكلّمه بخلوف فمه، كما قال -تعالى-: "وأتممناها بعشر" من ذي الحجة)(11)، وقال ابن كثير: (وقد اختلف المفسرون في هذه العشر ما هي؟ فالأكثرون على أن الثلاثين هي ذو القعدة والعشر عشر ذي الحجة... فعلى هذا يكون قد كمل الميقات يوم النحر، وحصل فيه التكليم لموسى -عليه السلام-, وفيه أكمل الله الدين لمحمد -صلى الله عليه وسلم- كما قال -تعالى-: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً")(12).
ولكثرة ما في هذه الأيام وفي غيرها من فضائل، تنوعت أقوال العلماء، واختلفت آراؤهم في الموازنة بينها، أيّ الأيام أفضل عند الله: أيام عشر ذي الحجة لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذي الحجة"(13)، أم الليالي العشر الأخيرة من رمضان؟ يوم عرفة أم يوم النحر؟ قال في (تحفة الأحوذي): "اختلف العلماء في هذه العشر، والعشر الأخير من رمضان، فقال بعضهم: هذه العشر أفضل لهذا الحديث، وقال بعضهم: عشر رمضان أفضل للصوم والقدر، والمختار أن أيام هذه العشر أفضل ليوم عرفة وليالي عشر رمضان أفضل لليلة القدر؛ لأن يوم عرفة أفضل أيام السنة، وليلة القدر أفضل ليالي السنة، ولذا قال: "ما من أيام" ولم يقل من ليال)(14)، وفي الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية: "وعشر ذي الحجة أفضل من غيره لياليه وأيامه، وقد يقال ليالي العشر الأخير من رمضان أفضل وأيام تلك أفضل. قال أبو العباس: والأول أظهر"(15).
أما يوم عرفة ويوم النحر، فقد ذهب كثير من العلماء إلى أن يوم النحر أفضل أيام السنة على الإطلاق، حتى من يوم عرفة، قال ابن القيم: "خير الأيام عند اللّه يومُ النحر، وهو يومُ الحج الأكبر، كما في السنن عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أَفْضَلُ الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القر"(16), وقيل: يومُ عرفة أفضلُ منه... والصواب القول الأول"(17).
لقد لاحت للمحبين في هذه الأيام الفاضلة من الله -تعالى- آية، وأقيمت لهم علامة، ليثبت من أراد حقيقة محبته لله -عز وجل-، فهذه الأيام العشر هي أحب أوقات العمل عند الله -سبحانه-، والمحب الصادق هو الذي يبحث عن أوقات رضا من يحب ليسرع إليه بما يدل على صدق محبته, ويقبل عليه بما يرضيه، قال -عليه الصلاة والسلام-: "ما العمل الصالح في أيام أفضل من هذه العشر"، قالوا: ولا الجهاد؟ قال: "ولا الجهاد، إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء"(18)، جاء في اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية: (واستيعاب عشر ذي الحجة بالعبادة ليلاً ونهاراً أفضل من جهاد لم يذهب فيه نفسه وماله، والعبادة في غيره تعدل الجهاد؛ للأخبار الصحيحة المشهورة، وقد رواها أحمد وغيره)(19).
ومن رحمة الله -تعالى- بعباده أنه لم يحرم أحداً من فضل هذه الأيام، فلم يقصر ثوابها وأجرها على عبادة معينة واحدة، قد لا يستطيع القيام بها إلا بعض الناس، بل فضلها وثوابها شامل لكل بر وخير، ما دام مصحوباً بنية وإخلاص، من صلاة وقيام وصوم(20) وحج وتضحية وذكر، ولا سيما التهليل والتكبير والتحميد، حتى تبسمك في وجه أخيك، وإماطة الأذى عن الطريق، والإصلاح بين المتخاصمين، والتفريج عن المكروبين، ومساعدة المحتاجين، قال -عليه الصلاة والسلام-: "الإيمان بضع وسبعون شعبة، أدناها إماطة الأذى عن الطريق، وأعلاها قول: لا إله إلا الله، والحياء شعبة من الإيمان". وجاء في رواية لحديث عشر ذي الحجة، لفظ "خير" بدلاً من "العمل الصالح"، ففي رواية القاسم بن أبي أيوب: "ما من عمل أزكى عند الله ولا أعظم أجراً من خير يعمله في عشر الأضحى"(21). مما يدل على سعة معنى العمل الصالح، قال أبو شامة: "ومن الأزمان ما جعله الشرع مفضّلاً فيه جميع أعمال البر؛ كعشر ذي الحجة... فمثل ذلك يكون أي عمل من أعمال البر حصل فيها كان له الفضل على نظيره في زمن آخر"(22).
فأسرع بتوبة صادقة، تراجع فيها ماضيك، وتصلح حاضرك، وتخطط لمستقبلك، وذكّر نفسك بهذا الفضل العظيم، والأجر كبير، ليكون معيناً لك لتنطلق نحو تجديد الحياة، وزيادة الإيمان، والإقبال على الله -تعالى- بالعبادة والطاعة والعمل، "كان سعيد بن جبير -رحمه الله- إذا دخلت العشر اجتهد اجتهاداً حتى ما يكاد يقدر عليه"(23).
فأسرع بتوبة صادقة، تراجع فيها ماضيك، وتصلح حاضرك، وتخطط لمستقبلك، وذكّر نفسك بهذا الفضل العظيم، والأجر كبير، ليكون معيناً لك لتنطلق نحو تجديد الحياة، وزيادة الإيمان، والإقبال على الله -تعالى- بالعبادة والطاعة والعمل، "كان سعيد بن جبير -رحمه الله- إذا دخلت العشر اجتهد اجتهاداً حتى ما يكاد يقدر عليه"(23).
بدايةً تأمل قول الله تعالى: {إن الذي يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون{، وقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: "كل أمتي معافى إلا المجاهرين" رواه البخاري ومسلم.
ومن المجاهرة أن يعصي الرجل بالليل ثم يصبح وقد ستره الله عليه، ولكنه يقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه.
قال ابن حجر رحمه الله: «قوله: (معافى) اسم مفعول من العافية وهو إما بمعنى عفا الله عنه، وإما سلمه الله وسلم منه».
وربط بعض العلماء بين المجاهرة والمجون، لأن الماجن هو الذي يستهتر في أموره، ولا يبالي بما قال وما قيل له، فيكون الذي جاهر بمعصيته قد ارتكب محذورين: اظهار المعصية، وتلبسه بفعل المُجّان.
وقد كانت المجاهرة بالمعصية فيما مضى مقتصرة على التحدث باللسان، لكنها في عصر التقنية الإلكترونية توسعت دائرتها، وتنوعت مظاهرها وصورها وأساليبها، كتابةً وصوتاً وصورةً وفلماً، وأخذت تنتشر بشكل أوسع وأسرع وأوضح في المجتمع، حتى كأن القارئ والسامع والرائي لهذه المعاصي يعيش مع المذنبين وتحت سقف واحد مع العاصين.
ولذا يمكن أن تتخذ إشاعة الفاحشة في المجتمع المسلم المعاصر عدة أشكال، منها:
1) الإقدام على الفاحشة وتساهل الوقوع فيها.
2) إعلان مرتكبها بإتيانها، تحدثاً بها بين الناس، أو كتابة، أو صوتاً فقط، أو صورةً، أو صوتاً وصورة.
3) نشر الفاحشة والمنكر، سواءً بالقصص الفاضحة (صادقة أو كاذبة)، أو بالعبارات الجنسية أو الصور الخالعة أو المقاطع الفاحشة، من خلال مواقع التواصل الإلكترونية أو مواقع الإنترنت أو وسائل وتقنيات الاتصالات الحديثة، مثل: الواتس آب وغيرها.
4) الاصغاء إلى حديث أهل الفحش، إما مباشرة وعدم الرد عليهم وإسكاتهم، أو من خلال الاطلاع على ما نشروا، أو التعليق عليه بالإشادة والتأييد.
فهذه الأشكال وما يدخل مداخلها، كلها مما تشيع به الفاحشة في المجتمع، قولاً وفعلاً.
وإن من يقع في الذنب ثم ينشره كتابة أو صوتاً أو صورة أو صورة وصوتاً، فقد أذنب فوق ذنبه، وأضل فوق ضلاله، إذ لم يكفه فعل الذنب حتى وثقه، فصار شاهداً على قبح تصرفه وغفلته، ومصدراً مستمراً لزيادة سيئاته، حتى تمسح تلك الكتابات والصور وتحذف تلك المقاطع.
أخي/ أختي الذي أخطأ ووقع في المجاهرة الإلكترونية بالمعاصي، إن لها دوراً كبيراً وعظيماً في إشاعة الفاحشة بين المؤمنين، وتقليل بشاعتها وقبحها في قلوبهم، وتسهيل ارتكابها، ووقوع ضعفاء الإيمان فيها، والله جل وعلا يقول: "إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون".
وحاشك أن تتأمل هذه الآية وتستمر في تلك المجاهرة، فضلاً أن تبقي لك كتابة أو صورة أو مقطعاً أو حساباً في تويتر أو الفيسبوك تدعو فيها إخوانك المسلمين للفحشاء أو المنكر، فيكتسبون الإثم ويحصدون السيئات، ولك مثل آثامهم وسيئاتهم.
قد لا نتعجب من مسلم يخطئ في حق الله، فلا يفضحه الله ولا يأخذه بجريرته، فهو مسلم أخطأ والله غفور رحيم لمن تاب وأناب.
لكن العجب من شاب وفتاة تحلل من سلطان الدين والعقل والكرامة، ينشر معاصيه من خلال هذه الكتابات والصور والمقاطع، وعبر مواقع التواصل الاجتماعي، ويجد فيها متعة نفسية، ولذة عقلية، متغافلاً أو غافلاً عن النتيجة المرة، والعاقبة المؤلمة في الدنيا والآخرة.
أخيراً: ما المطوب منا؟ من جاهر أو جاهرة بمعصية ونشر ما يدعو إلى الفحشاء يقلع ويتوب، ومن خصائص هذه التقنية الإلكترونية إمكانية المسح والحذف وإيقاف الحسابات. ومن يدخل على هذه المواقع والحسابات الإقلاع وعدم الولوج إليها، ومن -عفواً وبغير قصد- دخل فليبلغ وينصح أصحاب تلك المواقع والحسابات وينشر الآيات والأحاديث.
ومن كان له سلطة شرعية أو وظيفية ويستطيع أن يحمي مجتمعنا وأبناءنا وبناتنا من هذه المواقع والحسابات، فقد قام بالواجب وحصّل الأجور العظيمة، ومنع شروراً كبيرة. ومن كان اباً أو أماً أو مربياً فيلزمه التوجيه والتحذير واستشعار المسؤولية.
