أبو
لهب ـ (واسمه عبد العزى بن عبد المطلب) هو عم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
وإنما سمي أبو لهب لإشراق وجهه، وكان هو وامرأته " أم جميل " من أشد الناس
إيذاء لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وللدعوة التي جاء بها..
قال
ابن إسحاق: " حدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس قال: سمعت
ربيعة بن عباد الديلي يقول: " إني لمع أبي رجل شاب أنظر إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم يتبع القبائل، ووراءه رجل أحول، وضيء الوجه ذو جمة، يقف
رسول الله صلى الله عليه وسلم على القبيلة فيقول
" يا بني فلان. إني رسول الله إليكم آمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به
شيئاً، وأن تصدقوني وتمنعوني حتى أنفذ عن الله ما بعثني به "
وإذا
فرغ من مقالته قال الآخر من خلفه: يا بني فلان. هذا يريد منكم أن تسلخوا
اللات والعزى وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن أقمس، إلى ما جاء به من
البدعة والضلالة، فلا تسمعوا له، ولا تتبعوه. فقلت لأبي: من هذا؟ قال عمه
أبو لهب. (ورواه الإمام أحمد والطبراني بهذا اللفظ).
فهذا
نموذج من نماذج كيد أبي لهب للدعوة وللرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت
زوجته أم جميل في عونه في هذه الحملة الدائبة الظالمة. (وهي أروى بنت حرب
بن أمية أخت أبي سفيان)..
ولقد
اتخذ أبو لهب موقفه هذا من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ منذ اليوم
الأول للدعوة. أخرج البخاري ـ بإسناده ـ عن ابن عباس، أن النبي ـ صلى الله
عليه وسلم ـ خرج إلى البطحاء، فصعد الجبل فنادى:
" يا صباحاه "
فاجتمعت إليه قريش، فقال:
" أرأيتم إن حدثتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم؟ أكنتم مصدقي؟ "
قالوا: نعم. قال:
" فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ".
فقال
أبو لهب. ألهذا جمعتنا؟ تباً لك. فأنزل الله { تبت يدا أبي لهب وتب.. }
الخ. وفي رواية فقام ينفض يديه وهو يقول: تباً لك سائر اليوم! ألهذا
جمعتنا؟! فأنزل الله السورة.
ولما
أجمع بنو هاشم بقيادة أبي طالب على حماية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
ولو لم يكونوا على دينه، تلبية لدافع العصبية القبلية، خرج أبو لهب على
إخوته، وحالف عليهم قريشا، وكان معهم في الصحيفة التي كتبوها بمقاطعة بني
هاشم وتجويعهم كي يسلموا لهم محمداً صلى الله عليه وسلم.
وكان
قد خطب بنتي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رقية وأم كلثوم لولديه قبل
بعثة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلما كانت البعثة أمرهما بتطليقهما حتى
يثقل كاهل محمد بهما!
وهكذا مضى هو وزوجته أم جميل يثيرانها حرباً شعواء على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلى الدعوة، لا هوادة فيها ولا هدنة.
وكان
بيت أبي لهب قريباً من بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكان الأذى
أشد. وقد روي أن أم جميل كانت تحمل الشوك فتضعه في طريق النبي؛ وقيل: إن
حمل الحطب كناية عن سعيها بالأذى والفتنة والوقيعة.
نزلت هذه السورة ترد على هذه الحرب المعلنة من أبي لهب وامرأته. وتولى الله ـ سبحانه ـ عن رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر المعركة!
{
تبت يدا أبي لهب وتب }.. والتباب الهلاك والبوار والقطع. { وتبت } الأولى
دعاء. و { تب } الثانية تقرير لوقوع هذا الدعاء. ففي آية قصيرة واحدة في
مطلع السورة تصدر الدعوة وتتحقق، وتنتهي المعركة ويسدل الستار!
فأما الذي يتلو آية المطلع فهو تقرير ووصف لما كان.
{ ما أغنى عنه ماله وما كسب }.. لقد تبت يداه وهلكتا وتب هو وهلك. فلم يغن عنه ماله وسعيه ولم يدفع عنه الهلاك والدمار.
ذلك ـ كان ـ في الدنيا. أما في الآخرة فإنه: { سيصلى ناراً ذات لهب }.. ويذكر اللهب تصويراً وتشخيصاً للنار وإيحاء بتوقدها وتلهبها.
