قال تعالى عن موسى عليه السلام: {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا} الكهف64 ، فنجد الياء محذوفة في (نبغ) دون مسوغ نحوي ولا صرفي (أي لم تسبق بجازم أو غيره) .
فما السر وراء حذفها ؟
يقول بعض المفسرين سبب الحذف هو التخفيف، لكن يمكن أن نقول زيادة على ذلك : إن الحذف هنا مصوّر للواقع ؛ فموسى عليه الصلاة والسلام كان متشوقاً للعَلاَمة التي يعرف بها مكان الخضر، وهي فقدان الحوت ، فلمّا سأل غلامه عن السمكة التي أعدّها لغدائه ،ذكر له أنّها خرجت من المِكْتَل ودخلت في الماء ، ففرح عليه السلامبذلك فقام مسرعاً للمكان الذي فُقدت فيه السمكة، ومعلوم أن المستعجل ينسى- غالبا- بعض مايريد، وأحياناً يسقط منه بعض متاعه ، فسقوط الحرف هنا يصوّر سقوط المتاع من المستعجل.
اسمح لي أخي حسن بأن أثني على كلامك وحسن توضيحه بما قاله عالمنا الجليل الشيخ صالح المغامسي في هذا الشأن:
"والمؤمن الذي يكثر من تلاوة القرآن ويقف عند هذه المعالم البيانية لابد أن تؤثر على لسانه فيصبح أكثر سليقة وأقرب إلى الفصاحة والبيان والعلم بالبلاغة واللغة من غيره لأن القرآن في أصله كما قال الله (قرآنا عربيا غير ذي عوج)"
وهنا لا بد لي أن أعرج على طرح الأستاذ جمال وتبيانه لما قد يغفل الكثير منا عنه فيخلط به الأوراق دون قصد وذلك إن لم ننعم النظر فيما نتلو من آيات بينات وتدبر معانيها!
فجزاكما الله عنا خير الجزاء
***
وفي هذا السياق اسمحوا لي بأن أضع بين أيديكم والأعضاء كافة واحدة من أجمل لطائف القرآن الكريم:
قال الله تعالى في سورة الروم:
" اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ(54) ".
يجب التذكير بالقاعدة البيانية: النكرة إذا تكررت فإنها في كل مرة تفيد معنى جديداً.
( ضعف ) نكرة تكرارها في نفس الموضع يفيد أن الضعف الأول غير الثاني وغير الثالث.
المراد بالضعف الأول: النطفة ( ضعيفة فهي ماء مهين ).
والضعف الثاني: الطفولة ( لأنه بحاجة إلى رعاية أمه في مرحلة الرضاع وعناية خاصة حتى يجتاز مرحلة المراهقة ويصل البلوغ ).
والضعف الثالث: الشيخوخة ( لأنه يعود في مرحلة الشيخوخة ضعيفا عاجزا.. ضعيف الفكر.. ضعيف الحركة والسعي والنشاط ).
واللطيف في الآية أن ( قوة ) وردت نكرة وكررت مرتين.
إذاً.. القوة غير القوة .
القوة الأولى: قوة فترة الصبا ( الصبي قوي مندفع كثير الحركة ).
القوة الثانية: قوة الشباب ( قوة الجسم والمشاعر والأحاسيس والهمة والعزيمة والانطلاق في الفكر والأحلام والطموح ).
" ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا " ،القوة الأولى تقود إلى القوة الثانية.
هذه الآية الكريمة تلخص حياة الإنسان على الأرض وتبين أنها تقوم على خمس مراحل:
1.الضعف : وهو جنين في بطن أمه .
2.الضعف : وهو رضيع في حضن أمه .
3.القوة : وهو صبي مندفع .
4.القوة : وهو شاب نشيط فاعل .
5.الضعف : وهو شيخ عجوز هرم ..
هنا روعة الإعجاز البياني القرآني .. التعبير الحق البليغ .. عن أدق التفاصيل .. بأقل عدد من الكلمات.. في نظم محكم بديع.. دون أن يخل بالسياق ... في جرس موسيقي يأخذ بالألباب !