الرجم ... شريعة منسوخة أم حكم شرعي دائم؟ - الرجم ... شريعة منسوخة أم حكم شرعي دائم؟ - الرجم ... شريعة منسوخة أم حكم شرعي دائم؟ - الرجم ... شريعة منسوخة أم حكم شرعي دائم؟ - الرجم ... شريعة منسوخة أم حكم شرعي دائم؟
الرجم ... شريعة منسوخة أم حكم شرعي دائم؟
بسام ناصر
أثار الشريط المصور لواقعة رجم سيدة سورية، بريف حماة الشرقي بتهمة الزنا، والذي نفذه عناصر يُعتقد أنهم من تنظيم الدولة الإسلامية، جدلا واسعا في الأوساط الإسلامية والثقافية المختلفة، كانت أبرز اتجاهاته اتجاه يقر بحد الرجم في الإسلام لكنه انتقد طريقة وظروف تطبيقه على أيدي التنظيم، واتجاه آخر أنكر حد الرجم باعتباره شريعة منسوخة، لا تنهض أدلة مثبتيه على إفادة حكم شرعي دائم بحسب أقوال المنكرين.
الاتجاه الأول يرى أن الرجم حكم شرعي ثابت، وهو حد من حدود الله، لا يمكن لمسلم إنكاره أو التهاون في تطبيقه، لكن خلافهم مع تنظيم الدولة الإسلامية يدور حول عدم توفر شروط تطبيقه، والتي منها أن تطبيق الرجم منوط بالخليفة أو نائبه، وهو ما لا يرونه متحققا في الواقعة المذكورة، لعدم اعترافهم بخلافة البغدادي أصلا.
أما اتجاه منكري حد الرجم، فهم يرونه شريعة يهودية، طبقها الرسول صلى الله عليه وسلم في بداية الأمر، ثم نسختها آيات الجلد الواردة في سورة النور، وأما الأحاديث الواردة في إثباته فهي عندهم معلولة ومضطربة، ليخلصوا إلى نتيجة مفادها "أنه لا رجم في الإسلام، وأنه لا حكم للزنا إلا ما نص عليه محكم الكتاب في جلد الزناة".
وبنظرة أكثر عمقا وتفصيلا، كيف يمكن قراءة طبيعة الاختلاف الواقع في القضية المطروحة؟ وما وجاهة رأي منكري حد الرجم؟ وما هي الاستشكالات التي يطرحونها على الرجم؟ وهل تقوى أدلتهم على مقابلة أدلة المثبتين وهم الاتجاه الأعرض الممثلين لمذاهب أئمة الفقه المعتبرين عند جماهير المسلمين؟ وهل ينطلق منكرو حد الرجم من رؤية تجديدية للفقه الإسلامي تروم تخليصه "من المصائب الفقهية الكبرى في تاريخ الإسلام" بحسب قول أحد المنكرين؟
الرجم حد ثابت لم يتغير ولم يُنسخ
ما هو حكم الرجم في الشريعة الإسلامية؟ وما هي الأدلة الشرعية عليه؟ أوضح الدكتور حسن شموط عميد كلية الشريعة بجامعة جرش الأهلية الأردنية، أن الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم من فعله وقوله أن عقوبة الزاني المحصن الرجم حتى الموت، فقد رجم صلى الله عليه وسلم ماعزا والغامدية وامرأة أخرى جهنية.
واستدل الدكتور شموط بحديث آخر هو قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يحل دم امرئ مسلم شهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة"، مؤكدا أن جمهور أهل العلم قالوا بذلك، كما قال ابن قدامة في المغني: "ثبت الرجم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله في أخبار تشبه المتواتر، وأجمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وأورد شموط حديث عمر أنه قال في الحديث الذي رواه البخاري: "لقد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل: لا نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، ألا وإن الرجم حق على من زنى وقد أحصن إذا قامت البينة، أو كان الحبل أو الاعتراف". قال سفيان: "كذا حفظت ألا وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده". مستدلا به إضافة لفعل النبي عليه الصلاة والسلام على أن هذه العقوبة ثابتة ولم تتغير ولم تنسخ.
وجوابا عن سؤال "عربي 21": هل أنكر هذا الحد أحد من المتقدمين؟ قال الدكتور شموط: "لا نعلم من قال بذلك قديما من العلماء المعتبرين، وهذا ما أكده ابن قدامة في المغني في (فصل وجوب الرجم على الزاني المحصن، رجلا كان أو امرأة، حيث قال: "وهذا قول عامة أهل العلم من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من علماء الأمصار في جميع الأعصار، ولا نعلم فيه مخالفا إلا الخوارج".
وينقل عن ابن عبر البر قوله: "وأما أهل البدع من الخوارج والمعتزلة فلا يرون الرجم على أحد من الزناة ثيبا كان أو غير ثيب، وإنما حد الزناة عندهم الجلد، الثيب وغير الثيب سواء عندهم، وقولهم في ذلك خلاف سنة رسول الله، وخلاف سبيل المؤمنين، فقد رجم رسول الله، والخلفاء من بعده، وعلماء المسلمين في أقطار الأرض متفقون على ذلك من أهل الرأي والحديث وهم أهل الحق".
استشكالات تفسيرية وأصولية على الرجم
أثار الدكتور جمال أبو حسان، الأستاذ المشارك في التفسير وعلوم القرآن بجامعة العلوم الإسلامية العالمية في الأردن، جملة من الاستشكالات التفسيرية والحديثية والأصولية على الرجم، لافتا إلى أن السؤال المركزي الذي يجب طرحه بين يدي بحث هذه القضية هو: ما هي الأدلة على اعتبار الرجم حدا من الحدود الشرعية؟ مناقشا للأدلة التي استند إليها مثبتو الرجم كحد بما سيأتي من كلامه.
أوضح أبو حسان ابتداء أن الرجم حكم في شريعة اليهود، بدليل أنه ما زال موجودا في التوراة إلى الآن، والنبي عليه الصلاة والسلام إنما رجم في بداية الإسلام، لأنه لم ينزل عليه تشريع له، وكان يحب موافقة أهل الكتاب، ويعمل بما عندهم إذا لم ينزل عليه تشريع فيه، وحكم الرجم منها.
وذهب أبو حسان إلى القول بأن هذا الحكم رفع ونسخ بآيات سورة النور، مستدلا بما قاله راوي حديث البخاري حينما سئل عن الرجم .. هل كان بعد سورة النور أم قبلها؟ فقال: لا أدري؟ فإذا كان راوي الحديث لا يدري، فاحتمال أن يكون قبل سورة النور وارد جدا.
وتساءل أبو حسان في حديثه لـ"عربي 21" أين هو الدليل على اعتبار الرجم حدا؟ مبديا تعجبه من استدلالهم بحديث عمر الذي فيه أن الرجم آية (الشيخ والشيخة..) من القرآن منسوخة (نسخت لفظا وبقيت حكما)، متسائلا باستغراب شديد كيف استساغ المسلمون قبول هذا النص الركيك على أنه آية قرآنية؟ فهي تفتقر إلى بلاغة القرآن، وليس فيها صفة الإعجاز، ومضمونها غير معقول أبدا.
يشرح الدكتور أبو حسان وجوه الركاكة في تلك (الآية) بقوله: "أولا هي ضعيفة السبك من حيث اللغة، فالشيخ هو كبير السن، والمرأة العجوز لا يقال لها شيخة في لغة العرب، ثانيا: إذا أخذنا بلفظ النص (الشيخ والشيخة) فهذا يعني أن الشاب والشابة المتزوجين إذا زنيا لا يطبق عليهم هذا الحكم لأنه خاص بكبار السن بحسب منطوق ما دُعي أنه آية.
وحول الاستشهاد بحديث عمر استشكل أبو حسان كيف يمكن لعمر رضي الله عنه أن يقول: لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لزدتها (عن آية الشيخ والشيخة)؟ متسائلا: هل الخوف من الناس هو الذي يمنع عمر أن يزيد آية في كتاب الله؟ وكيف يجوز لعمر أن يقول مثل هذا الكلام؟.
ويختم أبو حسان استشكالاته باستبعاد أن يكون الحديث القائل: "خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم" تفسيرا لقوله تعالى {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم.. فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن أو يجعل الله لهن سبيلا..} فما يفهم من الآية أن السبيل المجعول هو شيء غير الموت، فكيف نفسر الآية بالحديث الذي جعل السبيل المجعول هو الموت؟.
لا رجم في الشريعة الإسلامية
انتقد الدكتور محمد المختار الشنقيطي، أستاذ تاريخ الأديان بكلية قطر للدراسات الإسلامية عقوبة الرجم واصفا لها بأنها من المصائب الفقهية الكبرى في تاريخ الإسلام، وهي أبلغ مثال على التخلي عن المُحكمات القرآنية واتباع الآثار المضطربة.
وبين الشنقيطي أن عقوبة الزنا في القرآن الكريم تتراوح بين ثلاثة أحكام: جلد الزانيين (فاجلدوا كل واحد منهما)، والإقامة الجبرية للنساء (فأمسكوهن في البيوت)، وأذية الرجال (فآذوهما)، فتخلص الفقهاء من عقوبة الإقامة الجبرية للنساء، وعقوبة الأذى للرجال، بحجة أن الآيتين اللتين وردت فيهما العقوبتان منسوختان.
وشكك الشنقيطي بثبوت عقوبة الرجم بقوله: "وجاء الفقهاء بعقوبة غريبة عن روح الإسلام، ومناقضة لنص القرآن، وهي الرجم، ففرضوها عقوبة للزاني المحصن والزانية المحصنة، لافتا إلى أن الله أراد عقوبة الزاني عذابا (ويدرأ عنها العذاب)، (ما على المحصنات من العذاب)، وجعلها فقهاء الرجم تقتيلا وتمثيلا، فأيهم أحسن قيلا؟.
وحول الأحاديث التي يستدل بها مثبتو حد الرجم، ذكر الشنقيطي أن الفقهاء بنوا عقوبة الرجم على أحاديث مضطربة المتون، معلولة الأسانيد، مثل حديث الغامدية، وحديث الداجن، ممثلا لذلك بقول عمر: "لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبت آية الرجم بيدي" متسائلا: متى كان عمر مجاملا للناس في القرآن؟
وقال الدكتور الشنقيطي لـ"عربي 21" "إن الشيخ محمد أبو زهرة – وهو من أعلم الناس بالفقه ومدارسه في القرن العشرين – أنكر عقوبة الرجم، واعتبرها تشريعا يهوديا لا إسلاميا، وخلص الشنقيطي إلى القول: "لا رجم في الإسلام، ولا عقوبة للزنا إلا ما نص عليه محكم الكتاب من جلد الزانيين، أو الإقامة الجبرية للمرأة الزانية، والأذى للرجل الزاني".
مناقشة الاستشكالات والاعتراضات
تصدى مثبتو حد الرجم للرد على تلك الاستشكالات والاعتراضات، والتي يراها مثبتو حد الرجم بأنها لا تعدو أن تكون "حشدا للضعيف والاحتمالات والتخرصات والأوهام" بحسب الباحث الشرعي الكويتي هاني مطلق الشمري.
