25 ـ قال تعالى : كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)
أيها الإخوة : ذكر ربنا تبارك وتعالى أنَّ عباده المتقين فى جنات وعيون ، يتنعّمون ويتلذذون ، بخلاف غيرهم من الأشقياء فى عذاب و نكال ، وحريق وأغلال ، وكان من سبب نعيم المتقين ، أنهم كانوا قليلاً مل الليل ما يهجعون، و المعنى أن نومهم و هجوعهم من الليل يكون قليلا، فما هنا مصدريهَ ، والتقدير : كانوا قليلاً من الليل هجوعهم ونومهم وهذا الأصح وهو اختيار ابن جرير رحمه الله . وليس المعنى أنهم لا ينامون الليل ، بل يحيونه بالعبادة ، فهذا قول ضعيف ، أضف الى مافيه من خلاف السنة ، وإكلال النفس وإجهادها .
وقال الحسن رحمه الله : كابدوا قيام الليل فلا ينامون من الليل إلا أقله ، و نشطوا فمدوا الى السحر حتى كان الاستغفار بسحر . ما أجمل قيام الليل ، وما أطيب سماع القران فيه، وتأمل آياته وعظاته ، فهو عباده الأتقياء، وسمت الأصفياء ، وزينة الأخفياء .
روى الترمذي فى سننه وقال : حديث حسن صحيح عن عبد الله بن سلام رضى الله عنه قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس إليه فكنت فيمن انجفل ، فلما رأيت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب ، فكان أول ما سمعته صلى الله عليه وسلم يقول :
(( يا أيها الناس أطعموا الطعام ، وصلوا الأرحام ، وأفشوا السلام ، وصلوا بالليل و الناس نيام تدخلوا الجنة بسلام)) . فاعرفوا قدر قيام الليل يا مسلمون ، ومافية من خيرات حسان ، وفضائل حميدة ، فهو طريق إلى الجنة ، والفوز بنعيمها وبساتينها .
اللهم وفقنا للصلاة والقيام ، وجنبنا الغفلة والآثام
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
26- قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً
أيها الإخوة : هذه موعظة مباركه شريفة في فضل التقوى ، التى هي معدن الإيمان وسره وحقيقته ، تقوى الله تعالى هي فعل أوامره واجتناب نواهيه . هي الانقياد لأمره والخضوع لشرعه وحكمه . وهي خير الزاد ، وأعظم محمول ومكسوب . وهي التجارة الرابحة . والمكاسب السامية ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ) سأل عمر رضى الله عنه أبى بن كعب رضى الله عنه عن التقوى فقال له : أما سلكت طريقا ذا شوك ؟ قال بلى قال: فما عملت ، قال شمرت واجتهدت ، قال : فذلك التقوى.
خل الذنوب صغـيرها وكبــيرها ذاك التــقى
واصـنع كماشٍ فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرنَّ صغيرةً إن الجبال من الحصـــى
هذه التقوى، من تعلق بها جعل الله له مخرجا ، فرّج همه ، ونفس كربه ، ورفع ضائقته، وتأتيه الأرزاق. والهبات من حيث لا يحتسب ، أي لا يخطر بباله . فالمتقي على كنز عظيم ، يضيء له طريقه ، ويدفع به مصائبه ، ويفتح به أبواب الخير والرزق .
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى ، والعفاف والغنى
والصلاة والسلام على معلم الهدى ، على آله وصحبه أجمعين .
27 ـ قال تعالى: وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا
27 ـ قال تعالى: وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا - 27 ـ قال تعالى: وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا - 27 ـ قال تعالى: وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا - 27 ـ قال تعالى: وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا - 27 ـ قال تعالى: وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا
27 ـ قال تعالى: وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
( ابراهيم )
ما أجلَّ ربنا تبارك وتعالى ، وما أكرمه ، وما أوسع عطاياه ، امتن بالهداية ، وأرسل الرسل وأنزل الكتاب وبسط الحسنات ، وأمطر الخيرات وسخر كل ما فى الأرض لبني الإنسان ، فصارت النعم مسبقة، والمنن دائمة كريمة ، فلا يمكن لتلك النعم الوفيرة أن تُحصى وتُعدَ . فالعباد عاجزون عن تعدادها وإحصائها ، فضلاً عن القيام بشكرها وأداء حقها ، قال طلق بن حبيب رحمه الله : إن حقَ الله أثقل من أن يقوم به العباد ، وإن نعم الله أكثر من أن يحصيها العباد ، ولكن أصبحوا تائبين وامسوا تائبين .
