<<< أجمل رمضان >>> " متجدد " - <<< أجمل رمضان >>> " متجدد " - <<< أجمل رمضان >>> " متجدد " - <<< أجمل رمضان >>> " متجدد " - <<< أجمل رمضان >>> " متجدد "
والصلح خير
د. راغب السرجاني
من أشهر المشكلات التي يقع فيها كثير من المسلمين: الخصام والهجر والتباغض والتناحر؛ وذلك على مستوى الأسر والعائلات والجيران وزملاء الدراسة والعمل؛ ذلك على الرغم من أنها من المحرمات؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عيه وسلم قال: «لَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ»[1].
وقد تنبأ رسول الله صلى الله عيه وسلم بحدوث ذلك؛ حيث كان يخشى من وقوعه في أمته؛ فعن عامر بن سعدٍ عن أبيه أنَّ رسول الله صلى الله عيه وسلم أقبل ذات يومٍ من العالية، حتَّى إذا مرَّ بمسجد بني معاوية دخل فركع فيه ركعتين، وصلَّينا معه، ودعا ربَّه طويلاً، ثمَّ انصرف إلينا، فقال صلى الله عيه وسلم: «سَأَلْتُ رَبِّي ثَلاَثًا فَأَعْطَانِي ثِنْتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً: سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لاَ يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالسَّنَةِ[2] فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لاَ يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالْغَرَقِ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لاَ يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا»[3].
فالمشكلة إذن واقعة وليست محتملة، وهي أثقل في ميزان السيئات من سيئات أخرى كثيرة قد نهتم بالإقلاع عنها والاستغفار منها، ولكننا نقع في مشكلة الشقاق هذه دون أن نهتم؛ لذا فعلاج هذه المشكلة أثقل عند الله تعالى من أعمال نعدُّها من كبار الأعمال الصالحة؛ فعن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عيه وسلم: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ؟». قالوا: بلى. قال: «صَلَاحُ ذَاتِ البَيْنِ، فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ البَيْنِ هِيَ الحَالِقَةُ»[4].
وليس معنى حتمية وقوع الشقاق أن من يقع فيه ليس عليه إثم، أو أن مَنْ يتسبَّب فيه معذور؛ أبدًا! فالله سبحانه وتعالى يحرم علينا إفساد ذات البين، وكما خلق الله الشيطان وأنظره إلى يوم القيامة {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} [ص: 79، 80]، أي أن وجود الشيطان وغوايته وإفساده للناس أمر حتمي، ومع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى لم يعذر مَنِ اتبع غواية الشيطان، ولم يلتزم بأوامر الله؛ بل أوعده الله بالنار {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 39 - 43].
ومن هنا فليكن الهدف الثالث من أهداف أجمل رمضان أن نصلح ذات البين، وهذا الهدف ينقسم إلى جزأين:
الأول: إصلاح ذات بينك مع من تخاصمهم.
الثاني: إصلاح ذات بين المتخاصمين ممن تعرفهم، حتى لو لم تكن طرفًا في الموضوع.
لا شك أن رمضان فرصة عظيمة لإصلاح ذات البين، خاصة إذا عرفت أن الذي وراء الفرقة هو الشيطان: «عَلَيْكُمْ بِالجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالفُرْقَةَ! فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الوَاحِدِ، وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الجَنَّةِ فَلْيَلْزَمُ الجَمَاعَةَ»[5].
فالشيطان يُريد للإنسان الوحدة؛ حتى يسهل له التأثير عليه وأخذه إلى سبيل المعصية، وعلى مستوى الأسرة نجد أن أعظم الأعمال التي يفخر بها الشيطان هي التفريق بين الرجل وزوجته؛ فعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عيه وسلم: «إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً يَجِيءُ أَحَدُهُمْ؛ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا؛ فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا. قَالَ: ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ -قَالَ- فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ»[6].
فهكذا يجعل الشيطان نصب عينيه أن يفرق بين الرجل وامرأته، وأن يخرب البيوت العامرة، والحقيقة أن الشيطان ناجح في هذه المهمة أيما نجاح؛ فالإحصائيات تقول: إن مصر تسجِّل 155.3 ألف حالة طلاق سنويًّا؛ أي بمعدل مطلقة كل دقيقتين[7]. ولا يقتصر الأمر على مصر فالنسب في العالم العربي عالية جدًّا؛ حيث وصلت نسب حالات الطلاق السنوية 21% من حالات الزواج؛ ففي الإمارات العربية مثلاً وصلت النسبة 46%، وفي قطر 38%، والكويت 35%[8].
وما ذكرته من النسب إنما هي لحالات الطلاق الكامل، لكن لو تحدثنا عن نسب حدوث المشكلات لوجدنا أنها تكاد تعمُّ البيوت المسلمة، وتؤدِّي إلى عواقب أفدح كالهجر داخل البيوت وكثيرًا خارجها، والعنف في التعامل بين الزوجين.. إلى آخر المشكلات الضخمة التي يمكن توقعها، والتي تؤثر على الأولاد؛ فالشيطان في هذا الميدان ناجح بكل المقاييس، وهذا ما يفتح الباب لجهودك في الإصلاح؛ سواء داخل بيتك أو في بيوت الأقارب والأرحام والجيران والزملاء؛ وخاصة مع دخول رمضان حيث تُصَفَّد الشياطين، كما أن القلوب ترقُّ في هذه الأيام المباركة فتصبح الفرصة أكبر للنجاح في الإصلاح.
إذن، راجع قائمة معارفك، وانظر لمن فسدت علاقتك بهم دون أن تنظر إلى المخطئ؛ فلا تتوقَّف عند كونهم أخطأوا في حقك؛ بل قل مثلما قال الرسول صلى الله عيه وسلم؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يا رسول الله إنَّ لي قرابةً أصلهم ويقطعوني، وأُحسن إليهم ويُسيئون إليَّ، وأحلُمُ عنهم ويجهلون عليَّ، فقال: «لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ، فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ[9]، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ»[10].
فأنت بإصلاحك ذات بينك وتجاوز الآخرين إنما تستجلب نصر الله تعالى لك، والعقاب على من أساء إليك؛ فعن النبي صلى الله عيه وسلم قال: «لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ وَلَكِنِ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا»[11].
فهذا الواصل هو الذي بلغ أعلى من درجة الصائم القائم المتصدق بنص حديث ذات البين، ولكن المؤمن لا يكتفي بأن يصل رحمه وأن يصلح ذات بينه، وإنما يزيد في عمله الصالح بأن يعمل على الإصلاح بين المتخاصمين المتقاطعين؛ فهذا من أفضل الأعمال، وقد قال الله تعالى في ذلك: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114]؛ فكل الكلام خارج من الخيرية إلا هذه الأمور الثلاثة؛ فلا تحرم نفسك في هذا الشهر العظيم من أن تكون من المشاركين في هذا الخير.
المصدر: كتاب اجمل رمضان
[1] البخاري: كتاب الأدب، باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر، (5718)، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم التحاسد والتباغض والتدابر، (2558).
[2] بالسَّنَة؛ أي: بالقَحْط العامِّ.
[3] مسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض، (2890).
[4] الترمذي (2509)، وقال: حديث صحيح. وأبو داود (4919)، وموطأ مالك (1608)، وأحمد (27548)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح. وابن حبان (5092)، وصححه الألباني، انظر: التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان 7/ 366.
[5] الترمذي: كتاب الفتن، باب ما جاء في لزوم الجماعة، (2165)، وقال: هذا حديث حسن صحيح. والنسائي (9225)، وأحمد (114)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين. وصححه الألباني، انظر: صحيح الجامع وزياداته (2547).
[6] مسلم: كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس... (2813)، وأحمد (14417).
[7] تقرير الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء بتاريخ 19/05/2013م: www.almasryalyoum.com.
[8] صحيفة المدينة، بتاريخ 02/01/2013م: www.al-madina.com
[9] الملّ: هو الرماد الحار؛ أي كأنما تطعمهموه.
[10] مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها، (2558).
[11] البخاري: كتاب الأدب، باب ليس الواصل بالمكافئ، (5645)، عن عبد الله بن عمرو، والترمذي (1908)، وأبو داود (1697)، وأحمد (6785).
لماذا ربط الله تعالى رمضان بالتقوى؟ - لماذا ربط الله تعالى رمضان بالتقوى؟ - لماذا ربط الله تعالى رمضان بالتقوى؟ - لماذا ربط الله تعالى رمضان بالتقوى؟ - لماذا ربط الله تعالى رمضان بالتقوى؟
لماذا ربط الله تعالى رمضان بالتقوى؟
د. راغب السرجاني
إن صوم رمضان عبادة سرية بينك وبين الله تعالى؛ فأي إنسان لا يمكن أن يعلم على الحقيقة: هل أنت صائم أم لا؛ لذا فالصيام حقيق بأن يبثَّ في نفسك الإخلاص والتقوى معًا؛ وكذلك فالصيام عبادة طويلة تستهلك أكثر من نصف اليوم، وهو ليس مثل الصلاة يمكن أن تنتهي في خمس دقائق؛ لذا فهو يحتاج ثباتًا شديدًا على الطاعة يعين صاحبه على الاستمرار في الصيام على الدرجة نفسها من أول اليوم إلى آخره، وهذا لا يمكن أن يتأتى إلا بالتقوى.
والصيام يمنعك من أمور هي لك حلال في غير وقت الصيام؛ كالطعام والشراب والجماع، والإنسان دائمًا لا يحب ما يمنعه من إتيان رغباته، ويسعى دائمًا إلى التفلُّت من هذا المنع؛ لذا فالصبر على ذلك المنع مع الرضا به هو علامة من علامات التقوى.
كما أن الصيام يُلزمك بأخلاق معينة هي صعبة إلا على المتقين؛ مثل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "... وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ.. "[1]. وهذا أمرلم يعتده الناس؛ أن يتطاول عليك أحد فلا ترد عليه؛ بل حتى لا تسكت وإنما تُذكِّره بأنك صائم؛ ولهذا السبب لن تردَّ عليه اعتداءه، وفي هذا التذكير تذكير للنفس أولًا بأن هذا السكوت ليس ضعفًا؛ وإنما هو إرضاء لرب العالمين سبحانه؛ كما قال عمر بن عبد العزيز: "التَّقِيُّ ملجم لا يفعل كلَّ ما يُريد"[2]. وبهذا تتحقق فيك صفة التقوى.
المصدر: كتاب اجمل رمضان
[1] البخاري: كتاب الصوم، باب هل يقول إني صائم إذا شتم، (1805)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، واللفظ له، ومسلم: كتاب الصيام، باب فضل الصيام، (1151).
[2] البغوي: شرح السنة، تحقيق: شعيب الأرناءوط، ومحمد زهير الشاويش، المكتب الإسلامي - دمشق، بيروت، 14/341.
والله يريد أن يتوب عليكم - والله يريد أن يتوب عليكم - والله يريد أن يتوب عليكم - والله يريد أن يتوب عليكم - والله يريد أن يتوب عليكم
والله يريد أن يتوب عليكم
د. راغب السرجاني
هذا هو الهدف الأول: أن نكون أهلاً لمغفرة الله سبحانه وتعالى؛ فالله سبحانه وتعالى برحمته ولطفه يُريد أن يتوب علينا؛ فالأمر إذن إرادة ربانية علينا أن نغتنمها، ولا نتركها تتجاوزنا إلى غيرنا فنكون من الخاسرين؛ فالمفلح من المسلمين هو من اغتنم نفحات الله سبحانه وتعالى، وقد فتح الله سبحانه وتعالى المجال واسعًا لعباده بتنويع النفحات والعطايا، إلا أن أول ما نريد من النفحات في رمضان: التوبة.
ولكن لماذا اخترتُ التوبة كأول الأهداف في رمضان؟
والإجابة هي: أن هناك أحاديث كثيرة لفتت أنظارنا إلى موضوع المغفرة في رمضان؛ منها -مثلاً- ثلاثة أحاديث نبوية متشابهة المتن تقريبًا مع اختلافها في الأعمال الصالحة التي تدعو إليها؛ فهي تجعل المغفرة من الله تعالى هي الجزاء على تلك الأعمال المختلفة؛ فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"[1].
ويقول كذلك صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"[2].
فهذه الأعمال الصالحات كلها جزاؤها المغفرة من الله سبحانه وتعالى، ولكن يتوقَّف ذلك الجزاء على أن يكون العبد قد أدَّى العبادة إيمانًا واحتسابًا؛ فما المقصود إذن بـ"إيمانًا واحتسابًا"؟
لا يمكن أن يكون اللفظان مترادفين؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُوتي جوامع الكلم[4]؛ لذا فهو لا يحتاج إلى التكرار بألفاظ مختلفة، ويكفيه أن يختصر؛ فالإيجاز من فنون البلاغة؛ لذا وجدنا الأئمة يُفَسِّرون الكلمتين على النحو التالي، يقول الإمام ابن حجر العسقلاني: والمراد بالإيمان الاعتقاد بِحَقِّ فَرْضِيَّةِ صومه، وبالاحتساب طلب الثَّواب من الله تعالى[5].
ويفسرها المناوي قائلاً: "إيمانًا" تصديقًا بوعد الله بالثواب عليه، "واحتسابًا" إخلاصًا... وجمع بينهما لأن المصدِّق للشيء قد لا يفعله مخلصًا؛ بل لنحو رياء، والمخلص في الفعل قد لا يكون مصدِّقًا بثوابه فلا مُلجِئ لجعل الثاني تأكيدًا للأول[6].
وهكذا نجد أن العلماء قد فرقوا بين الكلمتين فـ"إيمانًا" تعني التصديق بفرضية أو ندب هذا الصيام، أو قيام رمضان عمومًا، أو ليلة القدر خاصة، و"احتسابًا" تعني الإخلاص وطلب الأجر من الله تعالى وحده؛ وها نحن إذن نعود من جديد لقضية الإخلاص؛ الذي من دونه تحبط الأعمال.
ونجد أنفسنا أمام قضية مهمة، وهي:
كيف يكون صيامنا وقيامنا إيمانًا واحتسابًا؟
ونجد الإجابة في حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوجهنا فيه إلى كيفية الالتزام بالصيام وأدائه على خير وجه؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الصِّيَامُ جُنَّةٌ؛ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ، وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ. مَرَّتَيْنِ؛ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ الله تَعَالَى مِنْ رِيحِ المِسْكِ، يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي، الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا"[7].
فقبول الله تعالى للصيام كما هو مرتبط بالإخلاص فإنه يرتبط من ناحية أخرى بمحافظة الصائم على سلوكياته أثناء صيامه، وبأن تكون نية الصائم أنه يصوم إرضاء لله تعالى، وابتغاء لمثوبته وحده لا أحد معه تعالى.
وكذلك يترتب القبول على هجران المعاصي والذنوب؛ فقد حذَّرنا صلى الله عليه وسلم أشدَّ التحذير من الاقتراب من المعاصي في هذا الشهر، وأنها تحبط العمل؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لله حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ"[8].
ولهذا نجد أن الصالحين دائمًا يحاولون أداء فريضة الصيام على أتم وجه من أجل رضوان الله تعالى؛ فها هو الأحنف بن قيس يقال له: إنك شيخ كبير، وإن الصيام يضعفك. فقال: إني أعدُّه لسفر طويل، والصبر على طاعة الله سبحانه أهون من الصبر على عذابه[9].
وحرصًا من الحسن البصري على إخوانه فقد أخذ يُنَبِّهَهُم حتى لا يفرطوا في رمضان فينفلت من بين أيديهم؛ فقد مرَّ بقوم وهم يضحكون فقال: إن الله سبحانه وتعالى جعل شهر رمضان مضمارًا لخلقه، يستبقون فيه لطاعته، فسبق قوم ففازوا، وتخلَّف أقوام فخابوا، فالعجب كل العجب للضاحك اللاعب في اليوم الذي فاز فيه السابقون وخاب فيه المبطلون. أما والله لو كشف الغطاء لاشتغل المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته؛ أي كان سرور المقبول يشغله عن اللعب، وحسرة المردود تسدُّ عليه باب الضحك[10].
أمَّا القيام فلكي يكون إيمانًا واحتسابًا فإن له آدابًا ومظاهر تظهر في سلوك المسلم؛ وله كذلك أنوار تتجلَّى على العبد؛ فالمسلم لا بُدَّ أن يُوقن أن قيام الليل هو العون الإلهي والمدد الرباني؛ الذي يُعينه الله به على الثبات على الإسلام، وعلى القيام بواجب الدعوة إلى الله تعالى، يقول تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل: 2 - 6].
وكذلك فإن المسلم يوقن بأن الله سبحانه وتعالى يصطفي من يقف بين يديه في تلك السويعات القلائل في جوف الليل؛ ومن ثَمَّ يُكافئهم بفيوضات العطاء؛ فعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ مِنَ اللَّيْلِ سَاعَةً لاَ يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللهَ خَيْرًا إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ" [11].
وأول أمر يجعل القيام إيمانًا واحتسابًا أن يكون طويلاً لا تشبع فيه من لذَّة القرآن والوقوف بين يدي الله تعالى؛ فعن الفضيل قال: إني لأستقبل الليل من أوله فيهولني طوله، فأفتتح القرآن فأُصْبِحُ وما قضيتُ نهمتي[12].
وتظل تُكابد نفسك في قيام الليل حتى يرضى الله عنك؛ فقد قال الحسن البصري: ما نعلم عملًا أشدَّ من مكابدة الليل ونفقة هذا المال[13].
أما ثاني أمر فأن تتدبَّر ما تقرأ من الآيات، سواء كانت كثيرة أم قليلة، وهذا لا يتعارض مع ما قلناه من طول قيام الليل؛ فيمكن للمسلم أن يقوم الليل كله بآية واحدة؛ فعن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: "قام النبي صلى الله عليه وسلم بآية حتى أصبح يُرَدِّدها. والآية {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ} [المائدة: 118]" [14].
ويُقال: إن مالك بن دينار رضي الله عنه بات يُرَدِّد هذه الآية ليلة حتى أصبح: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ...} الآية [الجاثية: 21][15].
أما بالنسبة إلى ليلة القدر فلكي تكون إيمانًا واحتسابًا فينبغي ألا يكون العبد معها مقامرًا يراهن على كون الليلة هي ليلة السابع والعشرين، ويأتي بالأحاديث التي تُؤَيِّد رأيه؛ فيُكثر في تلك الليلة من العبادات ويترك الليالي الأخر؛ معتمدًا على ما رواه أُبَيُّ بن كعبٍ -وقيل له: إنَّ عبد الله بن مسعودٍ يقول: من قام السَّنَةَ أصاب ليلة القدر- فقال أُبَيٌّ: والله الَّذي لا إله إلاَّ هو إنَّها لفي رمضان -يحلف ما يستثني- ووالله إنِّي لأعلم أيُّ ليلةٍ هي. هي اللَّيلة الَّتي أمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها؛ هي لَيْلَةُ صَبِيحَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَأَمَارَتُهَا أَنْ تَطْلُعَ الشَّمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها[16].
ولكنه يغفل أن هناك أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تذكر مواعيد مختلفة لليلة القدر؛ منها أنها في الوتر من العشر الأواخر، وأخرى أنها في العشر الأواخر عمومًا؛ فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُجَاوِرُ في العشر الأواخر من رمضان، ويقول: "تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ"[17].
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ"[18].
وعن عبادة بن الصَّامت قال: خرج النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ليُخبرنا بليلة القدر فَتَلَاحَى رَجُلَانِ من المسلمين فقال: "خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَتَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَرُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالخَامِسَةِ"[19].
وعن سالم بن عبد الله عن ابن عمر رضي الله عنه أَنَّ أُنَاسًا أُرُوا ليلة القدر في السَّبع الأواخر، وأنَّ أُنَاسًا أُرُوا أنَّها في العشر الأواخر فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "الْتَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ"[20].
كل هذه الأحاديث وغيرها يدفعنا إلى القول بالاحتراز والتركيز على الاجتهاد في العبادة في العشر الأواخر كلها؛ فإن من يفعل ذلك خير ممن ركز على ليلة واحدة وأهمل غيرها؛ فقد يكون هناك خطأ في رؤية هلال الشهر من أوله؛ فيختلط الزوجي بالفردي من الأيام، ويصبح ما ظنه ليلة 27 هي ليلة 28 أو 26، أمَّا من اجتهد في العشر كلها فقد ضمن أنه دخل في ليلة القدر، وليجتهد في الدعاء بأن يتقبَّل الله منه.
كما أن من معاني "إيمانًا واحتسابًا" أن ينشغل العبد بالعبادة والاجتهاد فيها في تلك الليلة دون الاهتمام بالمظاهر؛ فالوقت ثمين للغاية في تلك الليلة، وعلى الرغم مما قد يجده البعض من خشوع إذا صلوا وراء إمام معين؛ فإن من اهتم بالخشوع في قيام تلك الليلة، وتدبَّر في قراءته للقرآن فيها، أو فيما يتلوه إمام المسجد الذي يُصَلِّي فيه، ولولم يكن قارئًا شهيرًا أو صاحب أعذب صوت، وشعر بالآيات تنزل على قلبه وكأنها تتنزل لأول مرة عليه خاصة، هذا بالتأكيد أفضل ممن أضاع وقته في الذهاب ليصلي وراء قارئ معين؛ فأضاع ساعة في الذهاب إلى المسجد، وأخرى في العودة منه، كل ذلك ليستمتع بالصوت الجميل، دون أن يحدث تغير في سلوكه وتفكيره، والله أعلم.
إنها قضية قلبية؛ فكلا الأمرين "إيمانًا واحتسابًا" محلهما القلب ولا يطلع عليهما إلا الله تعالى، وبالتالي لا يستطيع أحد الحكم عليهما، فليس الأمر بالظاهر والشكل الخارجي؛ فقد يتجاور رجلان في الاصطفاف للقيام، ولكن شتان ما بين قلبيهما! فيُغفر لأحدهما، بينما تُلقَى صلاة الآخر في وجهه.
ومن أجل أن نحصل على مغفرة الله تعالى لذنوبنا؛ فهناك نقطة مهمة ينبغي طرقها؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ، وَالجُمْعَةُ إِلَى الجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ"[21].
فهذا الحديث يفتح باب المغفرة من الصغائر من نظرة حرام، أو كلمة خارجة، أو سلوك مخالف للأخلاق الحميدة.
ولكن ماذا عن الكبائر؟
إن الكبائر تحتاج إلى توبة خاصة، وإذا كنتَ تريد أن تخرج من رمضان مغفورًا لك، وأن يكون رمضانك هذا أجمل رمضان؛ بل أن يبدل الله سيئاتك حسنات {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 70]؛ فلا بُدَّ إذن من أن تطمع في أن يغفر الله لك الكبائر، ولكن كيف؟
لا بُدَّ أن توجِّه توبة خاصة لهذه الكبائر؛ فيجب أن تستحضر في ذهنك ذنوبك الكبيرة التي ارتكبتها، وتقلع عنها وتندم على إتيانها، وتعزم على عدم العودة إليها ثانيةً إن شاء الله، وإن كان لأحد من الناس حقٌّ عندك بسبب كبيرة ارتكبتها فلا بُدَّ أن تردَّه إليه.
ولكن العقبة الحقيقية التي تمنع الإنسان من التوبة من الكبائر هي ظنه أنه لم يفعل كبيرة أصلًا؛ فهو يظن أن الكبائر هي: الشرك والقتل والسرقة والزنا وشرب الخمر والسحر والفرار من الزحف فقط، وما يدري أن هناك من أفعاله التي ربما يكررها يوميًّا مرات كثيرة ما هو أكبر الكبائر، مثل عقوق الوالدين؛ والعقوق كما عرَّفه العلماء: أَنْ يُؤْذِيَ الْوَلَدُ أَحَدَ أَبَوَيْهِ بِمَا لَوْ فَعَلَهُ مَعَ غَيْرِ أَبَوَيْهِ كَانَ مُحَرَّمًا مِنْ جُمْلَةِ الصَّغَائِرِ فَيَكُونُ فِي حَقِّ الْأَبَوَيْنِ كَبِيرَةً[22].
فكثير من الناس يعقون آباءهم وأمهاتهم دون أن يدروا أن ما يفعلونه عقوق، فمخالفة أوامرهم ونواهيهم عقوق، والسفر وتركهما دون موافقتهما عقوق، والزواج دون إذنهما عقوق، وتقديم الزوجة والأبناء عليهما عقوق، والتأفُّف من طاعتهما –ولو مع طاعة الأمر- عقوق، وعدم إظهار التوقير والاحترام لهما عقوق، وتجاهلهما عقوق، والنقاش معهما بصوت مرتفع أو إظهار أنهما على خطأ وأن الابن يفهم أكثر عقوق، وحتى قول: أُفٍّ. وغيرها من كلمات التضجر أو النظرة الحادة إليهما أو إلى واحد منهما هذا عقوق.
وأنا أعرف بعض الشخصيات ممن يؤدون الصلوات بانتظام في المسجد، ولكنه يقاطع أمه، ويتهجم عليها بكلمات لا يمكن أن يخاطب بها أصدقاءه أو جيرانه، ويتعالى على والديه، ويرى نفسه أكثر منهما علمًا وفكرًا ومالًا؛ فلا يستمع لنصحها.
فإذا أدركت ذلك فكيف أخرج من هذه الكبيرة؟
لا بُدَّ أن أتعامل مع والدي بكل تقدير وإكبار وتحقيق لما يطلبانه، ما داما لا يطلبان مني مخالفة شرع الله، وحتى لو طلبا ذلك فعليَّ عدم تنفيذ ذلك الأمر، ولكن مع حسن مخاطبتهما، وذلك عين ما أمرنا به الله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15].
وهناك كذلك كبيرة الكذب؛ فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا، وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا"[23].
وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم الكاذب بالنفاق؛ فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ"[24].
ويخطئ كثير من الناس بظنهم أن الكذب مجرَّد أن تروي أشياء غير صحيحة؛ ولكنه في الحقيقة يدخل في أبواب كثيرة؛ فمن الكذب اختراع الشائعات وكذلك ترويجها؛ يقول الله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالمُرْجِفُونَ فِي المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب: 60].
ويفسر الإمام ابن كثير الآية بقوله: "{وَالمُرْجِفُونَ فِي المَدِينَةِ} يعني الذين يقولون: "جاء الْأَعْدَاءُ"، وَ"جَاءَتِ الْحُرُوبُ"، وَهُوَ كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ"[25]. وهذا الكلام هو عين الشائعات التي يُرَوِّجها منافقو العصر وكل عصر ممن لا يريدون بالأمة خيرًا.
بل إن من الكذب أن ينقل كل ما يسمع من الكلام؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "كَفَى بِالمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ"[26]. وفي رواية: "كَفَى بِالمَرْءِ إِثْمًا"[27]. فما يسمعه الإنسان قد يتضمَّن كذبًا من غيره، أو شائعة، أو غيبة، أو سبًّا، أو إساءة من أي نوع.
هذا الذنب الكبير لا بُدَّ أن أتوب منه ليغفره لي الله سبحانه وتعالى في أجمل رمضان؛ لذا لا بُدَّ أن أتحرَّى الصدق في جميع أحوالي، وأترك الكذب حتى فيما كنت أراه هزلًا؛ فعن أبي أمامة رضي الله عنه، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ[28] الجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ"[29].
وهناك حديث للرسول صلى الله عليه وسلم في منتهى الأهمية والخطورة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رَغِمَ أَنْفُ[30] رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ عِنْدَهُ أَبَوَاهُ الكِبَرَ فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الجَنَّةَ"[31].
لقد كرر رسول الله صلى الله عليه وسلم جملة "رغم أنف" التي تعني المذلة والخزي ليبين لنا –ضمن ما يبين- أن فوات المغفرة في شهر رمضان هو أعظم الخزي للمسلم؛ فالمغفرة هدف سامٍ ينبغي على المسلم أن يسعى وراءه بكل جهده، وإذا لم يحصل عليها فليس الأمر يتوقف على فوات فرصة جيدة كانت بالإمكان، وإنما قد خسرت وأصابك الخزي والذل؛ لأن فرصة الحصول على المغفرة في رمضان أكبر بكثير من الحصول عليها في غيره؛ حيث أبواب الثواب والفضل تكون مشرعة فيه؛ فإذا لم تستطع أن تكون أهلاً للمغفرة في رمضان فما أصعب الأمر في غيره!
نحن إذن أمام أمرين تتحقق بهما المغفرة:
الأول: الإحسان في الصيام والقيام وقراءة القرآن والصدقة؛ فتُغفر لنا الصغائر: "... إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".
الثاني: التوبة الخاصة من كبائر الذنوب التي تطرَّقنا إليها في حياتنا، وهذه التوبة الخاصة لها شروط:
1- الإقلاع عن الذنب.
2- الندم على ارتكابه.
3- العزم على عدم العودة إليه.
4- إعادة الحقوق إلى أصحابها إذا كان الذنب في حق العباد.
فلو أكرمك الله بالتوبة من الصغائر والكبائر في شهر رمضان، وخرجت بصفحة بيضاء، فسيكون رمضانك هذا.. أجمل رمضان.
المصدر: كتاب اجمل رمضان
[1] البخاري: كتاب الصوم، باب من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا ونية، (1802)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح، (760).
[2] البخاري: كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان، (1905)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح، (759).
[3] البخاري: كتاب الإيمان، باب قيام ليلة القدر من الإيمان، (35)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح، (760).
[4] أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ...". قال أبو عبد الله (البخاري): وبلغني أنَّ جوامع الكلم أنَّ الله يجمع الأمور الكثيرة الَّتي كانت تكتب في الكتب قبله في الأمر الواحد والأمرين أو نحو ذلك. انظر: البخاري: كتاب التعبير، باب المفاتيح في اليد، (6611).
[5] ابن حجر: فتح الباري، دار المعرفة - بيروت، 1379هـ، 4/115.
[6] المناوي: فيض القدير، المكتبة التجارية الكبرى - مصر، 6/191.
[7] البخاري: كتاب الصوم، باب فضل الصوم، (1795).
[8] البخاري: كتاب الصوم، باب من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم، (1804)، والترمذي (707)، وأبو داود (2362)، والنسائي (3245)، وابن ماجه (1689)، وأحمد (9838).
[9] أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين، 1/236.
[10] أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين، 1/236.
[11] مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب في الليل ساعة مستجاب فيها الدعاء، (757)، ومسند أحمد (14788).
[12] أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين 1/355.
[13] مختصر قيام الليل للمروزي ص58، وأبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين، 1/355، وابن الجوزي: آداب الحسن البصري، تحقيق: سليمان الحرش، دار النوادر، ط3: 1428هـ= 2007م، ص34.
[14] النسائي: كتاب صفة الصلاة، ترديد الآية (1083)، وابن ماجه (1350)، وأحمد (21366)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده حسن. والحاكم (879)، وقال: هذا حديث صحيح ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في التعليق على ابن ماجه.
[15] أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين، 1/355.
[16] مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان... (762)، واللفظ له، والترمذي (3351)، وأبو داود (1378).
[17] البخاري: كتاب صلاة التراويح، باب تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر، (1916)، ومسلم: كتاب الصيام، باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها وبيان محلها وأرجى أوقات طلبها، (1169).
[18] البخاري: كتاب صلاة التراويح، باب تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر، (1913)، واللفظ له، ومسلم: كتاب الصيام، باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها... (1165).
[19] البخاري: كتاب صلاة التراويح، باب رفع معرفة ليلة القدر لتلاحي الناس، (1919)، واللفظ له، ومسلم: كتاب الصيام، باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها وبيان محلها وأرجى أوقات طلبها، (1167).
[20] البخاري: كتاب التعبير، باب التواطؤ على الرؤيا، (6590)، واللفظ له، ومسلم: كتاب الصيام، باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها وبيان محلها وأرجى أوقات طلبها، (1165).
[21] مسلم: كتاب الطهارة، باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات... (233).
[22] الصنعاني: سبل السلام، 2/630.
[23] البخاري: كتاب الأدب، باب قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] وما ينهى عن الكذب، (5743)، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب قبح الكذب وحسن الصدق وفضله، (2607).
[24] البخاري: كتاب الإيمان، باب علامة المنافق، (34)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، (58).
[25] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، ط2: 1420هـ= 1999م، 6/482، 483.
[26] مسلم: مقدمة الإمام مسلم، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع، (5).
[27] أبو داود: كتاب الأدب، باب في التشديد في الكذب (4992)، وابن حبان (30)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح على شرط الصحيح. وصححه الألباني، انظر: التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان 1/161.
[28] في ربض الجنة: أي حوالي الجنة وأطرافها لا في وسطها.
[29] أبو داود: كتاب الأدب، باب في حسن الخلق (4800)، وحسنه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة (273).
[30] قال النووي: قال أهل اللغة: معناه ذل، وقيل: كره وخزي. وهو بفتح الغين وكسرها، وأصله لصق أنفه بالرغام، وهو تراب مختلط برمل. انظر: شرح النووي على مسلم (16/108، 109).
[31] الترمذي: كتاب الدعوات، باب قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: رغم أنف رجل.. (3545)، وقال: حديث حسن. وأحمد (7444)، وقال شعيب الأرناءوط: صحيح وهذا إسناد حسن. وقال ابن حجر: هذا حديث حسن صحيح. انظر: نتائج الأفكار، تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي، دار ابن كثير، 4/ 24.
إن هذا الشهر قد حضركم - إن هذا الشهر قد حضركم - إن هذا الشهر قد حضركم - إن هذا الشهر قد حضركم - إن هذا الشهر قد حضركم
إن هذا الشهر قد حضركم
د. راغب السرجاني
حدث عظيم يُوشك أن يمرَّ بالأرض.. حدث تتغيَّر فيه نواميس الكون بإذن ربها، إلى حالة من النقاء والهدوء والسماحة والبِشر.
حدث يغمر البشرية بالسكينة والمغفرة والرحمة؛ فيغسل ذنوب المؤمنين، ويرفع درجات المتقين، يُخَفِّف عن الفقراء إصرهم، ويُطَهِّر للأغنياء بالعطاء أموالهم، ويفتح خزائن رحمات الله لتتنزَّل على عباده الصالحين.
إنه رمضان.. ضيفنا العزيز الذي أكرمنا الله به، لنلتقط الأنفاس من سباق الحياة في هدنة نقضيها مع الله عز وجل، أو قل: نقضيها في تلبية دعوة كريمة من ربِّ العالمين، قد جَهَّز لنا فيها مأدبة عظيمة فيها الكثير من شتى الصنوف، التي لم نرها من قبلُ.
فمن صنوف هذه الدعوة الكريمة التي لا نراها إلا في رمضان: تفتيح أبواب الجنة طوال الشهر؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ.."[1]. وهذا معناه -كما هو واضح- أن أبواب الجنة ليست مفتوحة طوال العالم، وإنما في أوقات معينة، ولكن في رمضان فإن الله سبحانه يمُنُّ علينا بتفتيحها طوال الشهر الكريم.
إنها منة عظيمة أن تكون الجنة؛ ذلك المكان الرائع الجميل؛ الذي تنشغل عقول المسلمين جميعًا به وتسعى إليه، تكون مفتوحة طوال الشهر الكريم؛ الجنة ذات الريح الطيب والمناخ الطيب تفوح بروائحها وأجوائها العطرة على البشرية!
إنه أثر عظيم رائع ينعكس على حياتنا اليومية بالسكينة والهدوء والسعادة والأمل والرضا واليقين؛ وهي من نفحات الجنة علينا في الأرض.
وكذلك من مِنَنه العظيمة سبحانه في هذا الشهر تغليق أبواب الجحيم "... وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ.."[2]، وهذا يدلُّ على أن أبواب النار ليست مغلقة طوال العام، وإنما تُغْلَق في أوقات معينة منها شهر رمضان المعظم، وهذا الأمر وحده مِنَّة عظيمة جليلة، وله انعكاس مهمٌّ على الناس في الأرض؛ فعن أبي ذَرٍّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ شِدَّةَ الحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ"[3].
إن الله عز وجل بتغليقه جهنم فإنه يُزيل عنَّا فَيْحَها وحرَّها وكذلك بردها الشديد؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ: رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا. فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ؛ نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الحَرِّ وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ"[4].
بل هناك انعكاسات جسدية لجهنم على البشر؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَأَطْفِئُوهَا بِالمَاءِ"[5].
وبهذا فإن تغليق جهنم في رمضان نعمة من الله؛ يمنع عنَّا بها المرض والحر والزمهرير؛ فانظر إلى آثار رحمة الله كيف تتخطَّى حدود الغيب إلى الواقع المشاهَد!
والمنة الثالثة أو الصنف الثالث على مأدبة الله تعالى في رمضان، هو تصفيد الشياطين "... وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ"[6].
وتصفيد الشياطين هذا يمنح المسلم في رمضان مَزِيَّة إضافية تُعينه على طاعة الله؛ فقد تمَّ حبس أشدِّ أعدائه؛ وأقربهم منه لصوقًا؛ فعن صفية بنت حُيَيٍّ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ"[7]. ومن ثَمَّ فقد سنحت الفرصة للمسلم لزيادة الطاعة، وكذلك فإن تصفيد الشياطين يُقَلِّل من نسب المعاصي والجرائم والشرِّ في المجتمع؛ فيصير المجتمع أكثر هدوءًا وسكينة والتزامًا.
إن الله سبحانه وتعالى بكل هذه المنن والعطايا يمنحنا الإحساس بأن هذا الشهر الكريم -شهر رمضان- متميِّز للغاية، وأنه وقت مبارك من عمر الزمان على مستوى الكون كله؛ فالأحداث التي ذكرها الحديث لا نراها، ولكنها موجودة وتحدث في هذا الكون الواسع: جِنَان مفتَّحة الأبواب عرضها كعرض السماء والأرض تُفَتَّح أبوابها، ونيران جحيم تُغلَّق رحمة بالعباد، وشياطين مردة تُسَلْسَل، وكل ذلك العطاء من أجل هذا الشهر المعظم.
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُهَيِّئ الصحابة رضوان الله عليهم لاستقبال رمضان والاحتفال به بالعبادة والطاعة، فعن أنس بن مالكٍ، قال: دخل رمضان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ قَدْ حَضَرَكُمْ، وَفِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ الخَيْرَ كُلَّهُ، وَلَا يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلَّا مَحْرُومٌ"[8].
وهكذا تتشوَّف نفوس الصحابة رضوان الله عليهم لهذا الشهر الكريم ذي الثواب العظيم والأجر الجزيل.
ثم يُحَذِّرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعل قد يُغَيِّب عنهم فرحة قدوم رمضان؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَا يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدُكُمْ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمَهُ فَلْيَصُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ"[9]. فاستباق رمضان بالصيام –على الرغم من أن الصيام طاعة- يُذْهِب عن الإنسان الفرحة التي يجدها عند قدوم أول أيام رمضان؛ لأنه يجعل الأيام متشابهة؛ لذا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا الفعل[10].
فيتجهَّز كل صحابي وصحابية لصيام رمضان متشوِّقين للجوع والظمأ في سبيل الله، ثم يُنَبِّههم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن ليل رمضان كذلك ميدان للطاعة؛ فيقول: "مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"[11].
فيشدُّ كل صحابي مئزره، ويستعدّ لقيام الليل؛ يحدوه الشوق للاصطفاف بين يدي الله تعالى مهما كانت المشقَّة عليه.
هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستقبل رمضان؛ فكيف نستقبله نحن؟ وهل نجعل من كل رمضان يمر علينا أجمل رمضان؟
لقد مرَّت علينا شهورُ رمضان كثيرة؛ بل كثيرة جدًّا، ولكن كم شهرًا نذكر منها؟ وكم منها كان جميلا تحتفظ له بأعذب الذكريات؟
ربما قليل منها ما كان كذلك، وربما تُفَتِّش في حياتك فلا تجد رمضان تستطيع وصفه بتلك الصفة: أجمل رمضان!
ومع جريان العمر تجد في النفس حاجة إلى وقفة في شهر رمضان، وإلى الاستمتاع به.. إلى الإحساس بلذَّة العبادة، وعذوبة تلاوة القرآن، ومحبَّة الوقوف بين يدي الله سبحانه في صلاة القيام والتهجد، وإلى اليقين بثواب الإنفاق في سبيل الله، ومراعاة حال المحتاجين.
لا بُدَّ إذن من أن يكون رمضانُ القادم هو أجمل رمضان في حياتي، رمضان الذي أظلُّ أذكره ما عشتُ، والذي أرجو أن أُقابل الله به يوم القيامة آملاً في رضاه وقبوله تلك الطاعات.
وتوضيحًا لتلك الفكرة أذكر مثالا واقعيًّا من حياتي؛ فمع كثرة ما قمتُ به من عمرات -ولله الحمد والمنة على ذلك- فإن هناك عمرة متميِّزة عالقة في قلبي وعقلي، على الرغم من أنها كانت قصيرة المدَّة –خمسة أيام فقط-؛ ولكنها كانت تجمع بين خصائص ثلاث -حسبما أعتقد-، وهذه الخصائص هي:
أولاً: الرغبة الحقيقية في إرضاء الله تعالى وتحصيل أكبر قدر من الأجر، وهو ما يمكن أن نُسَمِّيَه الإخلاص؛ الذي قال عنه الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2].
وفي تفسير الآية قال الفضيل بن عياض: أحسن عملا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ. وقال: العمل لا يُقْبَلُ حتى يكون خالصًا صوابًا؛ فالخالص إذا كان لله والصواب إذا كان على السُّنَّة[12].
وكذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى"[13].
كما قال صلى الله عليه وسلم: "ثَلاثٌ لا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ[14]: إِخْلاصُ الْعَمَلِ لِلهِ، وَمُنَاصَحَةُ أَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ، وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ، فَإِنَّ الدَّعْوَةَ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ"[15].
فمنذ بداية الرحلة بل قبلها وأنا لا آخذ هذه العمرة بشكل تقليدي؛ مثل: إنني معتاد على أداء عمرة سنويًّا؛ فأنا أُؤَدِّيها بحكم العادة، وإنما أُرَكِّز نِيَّتي في إرضاء الله جل جلاله، وأن أستثمر كل لحظة من العمرة في بلوغ هذه الغاية؛ وأن أعيش خمسة أيام نقية؛ لذا فأنا بحمد الله أذكر التفاصيل الدقيقة لهذه العمرة، ويمكنني أن أذكر ماذا فعلت في كل يوم؛ فلعلَّ هذا -إن شاء الله- هو الإخلاص الذي أعطاها هذا المذاق.
ثانيًا: الاجتهاد الذي يصل إلى درجة المشقَّة والإرهاق في المواظبة على الطاعات؛ مثل عدم الاكتفاء بأداء الصلوات جماعة فقط، وإنما الحفاظ على أداء الصلاة في الصف الأول في الحرمين، وكذلك المواظبة على الطواف حول الكعبة سبعة أشواط في كل مرَّة عند دخول المسجد الحرام، وليس في أول مرَّة لأداء العمرة فقط؛ وهذا فيه مشقَّة كبيرة، ولكنه سُنَّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثالثًا: التجديد والابتكار، وأذكر أننا كنا نحرص على اتباع الجنائز كلها في المسجد النبوي -على صاحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم- والسير وراءها حتى دفنها في البقيع، كما قمنا بعيادة مرضى في المستشفيات، وقمنا بختم القرآن في خمسة أيام هي كل أيام العمرة.
هذه الخصائص الثلاث أعطت هذه العمرة -فيما أتصور- طابعًا مميزًا، وجعلتها تترك بصمة في الذاكرة؛ فذهبت مشقَّة العبادة وبقي أجرها إن شاء الله؛ فالجهد الذي بذلناه والسهر الطويل قد انتهى، وكذلك لو كنا أَدَّيْنَا العمرة في راحة ودعة لكانت الراحة قد انتهت ولم نعد نذكرها ويبقى التقصير.
وقد قَلَّلْنَا من التسوُّق لندَّخِرَ الوقت والجهد للعبادة، وإن كنا قد قمنا بالتسوُّق وشراء الهدايا بنية إدخال السرور على أهلنا؛ لننال بذلك أجرًا، كما قمنا بالتصدُّق على المحتاجين لننال الأجر والثواب؛ فقمنا بزيارة هؤلاء المحتاجين -الذين عرفناهم عن طريق بعض الإخوة هناك- في بيوتهم.
فإذا كانت هذه الخصائص الثلاث قد جعلت العمرة أجمل عمرة؛ فإنني أريد أن يكون رمضان القادم على نسق هذه العمرة؛ فيصبح أجمل رمضان؛ لذا علينا أن نقوم بالآتي:
- نزرع الإخلاص في قلوبنا من قبل أن يأتي الشهر، وننوي أن نجعل هذا الشهر ثقيلا في ميزان حسناتنا، ونعزم على هذا عزمًا أكيدًا قبل مجيء الشهر الكريم.
- نُكثر من العبادات والقربات إلى الدرجة التي تُرهقنا، وليس في هذا تعارض مع أحاديث التيسير، مثل ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ؛ وَلَنْ يُشَادَّ[16] الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ[17]؛ فَسَدِّدُوا[18] وَقَارِبُوا[19]، وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ[20]"[21]. وذلك لأننا نتحدث عن شهر واحد في السنة، وقد وردت الأحاديث التي تحض على زيادة الطاعة فيه وفي بعض أوقاته خاصة؛ فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مَا لاَ يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ"[22]. بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعبد الله حتى يشتدَّ به الإرهاق طوال العام، ويكفي أن ننظر إلى قيامه مثلا كما يحكي عنه القرآن {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} [المزمل: 20]، وكذلك كما تروي السيدة عائشة رضي الله عنها أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ؛ فقالت عائشة: لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللهِ، وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: "أَفَلاَ أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا". فَلَمَّا كَثُرَ لَحْمُهُ صَلَّى جَالِسًا، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ فَقَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ[23].
فهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى بعدما أسنَّ فأصبح يُصَلِّي قيام الليل جالسًا؛ ولكنه لا ينقطع عن القيام أبدًا؛ وهكذا لا بُدَّ أن ننظر إلى السُّنَّة بتوازن فنضع هذه الآية وهذا الحديث إلى جوار حديث: "إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ".
- نبحث عن التجديد والابتكار، بأن نضع أهدافًا مُعَيَّنة لم نضعها بوضوح في الرَّمضانات الماضية، وأنا أُرَشِّح أهدافًا أربعة؛ هي:
الهدف الأول: أن تخرج من رمضان وقد غفر الله لك كل ذنوبك؛ فتنوي أن تخرج من رمضان هذا العام من دون سيئات.
الهدف الثاني: أن تتصف في نهاية رمضان بصفة التقوى؛ فتُصبح داخلًا في الموصوفين بالمتقين بعد هذا الشهر.
الهدف الثالث: أن تُصلح ذات بينك؛ بإنهاء المشكلات بينك وبين أهلك وأصدقائك وزملائك إن كانت موجودة، وبالإصلاح بين المتخاصمين أيضًا.
الهدف الرابع: أن تكون من الله أقرب؛ فأنت كنتَ على مسافة ما من الله؛ فصرت أقرب إليه سبحانه بعد هذا الشهر.
إن وضوح الأهداف خطوة ضرورية للوصول إليها، ولكن الأهم منها والأكثر ضرورة هو الجدية والعزم الأكيد على تحقيقها، واتخاذ الوسائل العملية المعينة على تحقيقها، ولكن لو استطعت أن تُحَقِّق هذه الأهداف فيمكن أن نتوقَّع أن يكون رمضان القادم إن شاء الله..
المصدر: كتاب اجمل رمضان
[1] البخاري: كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، [3103]، عن أبي هريرة، ومسلم: كتاب الصيام، باب فضل شهر رمضان، [1079].
[2] الحديث السابق.
[3] البخاري: كتاب مواقيت الصلاة، باب الإبراد بالظهر في شدة الحر، (511)، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر لمن يمضي إلى جماعة... (616).
[4] البخاري: كتاب مواقيت الصلاة، باب الإبراد بالظهر في شدة الحر، [512]، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب
استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر لمن يمضي إلى جماعة... (617).
[5] البخاري: كتاب الطب، باب الحمى من فيح جهنم، (5391)، ومسلم: كتاب السلام، باب لكل داء دواء واستحباب التداوي، (2209).
[6] سبق تخريجه، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ".
[7] البخاري: كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، (3107)، ومسلم: كتاب السلام، باب بيان أنه يستحب لمن رؤي خاليًا بامرأة وكانت زوجته أو محرمًا له... (2174).
[8] ابن ماجه: كتاب الصيام، باب ما جاء في فضل شهر رمضان (1644)، وصححه الألباني في التعليق على سنن ابن ماجه، وقال البوصيري: وصحح الحافظ عبد العظيم المنذري هذا الحديث. انظر: مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه (2/62).
[9] البخاري: كتاب الصوم، باب لا يتقدمن رمضان بصوم يوم ولا يومين، (1815)، ومسلم: كتاب الصيام، باب لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين، (1082).
[10] إضافة إلى أسباب أخرى ذكرها شُرَّاح الحديث.
[11] البخاري: كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان، (1905)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح، (759).
[12] البغوي: معالم التنزيل في تفسير القرآن، تحقيق: عبد الرزاق المهدي، دار إحياء التراث العربي -بيروت، ط1: 1420هـ، 5/ 124، 125.
[13] البخاري: بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، (1)، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومسلم: كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنية)... (1907).
[14] لا يغلُّ عليهنَّ قلبُ مسلمٍ: معناه: لا يكون القلبُ عليهنَّ ومعهنَّ غليلًا أبدًا؛ يعني: لا يَقْوَى فيه مرضٌ ولا نفاقٌ إذا أخلص العمل لله، ولزم الجماعة، وناصح أولي الأمر. انظر: ابن عبد البر: التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، تحقيق: مصطفى بن أحمد العلوي, محمد عبد الكبير البكري، وزارة عموم الأوقاف والشئون الإسلامية - المغرب، 1387هـ، 21/277.
[15] الترمذي: كتاب العلم، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع (2658)، واللفظ له، وابن ماجه (230)، والطبراني: المعجم الأوسط (7271)، وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله وثقوا. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، تحقيق: حسام الدين القدسي، مكتبة القدسي، القاهرة، 1414هـ= 1994م، 10/247، وصححه الألباني في التعليق على ابن ماجه.
[16] يشادَّ الدين: يكلف نفسه من العبادة فوق طاقته والمشادة المغالبة.
[17] إلا غلبه: رده إلى اليسر والاعتدال.
[18] فسددوا: الزموا السداد وهو التوسط في الأعمال.
[19] قاربوا: اقتربوا من فعل الأكمل إن لم تستطيعوه.
[20] واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة: استعينوا على مداومة العبادة بإيقاعها في الأوقات المنشطة كأول النهار وبعد الزوال وآخر الليل.
[21] البخاري: كتاب الإيمان، باب الدين يسر، (39)، والنسائي (11765)، وابن حبان (351).
[22] مسلم: كتاب الاعتكاف، باب الاجتهاد في العشر الأواخر من شهر رمضان، (1175)، والترمذي (796)، والنسائي (3390)، وابن ماجه (1767)، وأحمد (26231).
[23] البخاري: كتاب التفسير، سورة الفتح، (4557)، واللفظ له، ومسلم: كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة، (2820).
تأملات عند باب الريان - تأملات عند باب الريان - تأملات عند باب الريان - تأملات عند باب الريان - تأملات عند باب الريان
تأملات عند باب الريان
د. خالد بن عبد الرحمن الشايع
في الصحيحين عن سهل بن سعد أن رسول الله قال: "إنَّ في الجنة بابًا يقال له: الرَّيَّان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحدٌ غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون، لا يدخل منه أحدٌ غيرهم، فإذا دخلوا أُغلق فلم يدخل منه أحد"[1].
الحديث عن أبواب الجنة له معانٍ ودلالاتٌ جليلة في كل حين، ولكنه في شهر رمضان يكون أضعاف ما في غيره، وفي ضوء ذلك هذه بعض التأملات المختصرة:
1- في رمضان تفتح أبواب الجنة كلها، وهذا يذكِّر بالجنة وسرورها، فتفتيح أبوابها علامة أمنها وأمارة انشراحها ومَنْ بِها، قال الله تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ} [ص: 50].
2- اختصاص الصائمين بباب الريان من أبواب الجنة يدل على فضل الصوم، والمراد بالصائمين هم مَنْ أتبعوا صيام الفرض بصيام النوافل، ذلك أنَّ كل مسلم لا بد أن يكون من أهل رمضان وصومه، فدل على أن الاختصاص هو فيمن أتبع الفرض بنوافل الصوم.
3- حال أبواب الجنة بعد دخول أهلها إليها كحالها إذا دخل رمضان حتى ينقضي، والداخلون للجنان المتكئين على أرائكها، الرَّافلون في نعيمها هم من إذا دخل رمضان كان لهم فيه مع ربهم من الصِّلة والإحسان بجوارحهم وألسنتهم وقلوبهم أعظم الشأن وأحسن الحال؛ فتنعُّم قلوب أهل رمضان كتنعم أهل الجنان فيها، أُنسًا بمولاهم وطاعته، وشوقًا لربهم ورؤيته.
4- عدد أبواب الجنة ثمانية؛ ففي صحيح البخاري عن النبي قال: "في الجنة ثمانية أبواب". والمراد -والله أعلم- الأبواب الأصول الكبار، ولكل بابٍ عملٌ يختص به، وبَينَ هذه الأبواب أبوابٌ دونها، كالفروع عنها، كما يكون في الباب الصغير المسمى (الخَوخَة)، ويكون دونها في السعة والعظمة.
5- من صفات تلك الأبواب وسعتها: ما بيَّنه قول النبي : "والذي نفس محمد بيده، إن ما بين المصراعين من مصارع الجنة لكما بين مكة وهَجَر، أو هَجَرَ ومكة". وفي لفظ: "لكما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وبُصرى"[2].
وبرغم سعة هذه الأبواب فسيأتي عليها يومٌ تزدحم فيه؛ ففي صحيح مسلم عن عتبة بن غزوان أنه قال: "ولقد ذُكر لنا أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة، وليأتين عليها يوم وهو كظيظ من الزحام".
6- أول من تُفتح له أبواب الجنة هو سيدنا ونبينا محمد ، فقد ثبت في صحيح مسلم أنه أول من يَستفتح باب الجنة، وفي رواية عند الترمذي قال : "فآخذ حلقة باب الجنة فأُقَعْقِعُها، فيقال: من هذا؟ فأقول: محمد، فيفتحون لي ويرحبون، فأخِرُّ ساجدًا". وفي رواية عند مسلم: "فيقول الخازن: مَنْ؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أُمرت أن لا أفتح لأحدٍ قبلك".
7- ولأبواب الجنة حلقات يُمسك بها، قال رسول الله : "فآخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها"[3]. قوله: (أقعقعها) أي أحركها. قال ابن القيم: وهذا صريح في أنها حلقة حسية تحرك وتقعقع.
8- أهل التوحيد الخالص من الشرك من هذه الأمة المحمدية لهم بابٌ لا يدخل منه سواهم؛ ففي الصحيحين أنه يقال لنبينا محمد يوم القيامة: "يا محمد، أدخل من أُمَّتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب".
9- إذا كان المسلم سبَّاقًا لأعمال البر المتنوعة، فإنه يكون مؤهلاً لأنْ يُدعى من كل أبواب الجنة لدخولها، وهذا ما بشر به النبي أبا بكر الصديق ؛ ففي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله قال: "مَنْ أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دُعِيَ من باب الصلاة، ومَنْ كان من أهل الجهاد دُعِيَ مِنْ باب الجهاد، ومَنْ كان من أهل الصيام دُعِيَ من باب الرَّيان، ومَنْ كان من أهل الصدقة دُعِيَ من باب الصدقة". فقال أبو بكر : بأبي وأمي يا رسول الله، ما على من دُعِيَ من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يُدْعَى أحدٌ من تلك الأبواب كُلِّها؟ قال: "نعم، وأرجو أن تكون منهم".
10- سمي باب الصيام (الريان) من الرِّيِّ الذي هو ضد العطش، وهذا مما وقعت المناسبة بين لفظه ومعناه؛ لأنه مشتق من الري، وهو مناسب لحال الصائمين.
وبعد، فنسأل الله -تعالى- أن يجعلنا من أهل الجنة ووالدينا والمسلمين.. آمين.
فإن الله اصطفى شهر رمضان وميزه عن غيره وجعل له خصائص عظيمة ومزايا حسنة، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185]. ولا شك أن العمل الصالح في هذا الزمان الفاضل يُضاعف أضعافًا عظيمة.
وكثيرٌ من الناس يتصور أن حقيقة الصوم هو ترك الطعام والشراب والجماع وغيره من الملذات المباحة قبل الصوم، ويقصر فهمه عن إدراك حقيقة الصوم وأهدافه وثماره العظيمة.
كما أن الإلف والعادة جعلت كثيرًا من المسلمين يقوم بالصوم ويمسك عن المفطرات من غير استشعار لمعنى التقرب والتعبد لله وتحقيق الحكمة فيه.
والصوم عبادة جليلة وهو سر بين العبد وربه، وهو يشتمل على معاني عظيمة وأسرار وحكم خطيرة يُبصرها ويَتفكر فيها من فتح الله عليه من عِباده، وهم ما بين مُقِل ومستَكثِر؛ فمنهم من يحيط بكثير منها, ومنهم من يدرك طرفًا منها بحسب النور الذي يقذفه الله في قلب المؤمن. وإليكم شيئًا من تلكم المعاني والحِكَم:
1- إن حقيقة الصوم -إضافة إلى ترك الملذات الحسية- ترك أيضًا جميع المحرمات والآثام، صوم القلب عن الوساوس والشبهات وصوم السمع والبصر عن الخطايا، وصوم اللسان عن الآفات، وصوم الفرج والبطن واليد والرجل عن المعاصي والذنوب؛ فالصوم مفهوم واسع يشمل صوم القلب وسائر الجوارح عن المحرمات الحسية والمعنوية، وقد نبه الله العبد في تركه الملذات الحسية على ترك جميع المعاصي والآثام..
فإذا كان العبد مطلوبًا منه ترك ما كان مباحًا له قبل دخول الشهر، فلئن يترك وينأى بنفسه عن المحرمات التي حرمت عليه طيلة السنة من باب أولى. قال رسول الله : "من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجه أن يدع طعامه وشرابه"[1]. وقال عمر رضي الله عنه: ليس الصيام من الطعام والشراب وحده، ولكنه من الكذب والباطل واللغو والحلف.
2- إن الله عز وجل أمرنا وتعبدنا بترك الطعام والشراب والملذات ليس لتعذيبنا ولا تكليفنا بالمشقة، وإنما لتحقيق العبودية والتقرب إليه والافتقار والذل إليه، وذلك أن العبد إذا ترك ما كان مُحببًا له ويشتهيه لأجل الله، وقدَّم محبة الله على محبوباته كان عبدًا لله. وهكذا كلما تذلل العبد وافتقر لله كان أكمل عبودية له، وهذا معنى العبودية الحقة أن يُسلِم العبد أمره لله، فيترك ما حرمه ويمنع ما منعه ويُبيح ما أباحه، فكل أمره لله. قال الله عز وجل: "يدع طعامه وشرابه وشهوته لأجلي"[2].
ولذلك تتحقق العبودية وتكمل في مقامات الذل والافتقار لله:
أ- في دعاء الله واستغاثته بالله؛ ولذلك فإن الله يحب الملحين في الدعاء.
ب- وفي سجوده وإذلال أشرف أعضائه؛ ولذلك أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.
ج- وفي ذبحه ونهره الدم لله؛ فإنه ما شيء أحب إليه من دم مهراق.
3- وفي صوم العبد وإمساكه يتعود على الصبر على طاعة الله والصبر عن معصية الله، فإذا داوم على ترك الملذات طاعة لله وصَبُرَ على ذلك رجاء ثواب الله ورضوانه، أكسبه ذلك قوة في تحمل كلفة العبادة، وقوة في تحمل ترك المعصية، وقوة في ترك ما ألفته نفسه واعتادته من العادات والأخلاق غير المحبوبة لله. قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45]. وقد فسر مجاهد وغيره الصبر بالصوم. ولهذا يُسمى شهر رمضان بشهر الصبر، وقد رُوي في السنة: "الصوم نصف الصبر".
4- في صوم العبد عن الملذات في رمضان يتجلى معنى عظيم، هو افتقار العبد لمولاه وأنه مملوك ومدبر تحت تصرف سيده، ليس له من الأمر شيء.. الأرض أرضه, والعبيد عبيده, والأمر أمره, والكل تحت سلطانه وقهره؛ فالعبد يمسك طيلة يومه عن ما حرمه الله عليه ولا يُفطر حتى يأذن الله له بغروب الشمس، ولو خالفه كان عاصيًا لله فلا ينتفع برزق ولا أرض ولا مال إلا فيما أباحه الله وأذن له، وهذا يدل على ملازمة الفقر للعبد وغنى الله المطلق. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [فاطر: 15، 16].
5- في صوم العبد تضعف شهوته ويقل أثر الشيطان عليه أو يزول بالكلية ويقوى إيمان العبد؛ ولذلك إذا صام العبد عزف عن الشهوات وأقبل على الطاعات وسلم من الشبهات. وبهذا يستطيع العبد أن يتخلص من سلطان الشيطان ويقوى على مقاومته. ولذلك ورد في الصحيح: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم". وأرشد النبي الشاب ذا الشهوة الذي لا يقدر على الزواج بالصوم ليُطفئ شهوته ويقيه الفتنة. قال رسول الله : "يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء"[3].
6- وفي شهر الصوم وكثرة عباداته ونوافله يجتهد العبد في الطاعة، فإذا اشتغل العبد بالصيام والقيام وتلاوة القرآن والذكر والإحسان صار من أهل النُّسك، وتعود على الطاعة ونشأ لديه ملكة نفسية وإقبال في التقرب والتعبد لله، وهذا معنى لطيف؛ ولهذا كان رسول الله يجتهد في شهر رمضان ما لا يجتهد في غيره، وإذا دخلت العشر الأواخر شدَّ مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله.
7- وفي صوم العبد وجوعه وعطشه يشعر بحاجة الفقراء والمساكين المحرومين، ويحس بألمهم ومعاناتهم، فلئن حُرم من الملذات شهر رمضان باختياره مع قدرته على الترف، فالفقراء محرومون من النعيم طيلة السنة رغمًا عنهم. وإذا استشعر العبد هذا حمله على البذل والإحسان إلى البائسين، وتفقد أحوالهم وقضاء حوائجهم، وصار رحيمًا قريب الشفقة كسير القلب، وهذا هو مقام الإحسان إلى الخلق. قال تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].
ولذلك "كان رسول الله أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل"[4]. وقد رغب الشرع المؤمنين بالإحسان في هذا الشهر، فقال رسول الله : "من فطر صائمًا كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء"[5].
8- وفي صوم العبد عن الملذات يتجلى معنى عظيم وحكمة جليلة في نفس المؤمن، هي تركه للترف وما ألفه من الشهوات والتوسع في المباحات واعتياده على التقلل من الدنيا والشعور بقرب الرحيل منها. وهذا هو مقام الزهد الذي يسلكه الكُمَّل من أهل الإيمان. وقد كان رسول الله من أزهد الناس، وكان الصديقون والصالحون زاهدين في زخرف الدنيا وزينتها طيلة السنة، فإذا دخل شهر رمضان لم يجدوا ما يجد غيرهم من المشقة ولم يفقدوا الكثير. قالت عائشة -رضي الله عنها- في وصف عيش النبي : "إنا كنا آل محمد ليمر بنا الهلال ما نوقد نارًا، إنما هما الأسودان التمر والماء"[6].
فلا يليق بالمؤمن أن تكون هيئته وحياته هيئة المترفين والمتكبرين وأهل الشهوات. ويتكرر معنى الزهد في كثير من العبادات الجليلة كالتجرد من اللباس في الحج، وغير ذلك.
9- في صوم العبد يصفو الفكر ويرق القلب وتنكسر النفس ويصير العبد مخبتًا قريبًا من الله، فإذا ذكر الله استشعر قربه، وإذا دعاه دعاه بيقين وحسن ظن بوعده، وتقوى صلة العبد في هذا الشهر بكلام ربه، ويفتح الله عليه في تلاوة القرآن ما لا يفتح عليه في غيره، فإن قرأ وهو صائم صادف محلاًّ عظيمًا في تدبره وتعقله والتفكر به، فخشع قلبه وتأثرت نفسه واجتهد في ختمه.
ولذلك كان رسول الله شديد العناية بالقرآن في رمضان، وكان جبريل عليه السلام يُدارس الرسول القرآن كل ليلة. وكان السلف الصالح إذا دخل رمضان تركوا كل شيء واشتغلوا بتلاوة القرآن، ولهم في ذلك قصص ممتعة وأحوال عجيبة.
فالصوم له روحانية عظيمة وأحوال إيمانية في نفس المؤمن تجعله يتذوق حلاوة الإيمان، وطعم العبادة، ومناجاة الخالق والتعلق به، والتفات القلب إليه.
10- في صوم العبد تكفير لخطيئته وغسل لحوبته وغفران لذنبه ورفع لدرجته ومنزلته. قال رسول الله : "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه"[7]، وقال : "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر"[8]. ويعتق الله عبيده في شهر الصوم، قال : "وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر. ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة"[9].
فالعبد لما كان غافلاً في سائر السنة مسرفًا على نفسه بالذنوب والسيئات مقصرًا في النوافل والطاعات مشغولاً بجمع الدنيا، جعل الله له شهر الصوم ليُجدد العهد بالله ويغفر ذنبه ويوقظه من غفلته ويقوي عزيمته في الطاعة، ويتحرر من رق الدنيا وعبوديتها.
وكل هذه المعاني والحكم والأسرار يُرجى دخولها في قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]. فكلها وجوه وأنواع للتقوى.
ومما يؤسف أن هذه المعاني تغيب على كثير من المتعبدين بالصوم، مما يجعل الصوم ثقيلاً عليهم، ويُرى تضجرهم منه ووقوعهم فيما ينقص ثوابه من اللغو والسباب والغيبة والنميمة، وتضييع نهاره بالنوم وليله بالسهر فيما لا فائدة فيه.
وإذا استشعر العبد حِكَم الصوم ومعانيه واحتسب صومه صار من أيسر العبادات عليه وأحلاها، وذاق حلاوته وأكثر منه كما كان رسول الله يُكثر منه. قالت عائشة رضي الله عنها: "كان رسول الله يصوم حتى نقول لا يفطر"[10].
وهذه العبادة العظيمة عبادة الصبر لا يُوفق لها إلا الكمل من المؤمنين الذين فتح الله عليهم فيها, وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
ومن أكثر من الصوم وعرف به أدخله الله تعالى يوم القيامة من باب الريان، كما أخبر بذلك رسول الله بقوله: "إن في الجنة بابًا يقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد"[11].
والغالب على من ذلت نفسه بالصوم وداوم عليه أن يكون شديد التقوى والورع عما حرم الله، والموفق من وفقه الله تعالى.
كيف يكون القيام إيمانا واحتسابا؟ - كيف يكون القيام إيمانا واحتسابا؟ - كيف يكون القيام إيمانا واحتسابا؟ - كيف يكون القيام إيمانا واحتسابا؟ - كيف يكون القيام إيمانا واحتسابا؟
كيف يكون القيام إيمانا واحتسابا؟
د. راغب السرجاني
لكي يكون القيام إيمانًا واحتسابًا فإن له آدابًا ومظاهر تظهر في سلوك المسلم؛ وله كذلك أنوار تتجلَّى على العبد؛ فالمسلم لا بُدَّ أن يُوقن أن قيام الليل هو العون الإلهي والمدد الرباني؛ الذي يُعينه الله به على الثبات على الإسلام، وعلى القيام بواجب الدعوة إلى الله تعالى، يقول تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل: 2 - 6].
وكذلك فإن المسلم يوقن بأن الله سبحانه وتعالى يصطفي من يقف بين يديه في تلك السويعات القلائل في جوف الليل؛ ومن ثَمَّ يُكافئهم بفيوضات العطاء؛ فعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ مِنَ اللَّيْلِ سَاعَةً لاَ يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللهَ خَيْرًا إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ" [1].
وأول أمر يجعل القيام إيمانًا واحتسابًا أن يكون طويلاً لا تشبع فيه من لذَّة القرآن والوقوف بين يدي الله تعالى؛ فعن الفضيل قال: إني لأستقبل الليل من أوله فيهولني طوله، فأفتتح القرآن فأُصْبِحُ وما قضيتُ نهمتي[2].
وتظل تُكابد نفسك في قيام الليل حتى يرضى الله عنك؛ فقد قال الحسن البصري: ما نعلم عملًا أشدَّ من مكابدة الليل ونفقة هذا المال[3].
أما ثاني أمر فأن تتدبَّر ما تقرأ من الآيات، سواء كانت كثيرة أم قليلة، وهذا لا يتعارض مع ما قلناه من طول قيام الليل؛ فيمكن للمسلم أن يقوم الليل كله بآية واحدة؛ فعن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم بآية حتى أصبح يُرَدِّدها، والآية {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ} [المائدة: 118] [4].
ويُقال: إن مالك بن دينار رضي الله عنه بات يُرَدِّد هذه الآية ليلة حتى أصبح: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ...} الآية [الجاثية: 21] [ 5].
المصدر: كتاب اجمل رمضان
[1] مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب في الليل ساعة مستجاب فيها الدعاء، (757)، ومسند أحمد (14788).
[2] أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين 1/355.
[3] مختصر قيام الليل للمروزي ص58، وأبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين، 1/355، وابن الجوزي: آداب الحسن البصري، تحقيق: سليمان الحرش، دار النوادر، ط3: 1428هـ= 2007م، ص34.
[4] النسائي: كتاب صفة الصلاة، ترديد الآية (1083)، وابن ماجه (1350)، وأحمد (21366)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده حسن. والحاكم (879)، وقال: هذا حديث صحيح ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في التعليق على ابن ماجه.
[5] أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين، 1/355.
الصيام .. مدرسة التغيير - الصيام .. مدرسة التغيير - الصيام .. مدرسة التغيير - الصيام .. مدرسة التغيير - الصيام .. مدرسة التغيير
الصيام .. مدرسة التغيير
د. صلاح سلطان
إذا أردنا بحق أن ننتقل في رمضان وما بعده من الانفعالات والتأثير إلى الإصلاح والتغيير، فلا بد من الانتصار على النفس في أهوائها الجامحة؛ لنسعد في حياتنا الزوجية والأسرية، ونحقق السلام والوحدة الوطنية والعربية والإسلامية. وهذا هو الطريق الطبيعي لننتصر في الميدان، لنكون الأمة الراقية الشاهدة على العالم كله، ولنعيد إلى العالم انتصارات بدر وفتح مكة وحنين وتبوك، وحطين وعين جالوت، وهي الخطوات الإصلاحية التي ربّى عليها النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بلا تخريب ولا تدمير، أو ظلم وطغيان، بل تعمير وعدل وإحسان.. وهذه خطوات الإصلاح والتغيير من خلال مدرسة الصيام التربوية.
أولاً: الصيام مدرسة التغيير للنفس:
إن مشوار الإصلاح والتغيير يبدأ بالنفس؛ لقوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]. والحق أنها هي الأصعب، حيث استطاع إنسان القرن الحادي والعشرين أن يملك ما حوله، لكنه فَقَد السيطرة على نفسه، يضغط على زرٍّ فتفتح له الأبواب للبيوت والسيارات، أو تفتح على الفضائيات والبلاد والعباد عبر البحار والمحيطات على الإنترنت والتليفونات، لكنه ينهار أمام "الشره" على الطعام أو السعار على الجنس أو الحماقة في الغضب، أو البذاءة والثرثرة في اللسان.
والصيام يعين الفرد على تجاوز هذا الضعف أمام هوى النفس، التي قال عنها ربنا سبحانه: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف: 53]، أو التي قال عنها سفيان الثوري: (ما عالجت أمرًا أشد عليَّ من نفسي)، وقال عنها الحسن البصري: (ما الدابة الجموح بأحوج إلى اللجام من نفسك).
إن الصيام يعطي كل فردٍ ثقة رهيبة في نفسه أنه بعون الله تعالى قادر على ضبط زمام الهوى، وكبح جماح النفس، ليس في الامتناع عن المحرمات من أكل الحرام، أو الزنا والخنا، أو السكر والتدخين، أو الظلم والطغيان، بل الامتناع عن الحلال بكلمة "الله أكبر" عند الفجر، ثم يباح بكلمة "الله أكبر" عند الغروب؛ ليستقر في أعماق كل مسلم ومسلمة أنه ما زال إنسانًا يحمل الفطرة النقية، والنفس الزكية التي تقدر أن توقف بعض الحلال بأمر الرحمن، وبالتالي فهي أبعد عن الحرام والشبهات.
ثانيًا: فوائد الصيام التربوية:
إن كبسولة الصيام تعالج في الفرد الروح والخلق والعقل والجسد في آنٍ واحد على النحو التالي:
أ- علاج قسوة القلوب وجفاف الروح:
إن التجرد بالصيام لله سر بين العبد وربه، يعلّمه أن يكون باطنه خيرًا من ظاهره، وقراءة القرآن وطول الصلاة والقيام ومضاعفة الحسنات، فالفريضة فيه بسبعين فريضة، والنافلة بأجر الفريضة، والأذكار والدعاء والقنوت في أجواء مهيأة من تقييد مردة الشياطين، ونزول الرحمات، وتجول الملائكة، ووجود المسلم بين إخوانه، أو المسلمة بين أخواتها الذين تنبع منهم كل أفعال الخير، هذا كله يجعل الروح تأخذ قسطها الوافي من العلاج الشافي من أمراض قسوة القلوب، وجفاف الروح، وجمود العين عن البكاء، وقصور اليد عن التضرع والدعاء، وخمول اللسان عن الذكر والثناء..
ليتحول الفرد شابًّا وفتاة، رجلاً وامرأة، حاكمًا ومحكومًا، صغيرًا وكبيرًا إلى أشباه الملائكة في نورانية القلب بحب الله، وخشيته في السر والعلن، والتلذذ بذكره في الليل والنهار والأسحار، وهذه مفاتيح طمأنينة القلب وهدوء النفس، وانشراح الصدر؛ لقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].
ب- علاج دنايا الأخلاق:
إن الشهوات الأربع في كل إنسان هي لعمارة الأرض، واستمرار النسل، وبقاء القيم، لكن بشرط الاعتدال في استعمالها، أما ثوران شهوات البطن والفرج والغضب والكلام فهو كفيل بتحطيم الإنسان لنفسه وأسرته ومجتمعه وعالمه.
والصيام مدرسة تربوية رائعة تضع لجامًا اختياريًّا على هذه الشهوات الأربع في وقت واحد؛ فالصيام من الفجر إلى المغرب يخرج بالإنسان عن عادات الإسراف في الحلال، أو الولوغ في الحرام مثل التدخين والسكر والإدمان إلى الاعتدال في الطعام والشراب، والتوقف عن الحرام والشبهات، كما يكسر من غلوّ شهوة الجنس التي تهتك الأعراض، وتدمر الأخلاق، وتفشي الرذائل والأمراض؛ ليكون الصيام "وِجاءً" لهذه الشهوات الجامحة، يرفع الإنسان من خسة الحرام إلى عفة الحلال، كما ينقله من ثورة الغضب على النقير والقطمير فيفقد الأصدقاء، ويقطع الأرحام، ويعق الآباء والأمهات، ويوقع الطلاق والشقاق، ليكون بالصيام الحليم الصبور، والهادئ الوقور، فإن استفزّه أحدٌ قال: إني صائم مرتين؛ ليوفر غضبه لله تعالى، والغيرة على محارمه ومقدساته، وليس انتقامًا للنفس وانتصارًا لشهواته.
كما يضبط الصيام لسان كل إنسان صائم للرحمن، فيشغله بالذكر والقرآن عن الغيبة والنميمة والكذب والبهتان، فيعرف المسلم بين الناس بطيب الكلام ورفيع المقال، ويكون أهلاً لرضا الله والجنة؛ لما رواه مسلم بسنده عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اضمنوا لي ستًّا من أنفسكم أضمن لكم الجنة: أوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا ائْتُمنتم، وأصدقوا إذا حدثتم، وغضوا أبصاركم، واحفظوا فروجكم، وكفوا أيديكم».
ج- علاج جمود العقل:
حقًّا (إن البطنة تذهب الفطنة)، فكثرة الطعام تستوجب ذهاب أكثر الدم من الدماغ إلى البطن لتهضم الفضل من الطعام الزائد، وهنا يسترخي العقل أو ينام، فيحرم الإنسان من حب العلم والتعلم، والفكر والتدبر، والاختراع والإبداع..
وما الحضارات الفذة إلا أفكار رائدة من عقل راشدٍ لا هامدٍ، يعمل ولا يكسل، ويفكر ولا يفتر، هكذا العقل هو مناط التكليف، كما أن القلب مناط التكريم؛ ولذا رُوي عن الإمام جعفر الصادق رحمه الله (إن أول ما خلق الله العقل، قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال: فبعزتي وجلالي بك أعاقب، وبك أثيب). وهذا يتوافق مع أكثر من 865 آية في القرآن الكريم تحث على التعلم، وأكثر من 247 آية تحث على النظر والتدبر والتفكر، وأكثر من 50 آية تحث على السؤال والتفقه.
إن مدرسة الصيام هي أعظم فسحة للعقل أن ينطلق مع فراغ البطن وخفة الجسد إلى عالم الإبداع، ليفكر بعمق في الكتاب المسطور والكون المنظور، ثم يقدم من خلال هذه المنظومة الربانية حلاًّ سديدًا، ورأيًا فريدًا، ونورًا جديدًا.
هضم النفس في رمضان - هضم النفس في رمضان - هضم النفس في رمضان - هضم النفس في رمضان - هضم النفس في رمضان
هضم النفس في رمضان
د. محمد أبو صعيليك
إذا كان الشرع قد جعل مقصد الصوم التقوى بعمومها وشمولها، والتقوى هي الأخذ بالأمر والنهي، فإن هذه التقوى تستلزم من صاحبها العلو على حظ نفسه، وعدم مطاوعته لها، بل العمل على حملها على ما يخالفها من الأفعال والأقوال والنوايا؛ ذلك لأن علماءنا يقررون أن الرضا عن النفس علامة خطأ، وإذا كان الحال كذلك كان لا بد للصائم من ارغام نفسه على مخالفة ما اعتادت عليه، وحملها على الخروج على المألوف وهذا هو في الحقيقة هضم للنفس واكراه لها، فكما أن الله تعالى يسر للصائم مخالفة اجبارية للمألوف في الطعام والشراب في أن يمسك بالنهار ويفطر بالليل، فإن هذا بالضرورة دافع له إلى أن يعمل على أن يغير إلفه في التعامل مع الناس ليكون رقيقاً خيراً بعيداً عن الأذى، "فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم".
إن هضم النفس هنا يكون بمنعها من الانتقام ورد العدوان، ودفعها إلى الصفح والعفو ومبادرة الآخر، باخباره بأنه صائم، فإن كان منه ذلك حقيقة منع نفسه من أن تؤذي غيره، وإن لم يكن منه ذلك جمحت نفسه واعتدت على غيره ونسي هو أنه صائم.
كما أن في البذل والإنفاق في نهار رمضان هضم للنفس، فالمعتاد أن المرء يجمع ماله لأخص الناس به وهم أهله وأبناؤه لكنه يمسكه عن غيره، فأن يأتيه الشرع ويكلفه بأن يبذل لغيره وينفق عليهم براً وصلة وتصدقاً وتفطيراً في هذا هضم للنفس، وحملٌ لها على مخالفة المألوف، وفي إشغال هذه النفس بالقرآن تعلماً وتعليماً وتدبراً وتفسيراً كذلك هضمٌ للنفس، إذ به تملأ الأوقات قصراً عن النفس، ومخالفة لها، وهكذا الحال في كل عمل يعمله الصائم يرى فيه حملاً لنفسه على مخالفة مألوفها مما ظهر أو أخفي، قل أو كثر، عم نفعه الخاصة أو العامة إذا نظر فيه هذا الإنسان وجد فيه مخالفة لهذه النفس، وحملاً لها على غير ما ألفت عليه إذا ما تدقق النظر فيه وجد أنه دائر في باب هضم النفس، فهل يعي هذا المسلمون؟ حين يكبحوا جماح هذه النفوس بحملها على حسن الطاعة لله عز وجل، وإبعادها عن شر المعصية له سبحانه.
إذا بهذا نسلك الطريق نحو تزكية هذه النفس وتعبيدها لله عز وجل لتكون كما أراد الله تعالى لها (ونفس وما سواها فألهما فجورها وتقوها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها) فهو طريق السائرين في مخالفة النفس وسوء الظن بها، وعدم الرضا بما توحيه من تحقق الكفاية في الفعل لما يضمن للمسلم انطلاقة جديدة في تربية نفسه وتحسين سلوكه بين يدي ربه سبحانه وتعالى.
وهذا يدفع المسلم في كل حياته إلى أن يكون هاضماً لنفسه في كل التكاليف ففي الصلاة هضم للنفس بمخالفة مرادها، وفي الحج هضم للنفس بإخراجها من مقر سكناها وايصالها إلى مكان بعيد غريب عنها بغية تحصيل الأجر والتخفف من الوزر، وفي الزكاة هضم للنفس بأن توجد فيها الأريحية التي بها تتقبل مشاركة الآخرين لها وهكذا في كل التكاليف الشرعية فكلما رأيت من نفسك احجاماً عن أمر فخالفتها فيه وفعلته تكون قد هضمت هذه النفس وقصرتها على الخير وحملتها عليه حملاً والله المستعان.
أئمة السلف في رمضان - أئمة السلف في رمضان - أئمة السلف في رمضان - أئمة السلف في رمضان - أئمة السلف في رمضان
أئمة السلف في رمضان
قصة الإسلام
الإمام الشافعي
كان الشافعي -رحمه الله- إمامًا في الاجتهاد والفقه، كذلك كان إمامًا في الإيمان والتقوى والورع والعبادة؛ فعن الربيع قال: كان الشافعي قد جزَّأ الليل ثلاثة أجزاء: الثلث الأول يكتب، والثلث الثاني يصلي، والثلث الثالث ينام.
وكان -رحمه الله- لا يقرأ قرآنًا بالليل إلا في صلاة؛ يقول المزني: ما رأيت الشافعي قرأ قرآنًا قط بالليل إلا وهو في الصلاة. ووُصِفَ الشافعي -رحمه الله- أيضًا بالحكمة، كما وُصِفَ بالكرم والسخاء، وغير ذلك من جميل الأخلاق وحسن السجايا.
وكان للشافعي في رمضان ستون ختمة، يقرؤها في غير الصلاة.
عبد الله بن عمر
كان ابن عمر لا يفطر في رمضان إلا مع اليتامى والمساكين، وربما لا يفطر إذا علم أن أهله قد ردُّوهم عنه في تلك الليلة. وكان من ذوي الدخول الرغيدة الحسنة؛ إذ كان تاجرًا أمينًا ناجحًا، وكان راتبه من بيت مال المسلمين وفيرًا، ولكنه لم يدخر هذا العطاء لنفسه قَطُّ، إنما كان يُرسِله إلى الفقراء والمساكين والسائلين، فقد رآه "أيوب بن وائل الراسبي" وقد جاءه أربعة آلاف درهم وقطيفة[1]، وفي اليوم التالي رآه في السوق يشتري لراحلته علفًا بالدَّيْن، فذهب أيوب بن وائل إلى أهل بيت عبد الله وسألهم، فأخبروه: إنه لم يبِتْ بالأمس حتى فَرَّقَهَا جميعًا، ثم أخذ القطيفة وألقاها على ظهره وخرج، ثم عاد وليست معه، فسألناه عنها فقال: إنه وهبها لفقير.
قتادة السدوسي
قتادة بن دعامة السدوسي يُكنَّى أبا الخطاب، بصري تابعي ثقة، ولد سنة ستين من الهجرة، وكان ضرير البصر، عَدَّهُ أصحاب الطبقات من "الطبقة الرابعة"، وكان يختم القرآن في كل سبعٍ دائمًا، وفي رمضان في كل ثلاثٍ، وفي العشر الأواخر في كل ليلة. ومات بواسط سنة 117هـ، وهو ابن سِتٍّ وخمسين سنة.
الإمام الزهري
محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب الزهري (58- 124هـ)، من بني زهرة بن كلاب، من قريش، أوَّل من دوَّن الحديث، وأحد أكابر الحفَّاظ والفقهاء، تابعيٌّ من أهل المدينة. كان يحفظ ألفين ومائتي حديث، نصفها مسند[2].
وعن أبى الزناد: كنا نطوف مع الزهري ومعه الألواح والصحف؛ ليكتب كل ما يسمع.
نزل الشام واستقر بها، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عُمَّالِه: عليكم بابن شهاب؛ فإنكم لا تجدون أحدًا أعلم بالسنة الماضية منه.
وكان الزهري إذا دخل رمضان يَفِرُّ من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم، ويُقبِل على تلاوة القرآن من المصحف.
سفيان الثوري
سفيان بن سعيد الثوري (97- 161هـ) أمير المؤمنين في الحديث.. كان سيِّد أهل زمانه في علوم الدين والتقوى، وُلد ونشأ في الكوفة، وراوده المنصور العباسيّ على أن يلي الحكم، فأبى، وخرج من الكوفة (سنة 144هـ)، فسكن مكة والمدينة، ثم طلبه المهديّ، فتوارى، وانتقل إلى البصرة فمات فيها مستخفيًا[3]. وكان سفيان إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة، وأقبل على قراءة القرآن.
[1]القطيفة: كساء له أهداب. انظر: المعجم الوسيط، مادة قطف ص747.
[2]الزركلي: الأعلام 7/97.
[3] المصدر السابق 3/104.
كيف نفوز بليلة القدر إيمانا واحتسابا؟ - كيف نفوز بليلة القدر إيمانا واحتسابا؟ - كيف نفوز بليلة القدر إيمانا واحتسابا؟ - كيف نفوز بليلة القدر إيمانا واحتسابا؟ - كيف نفوز بليلة القدر إيمانا واحتسابا؟
كيف نفوز بليلة القدر إيمانا واحتسابا؟
د. راغب السرجاني
بالنسبة إلى ليلة القدر لكي تكون إيمانًا واحتسابًا فينبغي ألا يكون العبد معها مقامرًا يراهن على كون الليلة هي ليلة السابع والعشرين، ويأتي بالأحاديث التي تُؤَيِّد رأيه؛ فيُكثر في تلك الليلة من العبادات ويترك الليالي الأخر؛ معتمدًا على ما رواه أبي بن كعب -وقيل له: إنَّ عبد الله بن مسعود يقول: من قام السَّنَةَ أصاب ليلة القدر- فقال أُبَيٌّ: والله الَّذي لا إله إلاَّ هو إنَّها لفي رمضان -يحلف ما يستثني- ووالله إنِّي لأعلم أيُّ ليلةٍ هي. هي اللَّيلة الَّتي أمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها؛ هي لَيْلَةُ صَبِيحَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَأَمَارَتُهَا أَنْ تَطْلُعَ الشَّمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها[1].
ولكنه يغفل أن هناك أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تذكر مواعيد مختلفة لليلة القدر؛ منها أنها في الوتر من العشر الأواخر، وأخرى أنها في العشر الأواخر عمومًا؛ فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُجَاوِرُ في العشر الأواخر من رمضان، ويقول: "تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ"[2].
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ"[3].
وعن عبادة بن الصَّامت قال: خرج النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ليُخبرنا بليلة القدر فَتَلَاحَى رَجُلَانِ من المسلمين فقال: "خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَتَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَرُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالخَامِسَةِ"[4].
وعن سالم بن عبد الله عن ابن عمر رضي الله عنه أَنَّ أُنَاسًا أُرُوا ليلة القدر في السَّبع الأواخر، وأنَّ أُنَاسًا أُرُوا أنَّها في العشر الأواخر فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "الْتَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ"[5].
كل هذه الأحاديث وغيرها يدفعنا إلى القول بالاحتراز والتركيز على الاجتهاد في العبادة في العشر الأواخر كلها؛ فإن من يفعل ذلك خير ممن ركز على ليلة واحدة وأهمل غيرها؛ فقد يكون هناك خطأ في رؤية هلال الشهر من أوله؛ فيختلط الزوجي بالفردي من الأيام، ويصبح ما ظنه ليلة 27 هي ليلة 28 أو 26، أمَّا من اجتهد في العشر كلها فقد ضمن أنه دخل في ليلة القدر، وليجتهد في الدعاء بأن يتقبَّل الله منه.
كما أن من معاني "إيمانًا واحتسابًا" أن ينشغل العبد بالعبادة والاجتهاد فيها في تلك الليلة دون الاهتمام بالمظاهر؛ فالوقت ثمين للغاية في تلك الليلة، وعلى الرغم مما قد يجده البعض من خشوع إذا صلوا وراء إمام معين؛ فإن من اهتم بالخشوع في قيام تلك الليلة، وتدبَّر في قراءته للقرآن فيها، أو فيما يتلوه إمام المسجد الذي يُصَلِّي فيه، ولولم يكن قارئًا شهيرًا أو صاحب أعذب صوت، وشعر بالآيات تنزل على قلبه وكأنها تتنزل لأول مرة عليه خاصة، هذا بالتأكيد أفضل ممن أضاع وقته في الذهاب ليصلي وراء قارئ معين؛ فأضاع ساعة في الذهاب إلى المسجد، وأخرى في العودة منه، كل ذلك ليستمتع بالصوت الجميل، دون أن يحدث تغير في سلوكه وتفكيره، والله أعلم.
إنها قضية قلبية؛ فكلا الأمرين "إيمانًا واحتسابًا" محلهما القلب ولا يطلع عليهما إلا الله تعالى، وبالتالي لا يستطيع أحد الحكم عليهما، فليس الأمر بالظاهر والشكل الخارجي؛ فقد يتجاور رجلان في الاصطفاف للقيام، ولكن شتان ما بين قلبيهما! فيُغفر لأحدهما، بينما تُلقَى صلاة الآخر في وجهه.
المصدر: كتاب اجمل رمضان
[1] مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان... (762)، واللفظ له، والترمذي (3351)، وأبو داود (1378).
[2] البخاري: كتاب صلاة التراويح، باب تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر، (1916)، ومسلم: كتاب الصيام، باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها وبيان محلها وأرجى أوقات طلبها، (1169).
[3] البخاري: كتاب صلاة التراويح، باب تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر، (1913)، واللفظ له، ومسلم: كتاب الصيام، باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها... (1165).
[4] البخاري: كتاب صلاة التراويح، باب رفع معرفة ليلة القدر لتلاحي الناس، (1919)، واللفظ له، ومسلم: كتاب الصيام، باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها وبيان محلها وأرجى أوقات طلبها، (1167).
[5] البخاري: كتاب التعبير، باب التواطؤ على الرؤيا، (6590)، واللفظ له، ومسلم: كتاب الصيام، باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها وبيان محلها وأرجى أوقات طلبها، (1165).