ورأى الشمري أن الذين أثاروا تلك "الشبهات" – على حد قوله – أقسام: فمنهم من طعن بجميع الروايات جملة وتفصيلا، بعد تناوله أحاديث فيها مقال عند العلماء، متجاهلا باقي الروايات التي هي أصل الحكم التشريعي، كمن تحدث عن حديث الداجن، وحديث عمر في الشيخ والشيخة.
أما القسم الثاني فهم الذين حملهم تواتر الأخبار في رجم الزاني المحصن، على أن يزعموا باطلا أنها منسوخة، وأنها كانت من شريعة اليهود فحكم بها النبي، ثم نزلت آيات النور لتنسخ ما عمل به النبي، من غير أن يأتوا بدليل صحيح وصريح على ذلك، متجاهلين في الوقت نفسه ما هو مقطوع به من تواتر الرجم.
في رده على ما أثاره المشككون في حد الرجم من أن الله جعل عقوبة الأمة نصف عقوبة الحرة المحصنة في قوله {فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب..} فكيف ينتصف الرجم إذا كان عذاب المحصنة الرجم؟ ما يعني أن الذي ينتصف هو الجلد، بين الشمري لـ"عربي 21" أنهم أخطأوا في فهمهم بأن المراد بالمحصنات في الآية المتزوجات الذي بنوا استشكالهم واعتراضهم عليه.
فوفقا للشمري فإن المحصنات في اللغة تأتي بعدة معاني، فقد يراد بها العفيفات أو الحرائر، أو المسلمات أو المنع، وفي هذه الآية لا يمكن أن يكون المراد "بالمحصنات" المتزوجات، لأن الآية بدأت بقوله تعالى: (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات) متسائلا: هل المتزوجة تنكح؟ ليستنتج أن المراد بالمحصنات هنا هو "الحرة التي أحصنت نفسها بالعفاف"، مستدلا بقول الشاطبي "وليس المراد هنا إلا الحرائر؛ لأن ذوات الأزواج لا تنكح" معتبرا أن هذه القرينة قاطعة في نفي أن يكون المراد بالمحصنات في هذه الآية المتزوجات.
وحول اعتراضات المشككين على قول راوي حديث البخاري (عبد الله بن أوفى) لما سئل عن الرجم: هل كان بعد سورة النور أم قبلها؟ فقال: لا أدري. أوضح الشمري أن قوله لا أدري ليس دليلا على أن الرجم لم يقع بعد سورة النور ليقال بأن الرجم نسخ بآيات سورة النور، فهو لم يثبت ولم ينفِ شيئا، حتى يحتجوا بنفي الرجم الثابت قطعا باحتمال لا يقوم به استدلال.
يتابع الشمري رده بقوله: "وردت روايات صحيحة تثبت أن الرجم وقع بعد نزول سورة النور، فآية النور نزلت بعد حادثة الإفك، التي اختلف العلماء هل كانت سنة أربع أو خمس أو ست، والرجم كان بعد ذلك، حيث حضره أبو هريرة، وقد أسلم سنة سبع، وحضره ابن عباس حيث جاء مع أمه إلى المدينة سنة تسع".
ويؤكد الشمري أن ما يقطع دابر كل الاستشكالات والاعتراضات أن الصحابة الذين نزل القرآن بين ظهرانيهم، استمروا بالرجم بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام، مستدلا بعدة أحاديث منها قول علي في صحيح البخاري "رجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم" حين رجم المرأة يوم جمعة، متسائلا: لو كان كانت آيات سورة النور نسخت حكم الرجم فهل يجهل الصحابة معرفة النسخ وهم من نقل إلينا القرآن؟؟.
وبين رأي المؤيدين لاعتبار رجم الزاني المحصن حكما شرعيا ثابتا، وبين رأي أولئك الذين يعتبرونه حكما منسوخا، يبقى باب النقاش مفتوحا على مصراعيه، حول قضية تزداد سخونة، كلما حلت نازلة تتعلق بمفهوم تطبيق الشريعة، وإقامة الحدود.
رأي الشيخ الغزالي فيما يجري الآن - رأي الشيخ الغزالي فيما يجري الآن - رأي الشيخ الغزالي فيما يجري الآن - رأي الشيخ الغزالي فيما يجري الآن - رأي الشيخ الغزالي فيما يجري الآن
رأي الشيخ الغزالي فيما يجري الآن
الشيخ محمد الغزالي (1917 - 1996م)، عالم ومفكر إسلامي كبير، أعطاه الله عز وجل بصيرة في أمر دينه حتى كأنه رحمه الله يضع قدمه عند منتهى بصر علماء زمانه ، أو كأنه ينظر إلى الغيب من ستر رقيق، فقد كان للرجل دور كبير في نشر الوعي الإسلامي في الأوساط الثقافية والدينية كما تصدى لتيارات الغزو الفكري في العالم الإسلامي. ومؤلفاته كثيرة ونافعة دافع فيها عن الإسلام عقيدة وشريعة ، منها كتابه "قذائف الحق" الذي ألفه منذ زمن بعيد وفي ظروف متشابهة إن لم تكن متطابقة مع ما يحدث، يقول رحمه الله في مقدمة الكتاب.. "ونحن نصدر هذا الكتاب فى ظروف شديدة التعقيد:
أعداء الإسلام يريدون الانتهاء منه، ويريدون استغلال المصائب التى نزلت بأمته كى يبنوا أنفسهم على أنقاضها.. يريدون بإيجاز القضاء على أمة ودين..
وقد قررنا نحن أن نبقى، وأن تبقى معنا رسالتنا الخالدة، أو قررنا أن تبقى هذه الرسالة ولو اقتضى الأمر أن نذهب فى سبيلها لترثها الأجيال اللاحقة.." ، وفيما يلي مقتطفات من هذا الكتاب تصف الواقع الذي نعيش فيه.
- يقول رحمه الله تحت عنوان : الإسلام وجماعة الإخوان: إن هناك قوماً يكرهون الإسلام ذاته ويخدمون بكراهيته القوى الثلاث التى تجمعت ضده اليوم: الشيوعية، الصهيونية، الصليبية، وهؤلاء يريدون أن يجعلوا من كلمة " الإخوان " سيفاً مصلتاً على عنق كل مخلص له عامل فى حقله، وأنا أرفض هذا الخلط..إن إرهاب المجاهدين فى سبيل الله بوصفهم إخواناً، ووضع العوائق أمام النهضة الإسلامية بزعم أن ذلك منع لعودة الجماعة المنحلة، إن هذا وذاك خيانة عظمى، وارتداد عن الملة..
لقد أصبح التجمع على الإسلام ضرورة حياة فى وجه اليهود الذين احتلوا أجزاء حساسة من أرضنا، ويوشك أن تكون لهم وثبة أخرى ربما كانت نحو عواصمنا وبقية مقدساتنا، فاصطياد الريب لهذا التجمع لا أستطيع وصفه إلا بأنه عمل لمصلحة بنى إسرائيل..
إن الخطة التى وضعت لمحاربة جماعة الإخوان لا يسوغ أن تستغل لمحاربة الله ورسوله.
ويسوءنى أن الذين رسموا هذه الخطة يحاولون أن يقضوا بها على الدين نفسه، والفرق واضح بين دين له قداسته ونفر من الناس لهم خطؤهم وصوابهم. انتهى من قذائف الحق (ص: 82)
- تقرير رهيب: يقول الشيخ :كنت في الإسكندرية، في مارس من سنة 1973، وعلمت ـ من غير قصد ـ بخطاب ألقاه البابا شنودة في الكنيسة المرقصية الكبرى، في اجتماع سري نقل مسجلا إلى الجهات المعنية، وفيه طلب البابا شنودة من عامة الحاضرين الانصراف، ولم يمكث معه سوى رجال الدين وبعض أثريائهم بالإسكندرية، وبدأ كلمته قائلاً: إن كل شيء على ما يرام، ويجري حسب الخطة الموضوعة، ثم تحدث في عدد من الموضوعات تمثل خطة الكنيسة في وقف المد الإسلامي ومحاولة الهيمنة على تراب مصر وشعبها، ثم قال البابا بالحرف الواحد:" وليعلم الجميع خاصة ضعاف القلوب أن القوى الكبرى في العالم تقف وراءنا ولسنا نعمل وحدنا، ولا بد من أن نحقق الهدف". وقد نفذ ما جاء في التقرير بحزم.
يعلق الشيخ قائلا: نحن نناشد الأقباط العقلاء أن يتريثوا وأن يأخذوا على أيدي سفهائهم وأن يبقوا بلادنا عامرة بالتسامح والوئام كما كان ديدنها من قرون طوال..
وإذا كانت قاعدة " لنا ما لكم وعلينا ما عليكم " لا تقنع، فكثروا بعض ما لكم، وقللوا بعض ما عليكم شيئاً ما، شيئاً معقولاً، شيئاً يسهل التجاوز عنه والتماس المعاذير له!!
أما أن يحلم البعض بإزالتنا من بلدنا، ويضع لذلك خطة طويلة المدى، فذلك ما لا يطاق، وما نرجو عقلاء الأقباط أن يكفونا مؤونته، ونحن على أتم استعداد لأن ننسى.. وننسى..
- تقرير يفضح النيات المبيتة للإسلام : أورد الشيخ تقرير اللجنة المؤلفة برياسة السيد " زكريا محيى الدين " رئيس الوزراء فى حينه، بشأن القضاء على تفكير الإخوان، و منع عدوى أفكارهم من الانتقال إلى غيرهم.بناء على أوامر الرئيس جمال عبد الناصر
عقدت اللجنة فى مبنى المخابرات العامة بكوبرى القبة عشرة اجتماعات متتالية وبعد دراسة كل التقارير والبيانات والإحصائيات السابقة، توقعت أن تكون النتائج الإيجابية لهذه السياسة هى:
اولا : الضباط والجنود الذين يقومون بتنفيذ هذه السياسة سواء من الجيش أو الشرطة سيعتبرون فئة جديدة ارتبط مصيرها بمصير هذا الحكم القائم حيث يستشعرون عقب التنفيذ أنهم (أى الضباط والجنود) فى حاجة إلى نظام الحكم القائم ليحميه من أي عمل انتقامى قد يقوم به الإخوان للثأر.
ثانيا: إثارة الرعب فى نفس كل من تسول له نفسه القيام بمعارضة فكرية للحكم القائم.
ثالثا: وجود الشعور الدائم بأن المخابرات تشعر بكل صغيرة وكبيرة وأن المعارضين لن يستتروا وسيكون مصيرهم أسوأ مصير.
رابعا : محو فكرة ارتباط السياسة بالدين الإسلامى.
يعلق الشيخ بقوله : هذا تقرير رديء، وقع فى الخلط الذى حذرنا منه، ونلاحظ عليه أمورا: أن الخصومة بلغت حد اللدد والعنت، وأن عاطفة التدين أمست موضع اتهام، وأن المتدينين جملة لا يرتاح إليهم.و أن باب المسخ والتحريف الإسلامى نفسه انفتح على مصراعيه، والمتأمل فى أسماء واضعي التقرير يرى أن أغلبهم يساري النزعة.