وفى صحيح البخاري كان صلى الله عليه وسلم يقول بعد طعامه ( الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركا فيه ، كما غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا ) ولو تأمل الإنسان نعم الله فى الطعام والشراب ، لوجد الخيرات قد فاضت فى هذا الباب ، وتلونت الدنيا بأصناف الطعام ، حتى إن الإنسان ليحارُويعجبُ ويتردد ، والله المستعان . لا تُحصى نعمه فى الأنفس ما أكرمه ، ولا تحصى فى الأولاد ما أعظمه ولا تحصى فى الرزق والمعاش ما أجله وأجوده !! فهل نعرف قدر هذه النعم الجزيلة ، فنتقي واهبها ونؤدي شكرها ؟ إنه ليجب علينا أن نعظم صاحب هذه النعم ، ونتقيه ونخشاه ، فإنعامه وكرمه موجب لشكره وللخضوع له والركون إليه ، فهو المنعم الخالق المتصرف تبارك وتعالى. ويروى فى الأثر أن داود عليه السلام قال : يا رب كيف أشكرك وشكري لك نعمة منك علي ؟
فقال الله تعالى : الآن شكرتني يا داود ، أي حين اعترفت بالتقصير عن أداء شكر المنعم .
وقال الشافعي رحمه الله : الحمد لله الذى لا تُؤدَّى شكرُ نعمة من نعمه إلا بنعمةٍ حادثة ، توجب على مؤديها شكره بها ، وقد قال القائل فى ذلك :
لو كل جارحــةٍ منى لها لغةٌ نثني عليك بما أوليت من حسن
لكان ما زاد شكري إذ شكرت به إليك أبلغ فى الإحسـان والمننِ
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك ، وتحول عافيتك ، و فجاءة نقمتك وجميع سخطك ،
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
إن مواعظ الله تعالى من أوامره ونواهيه ، ودينه الذى هدى به عباده هو خير العباد وصلاحهم وفلاحهم ، وما شقي الناس إلا بسبب تقصيرهم فيما وعظوا به ، وإعراضهم عما هدوا إليه فلو أنهم فعلوا ما يوعظون به أي من الآيات البينات ، والمواعظ الزكية ، لكان ذلك مفتاح الخير لهم ، وانصراف الشرور عنهم ، ولكان لهم أشد تثبيتا .
( وإذا لآتيناهم من لدنا أجراً عظيماً ) كان لهم عند الله العاقبة الحسنه فى جنته ودار كرامته
( ولهديناهم صراطاً مستقيماً ) صراطاً سويا فى الدنيا و الآخرة ، لا إعوجاج فيه ولا انحراف يأمن الإنسان معه الزلل والضلال والحسرة والندامة ، وهو دين الله الحق ، نسأل الله أن يحيينا ويميتنا عليه .
فهذه أربع خصال لمن فعل ما يوعظ به من الله تعالى ، وفى الجنة تكون منزلته على قدر استقامته على الصراط المستقيم ، ومحافظته عليه ،حيث قال تعالى بعدها :
(( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ، ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما ))
أي من عمل بما أمره الله به ورسوله ، وترك ما نهاه الله عنه ورسوله ، فإن الله عز وجل يسكنه دار كرامته ، ويجعله مرافقا للأنبياء ، ثم لمن بعدهم فى الرتبة وهم الصديقون ، ثم الشهداء ، ثم عموم المؤمنين وهم الصالحون الذين صلحت سرائرهم وعلانيتهم . ولن يجد الإنسان أكرم من هؤلاء أنساً وصحبةً ومرافقة .
وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم : ( كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى ، قالوا ومن يأبى يا رسول الله ؟ قال من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى ) رواه البخاري فى صحيحه .
