هذه السورة والتي بعدها توجيه من الله ـ سبحانه وتعالى ـ لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ابتداء وللمؤمنين من بعده جميعاً، للعياذ بكنفه، واللياذ بحماه، من كل مخوف: خاف وظاهر، مجهول ومعلوم، على وجه الإجمال وعلى وجه التفصيل.. وكأنما يفتح الله ـ سبحانه ـ لهم حماه، ويبسط لهم كنفه، ويقول لهم، في مودة وعطف: تعالوا إلى هنا. تعالوا إلى الحمى. تعالوا إلى مأمنكم الذي تطمئنون فيه. تعالوا فأنا أعلم أنكم ضعاف وأن لكم أعداء وأن حولكم مخاوف وهنا.. هنا الأمن والطمأنينة والسلام..
ومن ثم تبدأ كل منهما بهذا التوجيه. { قل: أعوذ برب الفلق }.. { قل: أعوذ برب الناس }..
وفي قصة نزولها وقصة تداولها وردت عدة آثار، تتفق كلها مع هذا الظل الذي استروحناه، والذي يتضح من الآثار المروية أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ استروحه في عمق وفرح وانطلاق:
عن عقبة ـ ابن عامر ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " ألم تر آيات أنزلت هذه الليلة لم يُر مثلهن قط؟ قل: أعوذ برب الفلق وقل: أعوذ برب الناس ".
وعن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال: قال لي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " اقرأ يا جابر. قلت ماذا بأبي أنت وأمي؟ قال: اقرأ. قل أعوذ برب الفلق. وقل أعوذ برب الناس " فقرأتهما. فقال: " اقرأ بهما فلن تقرأ بمثلهما ".
وعن ذر بن حبيش قال: سألت أبي بن كعب ـ رضي الله عنه ـ عن المعوذتين. قلت: يا أبا المنذر إن أخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا (وكان ابن مسعود لا يثبتهما في مصحفه ثم ثاب إلى رأي الجماعة وقد أثبتهما في المصحف) فقال: سألت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: " قيل لي: قل. فقلت " فنحن نقول كما قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكل هذه الآثار تشي بتلك الظلال الحانية الحبيبة..
وهنا في هذه السورة يذكر الله ـ سبحانه ـ نفسه بصفته التي بها يكون العياذ من شر ما ذكر في السورة. { قل أعوذ برب الفلق }.. الفلق من معانيه الصبح، ومن معانيه الخلق كله. بالإشارة إلى كل ما يفلق عنه الوجود والحياة، كما قال في الأنعام:
{ إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي }
وكما قال:
{ فالق الإصباح وجعل الليل سكناً والشمس والقمر حسباناً }
وسواء كان هو الصبح فالاستعاذة برب الصبح الذي يؤمّن بالنور من شر كل غامض مستور، أو كان هو الخلق فالاستعاذة برب الخلق الذي يؤمّن من شر خلقه، فالمعنى يتناسق مع ما بعده.
{ من شر ما خلق }.. أي من شر خلقه إطلاقاً وإجمالاً. وللخلائق شرور في حالات اتصال بعضها ببعض. كما أن لها خيراً ونفعاً في حالات أخرى. والاستعاذة بالله هنا من شرها ليبقى خيرها. والله الذي خلقها قادر على توجيهها وتدبير الحالات التي يتضح فيها خيرها لا شرها!
{ ومن شر غاسق إذا وقب }.. والغاسق في اللغة الدافق، والوقب النقرة في الجبل يسيل منها الماء. والمقصود هنا ـ غالباً ـ هو الليل وما فيه. الليل حين يتدفق فيغمر البسيطة. والليل حينئذ مخوف بذاته. فضلاً على ما يثيره من توقع للمجهول الخافي من كل شيء: من وحش مفترس يهجم. ومتلصص فاتك يقتحم. وعدو مخادع يتمكن. وحشرة سامة تزحف. ومن وساوس وهواجس وهموم وأشجان تتسرب في الليل، وتخنق المشاعر والوجدان، ومن شيطان تساعده الظلمة على الانطلاق والإيحاء. ومن شهوة تستيقظ في الوحدة والظلام. ومن ظاهر وخاف يدب ويثب، في الغاسق إذا وقب!
{ ومن شر النفاثات في العقد }.. والنفاثات في العقد: السواحر الساعيات بالأذى عن طريق خداع الحواس، خداع الأعصاب، والإيحاء إلى النفوس والتأثير والمشاعر. وهن يعقدن العقد في نحو خيط أو منديل وينفثن فيها كتقليد من تقاليد السحر والإيحاء!
والسحر لا يغير من طبيعة الأشياء؛ ولا ينشئ حقيقة جديدة لها. ولكنه يخيل للحواس والمشاعر بما يريده الساحر. وهذا هو السحر كما صوره القرآن الكريم في قصة موسى عليه السلام: سورة طه
{ قالوا: يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى. قال: بل ألقوا. فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى. فأوجس في نفسه خيفة موسى. قلنا: لا تخف إنك أنت الأعلى. وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى.. }
وهكذا لم تنقلب حبالهم وعصيهم حيات فعلاً، ولكن خيل إلى الناس ـ وموسى معهم ـ أنها تسعى إلى حد أن أوجس في نفسه خيفة، حتى جاءه التثبيت. ثم انكشفت الحقيقة حين انقلبت عصا موسى بالفعل حية فلقفت الحبال والعصي المزروة المسحورة.
وهذه هي طبيعة السحر كما ينبغي لنا أن نسلم بها. وهو بهذه الطبيعة يؤثر في الناس، وينشئ لهم مشاعر وفق إيحائه.. مشاعر تخيفهم وتؤذيهم وتوجههم الوجهة التي يريدها الساحر، وعند هذا الحد نقف في فهم طبيعة السحر والنفث في العقد.. وهي شر يستعاذ منه بالله، ويلجأ منه إلى حماه.
وقد وردت روايات ـ بعضها صحيح ولكنه غير متواتر ـ أن لبيد بن الأعصم اليهودي سحر النبي صلى الله عليه وسلم ـ في المدينة قيل أياماً، وقيل أشهراً.. حتى كان يخيل إليه أنه يأتي النساء وهو لا يأتيهن في رواية، وحتى كان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله في رواية، وأن السورتين نزلتا رقية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما استحضر السحر المقصود ـ كما أخبر في رؤياه ـ وقرأ السورتين انحلت العقد، وذهب عنه السوء.
ولكن هذه الروايات تخالف أصل العصمة النبوية في الفعل والتبليغ، ولا تستقيم مع الاعتقاد بأن كل فعل من أفعاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكل قول من أقواله سنة وشريعة، كما أنها تصطدم بنفي القرآن عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه مسحور، وتكذيب المشركين فيما كانوا يدعونه من هذا الإفك. ومن ثم تستبَعد هذه الروايات.. وأحاديث الآحاد لا يؤخذ بها في أمر العقيدة. والمرجع هو القرآن. والتواتر شرط للأخذ بالأحاديث في أصول الاعتقاد. وهذه الروايات ليست من المتواتر. فضلاً على أن نزول هاتين السورتين في مكة هو الراجح. مما يوهن أساس الروايات الأخرى.
{ ومن شر حاسد إذا حسد }..
والحسد انفعال نفسي إزاء نعمة الله على بعض عباده مع تمني زوالها. وسواء أتبع الحاسد هذا الانفعال بسعي منه لإزالة النعمة تحت تأثير الحقد والغيظ، أو وقف عند حد الانفعال النفسي، فإن شراً يمكن أن يعقب هذا الانفعال.
ونحن مضطرون أن نطامن من حدة النفي لما لا نعرف من أسرار هذا الوجود، وأسرار النفس البشرية، وأسرار هذا الجهاز الإنساني. فهنالك وقائع كثيرة تصدر عن هذه الأسرار، ولا نملك لها حتى اليوم تعليلاً.. هنالك مثلاً ذلك التخاطر على البعد. وفيه تتم اتصالات بين أشخاص متباعدين. اتصالات لا سبيل إلى الشك في وقوعها بعد تواتر الأخبار بها وقيام التجارب الكثيرة المثبتة لها. ولا سبيل كذلك لتعليلها بما بين أيدينا من معلومات. وكذلك التنويم المغناطيسي. وقد أصبح الآن موضعاً للتجربة المتكررة المثبتة. وهو مجهول السر والكيفية.. وغير التخاطر والتنويم كثير من أسرار الوجود وأسرار النفس وأسرار هذا الجهاز الإنساني..
فإذا حسد الحاسد، ووجه انفعالاً نفسياً معيناً إلى المحسود فلا سبيل لنفي أثر هذا التوجيه لمجرد أن ما لدينا من العلم وأدوات الاختبار، لا تصل إلى سر هذا الأثر وكيفيته. فنحن لا ندري إلا القليل في هذا الميدان. وهذا القليل يُكشف لنا عنه مصادفة في الغالب، ثم يستقر كحقيقة واقعة بعد ذلك!
فهنا شر يستعاذ منه بالله، ويستجار منه بحماه.
والله برحمته وفضله هو الذي يوجه رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأمته من ورائه إلى الاستعاذة به من هذه الشرور. ومن المقطوع به أنهم متى استعاذوا به ـ وفق توجيهه ـ أعاذهم. وحماهم من هذه الشرور إجمالاً وتفصيلاً.
وقد روى البخاري ـ بإسناده ـ عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ " كان إذا آوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه، ثم نفث فيهما، وقرأ فيهما، { قل هو الله أحد }. و { قل: أعوذ برب الفلق }. و { قل: أعوذ برب الناس }. ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه. وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات ".. وهكذا رواه أصحاب السنن..
الاستعاذة في هذه السورة برب الناس ، ملك الناس ، إله الناس . والمستعاذ منه هو : شر الوسواس الخناس ، الذي يوسوس في صدور الناس ، من الجنة والناس .
والاستعاذة بالرب ، الملك ، الإله ، تستحضر من صفات الله سبحانه ما به يدفع الشر عامة ، وشر الوسواس الخناس خاصة .
فالرب هو المربي والموجه والراعي والحامي . والملك هو المالك الحاكم المتصرف . والإله هو المستعلي المستولي المتسلط . . وهذه الصفات فيها حماية من الشر الذي يتدسس إلى الصدور . . وهي لا تعرف كيف تدفعه لأنه مستور .
والله رب كل شيء ، وملك كل شيء ، وإله كل شيء . ولكن تخصيص ذكر الناس هنا يجعلهم يحسون بالقربى في موقف العياذ والاحتماء .
والله برحمة منه يوجه رسوله صلى الله عليه وسلم وأمته إلى العياذ به والالتجاء إليه ، مع استحضار معاني صفاته هذه ، من شر خفي الدبيب ، لا قبل لهم بدفعه إلا بعون من الرب الملك الإله . فهو يأخذهم من حيث لا يشعرون ، ويأتيهم من حيث لا يحتسبون . والوسوسة : الصوت الخفي . والخنوس : الاختباء والرجوع . والخناس هو الذي من طبعه كثرة الخنوس .
وقد أطلق النص الصفة أولاً : { الوسواس الخناس } . . وحدد عمله : { الذي يوسوس في صدور الناس } . ثم حدد ماهيته : { من الجنة والناس } . . وهذا الترتيب يثير في الحس اليقظة والتلفت والانتباه لتبين حقيقة الوسواس الخناس ، بعد إطلاق صفته في أول الكلام؛ ولإدراك طريقة فعله التي يتحقق بها شره ، تأهبا لدفعه أو مراقبته!
والنفس حين تعرف بعد هذا التشويق والإيقاظ أن الوسواس الخناس يوسوس في صدور الناس خفية وسراً ، وأنه هو الجنة الخافية ، وهو كذلك الناس الذين يتدسسون إلى الصدور تدسس الجنة ، ويوسوسون وسوسة الشياطين . . النفس حين تعرف هذا تتأهب للدفاع ، وقد عرفت المكمن والمدخل والطريق!
ووسوسة الجنة نحن لا ندري كيف تتم ، ولكنا نجد آثارها في واقع النفوس وواقع الحياة . ونعرف أن المعركة بين آدم وإبليس قديمة قديمة؛ وأن الشيطان قد أعلنها حرباً تنبثق من خليقة الشر فيه ، ومن كبريائه وحسده وحقده على الإنسان! وأنه قد استصدر بها من الله إذناً ، فأذن فيها سبحانه لحكمة يراها! ولم يترك الإنسان فيها مجرداً من العدة . فقد جعل له من الإيمان جُنة ، وجعل له من الذكر عدة ، وجعل له من الاستعاذة سلاحاً . . فإذا أغفل الإنسان جنته وعدته وسلاحه فهو إذن وحده الملوم!
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الشيطان جاثم على قلب ابن آدم فإذا ذكر الله تعالى خنس ، وإذا غفل وسوس » .
وأما الناس فنحن نعرف عن وسوستهم الشيء الكثير .
ونعرف منها ما هو أشد من وسوسة الشياطين!
رفيق السوء الذي يتدسس بالشر إلى قلب رفيقه وعقله من حيث لا يحتسب ومن حيث لا يحترس ، لأنه الرفيق المأمون!
وحاشية الشر التي توسوس لكل ذي سلطان حتى تتركه طاغية جباراً مفسداً في الأرض ، مهلكاً للحرث والنسل!
والنمام الواشي الذي يزين الكلام ويزحلقه ، حتى يبدو كأنه الحق الصراح الذي لا مرية فيه .
وبائع الشهوات الذي يتدسس من منافذ الغريزة في إغراء لا تدفعه إلا يقظة القلب وعون الله .
وعشرات من الموسوسين الخناسين الذين ينصبون الأحابيل ويخفونها ، ويدخلون بها من منافذ القلوب الخفية التي يعرفونها أو يتحسسونها . . وهم شر من الجنة وأخفى منهم دبيباً!
والإنسان عاجز عن دفع الوسوسة الخفية . ومن ثم يدله الله على عدته وجنته وسلاحه في المعركة الرهيبة!
وهناك لفتة ذات مغزى في وصف الوسواس بأنه { الخناس } . . فهذه الصفة تدل من جهة على تخفيه واختبائه حتى يجد الفرصة سانحة فيدب ويوسوس . ولكنها من جهة أخرى توحي بضعفه أمام من يستيقظ لمكره ، ويحمي مداخل صدره . فهو سواء كان من الجنة أم كان من الناس إذا ووجْه خنس ، وعاد من حيث أتى ، وقبع واختفى . أو كما قال الرسول الكريم في تمثيله المصور الدقيق : « فإذا ذكر الله تعالى خنس ، وإذا غفل وسوس » .
وهذه اللفتة تقوي القلب على مواجهة الوسواس . فهو خناس . ضعيف أمام عدة المؤمن في المعركة .
ولكنها من ناحية أخرى معركة طويلة لا تنتهي أبداً . فهو أبداً قابع خانس ، مترقب للغفلة . واليقظة مرة لا تغني عن اليقظات . . والحرب سجال إلى يوم القيامة؛ كما صورها القرآن الكريم في مواضع شتى ، ومنها هذه الصورة العجيبة في سورة الإسراء :
{ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ، فسجدوا إلا إبليس ، قال : أأسجد لمن خلقت طيناً؟ قال : أرأيتك هذا الذي كرّمتَ علي لئن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكنَّ ذريته إلا قليلاً . قال : اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزآؤكم جزاء موفوراً . واستفزِزْ من استطعت منهم بصوتك ، وأجلب عليهم بخيلك ورجلك ، وشاركهم في الأموال والأولاد ، وعدهم ، وما يعدهم الشيطان إلا غروراً . إن عبادي ليس لك عليهم سلطان . وكفى بربك وكيلا } وهذا التصوُّر لطبيعة المعركة ودوافع الشر فيها سواء عن طريق الشيطان مباشرة أو عن طريق عملائه من البشر من شأنه أن يشعر الإنسان أنه ليس مغلوباً على أمره فيها . فإن ربه وملكه وإلهه مسيطر على الخلق كله . وإذا كان قد أذن لإبليس بالحرب ، فهو آخذ بناصيته . وهو لم يسلطه إلا على الذين يغفلون عن ربهم وملكهم وإلههم . فأما من يذكرونه فهم في نجوة من الشر ودواعيه الخفية . فالخير إذن يستند إلى القوة التي لا قوة سواها ، وإلى الحقيقة التي لا حقيقة غيرها . يستند إلى الرب الملك الإله . والشر يستند إلى وسواس خناس ، يضعف عن المواجهة ، ويخنس عند اللقاء ، وينهزم أمام العياذ بالله . .
وهذا أكمل تصور للحقيقة القائمة عن الخير والشر . كما أنه أفضل تصور يحمي القلب من الهزيمة ، ويفعمه بالقوة والثقة والطمأنينة .
هذه السورة الصغيرة . . كما تحمل البشرى لرسول الله [ صل الله عليه وسلم ] بنصر الله والفتح ودخول الناس في دين الله أفواجا ; وكما توجهه [ صل الله عليه وسلم ] حين يتحقق نصر الله وفتحه واجتماع الناس على دينه إلى التوجه إلى ربه بالتسبيح والحمد والاستغفار . .
كما تحمل إلى الرسول [ صل الله عليه وسلم ] البشرى والتوجيه . . تكشف في الوقت ذاته عن طبيعة هذه العقيدة وحقيقة هذا المنهج , ومدى ما يريد أن يبلغ بالبشرية من الرفعة والكرامة والتجرد والخلوص , والانطلاق والتحرر . . هذه القمة السامقة الوضيئة , التي لم تبلغها البشرية قط إلا في ظل الإسلام . ولا يمكن أن تبلغها إلا وهي تلبي هذا الهدف العلوي الكريم .
وقد وردت روايات عدة عن نزول هذه السورة نختار منها رواية إلامام أحمد:حدثنا محمد بن أبي عدي , عن داود , عن الشعبي , عن مسروق , قال:قالت عائشة:كان رسول الله [ صل الله عليه وسلم ] يكثر في آخر أمره من قوله:" سبحان الله وبحمده , أستغفر الله وأتوب إليه " وقال:" إن ربي كان أخبرني أني سأرى علامة في أمتي , وأمرني إذا رأيتها أن أسبح بحمده وأستغفره إنه كان توابا ; فقد رأيتها " . . (إذا جاء نصر الله والفتح , ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا , فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا). .
[ ورواه مسلم من طريق داود بن أبي هند بهذا النص ] . .
وقال ابن كثير في التفسير:والمراد بالفتح ها هنا فتح مكة . قولا واحدا . فإن أحياء العرب كانت تتلوم [ أي تنتظر ] بإسلامها فتح مكة يقولون:إن ظهر على قومه فهو نبي , فلما فتح الله عليه مكة دخلوا في دين الله أفواجا , فلم تمض سنتان حتى استوسقت جزيرة العرب إيمانا , ولم يبق في سائر قبائل العرب إلا مظهرلإسلام ولله الحمد والمنة , وقد روى البخاري في صحيحه عن عمرو بن سلمة قال:لما كان الفتح بادر كل قوم بإسلامهم إلى رسول الله [ صل الله عليه وسلم ] وكانت الأحياء تتلوم بإسلامها فتح مكة يقولون:دعوه وقومه فإن ظهر عليهم فهو نبي . . . "الحديث" . .
ونخلص من هذا كله إلى المدلول الثابت والتوجيه الدائم الذي جاءت به هذه السورة الصغيرة . . فإلى أي مرتقى يشير هذا النص القصير:
(إذا جاء نصر الله والفتح , ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا , فسبح بحمد ربك واستغفره , إنه كان توابا). . .
في مطلع الآية الأولى من السورة إيحاء معين لإنشاء تصور خاص , عن حقيقة ما يجري في هذا الكون من أحداث , وما يقع في هذه الحياة من حوادث . وعن دور الرسول [ صل الله عليه وسلم ] ودور المؤمنين في هذه الدعوة , وحدهم الذي ينتهون إليه في هذا الامر . . هذا الإيحاء يتمثل في قوله تعالى: (إذا جاء نصر الله . . .). . فهو نصر الله يجيء به الله:في الوقت الذي يقدره . في الصورة التي يريدها . للغاية التي يرسمها . وليس للنبي ولا لأصحابه من أمره شيء , وليس لهم في هذا النصر يد . وليس لإشخاصهم فيه كسب . وليس لذواتهم منه نصيب . وليس لنفوسهم منه حظ ! إنما هو أمر الله يحققه بهم أو بدونهم . وحسبهم منه أن يجريه الله على أيديهم , وأن يقيمهم عليه حراسا , ويجعلهم عليه أمناء . . هذا هو كل حظهم من النصر ومن الفتح ومن دخول الناس في دين الله أفواجا . .
وبناء على هذا الإيحاء وما ينشئه من تصور خاص لحقيقة الأمر يتحدد شأن الرسول [ صل الله عليه وسلم ] ومن معه بإزاء تكريم الله لهم , وإكرامهم بتحقيق نصره على أيديهم . إن شأنه - ومن معه - هو الإتجاه إلى الله بالتسبيح وبالحمد والاستغفار في لحظة الانتصار .
التسبيح والحمد على ما أولاهم من منة بأن جعلهم أمناء على دعوته حراسا لدينه . وعلى ما أولى البشرية كلها من رحمة بنصره لدينه , وفتحه على رسوله ودخول الناس أفواجا في هذا الخير الفائض العميم , بعد العمى والضلال والخسران .
والاستغفار لملابسات نفسية كثيرة دقيقة لطيفة المدخل:الاستغفار من الزهو الذي قد يساور القلب أو يتدس إليه من سكرة النصر بعد طول الكفاح , وفرحة الظفر بعد طول العناء . وهو مدخل يصعب توقيه في القلب البشري . فمن هذا يكون الاستغفار .
والاستغفار مما قد يكون ساور القلب أو تدس إليه في فترة الكفاح الطويل والعناء القاسي , والشدة الطاغية والكرب الغامر . . من ضيق بالشدة , واستبطاء لوعد الله بالنصر , وزلزلة كالتي قال عنها في موضع آخرأم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ? ألا إن نصر الله قريب) فمن هذا يكون الاستغفار .
والاستغفار من التقصير في حمد الله وشكره . فجهد الإنسان , مهما كان , ضعيف محدود , وآلاء الله دائمة الفيض والهملان . . (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها). . فمن هذا التقصير يكون الاستغفار . .
وهناك لطيفة أخرى للاستغفار لحظة الانتصار . . فيه إيحاء للنفس واشعار في لحظة الزهو والفخر بأنها في موقف التقصير والعجز . فأولى أن تطامن من كبريائها . وتطلب العفو من ربها . وهذا يصد قوى الشعور بالزهو والغرور . .
ثم إن ذلك الشعور بالنقص والعجز والتقصير والإتجاه إلى الله طلبا للعفو والسماحة والمغفرة يضمن كذلك عدم الطغيان على المقهورين المغلوبين . ليرقب المنتصر الله فيهم , فهو الذي سلطه عليهم , وهو العاجز القاصر المقصر . وإنها سلطة الله عليهم تحقيقا لأمر يريده هو . والنصر نصره , والفتح فتحه , والدين دينه , وإلى الله تصير الأمور .
إنه الأفق الوضيء الكريم , الذي يهتف القرآن الكريم بالنفس البشرية لتطلع إليه , وترقى في مدارجه , على حدائه النبيل البار . الأفق الذي يكبر فيه الإنسان لأنه يطامن من كبريائه , وترف فيه روحه طليقة لانها تعنو لله !
إنه الانطلاق من قيود الذات ليصبح البشر أرواحا من روح الله . ليس لها حظ في شيء إلا رضاه . ومع هذا الانطلاق جهاد لنصرة الخير وتحقيق الحق ; وعمل لعمارة الأرض وترقية الحياة ; وقيادة للبشرية قيادة رشيدة نظيفة معمرة , بانية عادلة خيرة , . . الإتجاه فيها إلى الله .
وعبثا يحاول الإنسان الانطلاق والتحرر وهو مشدود إلى ذاته , مقيد برغباته , مثقل بشهواته . عبثا يحاول ما لم يتحرر من نفسه , ويتجرد في لحظة النصر والغنم من حظ نفسه ليذكر الله وحده .
وهذا هو الأدب الذي اتسمت به النبوة دائما , يريد الله أن ترتفع البشرية إلى آفاقه , أو تتطلع إلى هذه الآفاق دائما . .
كان هذا هو أدب يوسف - عليه السلام - في الحظة التي تم له فيها كل شيء , وتحققت رؤياهورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا , وقال:يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا . وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي . إن ربي لطيف لما يشاء , إنه هو العليم الحكيم). .
وفي هذه الحظة نزع يوسف - عليه السلام - نفسه من الصفاء والعناق والفرحة والابتهاج ليتجه إلى ربه في تسبيح الشاكر الذاكر . كل دعوته وهو في أبهة السلطان وفي فرحة تحقيق الأحلام:
(رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث , فاطر السماوات والأرض , أنت ولي في الدنيا والآخرة , توفني مسلما , وألحقني بالصالحين). . وهنا يتوارى الجاه والسلطان , وتوارى فرحة القاء وتجمع الأهل ولمة الإخوان , ويبدو المشهد الأخير مشهد إنسان فرد يبتهل إلى ربه أن يحفظ له إسلامه حتى يتوفاه إليه , وأن يلحقه بالصالحين عنده . من فضله ومنه وكرمه . .
وكان هذا هو أدب سليمان عليه السلام وقد رأى عرش ملكة سبأ حاضرا بين يديه قبل أن يرتد إليه طرفه: (فلما رآه مستقرا عنده قال:هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر , ومن شكر فإنما يشكر لنفسه , ومن كفر فإن ربي غني كريم). .
وهذا كان أدب محمد [ صل الله عليه وسلم ] في حياته كلها , وفي موقف النصر والفتح الذي جعله ربه علامة له . . انحنى لله شاكرا على ظهر دابته ودخل مكة في هذه الصورة . مكة التي آذته وأخرجته وحاربته وقفت في طريق الدعوة تلك الوقفة العنيدة . . فلما أن جاءه نصر الله والفتح , نسي فرحة النصر وانحنى انحناءةالشكر , وسبح وحمد واستغفر كما لقنه ربه , وجعل يكثر من التسبيح والحمد والاستغفار كما وردت بذلك الآثار . وكانت هذه سنته في أصحابه من بعده , رضي الله عنهم أجمعين .
وهكذا ارتفعت البشرية بالإيمان بالله , وهكذا أشرقت وشفت ورفرفت , وهكذا بلغت من العظمة والقوة والانطلاق . .
اليوم....
يوم المباهاة..
(إن الله عز وجل ليباهي الملائكة بأهل عرفات) صحيح.
اليوم..
يوم الرحمات..
فيه ينزل الله -تبارك وتعالى- إلى السماء الدنيا فيقول : ( انظروا إلى عبادي شعثًا غبرًا اشهدوا أني قد غفرت لهم ذنوبهم وإن كان عدد قطر السماء ) صحيح.
اليوم..
يوم العتق من النيران..
إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (فلم يُرَ يوم أكثر عتقًا من النار من يوم عرفة ) صحيح.
اليوم..
يومٌ يَغفر الله بصومه سنتين متتابعتين:
( يوم عرفة غفر له سنتين متتابعتين ) صحيح
( يكفر السنة الماضية والباقية ).
اليوم..
يوم الإلحاح وكثرة السؤال..
( أفضل الدعاء يوم عرفة ، وأفضل ماقلت والنبيون من قبلي : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ) حسن.
فَلْنُرِي الله من أنفسنا خيرًا..
لِنناشد لله..
لِنبتهلْ..
لِنحسن الفعل..
لأجل أن نحظى بكل الفضل..