ثم يلفت الأنظار إلى من يتصدرون المشهد ويتحركون في الميدان بقوله : لقد اتجه الهدم إذن إلى أعمدة الفكر الإسلامى نفسه، وانفسح المجال أمام كل أفاك ليقول ما عنده وهو آمن، على حين احتبست أصوات المؤمنين فى حلوقهم. ولم يتحرك فى ميدان الدين كله إلا واحد من رجلين: إما مسلم منحرف يضر الإسلام ولا ينفعه، أو نصرانى ذكى اهتبل الفرصة فامتد إلى ما قصرت عنه آمال أسلافه من ألف عام.. وظهر المسلمون وكأنهم فى أعقاب غارة عاتية أكلت الأخضر واليابس.
- وعن الدعوة الإسلامية والحكام الخونة يقول :كانت " الخلافة " الكبرى رمزاً للإسلام، وشاخصاً عالمياً يلفت الأنظار إليه، ويذود الأعداء عنه. ومع أن " الخلافة " عندما تولاها الجنس التركى قد أصبحت شبحاً عليلاً، ومع أن الخلفاء الأتراك كانوا أقرب إلى السلاطين الجبابرة منهم إلى أمراء المؤمنين وحراس اليقين ودعاة الحق وهداة الخلق!! مع ذلك كله فإن وجود الخلافة فيهم كان له أثره فى وحدة المسلمين وتقليل الخسائر النازلة بهم من هنا وهناك.
وحسبنا أن نشير إلى موقف السلطان " عبد الحميد " من فلسطين، فقد ساق إليه اليهود قناطير الذهب ليسمح بوجود يهودي فيها فأبى الرجل إباء قطع كل محاولات الإغراء، وأحبط جميع المؤامرات لشطر العالم الإسلامى بهذا العنصر الغريب..ولما كان لوجود " الخلافة " من آثار مادية وأدبية بعيدة المدى فقد كان هم العالم الصليبى أن يجهز عليها، وقد استطاع أن يبلغ غرضه بعد الحرب العالمية الأولى مستغلاً أطماع القائد التركى " مصطفى كمال " الذى باع الإسلام والمسلمين من أجل البقاء رئيساً للدولة التركية الجديدة!!
إن الشروط الأربعة التى عرضها " الحلفاء " المنتصرون عليه هى أن يقطع صلة تركيا بالعالم الإسلامى وبالعرب خاصة، وأن يلغى نظام الخلافة، وأن يحكم الشعب بدستور تقدمى مبتوت الصلة بالدين.
وفى سبيل الزعامة رضي القائد الخائن بهذه الشروط، وألبسته أوربا حلل المجد، ولو أنه بقى على دينه وبقيت الأمة على دينها لتقلص الاحتلال الصليبى فى الأناضول قبل أن يتقلص فى مصر والشام والجزائر والمغرب!! فقد كانت مقاومة الأتراك له أشد وأقسى..
- حكام العرب وحرية الاعتقاد :القى الهالك معمر القذافي خطبة عن حرية الاعتقاد في الفكر الاسلامي!! يقول الشيخ رحمه الله معلقا على هذه الخطبة : إن العقيد يظلم نفسه إذ يخوض فى هذه البحوث ويقرر هذه النتائج.. ثم يبقى بعد ذلك كله أمر مهم، هل للعدالة مكانها فى سلوك الحكام المسلمين أم لا؟
إن الله عز وجل يقول فى كتابه: " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا. اعدلوا هو أقرب للتقوى " (المائدة: 8)
ومعنى ذلك أن يتحكم العقل والإنصاف في مشاعر الحقد والغضب. مهما كرهت فرداً أو جماعة فلا يجوز إذا كنت تقياً أن أسترسل مع هواي فى سجن خصومى أو تعذيبهم أو تهديد حاضرهم ومستقبلهم.. والمألوف فى أرض الله كلها ـ عدا الغابات وما إليها ـ أن يحقق مع المتهم، وأن يمنح حق الدفاع عن نفسه، وأن يمحص القاضي ما نسب إليه فى نزاهة، ثم يصدر الحكم فى أناة وتبصر بالإدانة أو التبرئة..أما القذف بالناس فى السجون لأن الحاكم رأى ذلك فشيء منكر جعله القرآن الكريم قرين سفك الدم الحرام، وعابه على اليهود .
إن الحاكم الذى ينتسب إلى الإسلام يستحيل أن يتدلى إلى هذه المسالك..
إن طراز الحكم فى العالم العربى إن لم يضبط داخل الإطار الإسلامى فسيكون معرة للإسلام تُنفِّر منه بل تثير السخريةَ به!! ومن الذين يهانون؟ متهمون بالدعوة إلى الإسلام؟!
" يا حسرة على العباد "..!!!. إن قلبى يتفطر عندما أرى الدم الإسلامى أرخص دم على الأرض.. لقد استباحه المجوس واليهود والنصارى والوثنيون والملحدون.. وحكام مسلمون!!
ولا ريب أن المدافعين عن الإسلام تكتنفهم ظروف صعبة معقدة، غير أنه بين الحين والحين ينبجس من روح الله ندى يواسى الجراح ويهون الكفاح ويبشر بالصباح..
ومهما كانت الأوضاع محرجة فلا بد من بقاء الدعوة الإسلامية مرفوعة الراية، واضحة الهداية، تعلن الحق، وتبسط براهينه، وتلقف الشبه وتوهى إسنادها..
إن محمداً ليس وقفاً على عصر أو جنس، إن رسالته للقارات الخمس ما بقى الزمان، وعلينا أن ننهض بهذا العبء..انتهى كلام الشيخ رحمه الله. اللَّهُمَّ مجري السحاب ومنزل الكتاب وهازم الأحزاب اهزم الكفار والمنافقين الذين يَصُدُّونَ عن سبيلك وَيُبَدِّلُونَ دينك ويعادون المؤمنين ، اللَّهُمَّ زلزلهم وانصرنا عليهم. اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يُرَدُّ عن القوم المجرمين .آمين آمين
روى مسلم في صحيحه عن أبي هـريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء" [1].
وعن سهل بن سعد الساعدي عن الـنـبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الإســلام بدأ غريباً وسـيـعـود غريباَ كما بدأ، فطوبى للغرباء". قيل: من هم يا رسول الله ؟ قال: "الذين يَصلُحون إذا فسد الناس" [2]. وروي بزيادة بلفظ: قيل: ومن الغـرباء ؟ قال: "النُّزاع من القبائل" [3].
كما روى عبد الله بن المبارك في كتابه الزهد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طوبى للغرباء، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله ؟ قال: ناس صالحون قليل في ناس سوء كثير، ومن يعصيهم أكثر ممن يطيعهم" [4].
كيف يعود الإسلام غريبا كما بدأ ؟!
في الحديث الأول بيان مبدأ الإسلام، وأنه بدأ غريباً بين الأديان، وكان أهله غرباء بين الناس، وكان المستجيب له غريباً بين أهله وعشيرته، يؤذى بسبب ذلك ويفتن في دينه، ويـعـادى على ذلك، وكان المسلمون صابرين راضين بقضاء الله مطيعين لأوامر رسوله حتى قوي الإسلام واشتد عوده في المدينة فزالت غربته عندما انتشر في أرض العرب، وكان أهله هم الظاهرين على من ناوأهم.
وسيعود الإسلام غريباً كما بدأ (كما هو حال زماننا هذا)؛ لقلة المتمسكين به. وهذه الغربة تزداد شيئاً فشيئاً بسبب دخول فتنة الشبهات والشهوات على الناس. أما فتنة الشبهات فقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة [5].
وأما فتنة الشهوات فقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك حيث قال: "والله ما الـفـقــر أخـشـى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم" [6].
أما فتنة الشبهات فينجى منها الطائفة المنصورة المذكورة في الحديث. "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك" [7] وهم الغرباء في آخر الزمان.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ".. وقد تكون الغربة في بعض شرائعه، وقد يكون ذلك في بعض الأمكنة. ففي كثير من الأمكنة يخفى عليهم من شرائعه ما يصير بـه غريباً بينهم لا يعرفه منهم إلا الواحد بعد الواحد. ومع هذا فطوبى لمن تمسك بالشريعة كما أمر الله ورسوله" ا هـ.
قال ابن القيم: ".. فهؤلاء هم الغرباء الممدوحون المغبوطون ولقلتهم في الناس جداً سُمُّوا غرباء، فإن أكثر الناس على غير هذه الصفات. فأهل الإسلام في الناس غرباء. والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء. وأهل العلم في المؤمنين غرباء، وأهل السنة -الذين يميزونها من الأهواء والبدع- منهم غرباء. والداعون إليها الصابرون على أذى المخالفين. هم أشد هؤلاء غربة. ولكن هؤلاء هم أهل الله حقاً، فلا غربة عليهم، وإنما غربتهم بين الأكثرين".
وقال أيضاً: "ومن صفات هؤلاء الغرباء -الذين غبطهم النبي صلى الله عليه وسلم- التمسك بالسنة إذا رغب عنها الناس وترك ما أحدثوه وإن كان هو المعروف عندهم، وتجريد التوحيد وإن أنكر ذلك أكثر الناس، وترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله، لا شيخ، ولا طريقة، ولا مذهب، ولا طائفة. بل هؤلاء الغرباء منتسبون إلى الله بالعبودية له وحده، وإلى رسوله بالاتباع لما جاء به وحده. وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقاً وأكثر الناس، بل كلهم لائم لهم. فلغربتهم بين هذا الخلق: يعدونهم أهل شذوذ وبدعة ومفارقة للسواد الأعظم".
وقال أيضاً: "فإذا أراد المؤمن الذي رزقه الله بصيرة في دينه، وفقهاً في سنة رسوله، وفهماً في كتابه وأراه ما الناس فيه: من الأهواء والبدع والضلالات، وتنكبهم عن الصراط المستقيم الذي كان عليه رسول الله وأصحابه. فإذا أراد أن يسلك هذا الصراط فليوطن نفسه على قدح الجهال وأهل البدع فيه وطعنهم عليه وازدرائهم به، وتنفير الناس عنه، وتحذيرهم منه كما كان سلفهم من الكفار يفعلونه مع متبوعه وإمامه صلى الله عليه وسلم، فأما إن دعاهم إلى ذلك، وقدح فيما هم عليه: فهناك تقوم قيامتهم ويبغون له الغوائل وينصبون له الحبائل. فهو غريب في دينه لفساد أديانهم، غريب في تمسكه بالسنة لتمسكهم بالبدع، غريب في اعتقاده لفساد عقائدهم، غريب في صلاته لسوء صلاتهم، غريب في طريقه لضلال وفساد طرقهم" [8].