{
وامرأته حمالة الحطب }.. وستصلاها معه امرأته حالة كونها حمالة للحطب..
وحالة كونها: { في جيدها حبل من مسد }.. أي من ليف.. تشد هي به في النار.
أو هي الحبل الذي تشد به الحطب. على المعنى الحقيقي إن كان المراد هو
الشوك. أو المعنى المجازي إن كان حمل الحطب كناية عن حمل الشر والسعي
بالأذى والوقيعة.
وفي
الأداء التعبيري للسورة تناسق دقيق ملحوظ مع موضوعها وجوها، نقتطف في
بيانه سطوراً من كتاب: " مشاهد القيامة في القرآن " نمهد بها لوقع هذه
السورة في نفس أم جميل التي ذعرت لها وجن جنونها:
" أبو لهب. سيصلى ناراً ذات لهب.. وامرأته حمالة الحطب. ستصلاها وفي عنقها حبل من مسد "..
تناسق
في اللفظ، وتناسق في الصورة. فجهنم هنا ناراً ذات لهب. يصلاها أبو لهب!
وامرأته تحمل الحطب وتلقيه في طريق محمد لإيذائه (بمعناه الحقيقي أو
المجازي).. والحطب مما يوقد به اللهب. وهي تحزم الحطب بحبل. فعذابها في
النار ذات اللهب أن تغل بحبل من مسد. ليتم الجزاء من جنس العمل، وتتم
الصورة بمحتوياتها الساذجة: الحطب والحبل. والنار واللهب. يصلى به أبو لهب
وامرأته حمالة الحطب!
"
وتناسق من لون آخر. في جرس الكلمات، مع الصوت الذي يحدثه شد أحمال الحطب
وجذب العنق بحبل من مسد. اقرأ: { تبت يدا أبي لهب وتب } تجد فيها عنف الحزم
والشد! الشبيه بحزم الحطب وشده.
والشبيه كذلك بغل العنق وجذبه. والتشبيه بجو الحنق والتهديد الشائع في السورة ".
"
وهكذا يلتقي تناسق الجرس الموسيقي، مع حركة العمل الصوتية، بتناسق الصور
في جزيئاتها المتناسقة، بتناسق الجناس اللفظي ومراعاة النظير في التعبير،
ويتسق مع جو السورة وسبب النزول. ويتم هذا كله في خمس فقرات قصار، وفي سورة
من أقصر سور القرآن ".
هذا
التناسق القوي في التعبير جعل أم جميل تحسب أن الرسول صلى الله عليه وسلم
قد هجاها بشعر. وبخاصة حين انتشرت هذه السورة وما تحمله من تهديد ومذمة
وتصوير زري لأم جميل خاصة. تصوير يثير السخرية من امرأة معجبة بنفسها، مدلة
بحسبها ونسبها. ثم ترتسم لها هذه الصورة: { حمالة الحطب. في جيدها حبل من
مسد }! في هذا الأسلوب القوي الذي يشيع عند العرب!
قال
ابن إسحاق: فذكر لي أن أم جميل حمالة الحطب حين سمعت ما نزل فيها وفي
زوجها من القرآن، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد عند
الكعبة، ومعه أبو بكر الصديق، وفي يدها فهر (أي بمقدار ملء الكف) من
حجارة. فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
فلا ترى إلا أبا بكر. فقالت: يا أبا بكر. أين صاحبك؟ قد بلغني أنه يهجوني.
والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه. أما والله وإني لشاعرة! ثم قالت:
مذمماً عصينا وأمره أبينا
ثم انصرفت. فقال أبو بكر: يا رسول الله، أما تراها رأتك؟ فقال:
" ما رأتني، لقد أخذ الله ببصرها عني ".
وروى
الحافظ أبو بكر البزار ـ بإسناده ـ عن ابن عباس قال: لما نزلت: { تبت يدا
أبي لهب } جاءت امرأة أبي لهب. ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ومعه
أبو بكر. فقال له أبو بكر: لو تنحيت لا تؤذيك بشيء! فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم:
" إنه سيحال بيني وبينها "
.
فأقبلت حتى وقفت على أبي بكر، فقالت: يا أبا بكر، هجانا صاحبك. فقال أبو
بكر: لا ورب هذه البنية ما ينطق بالشعر ولا يتفوه به، فقالت: إنك لمصدق.