اللهــــم اجعل القرآن الكريـــم ربيـــع قلوبنا
رائع يا أبا محمد
فأنت بهذا تثري الموضوع أكثر
وبالنسبة لملاحظتك حول الدوام على قراءة القرآن الكريم ودورها في تقويم اللسان هو من الأشياء الرائعة التي يفتقدها كثيرون.
أحسنت
قال الله تعالى في آية الزرع :
﴿ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ﴾(الواقعة:65)
ثم قال سبحانه في آية الماء :
﴿ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ﴾(الواقعة:70)
فأدخل اللام على جواب ( لَوْ ) في آية الزرع ، ونزعها منه في آية الماء .
ولسائل أن يسأل : لمَ أدخِلت هذه اللام على الجواب الأول ، ونزعت منه في الجواب الثاني ؟ وفي الإجابة عن ذلك نقول بعون الله وتعليمه :
أولاً- للنحاة والمفسرين أقوالٌ في الإجابة عن ذلك والتعليل له ، ليس بعضها بأولى من بعض ، وتتلخص في : أن هذه اللام تدخل على جواب ﴿ لَوْ ﴾ زائدة لغرض التوكيد . وأما خروجها منه فالغرض منه الإيجاز والاختصار ، وأنه لما كان الوعيد بتحويل الزرع إلى حطام أشد وأصعب من الوعيد بتحويل الماء العذب إلى ملح أجاج ، احتاج الأول إلى تأكيده باللام ، دون الثاني .. وحجتهم في ذلك : أن الموجود من الماء الملح أكثر من الموجود من الماء العذب ، وأنه كثيرًا ما إذا جرت المياه العذبة على الأراضي المتغيرة التربة ، أو السبخة أحالتها إلى الملوحة ؛ فلذلك لم يحتج في جعل الماء العذب ملحًا إلى زيادة تأكيد . وأما الزرع فإن جعله حطامًا من الأشياء الخارجة عن المعتاد ، وإذا وقع فلا يكون إلا عن سخط من الله شديد ؛ فلذلك قرن بلام التأكيد زيادة في تحقيق أمره ، وتقريره إيجاده ... إلى غير ذلك من الأقوال التي لا تفسِّر أسلوبًا ، ولا توضح معنى .
ومما يدلك على ضعف هذه الأقوال ، وتكلفها في التأويل والتعليل ما ذكره الزركشي من تشبيه التوعُّد بجعل الماء أجاجًا بتوعُّد الإنسان عبده بالضرب بالعصا ونحوه ، وتشبيه التوعُّد بجعل الزرع حطامًا بتوعُّده بالقتل . ولما كان الأول أسهل وأيسر ، لم يحتج إلى تأكيد احتياج الثاني إليه .
وإلى نحو هذا القول ذهب الدكتور فاضل السامرائي في لمسات بيانية ، فقال في ذلك ما نصُّه :« والآيتان فيهما تهديد ، الأولى : أنه تعالى لو شاء يجعل الزرع حطامًا ، فلا يمكن أن يكون طعامًا ، أو يستفاد منه ، وهذه عقوبة أشد من جعل الماء أجاجًا ؛ لأن الماء الأجاج يمكن أن يحول إلى ماء عذب . والتهديد لم يأت في الآية بغور الماء كليًّا ؛ كما في تهديد جعل الزرع حطامًا ، فكانت العقوبة في الزرع أشد من العقوبة في الماء ، فجاء باللام لتأكيد التهديد في آية الزرع ، وحذفها من آية التهديد بالماء » .
ولست أدري ما وجه الشبَه بين توعُّد الله تعالى الكفار بجعل ماء السحاب أجاجًا ، وتوعُّد الإنسان عبده بضربه بالعصا ، وبين توعُّدهم بجعل الزرع حطامًا بتوعُّد العبد بالقتل ، حتى يقاس أحدهما بالآخر ؟ ثم إذا كان لدى الناس القدرة على تحويل الماء الأجاج إلى ماء عذب ، فما قيمة أن يتوعَّدهم الله تعالى بذلك ؟ ثم كيف يمكن أن نفهَم من جعل الماء أجاجًا أن التهديد في الآية لم يأت بغَوْر الماء كليًّا ؟ وهل جاء التهديد فيها بغور الماء أصلاً ، حتى يقال مثل هذا القول ؟
وليت شعري ماذا يقول أولئك الذين لا همَّ لهم سوى الطعن في بلاغة القرآن وفصاحته ، عندما يقرؤون مثل تلك الأقوال في تفسير كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فضلاً عن أنه أنزل بلسان عربي مبين ؛ ليبين للناس أمور دينهم ، ويهديهم سنن الذين من قبلهم ، ويرشدهم إلى ما فيه خير الدنيا والآخرة ؟
ثانيًا- والمتأمل في الآيتين السابقتين يجد أن في نزع اللام من جواب ﴿ لَوْ ﴾ في قوله تعالى :﴿ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا ﴾ إشارة إلى التعجيل بوقوع العقوبة عقب المشيئة فورًا دون تأخير . ويجد في إدخالها عليه في قوله تعالى :﴿ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا ﴾ إشارة إلى تأجيل العقوبة لعقوبة أشدَّ منها ؛ كما قال تعالى :﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ﴾ (يونس: 24) .
وقد جعل الله تعالى هلاك المهلَكين من الأمم الطاغية حصيدًا ، عقوبة لهم ، فقال سبحانه :﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ ﴾(هود: 100) . أي : منها هلك أهله دونه فهو باقٍ ، ومنها هلك بأهله فلا أثر له ؛ كالزرع المحصود بالمناجل ، بعضه قائمٌ على ساقه ، وبعضه حصيدٌ . وحصيدُ هو فَعيلٌ من الحصْد ، بمعنى : مفعول ، وهو قطع الزرع في إبَّانه ، واستئصاله من جذوره . وقد أفاد في الآية السابقة قطع الزرع واستئصاله في غير إبَّانه على سبيل الإفساد ، ومنه استعير قولهم : حصدَهم السيفُ . ومنه- كما في مسند أحمد- قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ :« وهل يكب الناس على مناخرهم في جهنم إلا حصائد ألسنتهم » .
وعليه يكون معنى الآية : لو يشاء الله تعالى ، لجعل الزرع الذي ينبته من الحب حطامًا ، عقوبة لهم على شركهم به ، وتكذيبهم بآياته ؛ ولكن اقتضت مشيئته سبحانه أن يؤجل هذه العقوبة لأشدَّ منها ، كان ذلك ﴿ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ ﴾(الروم:6 ) ، ﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ ﴾(الحج: 47) .
والمراد من جعل الزرع حطامًا جعله متكسِّرًا قبل الانتفاع به . وأما ما يؤول إليه الزرع من الحطام بعد الانتفاع به فذلك معلوم لكل أحد ، ولا يكون التعبير عنه مشروطًا بـ﴿ لَوْ ﴾ ؛ كما في قوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا ﴾(الزمر: 21) ؛ فلإفادة هذا المعنى- أعني : تأجيل العقوبة لأشدَّ منها- أدخلت اللام على جواب ﴿ لَوْ ﴾ ، هذه اللام التي أجمعوا على القول بزيادتها للتوكيد ، وهم معذورون في ذلك ، فأسرار القرآن الكريم أجلُّ ، وأعظم من أن تحيط بها عقول البشر !