ونجد في كتب السلف مدح السنة وأهلها ووصفهم بالغرباء. قال الأوزاعي: "أما إنه ما يذهب الإسلام ولكن يذهب أهل السنة، ترفقوا -يرحمكم الله- فإنكم من أقل الناس".
وقال أحمد بن عاصم الأنطاكي: "إني أدركت من الأزمنة زماناً عاد فيه الإسلام غريباً كما بدأ، وعاد وصف الحق فيه غريباً كما بدأ، إن ترغب إلى عالم وجدته مفتوناً بحب الدنيا، يحب التعظيم والرئاسة، وإن ترغب فيه إلى عابد وجدته جاهلاً في عبادته مخدوعاً صريعاً غرره إبليس قد صعد به إلى أعلى درجة العبادة، وهو جاهل بأدناها، فكيف له بأعلاها، وسائر ذلك من الرعاع، همج عوج، وذئاب مختلسة، وسباع ضارية، وثعالب ضوار".
وقال الآجري في وصفه الغريب: "فلو تشاهده في الخلوات يبكي بحرقة ويئن بــزفــرة، ودموعه تسيل بعبرة، فلو رأيته وأنت لا تعرفه لظننت أنه ثكلى قد أصيب بمحبوبه وليس كما ظننت، إنما هو خائف على دينه أن يصاب به، لا يبالي بذهاب دنياه إذا أسلم له دينه، قد جعل رأس ماله دينه يخاف عليه الخسران" ا هـ.
أنواع الغربة وأصناف الغرباء
وكما بين الحديث أن الغرباء قلة في الأزمان، من يطيعهم قليل ومخالفوهم كـثـيـر، وهـــم صنفان:
أحدهما: من يصلح نفسه عند فساد الناس.
والثاني: من يصلح نفسه ويصلح ما أفسد الناس من السنة وهو أعلى الصنفين وأفضلهما.
والغربة أنواع: أولها غربة أهل الحق، أهل الله وأهل الإسلام بين المسلمين وهي الغربة الممدوحة، وأصحابها هم الطائفة المنصورة.
والغربة الثانية: هي غربة الباطل بين أهل الحق وهي غربة مذمومة.
والثالثة مشتركة لا تحمد ولا تذم وهي الغربة عن الوطن.
من صفات الغرباء
والغريب قد يكون غير مشتهر عند الناس، ولا يأبه به كما ورد في صفة الغريب بعض الأحاديث، منها، حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "طوبى لعبد مغبرة قدماه في سبيل الله عز وجل، شاعث رأسه، إن كانت الساقة كان فيهم، وإن كان في الحرس كان منهم، وإن شفع لم يشفع، وإن استأذن لم يؤذن له، طوبى له، ثم طوبى له" [9].
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رب أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله عز وجل لأبره" [10].
وروى مسلم في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يحب العبد النقي الغني الخفي".
وروى البيهقي في الأسماء والصفات أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل المسجد فوجد معاذ بن جبل رضي الله عنه جالساً إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبكي فقال له عمر: ما يبكيك يا أبا عبد الرحمن ؟ هلك أخوك -لرجل من أصحابه؟ قال: لا. ولكن حديثاً حدثنيه حبي صلى الله عليه وسلم وأنا في هذا المسجد. فقال: ما هو يا أبا عبد الرحمن ؟ قال: أخبرني: "أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُحِبُّ الْأَخْفِيَاءَ الْأَتْقِيَاءَ الْأَبْرِيَاءَ، الَّذِينَ إِذَا غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا، وَإِنْ حَضَرُوا لَمْ يُعْرَفُوا، قُلُوبُهُمْ مَصَابِيحُ الْهُدَى يَخْرُجُونَ مِنْ كُلِّ فِتْنَةٍ عَمْيَاءَ مُظْلِمَةٍ" [11].
ونختم حديثنا عن الغرباء بقول الآجري رحمه الله: "من أحب أن يبلغ مراتب الغرباء فليصبر على جفاء أبويه وزوجته وإخوانه وقرابته. فإن قال قائل: فلم يجفوني وأنا لهم حبيب وغمهم لفقدي إياهم إياي شديد؟ قيل: لأنك خالفتهم على ما هم عليه من حبهم الدنيا وشدة حرصهم عليها، ولتمكن الشهوات من قلوبهم ما يبالون ما نقص من دينك ودينهم إذا سلمت لهم بك دنياهم، فإن تابعتهم على ذلك كنت الحبيب القريب، وإن خالفتهم وسلكت طريق أهل الآخرة باستعمالك الحق جفا عليهم أمرك، فالأبوان متبرمان بفعالك، والزوجة بك متضجرة فهي تحب فراقك، والإخوان والقرابة قد زهدوا في لقائك. فأنت بينهم مكروب محزون، فحينئذ نظرت إلى نفسك بعين الغربة فأنست بمن شاكلك من الغرباء، واستوحشت من الإخوان والأقرباء، فسلكت الطريق إلى الله الكريم وحدك، فإن صبرت على خشونة الطريق أياماً يسيرة واحتملت الذل والمداراة مدة قصيرة، وزهدت في هذه الدار الحقيرة أعقبك الصبر أن ورد بك إلى دار العافية، أرضها طيبة ورياضها خضرة، وأشجارها مثمرة، وأنهارها عذبة ..".
المصدر: محلة البيان - العدد 7 – ذو الحجة 1407 هـ.
[1] صحيح الجامع الصغير، رقم 1576.
[2] سلسلة الأحاديث الصحيحة، رقم 1273.
[3] توقف الألباني في تصحيحه وتضعيفه. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة، رقم1273.
[4] سلسلة الأحاديث الصحيحة، رقم1619.
[5] انظر رواياته في سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم 204،205.
[6] رواه البخاري في صحيحه.
[7] رواه البخاري في صحيحه.
[8] مدراج السالكين 3 / 194-201.
[9] رواه البخاري تعليقاً، والطبراني بإسناد صحيح.
[10] رواه الترمذي وحسنه.
[11] قال محقق كتاب الغرباء : إسناده صحيح، وروي بطرق كثيرة فيها ضعف.
الزواج المحظوظ - الزواج المحظوظ - الزواج المحظوظ - الزواج المحظوظ - الزواج المحظوظ
الزواج المحظوظ
هشام عبد المنعم
إنَّ السعادة بين الزوجين لا تكتمل إلا بفهم كل طرف منها للآخر، فيفهم الزوج زوجته، وتفهم الزوجة زوجها، ويتحمل الرجل زوجته، وتتحمل المرأة زوجها، فإن لم تفهم الزوجة زوجها فليفهَمهَا هو، وإن لم تتحمله فليتحملها هو.
ولتفهم أيها الزوج: أن الزوجة إذا ما ساءتك بأشياء، ثمَّ سرَّتك بغيرها، فلست بمغبون؛ لذا فاجعل ما ساءك لقاء ما سرَّك، تكن غير مديون.
والزوج المحظوظ هو الذي يعرف كيف يكون مع زوجته لا دائنًا ولا مدينًا؛ فيسلم!
أيها الزوج: لا تحرم زوجتك كل ما تطلب؛ فتتمرَّد عليك، ولا تعطها كلَّ ما تطلب فتستعص عليك، ولكن احرمها حين يكون الحرمان تأديبًا، وأعطها حين يكون العطاء ترغيبًا.
واعلم: أن من أكبر المصائب التي تهدم البيوت، مصيبة الرجل العاقل بزوجة حمقاء، ومصيبة المرأة العاقلة بزوج أحمق، فذاك هو الداء الذي لا ينفع معه دواء.
وانتبه: فمعاملة الزوجة بالحسنى تزيد العاقلة طاعة، والحمقاء تمرُّدًا، فأكثر مع الأولى، وأقلل مع الثانية.
وتفطن أيها الزوج: إلى أنَّ الكريم يستر مساوئ زوجته حتى عن أوليائها، واللئيم يتحدَّث عن مساوئ زوجته حتى مع أعدائها.
الرجل يرى المصيبة هي كل ما ينوء بعبئه، وموقفه منها التجلُّد، والمرأة ترى المصيبة هي كل ما لا يعجبها، وموقفها منها التشكِّي، وقد يوجد في الطرفين من يخالف ذلك.
لماذا خلق الله الرجل أشجع وأقوى من المرأة غالباً ؟ أليس إلا ليتحمَّل من الأعباء والمتاعب أكثر مما نتخيَّل ؟!!
ليست المرأة أنقص عقلاً من الرجل، ولكنها تُغلِّب عاطفتها على عقلها، والرجل يُغلِّب عقله على عاطفته .. لا جرم إن اختلفت نتائج أفعالهما بتباين استعمال كل منهما لعقله، فنُسب إليها نقصان العقل، ونُسب إلى الرجل زيادته.
إذا لم توفِّر لك زوجتك وأولادك الهدوء والسرور، فاخلق لنفسك مسرَّات، وإلا قضيت عمرك بالحسرات.
عروبة : الامام أبو حنيفة النعمان - عروبة : الامام أبو حنيفة النعمان - عروبة : الامام أبو حنيفة النعمان - عروبة : الامام أبو حنيفة النعمان - عروبة : الامام أبو حنيفة النعمان
عروبة : الامام أبو حنيفة النعمان
للمرحوم الدكتور ناجي معروف
مسودة مكتوبة بخط اليد موجدة بين أوراق الدكتور عبد العزيز الدوري .
يعد الامام الاعظم ابو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي ، من اهم الشخصيات في تاريخ العربية الاسلامية والتي كان لها دور كبير وفعال في النهضة العربية الاسلامية فهو صاحب مدرسة فقهية كبيرة مازالت قائمة ، وصاحب المسجد الكبير في بغداد.
تجمع جميع الروايات التاريخية المتداولة على عراقية الرجل وعراقية ولادته وتختلف ، في اصل اسرته ، فمنهم من قال فارسي ومنهم من قال افغاني ومنهم من قال عربي .
وهنا وجب علينا البحث والتدقيق والتقرير ، حسب المعطيات التاريخية والجغرافية المتاحة .
فمن الثابت والمعلوم تاريخيا ، ان الرجل ولد في العراق لاسرة عراقية صميمة والراجح انه ولد في الانبار من ارض بابل (العراق) . وتؤكد المصادر التاريخية ان العراق كانت تسكنه القبائل العربية قبل الفتح الاسلامي ، بشكل كبير وكان لها الدور الاكبر والمتميز في عمليات التحرير العربية الاسلامية ،واجمعوا على ان ديانة اهله كانت نصرانية وهي ديانة عرب العراق وديانة دولة المناذرة العربية ،بل ان اسم الامام ابوحنيفة (النعمان) فيه دلالة تاريخية كبيرة على انتماء ابائه الى عرب العراق الذين سكنوه قبل الاسلام فهو اسم لملك مهم من ملوك العراق العرب، كانت له صولات ضد الدولة الساسانية التي كانت جاثمة على قلوب اهل العراق لحقبة طويلة من الزمن .
قال الخطيب البغدادي (ت463هج) : كان ابو حنيفة نبطيا ، اي من عرب سواد العراق ، وفي رواية اخرى للخطيب يؤكد انه انحدر من الانبار في غرب العراق وهو الراجح لدينا لانه المكان الوحيد الذي حدد بالذات داخل ارض بابل مما يدل ثبوت الرواية ، وفي رواية مرفوعة الى حفيده القاضي اسماعيل بن حماد ، قال : نحن ابناء فارس الاحرار ، والمعروف ان الابناء في تلك الحقبة من العرب المولدين ومن المعلوم ان عاصمة فارس كانت المدائن (طيسفون) اي المقصود انه من ابناء العراق والذي كان جزءا من دولة فارس الساسانية ومركزها والرجل تحدث عن المكان لا العرق، واكد ابن ساباط انحداره العربي- العراقي بالقول (ولد ابو حنيفة وابوه نصراني) والمعروف ان عرب العراق نصارى وفرسه زرادشتيون وهم قله – رجعت الى ديارها في فارس بعد الفتح ، وقال الكردري في مناقب ابي حنيفة ، وهو من اعلام الاحناف ، ان ابا حنيفة من اهل بغداد قبل دخول العباسيين اليها وقال : انه من اهل بابل (والعراق كله كان يعرف ببابل- وبابل التاريخية هي العراق الحالي : حوار مع طه باقر) .
ومجموع هذه الروايات تؤكد تحريف كلمة بابل الى كلمة كابل عند ابن النديم والذي قال انه من كابل ، وهذا ليس له سند تاريخي او جغرافي
واستنادا الى مقولة : (اهل مكة ادرى بشعابها) ،توكد المصادر الحنفية، انه عربي الارومة ، وان ثابت بن المرزبان ، من بني يحيى بن زيد بن أسد ، من عرب الازد الذين هاجروا من اليمن وسكنوا ارض العراق بعد انهيار سد مأرب جراء سيل العرم .
وهناك بعض الدراسات الحديثة ، تصر اصرارا مقيتا على كونه فارسي ، بدون التثبت من المعلومة او حتى مقارنتها مع مثيلاتها ، ككتاب الفقيه المصري -محمد ابو زهرة في كتابه عن ابي حنيفة- والرجل فقيه لا مؤرخ وان كتب في تاريخ الفقه ، ورجاله ، ومن جاء بعده اعتمد عليه مع الاسف الشديد ، ولقد اخبرني الشيخ محمود شلتوت (شيخ الازهر الشريف) انه مقتنع تماما ان الامام الاعظم عربي النسب ، وقد ناقش ابا زهرة في كتابه بعد نشره ووعده بنشر النقاش ولكن المنية لم تمهل الرجل والذي اشار في هامش كتابه الى وجود هذه الروايات التي تقول بعروبة الامام الاعظم وينسبها الى متعصبي الحنفية ولست ادري هل درى ان الحنفية هم اصحاب مذهبه واتباعه واعرف الناس به وبتاريخه .
ومن المستشرقين أستغرب المستشرق الكبير ، كارل بروكلمان في دراسته المنشورة ،في المجلة الالمانية للمستشرقين ،حول غفلة المؤرخين العراقيين عن عراقية ابي حنيفة وكونه من عرب الحيرة القدامى ، ونسبته الى غير اهله ، وهو رمز بغداد الوطني ، ومن الاحناف الهنود يؤكد الشيخ شاه ولي الله الدهلوي الفاروقي (ت1762) ان الامام الاعظم من العرب لا غيرهم ، وانتقد بشدة كل من نسبه لغيرهم .
وخلال مناقشتنا للموضوع انا والمرحوم مصطفى جواد ، بحضور الدكتور حسين علي محفوظ والدكتور عبد العزيز الدوري، في دار المعلمين العالية، قال الرجل مقتنعا ، الغريب نحن العراقيون ننسب اعلامنا الى غيرنا ، في ظل روايات، متوفرة في العديد من المصادر وان جل المصادر الحنفية تؤكد نسب ابي حنيفة العربي كونهم الاقرب والادرى – بصاحبهم واما ارتباطه بتيم فهو من باب الاتحاد القبلي وهذا معروف لان اغلب عرب العراق تحالف مع القبائل الفاتحة ودخلت معها في احلاف .
ومن المعلوم ان مصطفى جواد خط لنفسه منهجا معلوما وهو اعتماد المصاددر القريبة لموضوع البحث : اي اذا كتب عن بغداد فيعتمد مؤرخا بغداديا واذا كتب عن دمشق يعتمد مؤرخا دمشقيا واذا كتب عن الشافعي يعتمد مؤرخا شافعيا ..وهكذا ..
وخلاصة تتبعي للموضوع المدون وغير المدون ، ان الامام ابي حنيفة عربي النسب ، من عرب الانبار في العراق والذين سكنوه قبل الاسلام .
مصادر
-رسالة من أبي حنيفة الى عثمان البتي –مخطوط بدار الكتب المصرية تحت رقم 1617 ميكروفلم 39762
-مجهول ،سيرة أبو حنيفة –تحت رقم 1378-علم الكلام ، ميكروفلم 39927.
-ابو منصور الماتريدي ،تاريخ ابو حنيفة –مخطوط بدلر الكتب المصرية ،تحت الرقم 258-عقائد تيمور –ميكروفلم رقم 30605
-محمد بن يوسف –مناقب الامام الاعظم –مخطوط بدار الكتب المصرية تحت الرقم 107.
-البزازي ،مناقب الامام ابي حنيفة-مخطوط النظامية الهند رقم 1329.
-الخطيب البغدادي ، تاريخ بغداد ،مخطوط دار الكتب المصرية 985 تاريخ ،ميكروفلم رقم 2016.
- شاه ولي الله ، سيرة ابي حنيفة النعمان ، مخطوط صغير ، جامعة عليكرة رقم9635.
عروبةالامام أبو حنيفة النعمان للمرحوم الدكتور ناجي معروف
مقالة نادرة جدا وجدت بين اوراق ومقتنيات العلامة المرحوم الدكتور عبد العزيز الدوري المؤرخ الكبير ، من قبل أحد الباحثين ولاهميتها نضعها هنا ..لتأخذ مكانها الصحيح ..رحم الله علامة العرب ناجي معروف ورحم الله المؤرخ عبد العزيز الدوري ... والحمد لله رب العالمين .
ولقد اكد عراقية الامام الاعظم ...الدكتور رشيد الخيون في كتابه : الاديان والمذاهب في العراق .طبعة المانيا وافرد فصلا خاصا للموضوع اكد عراقيته الصميمة واصله الانباري - البابلي - العربي
في سهرة سمر مع ثلة من الفتيات من العالم العربي والاسلامي بعد وجبة من المحاضرات العلمية الدسمة، سألنني عن قصة زواجي ولقائي بالشهيد طارق أيوب رحمه الله فشرحت القصة ببساطة واختصار وهي: كنت أشارك في مظاهرة احتجاجا على طرد النائب التركية المحجبة مروة قاوقجي من البرلمان حينها بسبب حجابها وقمت بعمل لقاء باللغة الانجليزية مع الصحافة الاجنبية التي كان المرحوم طارق يعمل مع إحداها وأعجبه ما أخبرني به بعد ذلك من أني أتحدث بطلاقة وثقة ولا أنظر في وجوه الرجال!
فقفزت إحدى الفتيات وقالت «خلص عرفنا معادلة الزواج الناجح والعريس اللقطة: غض بصر، انجليزي ومظاهرات» كانت الملاحظات مضحكة جدا في وقتها حتى ان الفتيات ظللن يرددنها كلما رأينني، غير انها كانت ثاقبة وواعية فهي تجمع مؤهلات الدين والعلم والعمل للفتاة، ومن يعجب ويبحث عن مثل هذا الصفات من الشباب لهو حري أن يفتح له المجال من أوسع أبوابه.
غير أن هذه تكاد تكون مثاليات في هذه الايام وبالذات في الاوساط الملتزمة التي لا تكاد خياراتها تختلف عن خيارات عامة الناس التي تبحث عن الجمال أولا، وليس أي جمال، فالأم تريد لابنها السيدة سارة في جمالها وطبعا مع هذا الاخلاق والدين والعائلة وكل الزيادات والاضافات ووو... ولكن الجمال والجمال أولا عندما يكون الخيار بيد الأم وهي التي تعاين وتقرر ثم يأتي دور العريس ليختم بالقبول او الرفض، مع أن دوره اساسي لا فرعي وسابق لا لاحق، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال للخاطب «اذهب فانظر اليها» اذهب انت وليست أمك ولا الوفد النسائي ولا الجاهة؛ لذا أجد ما تذهب اليه بعض العائلات الان من طلب وجود الخاطب في اللقاء الاول مستحبا لتجنيب الجميع كثرة الاخذ والرد والخيبات اذا كان الامر منتهيا من أوله وليساهم الشاب والفتاة بأخذ القرار من اول خطوة انهاء او استمرارا دون وساطات ولا وسطاء فقد يعجب الشاب في الفتاة عقلها ومنطقها فتغلب أحكام أمه في طولها وعرضها وبياضها وسمارها.
ولا يعني هذا إهمال رأي الاهل والعائلة بالطبع ولكن بشرط ان تكون هذه العائلة واعية وتتماثل مع فكر وتربية الشاب الخاطب، اما اذا كان الشاب ملتزما وعائلته بالكاد تقيم الفروض او العكس فلا يمكن ان يوكل الامر اليهم في اختيار نصف الدين وكل الحياة المستقبلية.
ما أراه من كثير من الفتيات يبشر بخير ووعي وتحمل للمسؤولية ولكن ما أسمعه من طلبات الشباب انفسهم او عن طريق امهاتهم، على الاغلب، يصيب بخيبة أمل ثقيلة!
البنات يبحثن عن أخلاق يوسف لا شكله وكثير من الشباب يبحثون عن الشكل اولا ثم يرقعونه بالمضمون!
يقولون الجمال في عين الرائي والعين قد تكون حسية بصرية ولكن أعظمها وأكملها ما كان عين البصيرة التي ترى الجمال في عقل يشاركه الفكرة، وقلب يشاركه الهم، وصبر على الحلوة والمرة، ومشروع تتوحد فيه الجهود، وعون على الخير وإعمار لبيت الجنة.
اختر زوجتك بعين بصيرتك ليوم يخف فيه بصرك فإن الذكي الالمعي من تاجر بالباقي وترك ما يتغير ويتبدل، فكل امرأة مسلمة صالحة لها يوم تطلع بإصبعها لتضيء ما بين السماء والأرض في وقت تكون الجميلات بمعايير الدنيا والعين القاصرة من أكثر أهل النار.
ولكننا لا نراهن على الاخرة فقط، ففي الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الاخرة، فاحرص على من تصحب فيها، فمحمد اختار خديجة في الدنيا فكان بيته وإياها في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب.
فاختاروا نساء الدنيا بمعايير نساء الجنة هذا هو الجمال.. كل الجمال.
يا قدس إنا قادمون - يا قدس إنا قادمون - يا قدس إنا قادمون - يا قدس إنا قادمون - يا قدس إنا قادمون
يا قدس إنا قادمون
خالد أبو الخير
على الجدار المقابل لمكتبي في «السبيل» ثمة بوستر كبير للمسجد الأقصى تتصدره هذه العبارة، التي أجد نفسي تهمس بها بين الفينة والفينة، ثم ينقلب الهمس حسرة «مهموسة».. فالقدس التي تسكن أفئدتنا باتت اليوم أبعد، وأقصانا يتعرض يومياً إلى هجمات تلو هجمات، من متطرفين صهاينة، جعلوه قبلة تخريبهم، مستغلين حالة الفوضى التي تسود العديد من الدول العربية، وحالة عدم القدرة على الوقوف والتصدي التي تنتابها، بل والنكوص، وانشغالها بمعضلاتها الداخلية.
بيد أن ذلك لا يعني أبداً أن القدس التي تنتظر القادمين، ووعدهم، أسلمت أجفانها إلى اليأس، بل بالعكس.. فثمة ما يرتل في صلاتها، أن الوعد أن تدخل ايلياء كأول مرة، وثمة في مواقف رجالها ونسائها الصامدين، المرابطين، ما ينبئ بأن هذه الأمة فيها الخير، والنجدة إذا دعا داعي حماية القدس والاقصى.
ليس ثمة كلام يمكن أن يصف صمود أهل القدس وتضحياتهم، ومقارعتهم أعتى وأطول احتلال في التاريخ يسعى في كل دقيقة الى نزعهم من جذورهم، وتهويد مدينتهم.. مدينة السلام. وهم يتصدون لكل محاولاته، بعزم أكيد وعنفوان المؤمن بربه وحقه في تلك البقعة الطاهرة، التي هي أرضه ومسكنه منذ عصور ما قبل التاريخ المدون والى يوم يبعثون.
لا أريد ان أسقط في الشاعرية وليس في نيتي أن أضيف جديداً الى هرم القصائد والاغاني والخطابات التي قيلت في القدس ومن أجلها، فالقدس اولا وآخرا تتحدث عن نفسها، وما يجري فيها يستنهض الضمائر دون تدبيج او تزويق أو بلاغة لغوية، لكني أعتقد أن العبارة التي خطت على بوستر في «السبيل»، هي ذاتها التي خطت على جدران مدارس وبيوت وجسور في بقاع كثيرة من الارض العربية، وربما نجدها حتى في أماكن لا نتوقعها، على جدران محطات قطار او مترو في أصقاع الدنيا، وفي أفئدة التلاميذ والاشرطة الملونة لفتيات لم يراوحن صفهن الثاني أو الثالث بعد.
يا قدس.. إنا قادمون، ما زال للعبارة وهجها رغم أن القدس تئن وتقاوم.
الجهاد على بصيرة - الجهاد على بصيرة - الجهاد على بصيرة - الجهاد على بصيرة - الجهاد على بصيرة
بقلم : محمد بن المختار الشنقيطي :
لم تعرف البشرية حروبا غيرت وجه الدنيا ومسار التاريخ بأقل ثمن في الدماء والأموال، مثل حروب النبي صلى الله عليه وسلم. والسبب في تلك النتيجة المبهرة هو أنها حروب جسدت روح الجهاد رسالة وغاية وأخلاقا وأحكاما.
فالحرب في الإسلام اضطرار لا اختيار، وأحمق من يسعى إليها بطرا، وجبان من يتهرب منها إذا فرضت عليه. فليس الإسلام دين السيف ولا دين الخشب، بل هو دين القيام بالقسط سلما وحربا، وقد جنب الإسلام المسلمين موقفا منافقا شائعا في ثقافات وديانات أخرى يدين الحرب ويخوضها، ويتبرأ من العنف ويمارسه، ويرفع راية المحبة ويخوض في دماء الأبرياء.
فالسلم مقصد من مقاصد الإسلام الكبرى، ومظلة شرعية يجب على كل المؤمنين الدخول فيها والاستظلال بظلالها، قال تعالى "يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة" (سورة البقرة، الآية 208). لكن هذه الغاية محكومة بغاية أخرى أجلّ وأسمى، وهي العدل الذي أرسل الله الرسل وأنزل الكتب لتحقيقه، فقال "لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط" (سورة الحديد، الآية 25). فلا سلم في الإسلام من غير جهاد الظالم والأخذ على يده بقوة، وما سوى ذلك فأحلام زاهية وأقاصيص وردية تصلح مادة للتمدح الساذج، لا قاعدة عملية للحياة. فلو لم يكتب الله تعالى الجهاد على العباد، لقرت أعين الظالمين بخنوع المظلومين.
"لم يجعل الإسلام اختلاف الدين مسوغا شرعيا للقتال، فالجهاد في الإسلام ليس قتال الكافر، بل هو قتال الظالم مسلما كان أو كافرا، فهو موقف أخلاقي مع العدل والحرية ضد الظلم والقهر. فالمجاهد يقاتل الظالم لظلمه، لا لعقيدته أو مذهبه"
وقد صدق الفيلسوف الشاعر محمد إقبال حين قال "إن الدين من غير قوة مجرد فلسفة". فالمدافعة سنة من سنن الله في الحياة البشرية، وهي التي تعصم من الفساد بنص التنزيل: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض" (سورة البقرة، الآية 251). فلا يحصل العدل وتتحقق الحرية بوعظ الظالم أن يترك ظلمه، بل بإقناع المظلوم بأن يتنزع حقه. ولم يخدم قومٌ الإنسانية، ولا أثّر قومٌ في مسار الحياة البشرية أكثر مما خدَمها وأثّر فيها أولئك الذين راهنوا بحياتهم في سبيل الحق والعدل والحرية.
لقد حصر الإسلام مسوغات القتال في ثلاثة أمور:
أولها- حق الدفاع عن النفس ورفع الظلم عنها، وهذا واضح من أولى آيتين نزلتا في الجهاد: "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظُلموا وإن الله على نصرهم لقدير. الذين أخرِجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله" (سورة الحج، الآيتان 39-40)، ثم فيما تلاهما من حيث التنزيل مؤكدا لهما: "وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخْرِجْنا من ديارنا وأبنائنا" (سورة البقرة، الآية 246).
ثانيها- نصرة المستضعفين العاجزين عن الدفع عن أنفسهم: "وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخْرجْنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا" (سورة النساء، الآية 75).
ثالثها- ضمان حرية العبادة للجميع دون قهر أو إكراه ليكون الدين لله خالصا: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهُدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يُذكر فيها اسم الله كثيرا" (سورة الحج، الآية 40). فالإكراه في الدين ينقل الناس من الكفر إلى النفاق، وهو أحط من الكفر: "إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار" (سورة النساء، الآية 145).
وقد جعل الإسلام كل قتال لرفع الظلم جهادا، فقال صلى الله عليه وسلم "من قُتِل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله، أو دون دمه، أو دون دينه، فهو شهيد" (أبو داود بسند صحيح)، وفي رواية "من قتل دون حقه فهو شهيد" (أبو يعلى بسند حسن)، وفي رواية أخرى "من قتل دون مظلمته فهو شهيد" (أحمد والنسائي بسند صحيح)، وفي رواية "دون مظلمة" بلا إضافة، وهو ما يجعل المعنى أعم وأتم، فيشمل مظلمة النفس ومظلمة الغير.
فالجهاد ليس موقفا اعتقاديا ضد الكافرين، بل هو موقف أخلاقي ضد الظالمين. وعلى عكس ما تراه بعض الجماعات الإسلامية المولعة بصياغة الأمور العملية صياغة اعتقادية، لم يجعل الإسلام اختلاف الدين مسوغا شرعيا للقتال، فالجهاد في الإسلام ليس قتال الكافر، بل هو قتال الظالم مسلما كان أو كافرا، فهو موقف أخلاقي مع العدل والحرية ضد الظلم والقهر، والمجاهد يقاتل الظالم لظلمه لا لعقيدته أو مذهبه، ولذلك كان من الجهاد الذي أمر به الإسلام: قتال الباغي المسلم، وصد الصائل المسلم، والأخذ على يد الظالم المسلم.
ونصوص القرآن المحكمة صريحة في حصر القتال في نطاق صد العدوان، وفي اعتبار ما وراء ذلك عدوانا: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين" (سورة البقرة، الآية 190). أما النصوص الواردة في قتال "الكفار" أو قتال "الناس" من غير تحديد، فإن أداة التعريف "ال" فيها عهدية وليست استغراقية، وهي من العام الذي أريد به الخصوص، وقد خصصها سياق الزمان والمكان لأنها تتحدث عن "الكفار" و"الناس" الذين كان بينهم وبين المسلمين يومذاك حرب مشروعة لها مسوغ من المسوغات الثلاثة المذكورة أعلاه، وهي مسوغات مبنية على معادلة العدل والظلم، لا على معادلة الإيمان والكفر.
" لقد رفض المستبدون وظهيرُهم الدولي أنسام الربيع، فعليهم أن يواجهوا عواصف الخريف وزمهرير الشتاء، بعد أن انبعثت روح الجهاد في الأمة اليوم بشكل لا نظير له في تاريخها القريب"
فالقائلون اليوم بقتال الكفار بإطلاق -ممن لا يميزون بين الصيغتين العهدية والاستغراقية في نصوص الجهاد- إما أنهم غير ملمين بلسان العرب ودقائق استخدامه، أو أنهم غير مطلعين على تفاصيل التجربة النبوية التي شملت موادعات مع قبائل عربية وثنية، ومعاهدات مع يهود المدينة، ونصارى نجران، ومجوس هجر، تحولت بموجبها الطوائف الثلاث جزءا من شعب الدولة الإسلامية في العصر النبوي، مع احتفاظها بدينها المخالف لدين الإسلام.
ولم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم بمسالمة الكفار المسالمين، بل استعان بالعديد منهم سياسيا وأمنيا ودعائيا: أفرادا مثل أبي طالب، والمطعم بن عدي، وعبد الله بن أريقط، وصفوان بن أمية، ومعبد الخزاعي.. ودولا مثل الحبشة.. وقبائل مثل خزاعة.. قال ابن هشام "وكانت خزاعة عيْبةَ نُصْحٍ رسول الله صلى الله عليه وسلم، مسلمُها ومشركُها، لا يُخْفون عنه شيئا كان بمكة" (سيرة ابن هشام 2/312).
وإنما اغتر القائلون بتعميم القتال اليوم بجوانب من الفقه الإمبراطوري الموروث الذي نشأ في سياق تاريخي اتسم بحرب الكل على الكل، وكانت الخطوط الفاصلة بين الإمبراطوريات يومها خطوطا دينية في أساسها. ولو أن هؤلاء ردوا هذا الفقه الإمبراطوري إلى نصوص الوحي والتجربة النبوية، وحاكموه بهما بعيدا عن ربقة التقليد، لاكتشفوا جوانب الضعف والخلل فيه، وبُعده عن روح الإسلام وقيمه الكلية، مثل العدل والحرية.
إن أمتنا صبورة شكورة، لكن الاستبداد وظهيره الدولي أوغلا في إذلالها بهمجيتهما، وأرغماها على حمل السلاح، وقديما قالت العرب "احذر غضبة الحليم". وقد برهنت الأعوام الأربعة التي تصرمت منذ اندلاع الربيع العربي المجيد أن الثورات ضد المستبدين الفاسدين قد تكون سلمية، لكن الثورات ضد القتلة السفاحين لا يمكن أن تكون إلا عسكرية. كما برهنت هذه الأعوام على أن الأمة مصرة على رفع الظلم مهما تكن التضحيات. لقد رفض المستبدون وظهيرهم الدولي أنسام الربيع، فعليهم أن يواجهوا عواصف الخريف وزمهرير الشتاء، بعد أن انبعثت روح الجهاد في الأمة اليوم بشكل لا نظير له في تاريخها القريب.
بيد أن هذه الطاقة الجبارة يساء استخدامها أحيانا بسوء التسديد، وضعف النظر الشرعي، وفقر الحكمة السياسية. فالعزيمة الصلبة والاستعداد للشهادة في سبيل الله لا يغنيان عن العمق الشرعي، والانضباط الأخلاقي، وحسن التقدير والتدبير. وإذا لم تكن للمجاهدين أخلاق وقيم أنبل من أخلاق الظالمين وقيمهم، تحوّل القتال من حرب بين ظالم ومظلوم إلى حرب بين ظالميْن، وإذا لم تكن لدى المجاهدين رؤية سياسية وإستراتيجية ناضجة، تحوّلت تضحياتهم انتحارا على أعتاب العدمية.
فنحن اليوم في مسيس الحاجة إلى إحياء سنن الجهاد وبيان رسالته الأخلاقية وحكمته السياسية في السياق المعاصر. وسنكتفي هنا من ذلك بإشارات ذات صلة بسياق الثورات العربية اليوم، آملين التوسع في الموضوع في جهد لاحق بعون الله:
أولا- لأن مناط الجهاد في الإسلام هو رفع الظلم حصرا، فليس من المصلحة أن يصوغ المجاهدون قتالهم بلغة اعتقادية صارخة، هي لغة الحرب بين الكفر والإيمان، والولاء والبراء. لقد جعل الإسلام كل قتال لرفع الظلم جهادا كما بيّنا، فثورات التحرير الوطني، وثورات التحرر السياسي -مثل الربيع العربي- من أعظم الجهاد، لأنها قتال ضد الاستعمار والاستبداد، وكلاهما خوض في دماء الناس وأموالهم وحقوقهم بغير حق.
"العزيمة الصلبة والاستعداد للشهادة في سبيل الله لا يُغنيان عن العمق الشرعي، والانضباط الأخلاقي، وحسن التقدير والتدبير. وإذا لم تكن للمجاهدين أخلاقٌ وقيمٌ أنبل من أخلاق الظالمين وقيَمِهم، تحوَّل القتال من حرب بين ظالم ومظلوم إلى حرب بين ظالميْن"
ومن أعظم الجهاد أن تهب جماهير الأمة للقتال دفاعا عن حريتها وكرامتها، وحقوقها الإنسانية، وثروتها المهدورة، وأوطانها المستباحة. وليس من اللازم أن يرفع الناس راية دينية ليكون قتالهم جهادا، بل يمكن القتال أيضا تحت راية الوطن والكرامة والحرية والاستقلال، دون أن يخل ذلك بمعنى الجهاد، أو بقبوله عند الله تعالى، فكل إعلاء للحق والعدل هو إعلاء لكلمة الله تعالى.
وتزداد المصلحة في تجنب لغة الكفر والإيمان حينما يصطف الأحرار من أهل الوطن الواحد -مسلمين وغير مسلمين- ضد غاز خارجي أو مستبد داخلي، فالعبرة بالمقاصد والمعاني، لا بالألفاظ والمباني. وربما يكون أنبل المجاهدين في الثورات العربية اليوم هم من يجاهدون إيمانا واحتسابا لتحرير الناس لا لحكمهم، ودون مراءاة دينية، أو جعجعة سياسية.
ثانيا- إن الجهاد ضد الاستبداد فعل اجتماعي جامع يحتاج إلى لم الشمل ورص الصف، فهزيمة المستبدين وإقامة دولة الحرية والعدل أصعب من أن تنوء بهما طليعة مجاهدة. وإذا كانت الانقلابات الساعية إلى حكم الشعوب والتحكم فيها تكفيها طليعة حزبية أو أيدولوجية منظمة، فإن الثورات الساعية إلى تحرير الشعوب لا تقوم إلا على أكتاف الشعوب.
فلن تنجح منازلة غاز خارجي، ولا ثورة على مستبد داخلي، إلا تحت راية جامعة، تلملم شتات الأمة، وتوحد أحرارها على مطلب الحرية والعدل للجميع. ولن تنتصر الهبة الجهادية الحالية ضد الاستبداد إلا إذا تحولت تيارا اجتماعيا جامعا، كما كانت الحركات الجهادية ضد الاستعمار، وهذا ما يدعوه علماء الاجتماع السياسي "الكتلة الحرجة". فالجهاد جهد أمة، لا جهد حزب أو طليعة أو نخبة.. ولا مستقبل لجماعة جهادية انفصلت عن عامة الناس، وتعالت عليهم، واتهمتهم بالردة أو البدعة أو الانحراف. وقد كان في وسع بعض هذه الجماعات أن تكون طليعة الربيع العربي الضاربة، لكنها تحولت عبئا عليه بسبب ضيق أفقها الشرعي والسياسي.
ثالثا- إن قتال حكام الجور لا يمنح الثوار المجاهدين شرعية سياسية وحقا تلقائيا في حكم الناس رغما عنهم، فغاية الثورة تحرير الناس لا حكمهم، ولا يحق للمجاهد أن يفرض نفسه حاكما للأمة بسابقته الجهادية. فالأمر في الإسلام شورى، وللأمة أن تختار المجاهدين حكاما لها، أو أن تختار غيرهم ممن هم أبصر بشؤون الحكم. وليست البراعة القتالية مرادفة للبصيرة السياسية، وقد رأينا في بعض التجارب الجهادية أشجع المقاتلين وأسوأ السياسيين، فلكل ظرف رجاله، وكل ميسر لما خلق له.
ومن الخطيئة الشرعية والخطل السياسي أن تنصّب حركة جهادية نفسها حاكمة للأمة، مستبدة بتدبير شأنها، فتفتات على عامة الناس، وتتجاوز مبدأ الشورى القرآني، فتستبدل ظلما بظلم. وهل ظلم أكبر من أن تُطلق جماعة صغيرة أيديها في شؤون أمة كاملة دون رضى منها، أو ينصّب فرد نفسه خليفة على مليار ونصف مليار مسلم دون استشارة منهم؟! وأي عبثية أسوأ من أن يكون المقاتل ضد الاستبداد مستبدا؟!
نعم، يحق للعسكري المتمرس أن يبادر باستلام القيادة دون تفويض في حالة الفراغ القيادي بساحة الحرب، وقد فعل خالد بن الوليد ذلك في غزوة مؤتة بعد استشهاد الأمراء الثلاثة، وبوّب الإمام البخاري للأمر بعنوان "باب من تأمّر في الحرب من غير إمرة إذا خاف العدو". لكن هذه حالة حربية استثنائية لا يمكن تعميمها من جيش إلى أمة، ولا نقلها من ساحة القتال إلى ساحة الحياة العامة. أما من تأمّر من غير تأمير الأمة له فيما وراء ذلك، فقد تجاوز أمهات القيم السياسية الإسلامية، وخالف الشرع من حيث أراد خدمته.
رابعا- إن كل ما سبق لا يعني أن نطالب المجاهدين بالمستحيل، أو أن نحاكمهم بمعايير الملائكة، فهم بشر يصيبون ويخطئون، واحتمال الخطأ في الرأي غير مانع من الاجتهاد، واحتمال الخطأ في الممارسة غير مانع من الجهاد. لكن الخطيئة غير الخطأ، والإصرار على الباطل بعد تبين وجه الحق ضلالة. وليس المجاهد فوق النقد، بل يجب تصحيح خطئه إذا أخطأ، والتبرؤ من فعله إذا أساء.
"قتال حكام الجور لا يمنح الثوار المجاهدين شرعية سياسية وحقا تلقائيا في حكم الناس رغماً عنهم، فغاية الثورة تحرير الناس لا حكمهم، ولا يحق للمجاهد أن يفرض نفسه حاكما للأمة بسابقته الجهادية"
وليس مجاهدونا اليوم بأكرم على الله ورسوله من خالد بن الوليد، وقد تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم من فعل خالد، فقال "اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد" ثلاثا (صحيح البخاري). والرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل، وأوْلى الناس بالرجوع إلى الحق هم المجاهدون، لأن المجاهد مراهن بروحه، فهو أجدر الناس بالحرص على شرعية الغاية والوسيلة ليتقبله الله، وفي الحديث "إن الله طيب ولا يقبل إلا طيبا" (الترمذي بإسناد حسن).
على أن أخطاء المجاهدين وخطاياهم -مهما عظمت- ليست بمسوغ شرعي لتعطيل الجهاد. فقد تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم من فعل خالد، وصحح الفعل بدفع ديات القتلى، لكنه أبقى خالدا قائدا من قادة المسلمين، ثم أبقى أبو بكر الصديق خالدا في الصدارة رغم مآخذه عليه، وحينما "أشار عليه عمر بعزله قال أبو بكر: فمن يجزئ عني جزاء خالد؟" (ابن حجر، الإصابة، 2/218). وفي سياق آخر قال أبو بكر "والله لا أشيم [أيْ لا أغمد] سيفا سلّه الله على عدوه" (مصنف ابن أبي شيبة، 5/547).
فلم يقر الصديق فعل خالد ولا برره، لكنه نظر إلى الصورة الكلية، وقرر أن لا يترك الأمة منكشفة أمام خطر وجودي من أجل تصحيح تجاوزات جزئية من خالد.. وذلك باب من أبواب الفقه السياسي دقيق المسلك.
ومهما يكن من أمر، فإن المجاهدين المسلمين اليوم لا ينقصهم الإقدام والتضحية، وإنما ينقصهم التبين الشرعي والسياسي، والله تعالى يقول "يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا" (سورة النساء، الآية 94). فالمجاهد الباحث عن الموت في مظانه عصيّ على الهزيمة أمام أعتى جيوش العالم، إنما تهزمه أخطاؤه وخطاياه، ويحميه من الهزيمة أن يكون جهاده على بصيرة شرعية وحكمة سياسية.
المصدر : الجزيرة