فلما ولت قال أبو بكر: ما رأتك؟ قال:
" لا. ما زال ملك يسترني حتى ولت ".
فهكذا
بلغ منها الغيظ والحنق، من سيرورة هذا القول الذي حسبته شعراً (وكان
الهجاء لا يكون إلا شعراً) مما نفاه لها أبو بكر وهو صادق! ولكن الصورة
الزرية المثيرة للسخرية التي شاعت في آياتها، قد سجلت في الكتاب الخالد،
وسجلتها صفحات الوجود أيضاً تنطق بغضب الله وحربه لأبي لهب وامرأته جزاء
الكيد لدعوة الله ورسوله، والتباب والهلاك والسخرية والزراية جزاء الكائدين
لدعوة الله في الدنيا، والنار في الآخرة جزاء وفاقاً، والذل الذي يشير
إليه الحبل في الدنيا والآخرة جميعاً..
سنة منسية كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستفتح بها قيام الليل
سألت عائشة ماذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح به قيام الليل ؟
قالت لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك
كان يكبر عشرا ويحمد عشرا ويسبح عشرا و يهلل عشرا ويستغفر عشرا
ويقول اللهم اغفر لي واهدني وارزقني وعافني ويتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة
الراوي : عاصم بن حميد المحدث: الألباني - المصدر : صحيح ابن ماجه - الصفحة أو الرقم : 1123
خلاصة حكم المحدث : صحيح
هذه السورةُ هي إِحدى سُورَتَيِ الإِخلاصِ؛ لأَنَّ سُورَتي الإِخلاصِ: {قُلْ يا أَيُّها الكافرونَ} و: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}, وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلّم- يقرأُ بهما في سُنَّةِ الفجرِ وفي سُنَّةِ المغربِ، وفي رَكْعَتي الطوافِ؛ لِما تَضَمَّنَتاه مِنَ الإِخلاصِ للهِ - عزَّ وجَلَّ- والثناءِ عليه بالصفاتِ الكاملةِ في سورة{قل هو الله أحد}. {قُلْ يا أَيُّها الكافرون} يُناديهم؛ يُعْلِنُ لهم بالنِّداءِ: {يا أَيُّها الكافرونَ} وهذا يشملُ كُلَّ كافرٍ؛ سواءٌ كان من المشركين، أَو من اليهودِ، أَو من النصارى، أَو من الشُّيوعيِّين, أَو من غيرِهم. كلُّ كافرٍ يجبُ أَنْ تُناديَه بقلبِك, أَو بلسانِك إِن كان حاضراً؛ لتَتَبَرَّأَ منه ومِنْ عبادتِه. {قُلْ يا أَيُّها الكافرونَ * لا أَعبدُ ما تعبدون * ولا أَنْتُم عابدونَ ما أَعبدُ * ولا أَنا عابدٌ ما عبَدتُّمْ * ولا أنتم عابدونَ ما أَعبُدُ} كُرِّرَتِ الجُملُ على مَرَّتَيْن مَرتَّينِ؛ {لا أَعْبُدُ ما تَعْبدُونَ} أَيْ: لا أَعبدُ الذين تعبدونَهُم، وهم الأَصنامُ. {ولا أَنتُمْ عابدونَ ما أَعْبُدُ} وهو اللهُ، و(ما) هنا في قولِه: {ما أَعْبُدُ} بمعنى: (مَنْ)؛ لأَنَّ الاسْمَ الموصولَ إذا عاد إلى اللهِ فإِنَّه يأْتي بلفظِ: (مَنْ) {لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدونَ * ولا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} يعني: أَنا لا أَعبدُ أَصْنامَكُم, وأَنتم لا تعبدونَ اللهَ. {ولا أَنا عابِدٌ ما عَبْدْتُمْ * ولا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ} قَدْ يَظُنُّ الظَّانُّ أَنّ هذه مكررةٌ للتوكيدِ، وليس كذلك؛ لأَنَّ الصِّيغةَ مُختلِفَةٌ؛ {لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدونَ} فِعْلٌ. {ولا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُمْ}{عابِدٌ} و{عابِدُونَ} اسمٌ، والتوكيدُ لابُدَّ أَنْ تكونَ الجملةُ الثانيةُ كالأُولى. إذاً القولُ بأَنَّه كُرِّرَ للتوكيدِ ضعيفٌ، إذاً لماذا هذا التَّكرارُ؟ قال بعضُ العلماءُ: {لا أَعْبُدُ ما تعبدونَ} أَيِ: الآن, {ولا أَنا عابدٌ ما عَبَدْتُمْ} في المستقبل، فصار {لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدونَ} أَيْ: في الحالّ، {ولا أَنا عَابِدٌ ما عَبَدْتُمْ} يعني: في المستقبلِ؛ لأَنَّ الفِعلَ المضارعَ يَدلُّ على الحال، واسمَ الفاعلِ يدلُّ على الاستقبالِ؛ بدليلِ أَنَّه عَمِلَ، واسْمُ الفاعلِ لا يعملُ إِلا إذا كان للاسْتِقبالِ, {لا أَعْبُدُ ما تَعبدونَ}الآن {ولا أَنْتُمْ عابِدونَ مَا أَعْبُدُ} يعني الآن. {ولا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُمْ} يعني: في المستقبلِ, {ولا أَنتم عابدونَ مَا أَعْبُدُ} يعني: في المستقبل. لكن أُورِدَ على هذا القولِ إِيرادٌ؛ كيف قال: {ولا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ} معَ أَنًّهم قد يُؤمنون فيَعْبدونَ اللهَ؟! وعلى هذا فيكونُ في هذا القولِ نوعٌ مِنَ الضعفِ. وأَجابوا عن ذلك بأَنَّ قولَه: {ولا أَنْتُمْ عابِدونَ ما أَعْبُدُ} يُخاطِبُ المُشركينَ الذين عَلِم اللهُ –تعالى- أَنَّهم لن يؤمنوا. فيكون الخطابُ ليس عامًّا، وهذا مِمَّا يُضْعِفُ القولَ بعضَ الشَّيءِ. فعندنا الآنُ قولان: الأَوَّلُ: إِنها توكيدٌ. والثاني: إِنَّها في المستقبلِ. القولُ الثالثُ: {لا أَعْبُدُ ما تَعْبدُونَ} أَي: لا أَعْبدُ الأَصنامَ التي تَعبدونَها. {ولا أَنْتُم عابدونَ ما أَعْبدُ} أي: لا تعبدون اللهَ. {ولا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُمْ * ولا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ} أَي: في العِبادةِ؛ يعني: ليست عبادتي كعِبادَتِكُم، ولا عِبادَتُكم كعبادَتِي، فيكونُ هذا نَفْيٌ للفعلِ لا للمفعولِ به، يعني: ليس نفيًا للمعبودِ, لكنه نَفْيٌ للعبادةِ؛ أَي: لا أَعبدُ كعِبادَتِكم، ولا تعبدون أَنْتم كعِبادَتِي؛ لأَنَّ عبادَتِي خالصةٌ للهِ، وعبادَتَكُم عبادةُ شِرْكٍ. القولُ الرابع: واختاره شيخُ الإِسلام ابنُ تَيْمِيَّةَ - رحمه اللهُ - أَنَّ قولَه: {لا أَعبدُ ما تَعبدونَ * ولا أَنْتُم عابِدونَ ما أَعْبُدُ} هذا الفعلُ, فوافَقَ القولَ الأَوَّلَ في هذه الجملةِ. {ولا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُمْ * ولا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ} أَي: في القَبولِ، بِمَعنى: ولنْ أَقبلَ غيرَ عِبادَتِي، ولن أَقبلَ عبادَتَكُم، وأَنتم كذلك لن تَقْبلوا. فتكونُ الجملةُ الأُولى عائدةٌ على الفعلِ, والجملةُ الثانيةُ عائدةٌ على القَبولِ والرِّضا، يعني: لا أَعبُدُه ولا أَرضاهُ، وأَنْتم كذلك, لا تعبدونَ اللهَ ولا تَرْضَونَ بِعِبادَتِه. وهذا القولُ إِذا تَأَمَّلْته لا يَرِدُ عليه شَيْءٌ من الهَفَواتِ السابقةِ، فيكونُ قولاً حسناً جيداً؛ ومن هنا نأْخذُ أَنَّ القرآنَ الكريمَ ليس فيه شيءٌ مُكرَّرٌ لغيرِ فائدةٍ إِطلاقاً، ليس فيه شيءٌ مكَرَّرٌ إِلا وله فائدةٌ؛ لأَنَّنا لو قلنا: إِنَّ في القرآنِ شيئاً مكرراً بدون