من دروس فتح مكة - من دروس فتح مكة - من دروس فتح مكة - من دروس فتح مكة - من دروس فتح مكة
د.محمد أبو صعيليك
السبيل
قدّر الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم فتح مكة، وبذلك سقط أكبر معقل للكفار في الجزيرة العربية، وقد حوى هذا الفتح دروساً وعبراً عظيمة، يجمل الوقوف عندها، وهذا ما أذكره هنا كما يلي:
1- الرسول صلى الله عليه وسلم يحل مشكلاته بنفسه:
ما إنْ انتهى صلح الحديبية حتى تمخض عن تعاقدات، فقد دخلت خزاعة في حلف النبي صلى الله عليه وسلم، ودخلت بكر في حلف قريش، واعتدت بكر على خزاعة في المسجد الحرام، فاستغاثت خزاعة بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقال لعمر بن سالم الخزاعي: «لا نصرني الله إن لم أنصرك»، وقال: «إن هذا السحاب ليستهل بنصر بني عدي بن كعب».
ثم جيّش جيشاً كبيراً لفتح مكة والانتصار لخزاعة، ولم يبحث عن حل لهذه المشكلة عند كبراء أهل السياسة في تلك الأيام؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يعلم أنه لا يحل مشكلته إلا هو، فبالتالي حزم أمره وأخفى سره، وجهز جيشه وصمم على نصرة من استجار به.
2- شدة عَداء الكفار:
فقد جاء رجل لأحد كبار بني بكر وهم يقتلون بني خزاعة في المسجد الحرام فقال له: «إنه بيت إلهك»، فقال: «إنه لا إله له اليوم اقتلوا خزاعة»، فهذا تصريح قديم حديث عمّا تكنه قلوب الكفار للمسلمين، فإذا كان المسألة متعلقة بأهل الدين فلا دين للكفار، ولا ضابط لهم، ولا حقوق إنسان، ولا منظمات دولية، إذا كانت الوقيعة بأهل الحق في أي زمان ومكان، وأما إذا كانت المسألة متعلقة بغير المسلمين، فما أكثر المنظمات الدولية، وما أكثر المنادين بحقوق الإنسان، وما أكثر اللاغين بالحديث عن حقوق البشر، وهكذا الحال في القديم والحديث حين يظهر الكفار غيظ قلوبهم وشدة عدائهم لأبناء هذه الأمة، وما يحصل بالعزل المسلمين من المطالبين حقوقهم المشروعة في بلاد المسلمين إلا صفحة من صفحات ذاك العداء.
3- السرية في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم:
الأمة تتعلم دينها من النبي صلى الله عليه وسلم في قوله وفعله، ولقد كان من فعل النبي صلى الله عليه وسلم الاستسرار بأمره، كما حصل في فتح مكة حين أخفى الجهة التي يريد الذهاب إليها حتى عن أقرب الناس إليه، وهذا أصل في مشروعية السرية في حياة الناس، هذه السرية التي تحفظ الحقوق والحرمات وتقوي أهل الحق، وتبعد عنهم الأذى وتجلب لهم الطمأنينة، وتبعد عنهم غوائل العداوة والغيرة والحسد والسرقة وسائر أنواع الأذى، فأنت تخفي ما يكون بينك وبين زوجتك فريضة من الله ولا تظهره حتى لأقرب الناس إليك، وتخفي ما معك من مال حتى لا تحسد، ولا تخبر بمن تخطب لك حتى يتم لك الزواج حتى لا يدخل فيه داخل وهكذا، فهو شرع شرعه النبي صلى الله عليه وسلم، وليس وسيلة للعفونة الفكرية كما يدعي بعض المتحذلقين والذين شأنه مع أمتهم الخصومة لها، والمخالفة لثوابتها والليونة مع أعدائها، والخشونة مع الصادقين فيها.
4- معرفة أقدار الناس:
أعلم النبي صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبي بلتعة بمسيره إلى مكة، فحاول هذا الرجل إفشاء سر النبي صلى الله عليه وسلم، فأراد عمر قتله لهذا الجرم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «دعه يا عمر فإنه قد شهد بدراً، ولعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»، فهذا أصل في معرفة أقدار الناس، فهو يفيد أن من كثر خيره، وقل شره ذهب شره في بحر خيره وعفى عنه، وهذا أصل في التعامل مع الناس وخاصة في عالم الأسرة والزوجية، ومعلم في الصداقة والأصدقاء، وأساس في تقويم العلماء وجهودهم، وميزان في تقويم أهل الخير وأهل الفضل في الإسلام، وهذا باب يغفل عنه الكثير حين يزروا بأقدار غيرهم لزلة وقعت أو خطأ حصل وما يدري أولئك أن الشرع يقرر الإغضاء عن الخيّر إذا أخطأ رعاية لكثرة خيره، فهل تعي الأمة ذلك وأن تقف معه في تقويمها لبيوتها، ونظرها في علم علمائها، وفي تعاملتها مع أهل الفضل والدين فيها.
5- الولاء والبراء:
مارس أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مسألة الولاء والبراء في حياتهم فكانت منهجاً مرتبطاً بالعقيدة فلا يوالون إلا من أذن الله بولائه، بل يبرؤون ممن تبرأ الله تعالى منه وكانت هذه قضية مفصلية في حياتهم فقد دخل أبو سفيان وكان كافراً بيت ابنته أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فطوت الفراش عنه، فقال: «ما الذي أصابك يا بنية أرغبت بالفراش عنّي أم رغبتي بي عنه»، فأجابته رضي الله عنه بصرامة: «إنه فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت رجل كافر نجس»، فهو الدين الذي يجعل المسلم يوالي غيره من المسلمين على ما شرع الله، «إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا»، وأن يبرأ من الكفار أعداء الله حتى ولو كانوا أقرب الناس إليه، هو معلم تتعلمه الأمة من هذه المرأة الصالحة في زمان اختل فيه أمر الولاء والبراء فما ضيعت حقوق الأمة إلا بخلل الولاء بين المسلمين، وما تسلّط الكفار علينا إلا باختلال مسألة البراء فينا، فقد والى بعض ضعفاء الإيمان في الأمة الكفار حرصاً على ما عندهم وضعفاً في دينهم وغفلة في نفوسهم، وبرئوا من المؤمنين خوفاً من أن يحشروا معهم، وأن يحاربوا كحربهم حتى ضاعت حقوق وازهقت نفوس وأكلت مقدرات ولا حول ولا قوة إلا بالله.
6- مهارة الرسول صلى الله عليه وسلم في صناعة الشخصيات:
لئن كان النبي صلى الله عليه وسلم رمز هذا الدين وأستاذ هذه الدعوة، إلا أنه صلى الله عليه وسلم كان ماهراً في صناعة الشخصيات فقد أمكنه الله تعالى من أسر خصمه كبير مكة أبي سفيان، فوكّل به العباس بن عبد المطلب ليوقفه على مكان مرتفع مطل على عبور جيوش المسلمين لفتح مكة، وتمر تلك الجيوش لينهار الصنم الجاهلي في نفس أبي سفيان، ولتحصل له صدمة نفسية حتى إنه ما صدق نفسه حين سأل العباس من هؤلاء قال هؤلاء سُليم قال وما لي وسُليم قال: من هؤلاء قال: هذا محمد في المهاجرين والأنصار، فقال: لقد أضحى ملك ابن أخيك عظيماً، فقال له العباس: إنها النبوة يا أبا سفيان، حتى مرت الجيوش فانهار صنم أهل مكة في نفس أبي سفيان، فدخلها ذليلاً بالكفر حتى تجرأت عليه زوجته هند فأخذت بشاربه وقالت: اقتلوا هذا الحميت الدسم -الرجل الضخم- وهنا أراد النبي صلى الله عليه وسلم صنع القيادة الإسلامية في شخص أبي سفيان، فكان أن نادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن»، فصنع النبي صلى الله عليه وسلم في شخص أبي سفيان شخصية قيادية جديدة عرف الناس أثرها في حرب الردة حين ارتدت البلدان فوقف هو وأمير مكة عتاب بن أسيد فقال: «يا أهل مكة إنا قد دخلنا هذا الدين وآمنا بهذا الرجل، فمن رابنا من شيء ضربنا عنقه»، فهذا معلم جديد من معالم ابداعات شخصية النبي صلى الله عليه وسلم في صنع الشخصيات وحسن التعامل معها، فهل يعي هذا المسلمون في هذه الأيام حين يحسنون التعامل مع بعض خصومهم؛ ابتغاء تأليف قلوبهم وتخفيف غلواء صدورهم واحتوائهم ليكونوا رادة في الحق، قادة في الخير.
7- التواضع:
دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتحاً خاشعاً متذللاً تمس لحيته ظهر الناقة، وهذا معلم آخر في حياته صلى الله عليه وسلم إنه تواضع في أعلى درجات النصر، وأعظم تحقق النعم عليه صلى الله عليه وسلم، فهل تأخذ الأمة منه ذلك حين يكرمها الله ببعض النعم لتؤدي شكرها وتتواضع نفوسها أمام واهبها لاحظ موقفه صلى الله عليه وسلم في أعظم يوم عليه، ولاحظ مواقف بعض الحمقى في نجاحات بسيطة، بالفوز بالكرة أو بالنجاح في التوجيهية والجامعة، إذا به ينسى ربه ويعمل على معصيته ويروع عباد الله ويفسد عليهم سكونهم لأنه قد فاز أو نجح، وما فوزه في حياة الأمة، وما يعد نجاحه المدعى في واقع الناس.
8- العفو عند المقدرة:
ما آذت مكة رجلاً أكثر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد سفهت حلمه، وردت دعوته، وآذته في جسده، وقتلت خيرة أصحابه، وما تركت وسيلة لأذاه إلا فعلتها، وكان أن أمكنه الله تعالى منها، فجمع أهل مكة، قائلاً لهم: «ما تظنون أني فاعل بكم، قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء»، إنها عظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في العفو عند المقدرة، والصفح عند التمكن من الانتقام هكذا كان منه صلى الله عليه وسلم، وهكذا المؤمل فيه، وهو معلم يخطه صلى الله عليه وسلم بفعله لتتعلم منه الأمة كيف تغضي عن أخطاء الأخرين، وكيف تعفو عنهم وكيف تتناسى الإساءات، وكيف تعلو على الجراح، فما أحوج الأمة هذه الأيام إلى أن تأخذ هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بين يدي أيام جبر مباركة لعيد مبارك تصفو فيه النفوس وتنقى فيها القلوب، وتجتمع فيها الأبدان، قدوة برسول الله صلى الله عليه وسلم، فما أحوج ذاك القادر على أذى غيره أن يمسك عن هذا الأذى، وأن يحجم عن هذا الطيش وأن يعلو عن هذه السفاسف، وأن يرتفع عن هذه الجراح، والله المستعان.