وأما قوله تعالى عن الماء :﴿ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا ﴾ فالمعنى المراد منه : لو يشاء الله تعالى ، جعل الماء المنزَّل من السحاب أجاجًا لوقته دون تأخير ، فلا ينتفع به في شرب ، ولا زرع ، ولا غيرهما ؛ ولكنه تعالى لم يشأ ذلك رحمة بعباده ، وفضلاً منه تعالى عليهم . أما ما يؤول إليه الماء من الملوحة بعد نزوله من السحاب ، وجريه على الأراضي المتغيرة التربة ، أو السبخة- كما قالوا- فذلك ما لم يُرَدْ من الآية الكريمة ، وليس في الإخبار عنه أية فائدة تذكر .
ويبيِّن لك ذلك أن الله تعالى قال :﴿ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا ﴾ ، ولم يقل :﴿ جَعَلْنَاهُ ملحًا ﴾ ؛ لأن مياه الأرض كلها تحتوي على نسب من الأملاح متباينة . ومن هنا قلَّ الاقتصار على وصف الماء الذي لا ينتفع به ، بالملح في لغة العرب . وكثيرًا ما كانوا يقرنون هذا الوصف بوصف الأجاج ؛ كما كانوا يقرنون وصف الماء العذب بوصف الفرات ؛ وفي ذلك يقول الله تعالى :
فقابل سبحانه وتعالى بين العذب والملح ، وبين الفرات والأجاج . والماء العذب هو الطيب البارد . والماء الملح هو الذي تغير طعمه . وإذا كان لا ينتفع به في شرب ، فإنه ينتفع به في غيره . والماء الفرات ما كان مذاقه مستساغًا ، يضرب طعمه إلى الحلاوة ، بسبب انحلال بعض المعادن والغازات فيه . والماء الأجاج هو الماء الزُّعَاقُ ، وهو المرُّ الذي لا يطاق ، ولا ينتفع به في شرب ، ولا غيره ، لشدَّة مرارته وحرارته ، وهو من قولهم : أجيج النار .
فإذا عرفت ذلك ، تبيَّن لك سر الجمع بين الملح ، والأجاج في وصف ماء البحر ؛ إذ لو اقتصر في وصفه على كونه ملحًا ، كان مثل أي ماء يجري على التربة المتغيرة ، ويستقر في أعماق الأرض . ولو اقتصر في وصفه على كونه أجاجًا ، كان ماؤه فاسدًا ، لا ينتفع به في شيء مطلقًا .. وكذلك جعل ماء المزن أجاجًا . والمزن هو السحاب الأبيض المثقل بماء المطر ، وهو أنقى ماء وأعذب . ولئن اجتمع الإنس والجن بما أوتوا من قوة على أن يعيدوا هذا الماء بعد جعله أجاجًا إلى حالته الأولى ، لعجزوا عن ذلك ، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا .
ومن هنا كان جعل هذا الماء أجاجًا- أي : شديد المرارة والحرارة لوقته دون تأخير- أدلَّ على قدرة الله تعالى ، من جعل الزرع حطامًا ، وإن كان الكل أمام قدرة الله سواء . ويدلك على ذلك أن قوله تعالى :﴿ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا ﴾ قيل على طريقة الإخبار ؛ لأن جعل الماء المنزل من المزن أجاجًا لوقته عقب المشيئة ، لم يشاهد في الواقع ؛ لأنه لم يقع ، بخلاف جعل الزرع حطامًا ؛ فإنه كثيرًا ما وقع كونه حطامًا بعد أن كان أخضرَ يانعًا ، خلافًا لمن زعم غير ذلك . فلو قيل : جعلناه حطامًا بإسقاط اللام ؛ كما قيل : جعلناه أجاجًا ، لتُوُهِّم منه الإخبار .
ثالثًا- ومما يدلك على صحة ما تقدم أن دخول هذه اللام على جواب ﴿ لَوْ ﴾ لا يكون إلا في الأفعال التي لا يُتخيَّل وقوعها ؛ كما في قوله تعالى :
ومثل ذلك قوله تعالى :﴿ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا ﴾ . فجعل الزرع حطامًا ممّا لا يتخيل وقوعه ، وإن كان يقع ؛ ولهذا قال تعالى عقِبه :﴿ فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ﴾ ، فأتى بفعل التفكُّه ؛ لأن ذكر الحطام يلائم التفكُّه . ومعنى الاعتداد بالزرع ، يقتضي الاعتداد بصلاحه وعدم فساده ، فحصل التفكُّه . والمعنى : فظلتم تعجبون من هلاك زرعكم ، وتندمون على ما أنفقتم فيه . وقيل : تلاومون وتندمون على ما سلف منكم من معصية الله التي أوجبت عقوبتكم ، حتى نالتكم في زرعكم . والقولان مرادان يكمل أحدهما الآخر ، والدليل على ذلك قوله تعالى :
﴿ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ﴾ (الكهف: 35) إلى قوله تعالى :﴿ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً ﴾(الكهف: 42) ؛ ألا ترى إلى قول هذا الكافر لفرط غفلته وطول أمله واغتراره بجنته :﴿ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ﴾ . إنه لم يتخيل هلاكها أبدًا ، فلما ظهر له أنها مما يعتريه الهلاك ندم على ما صنع .
أما جعل الماء العذب أجاجًا فهو مما يتخيل وقوعه ، وإن لم يقع . ولهذا عقَّب تعالى على جعل الماء أجاجًا بقوله :﴿ فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ﴾ ، وهو تحضيض لهم على الشكر بإخلاص العبادة لله تعالى وحده على هذه النعمة التي هي أعظم النعم . ومثله في تخيل الوقوع والتعجيل به عقب المشيئة ، قوله تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ﴾ (الأعراف: 100) . ومثل تهديد الكفار بجعل الماء المنزل من المزن أجاجًا تهديدهم بجعل ماء الأرض غورًا ، وإليه الإشارة بقول الله عز وجل :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ ﴾(الملك: 30) ؟
فكيف يمكن القول بعد هذا : إن جعل الماء أجاجًا أسهل وأكثر من جعل الزرع حطامًا ، وإن الوعيد بفقد الزرع أشد وأصعب من الوعيد بفقد الماء ، فاحتاج الأول إلى تأكيده باللام ، دون الثاني ؟ ألا ترى أنه لولا الماء ، لما كان هناك زرع ، ولا شجر ، ولا حيوان ، ولا بشر ؟ ألم يسمعوا قول الله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ﴾(الأنبياء: 30) ؟
ومما يدلك أيضًا على فساد ما ذهبوا إليه أن من يتأمل الآيات التي أدخلت اللام فيها على جواب ﴿ لَوْ ﴾ ، يجد أن هذه اللام تقوم مقام السين وسوف ، في الدلالة على التسويف والمماطلة في إيقاع الفعل . وأوضح ما يكون ذلك في قوله تعالى في صفة الكافرين :﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾(الأنفال: 31) . أي: لو يشاؤون ، لقالوا مثل هذا القرآن لعنهم الله . وهم لم يقولوا ، ولن يقولوا ، ولا يمكنهم أن يقولوا ؛ ولهذا أتوا بهذه اللام التي دلت على تسويفهم ومماطلتهم . وهذا بخلاف قولهم :﴿ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا ﴾ (الأنعام : 148 ) . لاحظ كيف قرنوا شركهم بالله تعالى ، وتحريمهم ما أحل بمشيئته سبحانه مباشرة دون تأخير . ولو قالوا : لما أشركنا ، لدل قولهم على أن شركهم جاء متأخرًا عن المشيئة ، فيحتمل حينئذٍ أن يكونوا آمنوا ، ثم أشركوا .. ثم تأمل ذلك في بقية الآيات التي جاء فيها جواب الشرط مجردًا من اللام ، والآيات التي اقترن فيها جواب الشرط باللام ، تجدها كلها على ما ذكرت ، إن شاء الله !
رابعًا- وإن كنت ممن يتأملون الكلام ، ويتلذذون بإدراك أسرار البيان ، فتأمل قول كُثيِّر عَزَّةَ :
رهبانُ مَدينَ والذين عهدتـــــهم *** يبكون من أثر السجود قعودا
لو يسمعون كما سمعت كلامها *** خرُّوا لعَزَّةَ رُكَّعًا ، وسجـودا
ثم لاحظ قوله :« خرُّوا لعَزَّةَ رُكَّعًا ، وسجـودا » ، تجده قد وقع عقِب سماعهم كلامها دون تأخير ؛ ولهذا أتى به مجردًا من اللام . وتأمل بعد ذلك قول توْبةَ بن الحُمَيِّر :
ولو أَنَّ لَيْلَى الأَخْيَلِيَّةَ سَلَّمَـتْ ** علىَّ، ودُونِى جَنْدَلٌ وصَفائـــحُ
لَسَلَمْتُ تَسْليمَ البَشَاشَةِ، أَو زَقَا ** إِليْها صَدًى من جانب القَبْرِ صائحُ
ثم لاحظ قوله :« لَسَلَمْتُ تَسْليمَ البَشَاشَةِ » ، كيف أدخل عليه اللام التي تدل على المماطلة والتسويف في إيقاع الفعل الذي لا يتخيَّل وقوعه .
ولو أردت أن تتبيَّن الفرق بين الموضعين ، فقارن بين قول أحدهم :« لو جاءني زيد أكرمته » ، وبين قول الآخر :« لو جاءني زيد لأكرمته » ، تجد أن الأول صادق في قوله ، والثاني مماطل مسوِّف ، ثم تذكر أن القول بزيادة اللام في الثاني للتوكيد من أخطر الأقوال التي يفسَّر بها كلام الله جل وعلا ؛ ولهذا أقول : ينبغي أن تسمَّى هذه اللام : لام التسويف ؛ لأنها تفيد ما يفيده كلٌّ من السين وسوف ، من دلالة على التأخير والتسويف والمماطلة في إيقاع الفعل . وأختم بقولي : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ، فلا علم لنا إلا ما علمتنا ، لك الشكر على ما أنعمت ، ولك الحمد على ما تفضلت به علينا من نعمة العلم والفهم والدين ، وسلام على المرسلين !
المصدر : أسرار الإعجاز البياني للقرآن الكريم
محمد اسماعيل عتوك
في قوله تعالى : (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى )(الضحى : 3 )
حُذف المفعول به للفعل ( قلى ) ، فيما ذُكر المفعول به للفعل ( ودّع ) !
القِلى : البغض
لماذا؟
ذكر الله - تعالى - أمرين ،التوديع و القِلى، التوديع يكون بين المتحابين هذا من حيث اللغة :
ودّع هريرة إن الركب مرتحل ،،، وهل تطيق وداعاً أيها الرجل
التوديع عادة يكون بين المتحابين فذكر المفعول به (كاف الخطاب )في (ما ودعك) تحبباً له ،أما القِلى فلا يكون إلا بين المتخاصمين فلم يذكر المفعول به ، لم يقل وما قلاك إكراماً للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يناله القِلى ، يعني نزّه مقام الرسول - صلى الله عليه وسلم -عن القِلى. ونحن نقولها في حياتنا اليومية ، يقول : سمعت أنك شتمت ،فيقول: لم أشتم ،ولا يقول: لم أشتمك .هذا إكرام للمخاطب.
أعتقد بل اكاد اجزم ان اكثر المتابعين هنا ليسوا بالقوة التي تمكنهم -ادبيا اعني - من الالمام بامور اللغة ايا ما بدت بساطتها بشكل مكثف
لذا ارى ان يتم التقليل قليلا و الاستفاضة في الشرخ اكثر
كما ارى ومن ناحية جمالية للموضوع استعمال الالوان لدى اضافة آيات او امثلة للتركيز اكثر
بالنسبة للتمكن من المادة المطروحة أختي الكريمة فلا حاجة لأن نكون ، فهي مادة بسيطة .
أما بالنسبة لكتابة الآيات القرآنية بلون مختلف ، فهذه أصبت بها .
والله المستعان