اللهم أعنَّا على ذكرك وشكرك ، وحُسْن عبادتك
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
29 ـ قال تعالى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)
( الانبياء)
لقد كانت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم رحمةً للناس ، أشرقت بها الحياة ، وابتسمت بها الكائنات وأضاء لها الوجود . لقد كانت رحمة بما حملته من دين عظيم ، رفع سوط الظلم والاستبداد والاستخفاف ، وانقشعت به أستار الضلالة والضيق والمعاناة . لقد كانت رحمة عمت أرجاء الكون، وجمعت الناس وألفت بين قلوبهم ، وحكمتهم بالقسطاط المستقيم ، فهو عليه الصلاة والسلام ( نبي الرحمة ) ليس جباراً ولا متسلطاً ، ولا متعنتاً ، يفيض رحمة وحنانا ومحبة وإشفاقاً . كان رحمة فى دعوته ، وفى أخلاقه ، وأقواله ، وأفعاله ، شهد بذلك أعداؤه قبل أصحابه . فهنيئا لمن ظفر بطيب وافر من هذه الرحمة ، واستعصم بدينه ، وسلك سبيله وسنته ، فَليسعَدنَّ في الدنيا والآخرة ، وَلَيعيشَنَّ حياة طيبة .
روى مسلم فى صحيحه عن أبى هريرة رضى الله عنه ، أنه قيل لرسول الله : ادعُ على المشركين فقال : (( إني لم أُبعث لعاناً ، وإنما بُعثت رحمة ))
وصح حديث ( إنما أنا رحمة مهداة ) ومن أعرض عن هذه الرحمة وردَّها وجحد أنوارها ، فقد خسر في الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين ( ألم تر الى الذين بدلوا نعمةٌ الله كفرا ، وأحلوا قومهم دار البوار ، جهنم يصلونها وبئس القرار )
اللهم ارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء ، وتب علينا إنك التواب الرحيم ،
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
30 ـ قال تعالى : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)
( سورة العلق)
هذه أول كلمة نزلت من كتاب الله ، وقصه نزولها على النبي صلى الله عليه وسلم ثابتة مشهورة ، وهي مخرجة في الصحيحين وغيرهما ، والذي يعنينا فى هذه الآية وما بعدها امتنان الله على الإنسان بأن علّمه وكرِّمه بالعلم ، وفي ذلك إشارة إلى فضل العلم والتعلم . بل إن أول كلمةٌ نزلت هي ( اقرأ ) وفى ذلك حضّ على مزيد العلم والقراءة إذ أن القراءة النافعة سبب لتحصيل العلم الشرعي، المقرب إلى الله تعالى ، ولم يؤمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتزود بشئ غير العلم ( وقل ربي زدني علما ) .
فقبيح بأهل الإسلام أن يعزفوا عن العلم والقراءة ، وينصرفوا للراحة والفراغ والسفاهات . وآخرون ربما كانت قراءتهم فيما لا ينفع من أخبار رياضية ، و تعاسات فنية ، وقصص هابطة ، وفئة أخرى تقرأ الثقافة الهشة التى طمت وعمت ولا تسمن وتغني من جوع . والمقصود أن يحرص المسلم على حفاظ وقته ، ورفع مستوى عقله وتوسيع علمه ، ولا يتم ذلك إلا ( بالقراءة المفيدة ) التي تنصب أولاً في العلوم الشرعية ، فأجل ما يقرأ المسلم ، فى كتاب الله فلا يغفل عنه ولا يغيب، فهو طريق العلم والفقه والبصيرة قال صلى الله عليه وسلم : ( اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه ) وليكن للإنسان ورد يحافظ عليه كما يحافظ على طعامه وشرابه وصحته وسلامته وليقرأ الإنسان في الكتب النافعة كالصحيحين ورياض الصالحين وزاد المعاد وتفسير ابن كثير أو بعض مختصراته وفتح المجيد والرحيق المختوم ، ونظائرها من الكتب النافعة . وليحذر ما يكتبه أهل الباطل من قصص ساقطة ، ومجلات خليعة ، ومعلومات ضحلة ، فإنها غزيرة هذه الأيام ، نسأل الله أن يقطع دابرها ، ويقي شبابنا وبناتنا شرها وأضرارها . فينبغي علينا كمسلمين قراءة النافع ، وتربية أبنائنا في الدور و المدارس على ذلك ، وليكن السباق في مثل ذلك . وليس في سواه والله الموفق .
اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما وعملا يا أرحم الراحمين ،
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
ما دبَّ الضعف في الأمة ، ولا لحقتها المهانة ، إلا بسبب خوائها من دين الله ، فلم تعد أمتنا في هذه الأعصار ناصره لله كما ينبغي ، مُقيمةً لدينه كما يراد ، معتصمة بكتابه وهدي رسوله كما يُفترض . لقد قصرت الأمة في مفهوم النصرة لله تعالى ، فلم تحكم دين الله في حياتها كلها ، ولم تلتجئ إليه ولم تتوكل عليه، بل ركنت إلى دنياها ، واحتكمت لأهوائها ، فتسلط عليها الغرب الكافر ، وأصبحت ألعوبة في يديه والله المستعان . فأصابها ما أصابها ، وتأخر النصر ، وغاب الفلاح ، ولعبت بها الأهواء . ولكي تحظى أمتنا المنكوبة بنصر الله ، لابد أن تعود إلى ربها وخالقها العود الحميد ، فتعتصم بدينه ، وتحكم كتابه ، وتدعو لسبيله ، وتجاهد وتصبر ، حينئذ تحق عليها كلمه الفوز والظهور والفلاح كما وعد سبحانه ( وكان حقاً علينا نصرُ المؤمنين )
( ولينصرن الله من ينصره ) ، فهذا وعد أكيد منه سبحانه وتعالى .
( إن الله قوي عزيز ) بقوته خلق كل شيء فقدره تقديراً وبعزته لا يقهره قاهر ولا يغلبه غالب ، وكل القوى والجموع تحته ذليلة حقيرة ، فمن يغلبه سبحانه وتعالى ومن يحاربه ؟!! من يغالب الله يغلب ، ومن يحاربه يُخذل ويهزم ، فاعتصموا بدين ربكم ، وعودوا إليه مؤمنين متوكلين .
زعمت سخينةُ أن ستغلبَ ربَها فَلَيغلبنَّ مغالب الغلابِ
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً ، وانصرنا نصراً عظيماً واغفر لنا وارحمنا إنك أنت الغفور الرحيم
وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
32 ـ قال تعالى :يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) " آل عمران "
هل فكر ابن آدم أنه محاسب على كل صغيرة وكبيرة ، وأن أعماله وأقواله وسكناته ستُحضر يوم القيامة فيرى حسناته قد حضرت ، وسيئاته قد حضرت ، فيفرح أهل الإحسان لحسن ما يرون وبهاء ما يجدون ، ويحزن أهل الإساءة لقبح ما يرون وتعاسة ما يعاينون ( يُنبأ الإنسان يومئذ بما قدم و أخر )
ويود أهل الإساءة لو تبرأوا مما عملوا ، وودوا لو أن بينهم وبين مساوئهم آماداً بعيدة لا يرونها ، ولا يسمعون بها ، ولا يتكدرون بها ، والله المستعان .
ولكن هيهات ، حضرت الأعمال و حضر الحساب ، فمن أحسن فلنفسه ، ومن أساء فعليها ، ولا يظلم ربك أحداً ، ولقد جاءتكم الرسل ، و أنذرتكم النذر ، وتُلي القرآن ، وسمعتم داعي الله ، فأين التقوى و المراقبة ، وأين التفكر و المحاسبة ، وأين الاستعداد ليوم الحساب؟!!
(فوربك لنسألنهم أجمعين ، عما كانوا يعملون )
إنها لحسرة عظيمة أن لا يرى العبدُ يوم القيامة إلا السيئات و المهلكات ، فضيحة ما بعدها فضيحة!!
ويتبرأ مما يرى ويتمنى البعد والفرار و الانقطاع ، بل يتبرأ من شيطانه الذي قارنه في الدنيا وحرّضه على السيئات ، قال تعالى: (حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بُعدَ المشرقين فبئس القرين )
نعم لقد كان بئس القرين ، أنساه الطاعة ، وأغراه بالدنيا ، وضيعة الآخرة ، عياذاً بالله من ذلك .
اللهم آتنا فى الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ، وقنا عذاب النار
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
33 ـ قال تعالى : وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً (63)
( الفرقان )
كم هو جميل في المسلم أن يتحلى بالأخلاق ، ويتزين بالآداب، فلا يقول إلا خيراً، ولا يفعل إلا حسناً ، اقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم الذي كان خلقه القرآن ، يعيشه ويحياه ويهتدي بهداه ، وكان لا تزيده شدة الجاهل عليه إلا حلماً.
كم قيل فيه ، وتُكلِّم في عرضه ، وخوطب بجفاء و جلافة من الأعراب وغيرهم ، فلم يكن له معهم إلا الحلم والتبسم و الرد بالتى هي أحسن .
هذه صفة كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذى بعثه الله لتتميم مكارم الأخلاق ، وهي صفة امتدح الله بها ( عباد الرحمن ) ، فكانوا إذا تكلم عليهم الجهلة ، لا يصيحون ولا يغضبون ولا يُعنفِّون ، وإنما يجيبون بالقول اللين السهل ، الخالي من العنف والسباب و الجدال .
والداعية إلى الله تعالى أحوج ما يكون إلى هذه الصفة العالية ، لتكبر نفسه ، وتؤثِّر دعوته ويسمو منهجه .
فإذا ارتفع صوت الجاهل قل سلاماً، وإذا عنَّف ، فتلاين، و إذا شتم فلا تغضب ، وقل كلاماً طيباً، ومعروفاً ، وادع له بالخير والسلامة والهداية ، قال تعالى : (( وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه )) وقال (( وإذا ما غضبوا هم يغفرون ))
وفى الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه قال : كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعليه بُرد نجراني غليظ الحاشية ، فأدركه أعرابي ، فجبذه بردائه جبذة شديدة ، فنظرتُ إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته ، ثم قال: يا محمد مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك ، ثم أمر له بعطاء .
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأقوال ، لا يهدي لأحسنها إلا أنت ، واصرف عنا سيئها
لا يصرف عنا سيئها إلا أنت
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
34- قال تعالى : ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)
( الأعراف )
دعاء الله تعالى من خير العبادات ، وأفضل الطاعات ، به انشراح الفؤاد ، وسلوة النفس وبه الثمار اليانعة ، والفوائد الزاهرة ، قال صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه : (( الدعاء هو العبادة )) يجمع التوحيد واليقين والإخلاص و التوكل و الاستعانة . بالدعاء الصادق ، تتيسر الأمور ، وتنكشف الكروب ، وتُزال الأسقام ، وتُقضى الحوائج .فلا يَغفلَنَّ المسلم الواعي عن هذه العبادة العظيمة، وليتحر أسبابها ، وأوقاتها وما يعين عليها .
وفى هذه الموعظة الشريفة يأمر الله عباده بدعائه والالتجاء إليه ، ويعلمنا أدبين مهمين :
أولهما:أن يكون الدعاء ( تضرعاً ) أى علي وجه التذلل والإستكانه والانكسار بين يديه سبحانه وتعالى .
وثانيهما: أن يكون الدعاء (خفية ) أي سراً تخشع فيه قلوبكم ويصح يقينكم وتوحيدكم ، لا جهاراً ومراءاة للناس.
وهذا أدب عظيم يجب على المصلين و الداعين التقيد به ، وعدم تجاوزه والخروج عنه ، فإن بعض الإخوة يرفع صوته فى الدعاء ، وقد يشوش على من حوله ، وفى ذلك كشف لأسراره وفتنة له ، مع ما يحصل من تشويش وإضجار للآخرين .
ولذلك ثبت فى الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال: رفع الناس أصواتهم بالدعاء ، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (( أيها الناس اربعَوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، وإنما تدعون سميعاً قريباً ))
قال الحسن البصري رحمه الله : إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به الناس ، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير ، وما يشعر به الناس ، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته ، وعنده الزوار وما يشعرون به ، ولقد أدركنا أقواماً ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر فيكون علانية أبداً ، لقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء ، وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همساً بينهم وبين ربهم ، وذلك أن الله تعالى يقول (( ادعوا ربكم تضرعاً وخفية ) وذلك أن الله ذكر عبداً صالحاً رضي فعله فقال (( إذ نادى ربه نداء خفيا )) .
اللهم إنا نعوذ بك من قلب لا يخشع ، ومن نفس لا تشبع ، وعلم لا ينفع
ودعاء لا يُسمع وصلي الله وسلم علي نبينا محمد
وعلى آله وصحبه أجمعين
إذا تأخر الغيث ، أجدبت الأرض ، وجاع العيال ، وقنط الناس ، وهلكت الماشية . وتنقطع كل الأسباب فلا يبقي إلا سبب واحد ، يلجأ إليه الناس ، وتنقطع إليه المخلوقات سبحانه وتعالى ، فتطمح العيون وترضي ، وترفع الأيدي ، وتخبت القلوب ، وليس لها إلا خالقها ورازقها،ومحييها ومميتها ، تبارك وتعالى : (( وهو الذى ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته )) فإذا قنط الناس واشتدت حاجتهم نزلت الرحمة فعمّت آثارها كل الأرجاء و النواحي، يُروى أن رجلاً قال لعمر رضى الله عنه : يا أمير المؤمنين قحط المطر ، وقنط الناس ، فقال عمر رضى الله عنه مُطرتم ، ثم قرأ ( وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا ))
ما أرحم الله بعبادة وما أعطفه بهم ، فيجيبهم بعد الإياس ، ويعطيهم بعد الافتقار ! ولهذا شرع للمسلمين إذا تأخر نزول الغيث إن يخرجوا لصلاة الاستسقاء ، إذا أمر الإمام، وإن كانت بعض الجهات ممطورة ، فليدع أهل الغيث والخصب ، لأهل الجدب والجفاف كما نص الفقهاء رحمهم الله على ذلك .
وفي الغيث إغاثة للعباد ولأرضهم و مواشيهم ، وبه حياة كل شئ ، ولا يمتنع نزوله ، إلا بسبب مظالم العباد ومعاصيهم كارتكاب الظلم والفواحش وتضييع الفرائض ، كما ورد في الحديث الصحيح
( وما منع قوم زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر ، ولو لا البهائم لم يمطروا ))
رواه ابن ماجة في سننه
فكلنا يا مسلمون في حاجة شديدة للغيث والقطر ، فلا يكن أحدكم سبباً في حجبه ومنعه ، ومن الذي يستغني بما في يديه عما عند الله ، وقد حفه بالرحمات والبركات .
(ما عندكم ينفد وما عند الله باق ).
اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا غيث الإيمان في قلوبنا و أغثنا غيث الرحمة في بلادنا وديارنا ،
إنك أنت الولي الحميد.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
36- قال تعالى : أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً
(54)( النساء )
في هذه الموعظة إنكار على الحسدة الذين يحسدون الناس على ما وهبهم الله تعالى ، ويتمنون زوال نعمهم وفضائلهم . وهي وإن كانت مسوقة فى حق أهل الكتاب إلا أنهم تشملهم وغيرهم لأن الله استنكر عليهم ذلك ، فالحسد داء محرم ، وهو خلق ذميم .
فاليهود حسدوا النبي صلى الله عليه وسلم على ما أعطاه الله من النبوة العظيمة والمنازل الكريمة ، وأبغضوه وحاربوه ن وحسدوا العرب فى ذلك ، لأنهم كانوا يريدون النبي الخاتم منهم ، فلم يتم لهم ذلك .
فليحذر المسلم أن يكون على سجية هؤلاء المرضى ، فيحسد إخوانه على ما عندهم من مال ، أو علم أو شرف ، وليحمد الله على ما وهبه ، ولينظر إلى من هو دونه ، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .
قال صلى الله عليه وسلم (( دبَّ إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء ، أما إنها لا تحلق الرأس ولكن تحلق الدين ))
ألا قل لمن كان ليِ حاسداً أتدري على من أسأت الأدبْ
أســأت على الله فـعله لأنـك لم ترضى لي ما وهبْ
فجــازاك عنه بأن زادني وسَـدَّ عليك وجوهَ الطلبْ
والواجب على الحاسد ، كظم ما في نفسه و عدم إظهاره فى المجالس ، وسؤال الله طهارة القلب ونقاءه والإحسان إلى المحسود ومحبته . والواجب على المحسود الصبر و الاحتساب، والسماح وعدم المماثلة والمجازاة .
اللهم سدِّد ألسنتنا ، وثبِّت حججنا ، واسلك سخائم صدورنا
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
من طبع بني آدم الاستعجال ، والضجرُ مما يكدَّره ، والجزعُ مما يكره ، ولا يعلم الإنسان أن مكارهه ومواجعه قد تسفر عن خيرات وفضائل وبركات إذا صبر واحتسب . بـل قد لا يكون وراء المكروه خيراً فحسب ، بل
(خيراً كثيراً ) يجنى بركته وفضله وحسنته في الدنيا ، ويجنى في الآخرة جزاء صبره واحتسابه واحتماله .
ولذا كم تمر على المسلم في الحياة من أمور تجمع الخير والشر ، والحسن والسوء ، والواجب عليه الصبر والاحتمال وعدم الجزع ، فقد يتزوج امرأة فيها خير وشر فيهمّ بطلاقها ، وصبره عليها خير له ، قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح :
(( لا يَفرَك مؤمن مؤمنة إن سخط منها خلقا ، رضي منها آخر ))
وقال ابن عباس رضى الله عنه في هذه الآية: هو أن يعطف عليها أي الزوج على زوجته ، فيرزق منها ولداً ، ويكون في ذلك الولد خير كثير .
وقد يمرض المسلم وفى مرضه تكفير لسيئاته ، ورفعة لدرجاته ، وقد تصيبه ضائقة أو يعسر رزقه وفى ذلك له خير كثير وهو لا يشعر ، والداعية إلى الله قد يُبتلى ويؤذى ، وفي ذلك مصالح حميدة له ، منها تثبيته وتمكينه ، وزيادة إيمانه ، وتربية له وتطهير ، إلى آخر ذلك من فوائد حسان لا يدركها إلا من ذاقها وعاشها .
والجهاد في سبيل الله فرضه الله على هذه الأمة وهو كره لهم ، لكنه خير عظيم بما فيه من آثار ومصالح يعرفها أهلها ، كتحكيم الإسلام وسيادة الدعوة ، ودحر الكفر وأهله ،و ثواب الشهادة ، وإظهار آيات الله وأسمائه في الأرض ، وغيرها كثير والله الموفق .
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات ، وترك المنكرات ، وحب المساكين
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
38 ـ قال تعالى : فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)
( الصافات )
أيها الإخوة : من حفظ الله وعرفه وقت الرخاء والعافية ، عَرَفه الله حين الشدائد والمضايق . هنا يقصُّ الله علينا خير نبيه وعبده الصالح يونس عليه الصلاة والسلام ، وأنه خرج مغاضباً من قومه ، حيث كذبوه ، وتأخر إسلامهم ،وأنذرهم العذاب بعد ثلاث ، وركب الفلك المشحون أي المملوء فلعبت بهم الأمواج حتى كادوا يهلكون ، فاقترعوا أن يُلقوا واحداً لتخفَّ بهم السفينة ، فوقعت القرعة على يونس عدة مرات ، وكانت بلاء من الله له ( فساهم فكان من المدحضين ) أي المغلوبين.
وبالفعل ألقى نفسه في البحر ، فابتلاه الله بأن سلط عليه حوتا ضخما فالتقمه وأمره أن لا يهشم له لحما ، ولا يكسر له عظما ، ومكث في بطنه مدة ، ونادى بدعائه المشهور دعاء ذي الكرب :
( لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ).
فحفظه الله في بطن الحوت ، ونجاه من كيده ، وسبب ذلك أنه كان من المسبحين ، أي المصلين الذاكرين وقت الرخاء، كان له أوراد يحافظ عليها ، كان له تسبيح وقت الصحة، كان ذاكراً عابداً حين عبث الناس ولغطهم ، فحفظه الله لصدقه وعبادته السابقة .
كما قال صلى الله علية وسلم في الوصية المشهورة ( تعرّفْ إلى الله في الرخاء ، يعرفك في الشدة )
وحاشا لكرم الله وعفوه أن يضيع أوليائه وقت البلاء والمحن ، بل يحفظ أولياءه وعباده الصالحين ، يحفظهم من الشرور ، ويحميهم من الأخطار ، وينصرهم على المحن والأعداء ، وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم : ( دعوة ذي النون وهو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فإنه لم يَدعُ بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب الله له )
رواه الترمذي والنسائي وهو حديث صحيح والله أعلم .
اللهم املأ قلوبنا باليقين ، واجعلنا من عبادك المسبحين 0
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .