قرأت مرة عن قصة أوردها صاحب المستطرف في كل أمر مستظرف أن أميراً اشتكى من صداع في رأسه، فأمر غلامه أن يرقيه، فتمتم الغلام بكلمات، مرت لحظات نهض بعدها الأمير وقد برئ، فقال للغلام: لئن لم تقل لتُسمعني ما قد رقيتني به لأفعلن وأفعلن، فما كان من ذلك الغلام إلا أن تلا عليه ما قد قاله؛ أبيات من شعر الغزل. تماماً هذا ما حصل معنا، حيث ألم بأحد أفراد الوفد الكويتي من المشاركين في قافلة شريان الحياة 5 مرض قبل أن ننطلق من اللاذقية إلى العريش، أبى صاحبنا إلا أن يرافقنا رغم كل الظروف، ولما اشتد عليه الحال في مطار العريش، إذا بأحد المشاركين من موريتانيا (بلد المليون شاعر) قام فأراح رأس المريض على فخذه، ووضع يده على رأسه وبدأ يتلو أبيات في أجمل ما قيل في الغزل –حسب خبرتهم-، سرقتها منه وكتبتها، قال شاعرنا:
أتأمن مكر البين وهو مخــوف وتمسك دمع العين وهو ذروف
تكلم منا البعض والبعض ساكت غداة افترقنا والوداع صنوف
فآلت بنا الأحوال آخر وقفة إلى كلمات ما لهن حروف
حلفت يمينا لست فيها بحانث لأني بعقبى الحانثين عروف
لئن وقف الدمع الذي كان جاريا لـَثـَمّ أمور ما لهن وقوف
الكويتي صاحبنا من متذوقي الشعر، ذو صوت أخاذ، طاب له الشعر حتى أظن أنه من فرط طربه أوهمنا أنه ما يزال مريضاً حتى يستمر البلبل الموريتاني بشدو القصائد.
وقبل يومين، كان الجدال محتدما بين قيادة القافلة والمشاركين، يسكبون عليها الأسئلة والاستفسارات، الأصوات تعلو ثم تنخفض ثم تعلو، أحدهم طلب مداخلة كغيره، موريتاني أيضاً، ظننا أنه سيخوض في النقاش ويدلي بدلوه، فإذا بدلوه مملوء بشعر ولا أجمل، غزل أسكت الجدل، قال ويا طيب ما قال: إننا محبون لغزة، وإن المحب لا يثنيه الصدود عادة عن محبوبه، وإنما نجده من عنتٍ ومشقةٍ يزيدنا هياماً بغزة المحبوبة
ولكنا رجال الحب قوم تهيج ربى الديار لنا ادّكارا
ترى كل الهوى حسن علينا إذا ما الجاهلون رأوه عارا
وأحرار النفوس نذوب شوقاً فنأتي كلما نأتي اضطرارا
فمن يأتي الأمور على اضطرار فليس كمن يأتيها اختيارا
الكل هدأ، نعم والله، لقد أتى الحب بنا إلى غزة، أتيناها اضطرارا، أسكتنا الغرام، وأكملنا اجتماعنا على الهيئة التي تكون بين المحب ومن أحب.
بعض الخبراء في قوافل شريان الحياة السابقة أكد لي ظاهرة غريبة، النفوس والطبائع تتغير كلما اقتربنا من الوصول لغزة، الظاهرة لا علاقة لها إطلاقاً بالشوق إلى الوصول، شيء يمكن تشبيهه بما يحصل بين العاشقين قبل كل لقاء؛ شرود الذهن، عبارات تفلت من اللسان، تنهدات وآهات، قد تـُذرف بعض الدموع، وكلما قصرت المسافة أكثر فاكثر؛ ازدادت هذه المظاهر حتى لو ازدادت معها العقبات وموانع الوصل.
أرى الآن تقلب وجوه الناس في السماء، يبحثون عن اتجاه سماء غزة، يريدون أن يعدوا النجوم فوقها من بعيد، يحسبون اتجاه الريح بطريقة مثالية، علهم يتنشقون عبيرها إذا هبت الريح من تلقائها.
أحسب أن الحبيبة غزة تبادلهم ذات المشاعر والشوق، لعلها تنظر إلى سمائنا وسمائكم وتنشد:
إن المحبَين لا يُشفي سقامهما إلا التلاقي فداوي القلب واقتربي
بارك الله فيك أخي "يحيى العلي" .. على الرغم أن مشاركاتك هذه دسمة بعض الشيء هههه
الا أن التنوع في المواضيع الأدبية ضروري وومتع بنفس الوقت ... فالمقامات من أهم الابداعات الأدبية ... شكراً لك أخي الكريم