فائدةٍ, لكان في القرآنِ ما هو لَغْوٌ، وهو مُنَزَّهٌ عن ذلك، وعلى هذا فالتَّكْرارُ في سورةِ الرَّحمنِ: {فبأَيِّ آلاءِ ربِّكُما تُكَذِّبان} وفي سورةِ المُرسلاتِ: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} تَكرارٌ لِفائدةٍ عظيمةٍ، وهي أَنَّ كلَّ آيةٍ ,ممَّا بين هذه الآياتِ المُكَرَّرةِ، فإِنها تشملُ على نِعَمٍ عظيمةٍ، وآلاءٍ جَسيمةٍ، ثم إِنَّ فيها مِنَ الفائدةِ اللفظيةِ التَنْبِيهَ للمُخاطَبِ حيثُ يُكَرِّرُ عليه: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ} ويُكَرِّرُ عليه: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ للمُكَذِّبينَ}. ثم قال – عَزَّ وَجَلَّ-: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينٌ} {لكُمْ دِينُكُمْ} الذي أَنتُمْ عليه وتَدِينونَ به. ولي ديني، فأَنا بَريءٌ مِنْ دينِكم، وأَنتُمْ بَرِيؤُون مِنْ دِيني. قال بعضُ أَهلِ العِلمِ: وهذه السورةُ نزلت قبلَ فرضِ الجهادِ؛ لأَنَّه بعدَ الجهاد لا يُقَرُّ الكافرُ على دينِه إِلا بالجِزْيَةِ إِن كانوا من أَهلِ الكتابِ. وعلى القولِ الراجحِ: أَو مِنْ غيرِهم.
كانت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما إذا صنعت الثريد غطته شيئاً حتى يذهب فوره ، ثم تقول : إني سمعت رسول الله يقول : إنه أعظم للبركة .
وكذلك أبو هريرة رضي الله عنه يقول: لا يؤكل طعام حتى يذهب بخاره .
(السلسلة الصحيحة ) (1/677).
الفائدة : من السنة عدم التعجيل بالأكل قبل أن تذهب فورة الطعام وحرارته الأولى ، وذلك للبركة ، ولأجل ضرره على الآكل
سورةالشرح تعريف بسورةالشرح نزلت هذه السورة بعد سورة الضحى . وكأنها تكملة لها . فيها ظل العطف الندي . وفيها روح المناجاة الحبيب . وفيها استحضار مظاهر العناية . واستعراض مواقع الرعاية . وفيها البشرى باليسر والفرج . وفيها التوجيه إلى سر اليسر وحبل الاتصال الوثيق
(ألم نشرح لك صدرك ? ووضعنا عنك وزرك . الذي أنقض ظهرك ? ورفعنا لك ذكرك ?) وهي توحي بأن هناك ضائقة كانت في روح الرسول [ ص ] لأمر من أمور هذه الدعوة التي كلفها , ومن العقبات الوعرة في طريقها ; ومن الكيد والمكر المضروب حولها . . توحي بأن صدره [ ص ] كان مثقلا بهموم هذه الدعوة الثقيلة , وأنه كان يحس العبء فادحا على كاهله . وأنه كان في حاجة إلى عون ومدد وزاد ورصيد . . ثم كانت هذه المناجاة الحلوة , وهذا الحديث الودود ! (ألم نشرح لك صدرك ?). . ألم نشرح صدرك لهذه الدعوة ? ونيسر لك أمرها ? . ونجعلها حبيبة لقلبك , ونشرع لك طريقها ? وننر لك الطريق حتى ترى نهايته السعيدة ! فتش في صدرك - ألا تجد فيه الروح والانشراح والإشراق والنور ? واستعد في حسك مذاق هذا العطاء , وقل:ألا تجد معه المتاع مع كل مشقة والراحة مع كل تعب , واليسر مع كل عسر , والرضى مع كل حرمان ? (ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك). . ووضعنا عنك عبئك الذي أثقل ظهرك حتى كاد يحطمه من ثقله . . وضعناه عنك بشرح صدرك له فخف وهان . وبتوفيقك وتيسيرك للدعوة ومداخل القلوب . وبالوحي الذي يكشف لك عن الحقيقة ويعينك على التسلل بها إلى النفوس في يسر وهوادة ولين . ألا تجد ذلك في العبء الذي أنقض ظهرك ? ألا تجد عبئك خفيفا بعد أن شرحنا لك صدرك ? (ورفعنا لك ذكرك). . رفعناه في الملأ الأعلى , ورفعناه في الأرض , ورفعناه في هذا الوجود جميعا . . رفعناه فجعلنا اسمك مقرونا باسم الله كلما تحركت به الشفاه: "لا إله إلا الله . محمد رسول الله" . . وليس بعد هذا رفع , وليس وراء هذا منزلة . وهو المقام الذي تفرد به [ ص ] دون سائر العالمين . . ورفعنا لك ذكرك في اللوح المحفوظ , حين قدر الله أن تمر القرون , وتكر الأجيال , وملايين الشفاه في كل مكان تهتف بهذا الأسم الكريم , مع الصلاة والتسليم , والحب العميق العظيم . ورفعنا لك ذكرك . وقد ارتبط بهذا المنهج الإلهي الرفيع . وكان مجرد الاختيار لهذا الأمر رفعة ذكر لم ينلها أحد من قبل ولا من بعد في هذا الوجود . . فأين تقع المشقة والتعب والضنى من هذا العطاء الذي يمسح على كل مشقة وكل عناء ? ومع هذا فإن الله يتلطف مع حبيبه المختار , ويسري عنه , ويؤنسه , ويطمئنه ويطلعه على اليسر الذي لا يفارقه: (فإن مع العسر يسرا . إن مع العسر يسرا). . إن العسر لا يخلو من يسر يصاحبه ويلازمه . وقد لازمه معك فعلا . فحينما ثقل العبء شرحنا لك صدرك , فخف حملك , الذي أنقض ظهرك . وكان اليسر مصاحبا للعسر , يرفع إصره , ويضع ثقله . وإنه لأمر مؤكد يكرره بألفاظه:(فإن مع العسر يسرا . إن مع العسر يسرا). . وهذا التكرار يشي بأن الرسول [ ص ] كان في عسرة وضيق ومشقة , اقتضت هذه الملاحظة , وهذا التذكير , وهذا الاستحضار لمظاهر العناية , وهذا الاستعراض لمواقع الرعاية , وهذا التوكيد بكل ضروب التوكيد . . والأمر الذي يثقل على نفس محمد هكذا لا بد أنه كان أمرا عظيما . . ثم يجيء التوجيه الكريم لمواقع التيسير , وأسباب الانشراح , ومستودع الري والزاد في الطريق الشاق الطويل:(فإذا فرغت فانصب . وإلى ربك فارغب). . إن مع العسر يسرا . . فخذ في أسباب اليسر والتيسير . فإذا فرغت من شغلك مع الناس ومع الأرض , ومع شواغل الحياة . . إذا فرغت من هذا كله فتوجه بقلبك كله إذن إلى ما يستحق أن تنصب فيه وتكد وتجهد . . العبادة والتجرد والتطلع والتوجه . .(وإلى ربك فارغب). . إلى ربك وحده خاليا من كل شيء حتى من أمر الناس الذين تشتغل بدعوتهم . . إنه لا بد من الزاد للطريق . وهنا الزاد . ولا بد من العدة للجهاد . وهنا العدة . . وهنا ستجد يسرا مع كل عسر , وفرجا مع كل ضيق . . هذا هو الطريق ! وتنتهي هذه السورة كما انتهت سورة الضحى , وقد تركت في النفس شعورين ممتزجين:الشعور بعظمة الود الحبيب الجليل الذي ينسم على روح الرسول [ ص ] من ربه الودود الرحيم . والشعور بالعطف على شخصه [ ص ] ونحن نكاد نلمس ما كان يساور قلبه الكريم في هذه الآونة التي اقتضت ذلك الود الجميل . إنها الدعوة . هذه الأمانة الثقيلة وهذا العبء الذي ينقض الظهر . وهي مع هذا وهذا مشرق النور الإلهي ومهبطه , ووصلة الفناء بالبقاء , والعدم بالوجود !
بسم الله الذي لا يضر مع إسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم
بسم الله الذي لا يضر مع إسمه شي في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم
بسم الله الذي لا يضر مع إسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم