حكاية الأستاذ الفلسطيني الأسطورة الذي رفض أن يصمت - حكاية الأستاذ الفلسطيني الأسطورة الذي رفض أن يصمت - حكاية الأستاذ الفلسطيني الأسطورة الذي رفض أن يصمت - حكاية الأستاذ الفلسطيني الأسطورة الذي رفض أن يصمت - حكاية الأستاذ الفلسطيني الأسطورة الذي رفض أن يصمت
الدكتور راجح السباتين
حكاية الأستاذ الفلسطيني الأسطورة الذي رفضَ أن يصمت
في هذه الأيام التي يتحدث فيها الجميع عن سلامٍ قادمٍ ليجلو في ساعاتٍ مئات السنين من الأحقاد والكراهية المترسّبة!! وليجمع بين أحفاد أجدادٍ كانت الحروب حرفتهم والقتال همّهم وشغلهم الشاغل!! في هذه الأيام التي تناسى فيها الناس فلسطين وأصبحوا يسمّونها "إسرائيل" وحُذفِتْ فيها أناشيدُ طفولتنا (فلسطين داري ودرب انتصاري) من كتب اللغة العربية وحُذفتْ معها قصص طفولتنا (باسم شجاع ذاك الفتى الذي تحدّى الجنود الصهاينة وكتب على جدران الحارة أمام ناظريهم "فلسطين عربية"...) أقول: في هذه الأيام المرّة يتفجّر في داخلي الحنينُ إلى أستاذٍ حذَّرنا من وقائع هذا اليوم قبل ما يزيد على إحدى عشرةَ سنةً سبقت يومنا هذا. إنه أستاذُ التاريخ الشابّ الذي كان أولَّ أستاذٍ أتعلّق به في حياتي. ما كان ليعرف الخوف أبداً، كان على الدوام يحدّثنا بصوتٍ مرتفعٍ وحرارةٍ حارقةٍ عن الجهاد وفلسطين، وحروبنا مع الصهاينة، وعن حقيقة بني إسرائيل وذبحهم الناس وقتلهم الأنبياء، وكان على الدوام يركّز على الصهاينة واغتصابهم لأرضنا الطّهور، ثم يختتم حديثه المشوِّقَ دوماً بابتسامة ساخرةٍ ونظرةٍ حنونٍ قائلاً: يا أولاد، إنْ لم آتِ إلى المدرسة في الغد فاعلموا أنهم اقتادوني خلف الشمس؟ ويقهقه بصوته الأجشّ ثمّ يقول: لا بأس، لا بأس لأن الشعبَّ يوماً إن أراد الحياة فلا بدّ أن يستجيب القدر، ولا بدّ للّيل أن ينجلي ولا بدّ للقيد أن ينكسر. ومَن يدري يا أبنائي فلربما اختارتكم إرادة الله لتكونوا الجيل الذي يجلو الليل ويكسر القيد؟؟ كنتُ أفهم من كلامه أنه يرى فينا الأمل والمستقبل وأنه يحترم الطلاب ومشاعرهم، على خلاف معظم أساتذة مدرستنا أيامها.
رحم الله ذاك الأستاذ، أذكر عندما كنّا صغاراً، أنّ أسئلة امتحاناته كانت صعبةً جداً وأذكر أنّه كان يعلّل ذلك بقوله: إنّ السؤال الصعب يعلّمكم التفكيرَ، والتفكيرُ وحده هو الذي يقودكم إلى الثورة ... ما كنتُ لأفهمَ كلماته تلك إلا السّاعةَ. وما كنتُ لأدركَ كم كان مخلصاً وشجاعاً إلا يومي هذا!! وأذكرُ ممّا أذكرُ أنه جاءنا يوماً بامتحانٍ من سؤالٍ واحدٍ، وكان السؤال يقول: متى بِيْعت فلسطين؟ من هو البائع؟ كيف تمّت الصّفقة؟ ومن هم الوسطاء؟؟؟ قبل أن يختفي، كان ذاك الأستاذ الشاب حديث حيّنا كلّه، وقد ذاع صيته واشتهر حتى جاوز حيّنا إلى ما جاوره من الأحياء والمناطق الشعبيّة الترابيّة. وفي الحقيقة لقد كان يستحق كلّ ما ناله من شهرةٍ واحترامٍ؛ ذلك أنَّ شخصيته كانت فريدةً وعقله حرّ ونفسه أبيّة ... أي أستاذي، كان قدرُكَ أن تنضجَ في زمان الأنذال. وكان قدرك أن تكون رصاصةً لمدافع شعبنا الفقير المتعطّش للحرية والإسلام والكرامة. ليس ذنبك أنّ الناس خذلوك، وليس ذنبك أنهم شجّعوك وحرّضوك وثوّروك فلمّا قُمتَ للمواجهة وجدتَ نفسك وحيداً في الساحة، ووجدتَهمُ قد ولّوا الأدبار!! لا بأس، أستاذي لا بأس فهذه عادة الأعراب مُذْ خلقَ الله الجزيرة ونثرَ على سطحها التراب وملأها بمن ملأها به من الأعراب الذين انطبق عليهم الوصفُ بأنهم أشدُّ كفراً ونفاقاً. لقد كان هذا الأستاذ نموذجاً حياً للثورة المستمرّة التي لا تَقبلُ في غرف قصورها ضيوفاً إلا الشهداء والأبطال والأفذاذ. ولم يكن مثالاً "للثورة الحمقاء" أو "الفلسفة التي قتلت أهلها" كما يحلو لفلاسفة العبوديَة أن يسمّوه. لقد كان رجّل فكرةٍ وموقفٍ. ويكفيه نجاحاً أنّنا وبعد مرور هذه السنوات كلِّها لا زلنا نذكره، ولا زال الكثيرون منا يحفظون كلماته ويعلِّمونها أبناءهم وبناتهم وتلاميذهم ويتمنّون على الله أن يكون هذا الأستاذ حياً، وأن يلتقوا به ولو بعد حين...
لقد جرت العادةُ أنّ التلاميذ كلّما يكبرون ويتقدّم بهم العمر وتركض يهم الأيام نحو المستقبل فإن احتياجهم إلى معلّميهم وأساتذتهم يقلّ. لكننّي أجدُ نفسي اليوم على خلاف ذلك؛ إنني أشعر أنّ حاجتي لأستاذي القديم اليوم أشدُّ منها إليه وأنا طفل صغير؛ إنني بحاجةٍ إليه ليساعدني على فهم ما يجري من الأمور وتحليل ما يدور من الوقائع، وقبل هذا كلِّه وذاك فإنني بحاجةٍ إليه ليأخذني صوتهُ الحرُّ الثائر الحارُّ إلى أحلام الحرية والطموح والأمل بالانتصار على هؤلاء الظالمين الذين يأتمرون علينا ويتلاعبون بقُوتنا ويقامرون على مبادئنا وآرائنا على طاولات ساداتهم.
على خلاف معظم أساتذة التاريخ الذين رأيتهم، لم يكن أستاذي أستاذَ تاريخٍ أحمق ولم يكن واحداً من أولئك الذين يظنون أنهم لا زالوا يعيشون في الكهوف والمتاحف، والأهمّ الأهمّ أنه لم يكن واحداً من أولئك (الموّظفين) الذين يخبرون الناس أنَّ "هتلر" أحرق ستة ملايين يهودي!! وأنَّ الجيوش العربية حاربت الصهاينة بذخيرةٍ صالحةٍ جيدةٍ عام ثمانية وأربعين!! لا، لا، لم يكن واحداً من هؤلاء، لأنه كان يرفض أن يبيع فكره وعلمه مقابل حفنةٍ من تراب النقود الرخيص في عهدٍ ساد فيه الرخصاءُ وأصبحُ يشار إليهم بالبنان.
وهكذا انتهت قصّةُ أستاذنا الجريء، انتهت قصة أستاذنا الأسطورة ... وتعاقبت علينا بعده أجيالٌ من أساتذة التاريخ الحمقى والمعلِّمين. كلهم حدّثونا عن بطولات عمر وتحريره لبيت المقدس، وعن عبقرية خالدٍ وعن صرخة صلاح الدين، كلهم حدّثونا عن محاربة الظلم والاستبداد ووجوب الثورة على الظالمين، لكننا كنّا نصعق في كلّ مرّةٍ عندما يسألهم أحد طلاب الصفّ عن سبب انحطاطنا وفقرنا وانكسارنا "لإسرائيل" وتذِّللنا "لأمريكا" فيصمتون ويمتد بهم الصمت، ولمّا كنّا نلحّ في طلب الإجابة وفي سؤالهم عن سبب صمتهم المفاجئ والمتناقض مع كلامهم عن "البطولة والتاريخ" كانوا يقولون: إننا نصمتُ لنحافظَ على سلامتكم!! لكننا كنّا نعلم أنهم يكذبون، فقد كانوا يصمتون ليحافظوا على سلامتهم وحدهم وليحافظوا على سلامة لقمة خبزهم وشربة مائهم، حتى ولو كانت هذه السلامة على حساب جهلنا وقّلة معرفتنا للحقيقة والواقع، فتأخذنا عندها دوّامةُ اليأس والإحباط إلى حدودٍ بعيدةٍ يصعب علينا وصفها ونقول: رحم الله أستاذَ التاريخ، رحم الله أستاذَ التاريخ، ورحم الله من جاءنا بعده من الأساتذة؛ فكلُّهم موتى، كلُّهم موتى وإن ساروا على الأرض وشربوا الماء واستنشقوا الهواء ...
ما كنتُ لأفهمَ كلماته تلك إلا السّاعةَ. وما كنتُ لأدركَ كم كان مخلصاً وشجاعاً إلا يومي هذا!! وأذكرُ ممّا أذكرُ أنه جاءنا يوماً بامتحانٍ من سؤالٍ واحدٍ، وكان السؤال يقول: متى بِيْعت فلسطين؟ من هو البائع؟ كيف تمّت الصّفقة؟ ومن هم الوسطاء؟؟؟ قبل أن يختفي، كان ذاك الأستاذ الشاب حديث حيّنا كلّه،