مع مذكِّرات الحاجّ أمين الحسينيّ (1)،(2)،... - مع مذكِّرات الحاجّ أمين الحسينيّ (1)،(2)،... - مع مذكِّرات الحاجّ أمين الحسينيّ (1)،(2)،... - مع مذكِّرات الحاجّ أمين الحسينيّ (1)،(2)،... - مع مذكِّرات الحاجّ أمين الحسينيّ (1)،(2)،...
د. علي العتوم
السبيل|
فرغتُ قبل أيامٍ من قراءة هذه المذكرات النفيسة لرجل فلسطين العظيم، المرحوم محمد أمين الحسيني (1897-1974م). وقد صدرت طبعتها الأولى عن (الأهالي) للنشر والتوزيع في دمشق سنة 1999م، بإعداد أمين سر المكتب التنفيذي للهيئة العربية العليا لفلسطين وتصنيفه، السيد عبد الكريم العمر. والحاج محمد أمين الحسيني هو المجاهد الفلسطيني الكبير الذي تسلم في عهده رئاسة الهيئة العربية العليا لفلسطين، ورئاسة المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى فيها، وكان مفتيها الأكبر. وقد قضى حياته منشغلاً بقضية فلسطين، مجاهداً في سبيلها، داعياً إلى نُصرتها، يجوب العالم للنِّفاح عنها، والكفاح من أجلها، وشرح حقيقتها في المحافل والأوساط المحلية والدولية، لا تلينُ له قناةٌ وهو يناضل لتخليصها من أسر الإنجليز واليهود. وتقع هذه المذكرات في 510 صفحات من القطع الكبير والخط الصغير.
لقد اختطّ الحاجّ أمين في دفاعه عن قضية فلسطين مسارين يتماشيان معاً: مسار الجهاد بالكفاح المسلّح، وتقوده منظمة الجهاد المقدس التي كان يرأسها ابن عمِّه الشهيد عبد القادر الحسيني، ومسار السياسة بعرض القضية في المؤتمرات القطرية والعالمية، والدفاع عنها بمنطق التاريخ والدين والواقع، وإنْ كان فيما أرى، قد غلّب جانب السياسة على جانب الجهاد العملي، وهو ما أنفق فيه معظم حياته، ولاسيما بعد احتلال اليهود لفلسطين في حرب 1948م. ولا شك أنه كان رحمه الله، في محيط المجتمع الفلسطيني، أشهر رجلٍ وقف حياته لخدمة هذه القضية المقدسة. وقد التفَّ حوله لهذه الغاية، الكثيرون من أبناء فلسطين وسواهم، واثقين بحركته، آملين أنْ تنجح القضية على يديه، لا على أيدي الساسة الآخرين من أبناء فلسطين وغيرهم من حكّام العرب، ممن كانوا لا يطمئنُّون إليهم. وقد ظهر ذلك في الهتاف المدوِّي الذي كان ينطلق من حناجر هؤلاء المؤيدي، كلما رأوه: (سيف الدين الحاجّ أمين).
لقد ذرع الحاجّ أمين، البلاد في سبيل القضية الفلسطينية وكذلك القضيتين: العربية والإسلامية. فزار الكثير من بلاد العروبة مثل سورية ولبنان والعراق ومصر والجزيرة العربية، وبعض أقطار الإسلام مثل إيران وباكستان وأفغانستان وأندونيسيا والبوسنة والهرسك، والبلاد الأوروبية، وخاصةً ألمانيا وإيطاليا قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها، مع العلم أنّ خروجه من فلسطين أرض الجهاد عنده وعند كل مخلصٍ لقضيتها، كان اضطراراً لتآمر الإنجليز على حياته. وقد وجه جهوده بالدرجة الأولى لمحاربتهم ومحاربة اليهود أعداء العرب والمسلمين الأُوَل. فالإنجليز هم الذين أعطوا لليهود وعد بلفور، واليهود هم الذين تآمروا طويلاً ومنذ القدم لاغتصاب فلسطين، والعمل بالليل والنهار للقضاء على الخلافة العثمانية متمثلةً بالسلطان عبد الحميد الذي كان يقف حجر عثرةٍ كبرى أمام مطامعهم الشِّرِّيرة في أرض فلسطين. وقد رأى الحاجّ أمين رحمه الله، في حربه مع الإنجليز واليهود أنْ يتحالف في الحرب العالمية الثانية مع دولتي المحور: ألمانيا وإيطاليا ويضع يده بيد زعيميهما: هتلر وموسوليني، إذ كانت ثقته بهما كبيرةً جداً، وأنهما إذا انتصرا في هذه الحرب، فسيقضون على اليهود ويخرجونهم من فلسطين، ويجعلون من وعد بلفور أثراً بعد عين!!
أما الإنجليز فيذكر من غطرستهم وخبثهم وعدائهم الشديد للعرب ولقضية فلسطين، وانحيازهم المقيت لليهود، أنَّ أحد كبار زعمائهم وهو تشرشل (وصف نفسه بأنه صهيوني أصيل، وأنه يصلِّي بحرارةٍ لتحقيق أهداف الصهيونية العظيمة)، وأنه أصرَّ على تكوين فيلقٍ يهوديٍ في الجيش البريطاني ليكون مقدمة للجيش الإسرائيلي الذي سيقاتل العرب في فلسطين، ويعمل على طردهم منها مخالفاً بذلك –كما يقول– نصيحة الجنرال الإنجليزي (ويفل) قائد القوات الإنجليزية في الشرق الأوسط، أن لا يفعل ذلك خوفاً من استفزاز العرب، فضرب بتلك النصيحة عُرض الحائط مزدرياً شأن العرب، وأنهم لن يجرؤوا على إنكار ذلك، كما في قوله: (ولكنني تحديت ويفل وكتبت إلى الدكتور وايزمن -زعيم الوكالة اليهودية آنذاك- بتشكيل الفيلق، ولم ينبح كلبٌ عربيٌ واحد)!! ومن مكرهم وصلفهم أنهم كانوا يختطفون الشخصيات الإسلامية والعربية من بلادهم ليُهينوهم أو يتخذوا منهم دعايةً لتحقيق مآربهم الخسيسة. ومن ذلك اختطافهم الخليفة وحيد الدين (أخي السلطانين عبد الحميد الثاني ومحمد رشاد) إلى بريطانيا، ليقولوا: إنه فر من تركيا طلباً لنصرتهم، كما اختطفوا الزعيم العراقي طالب النقيب ونفوه إلى الهند (لمخالفته سياستهم)، والقائد ياسين الهاشمي من الشام إلى الرملة بفلسطين (لشجاعته ووطنيته، ووقوفه بجانب ثورة العراقيين عليهم).
وأما عداؤهم للإسلام والعروبة عامةً وقضية فلسطين خاصةً، فمّما يذكره الحاجّ أمين مثالاً على ذلك، اشتراطُهم على صنيعتهم أتاتورك الذي أصبح زعيم تركيا اللاّدينية بعد الحرب العالمية الأولى، ليسكتوا عنه ولا يُقلقِلُوا كرسيّه، أنْ يرضى بما يُملونه عليه. وقد أجابهم إلى ذلك طائعاً. ومجمل هذه الشروط المذلة، يتمثّل في (أنْ تقطع تركيا صلتها بالإسلام، وأن تلغي الخلافة الإسلامية، وتتعهد بإخماد كل حركةٍ يقوم بها أنصار الخلافة، وتختار لها دستوراً مدنياً بدلاً من الدستور العثماني المستمد من أحكام الشريعة الإسلامية، والقائم على قواعدها)!! ويضيفُ الحاجّ أمين بأنّه ممّا تفرّع عن ذلك (استعمال الحروف اللاتينية بدلاً من الحروف العربية، ومنع الأذان باللغة العربية، ومنع تعليم الدين والقرآن في المدارس)!! وبالنسبة لموقفهم اللئيم من عرب فلسطين أهل البلاد الأُصلاء، فقد كانوا يعاملون من يسعى منهم للدفاع عن أهله وبلده بمقاومة اليهود الدخلاء، بالإعدام لأتقه الأسباب (حتى الذي يوجد معه أو في منزله رصاصة واحدة أو ظرف فارغ)!! بينما كانوا يدربون اليهود في معسكراتهم لقتال العرب، ويهربون لهم الأسلحة الفتاكة بسبلٍ مختلفة، ويأذنون لهم بالهجرة إلى فلسطين بالآلاف من شتى الأنحاء.
وأما عداؤه لليهود الذي يحمله نحوهم كلُّ مسلمٍ غيور وعربيٍّ شهمٍ، فهو أنهم ألدُّ أعدائنا كما جاء في القرآن الكريم، وأنكاهم لنا إيلاماً بسياستهم التآمرية الواصبة على فلسطين، ليعودوا إليها بزعمهم أنها أرض الميعاد، اعتماداً منهم على كتبهم الكاذبة، ويطردوا منها أهلها مشتَّتين تحت كل خضراء وفوق كل غبراء. ويتمثل ذلك –كما يقول الحاجّ أمين، وكما هو معروف لدينا عامة– بأنّ العهدة العمرية التي وقِّعت في السنة الخامسة عشرة للهجرة، تضمنت بنداً هو ألا يسكن مع أهل إيليا (القدس) يهودي واحد. وبقي هذا الأمر كما يقول الحاجّ أمين، إلى عهد محمد علي باشا الكبير الذي ثار على الدولة العثمانية، وأعلن عنها الانفصال وأراد أن يستقلَّ عنها بمصر والشام، فاستطاع اليهود آنذاك بمكرهم ودهائهم أن يأخذوا منه إذناً بهجرة بعضهم إلى القدس. وقد تمّ ذلك حيث هاجر إليها وسكن فيها عشر أُسرٍ يهودية. غير أنّ الدولة العثمانية -منعاً لهذا الأمر الخطير الذي حدث خيانة من محمد علي– سنَّتْ قانون الجواز الأحمر بالنسبة لليهود. وهو أنّه لم يكن يُسْمح لأحد منهم بالدخول إلى فلسطين، إلاّ ومعه جواز سفر أحمر يُسَلَّمُهُ عند الدخول، ومن ثمّ يُحجز جواز سفره الأصلي ولا يُعطى له إلاّ عند تسليم الأول بعد مكثه فيها لمدة قصيرة. وهكذا، ممّا وضع حداً حاجزاً أمام أطماع اليهود التي يحلمون بتحقيقها منذ قرونٍ.
يتبع ...
لم يتوقف اليهود إزاء مسألة الجواز الأحمر, عن البحث عن وسائل فعّالة تكسر حِدّة قانونها الحائل دون تنفيذ مخطّطاتهم في السعي لدخول فلسطين بقصد الاستيطان. وكان من أهم وسائلهم إلى ذلك تكوين شبكات الجاسوسية. وقد اعتمدوا في تكوينها على النساء، ومنهنّ، كما يقول الحاجّ في مذكِّراته، الفتاة اليهودية سارة أهرنسون التي كانت تبعث بالرسائل لعملائها عن طريق الشيفرة والحمام الزاجل, وتتلقّاها عن طريقهم, وذلك في الحرب العالمية الأولى خدمةً لليهود وأغراضهم في التسلل إلى فلسطين, والعمل على القضاء على الدولة العثمانية. وقد ذكر الحاج أنّ الذي خبّره عن هذه الجاسوسة القائد التركي المشهور جواد رفعت أتيلخان الذي كان مديراً للمخابرات الحربية في الجيش العثماني الرابع, والمرحوم حسن فؤاد آل إبراهيم باشا من سَراةِ حلب الذي كان رئيس أطباء الجيش العثماني المرابط في حيفا.
ومن طرائف الجاسوسية اليهودية في هذا الشأن ما ذكره الحاج أمين في كتابه عن بعض زعماء الجيش التركي في الحرب العالمية الأولى, حول محاولاتهم كسر حظر السماح لهم بامتلاك الأرض في فلسطين, من أنّ أحمد جمال باشا (السفّاح), قائد الجيش الرابع العثماني في الحرب العالمية الأولى, كان يقف صخرةً صمّاء أمام تلك المحاولات المتكررة, ويدعم في ذلك القائمّقام بهاء الدين بك العثماني في يافا الذي لم يَلِنْ لحظةً لإغراءات اليهود في هذا الأمر, إلاّ أنّهم، مع الزمن، استطاعوا أن يحصلوا من جمال باشا هذا على موافقةٍ لزيارة إحدى مدارسهم التربوية التي كانت تقوم عليها المعلمة اليهودية مس لاندو. وعندما تمكّنوا من هذه الفرصة الثمينة, رتّبت هذه المعلمةُ استقبالاً فخماً للقائد التركي, تقوم به صفوةٌ من البنات اليهوديات، طالباتٍ في المدرسة وغير طالباتٍ, ويقُمْن أمامه باستعراضاتٍ رياضيةٍ متنوعةٍ. ومن ثمّ عندما غادر زودْنَهُ بـ»ألبوم» من صورهن وعناوينهنّ. وبعدها خنع القائد وتوثّقت العلاقة بينه وبين اليهود, أصدر على أثرها أمراً بإقصاء القائمّقام بهاء الدين, ومنْح اليهود أرضاً واسعةً من أراضي الأوقاف الإسلامية هي «وقف رُوبين», بجوار يافا بحجّة استصلاحها, وتجفيف مستنقعاتها, وتوجيه أمرٍ بإجراء اللازم لتسجيلها قانونيّاً باسم اليهود.
ويشير الحاج أمين في هذه المذكرات إلى قوة مكر اليهود, وقدرتهم على اصطناع أساليب الجوسسة, ووصولهم عن طريقها إلى مبتغياتهم وإلى أعلى المنازل في الأمة المسلمة, بسبب غفلة أبنائها. ويذكر مثالاً على ذلك, أنّ الحاخام حاييم ناحوم الذي كان في عصره كبير حاخامي اليهود, وأكبر المشجعين على إلغاء الخلافة الإسلامية, قضى آخر حياته في القاهرة, حيث أقام في داره نادياً للقمار, يرصد ريعه للحركة الصهيونية في فلسطين, وكان يتقن اللغتين العربية والتركية، وقد استطاع بمكره وفي غفلة من المسؤولين في مصر أن يصبح عضواً رسمياً في مجمع اللغة العربية بالقاهرة! وبناءً على الخدمة التي تُسدى لليهود، على طريق تحقيق مآربهم المُفضية إلى هدم كل ما من شأنه أنْ يقف في طريقهم لاغتصاب فلسطين واستيطانهم فيها، أثنى اليهود ثناءً واسعاً على كمال أتاتورك (عدو الإسلام الأكبر), ونعتوه بالعبقرية كما جاء على لسان الألماني اليهودي أميل لود ويغ، وذلك في كتابه «الذب الأغبر», وقد (وصفه بالعبقرية وقارن بينه وبين نابليون, وفضّله عليه من حيث أنّه أقدم على إلغاء الخلافة الإسلامية, وبذلك خَلَصَ من الأعباء المرهقة لتركة الدولة العثمانية). ولعلّه لموقف السلطان عبد الحميد الصُّلب من اليهود ومنعه السماح لهم بشيءٍ من أرض فلسطين, وإحاطته نفسه بشبكةٍ من المخابرات الإسلامية ردّاً على وسائلهم الماكرة في هذا الصدد, حقد هؤلاء عليه ورصدوا له, وضاقوا به وبنباهته ودهائه ذرعاً, كما يقول الحاج أمين.
لقد أُخِذَ الحاجّ أمين, بعظمة ألمانيا وأُعجب بقوّتها وعوّل عليها كثيراً في الانتصار لقضايا العرب, وكان واثقاً بانتصارها على الحلفاء, أو ذا أمل كبير في ذلك, إذ عندها سيُمحى الوطن القومي اليهودي في فلسطين من على الخارطة, ويستريح العرب من هذا الورم السرطاني الخبيث في جسمهم. ومن هنا قال: «أدعو كافة المخلصين لقضية فلسطين والقضايا العربية, إلى التعاون مع ألمانيا، لأنّي كنت ولا أزالُ على يقينٍ بأنّه لو انتصرت ألمانيا والمحور, لما بقي للصهيونيين من أثرٍ في فلسطين والبلاد العربية. وقد انطلق الحسيني في موقفه هذا نحو ألمانيا من حنق العرب والمسلمين على الحلفاء لجرائمهم الفظيعة ومؤامراتهم الخبيثة, ومن القول الشائع: عدوُّ عدوي صديقي, إذ لمّا كان الألمان أشدَّ أعداء الإنجليز واليهود, فهم أصدقاؤنا أو أكثرهم قُرباً إلينا, وبناءً، كذلك، على تصريحاتٍ للحكومة الألمانية بتاريخ (2/11/1943) في ذكرى وعد بلفور: «إنّ تدمير ما يسمّى بالوطن القومي اليهودي في فلسطين, هو جزء لا ينفصل عن سياسة الرايخ الألماني الأكبر», وبرقية وزير داخلية ألمانيا هـ.هملر في 27 تموز 1944, ونصُّها: «إنّ الحركة الوطنية الاشتراكية الألمانية منذ ابتدائها قد سجّلت على رايتها: المعركة مع اليهودية العالمية».
ومن دعائم هذا الموقف وأسبابه، عند الحاجّ أمين كما يقول «أنّ ألمانيا في تاريخها لم يسبق لها أن اعتدت على أيّ قطرٍ من الأقطار العربية أو الإسلامية», يوماً أو صدرت منها إساءةٌ إلى العرب, بل كانت سياستها من قبلُ مخالفةً لسياسة الدول الغربية الاستعمارية, ممّا حمل الدولة العثمانية في عهد السلطان عبد الحميد الثاني وبعده, على أن تمدَّ يدها إليها وتتحالف معها, كما حدث في الحرب العالمية الأولى». ويستأنف رحمه الله, قائلاً: «ومن هنا كان من الطبيعي أن تتّجه أبصار العرب إلى الألمان الذين اعتبروهم أصدقاءهم, لأنّهم أعداء أعدائهم من المستعمرين واليهود». ومن هنا كذلك، على ما يذهب إليه, وهو يتكلّم عن توجه العراقيين أثناء ثورة رشيد عالي الكيلاني لتأييد ألمانيا في حربها مع الحلفاء, كما هو شأن غيرهم من العرب أنّهم كانوا، كما يقول، يعقدون على ألمانيا آمالاً كباراً, وينتظرون منها النجدة والفرج, حتى بلغت الحماسة لها في بعض البلاد العربية, أنْ كان أهلها يهتفون في أهازيجهم بمثل هذه الكلمات «الله حيّ الله حيّ, الحاج محمد, هتلر جيّ»!
لكل هذه الأسباب مجتمعةً ولطمع الحاج أمين والعرب الكبير في ألمانيا, وزيادة التفاؤل بانتصارها في الحرب, طلب الحاج ومَنْ إليه من هتلر والحكومة الألمانية ودول المحور, أنْ يعقدوا بينهم وبين العرب وثيقةً يعلنون فيها على الملأ أنّ ألمانيا على استعدادٍ للوقوف بجانبهم في مكافحة الأعداء المشتركين من إنجليز وفرنسيين, فأجاب هتلرُ الحاجَّ أميناً بصراحةٍ أنّه في مثل هذه الظروف لا يفكِّر إلاّ بمصلحة ألمانيا, دون بقية الشعوب الأخرى وأنّه لا يحبُّ ولا يبغض ولا يبالي بشيءٍ, إلاّ في سبيل الشعب الألماني, وهو لا يرى في هذا الموقف أن يستجيب إلى ما طلبه الحاجّ أمين من إعلان تصريحٍ بهذا الأمر, أو قطْعِ عهدٍ رسمي به, لأنّه ضارٌّ بصالح الشعب الألماني, إذ يحدث ردَّ فعلٍ في بعض الدول ضدَّ ألمانيا كفرنسا وتركيا! ولمّا ألحَّ عليه الحاج أمين في هذا الأمر وراجعه فيه رشيد عالي الكيلاني, أجابه إلى ذلك على أن تبقى «هذه الوثيقة ومحتوياتها سرّاً مكتوماً».
وإزاء هذا الموقف البارد لدول المحور، ولاسيما ألمانيا برئاسة هتلر من قضايانا -ونحن نُغرِق في إحسان الظن بهم، ناسين أو متناسين عداءهم التقليدي لنا باسم الصليبية، غافلين عن قوله تعالى: (ولَنْ تَرْضَى عنْكَ اليَهُودُ ولا النَّصارى حتّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)- نرى كيف كان العربُ مأخوذين بألمانيا، ومنهم الحاجّ الحسيني، ممّا جعلهم يقعون في الفخِّ، أو في الشر لتهوّرهم وسوء تقديرهم.
ومن هذا القبيل أنّ الحاجّ الحسيني لمّا كان قد طالب بموافقة الألمان على وحدة دول المغرب العربي، وإلاّ اتّجهت هذه الدول إلى المعسكر الشيوعي وتحالفت معه، أجابه بروفر وكيل وزارة الخارجية الألمانية للشؤون الشرقية أنّ الإسلام عند دول الغرب أخطر بكثيرٍ على أوروبا من الشيوعية؛ لأن الشيوعية فكرةٌ تقوم على مطالباتٍ اقتصادية، وهذه من الميسور حلها، وليس فيها خطرٌ سياسي، بينما ترى هذه الدول في الإسلام عقيدةً زاحفة، يُخشى إذا تآلفت حكوماتها لا تلبث أن تثب على أوروبا مرةً أخرى، ويعيد التاريخُ نفسه"!! كما أنّ هتلر مانع بشدّةٍ طلب الحاج أمين أن يُكتب بينهما وثيقة مُعلنة بتعهد ألمانيا بالوقوف إلى جانب العرب بعد الحرب.
ومن ذلك أنّ ألمانيا وإيطاليا كانتا تتحاشيان على الدوام ذكر شيءٍ عن دول المغرب العربي أو وحدتها كما يقول الحاجّ أمين، حتى لا تغضب فرنسا وإسبانيا وإيطاليا في استعمارها المغرب وتونس وليبيا. ولذلك عندما سعى الحاجّ عند الألمان لإطلاق سراح بطل الريف الأمير محمد بن عبد الكريم الخطّابي من أسر الفرنسيين، وهمَّ بكتْب كتابٍ إليهم بذلك، اهتاج هؤلاء كما يذكر الحسيني بقوله: إنني "لم أكد أكتب هذه المذكِّرة وأشرع في مباحثة المختصين من رجال الخارجية الألمانية، حتى لمست معارضةً شديدة في ذلك؛ خشية إغضاب الفرنسيين، وكذلك الحكومة الإسبانية التي كانت أول دولة قاومها الأمير عبد الكريم، وكان الألمان حينئذٍ يخطبون ودّها".
هذا وقد يكون بعض كبار زعماء أوروبا من يعرف حقيقة الإسلام، وأنه دين إنقاذٍ للبشرية من ظلمها وظلماتها، ولكنه إنْ فكّر بذلك وأراد تحويله إلى إجراءٍ عملي، سرعان ما تطرقه النزعة الجاهلية لزعامة أوروبا، وخطر الإسلام عليها من هذه الناحية، فيرتدّ عن ذلك.
كما ذكر الحاجّ في مذكراته، أنّ هملر وهو الرجل الثاني في ألمانيا بعد هتلر، إزاء مطالبات الحاجّ أمين باستقلال المغرب، والوقوف بجانب القضايا الإسلامية، قال له: إنّ أوروبا، ولاسيما ألمانيا قد أنهكتها الحروبُ الأهلية في فتراتٍ سابقة، وكان بإمكانها أن تنجو بنفسها من ذلك، وتعيش حياة أمنٍ وأمان، وذلك في فرصتين سنحتا، ولكنها وللأسف أضاعتهما (الأولى حين الزحف العربي من الغرب حيث الأندلس، والثانية من الزحف العثماني من الشرق)!!
ولست أدري كيف سوَّغ الحاجّ أمينُ -على عظم تجربته- لنفسه أو كيف فاته العلم أن يكبو هذه الكبوة الفظيعة؛ فيقرر أنّ ألمانيا لم يسبق لها في تاريخها أن اعتدت على أي قطرٍ من أقطار العروبة والإسلام، ولم يسبق منها إساءة لهم، وأنها كانت ضد الدول الغربية الاستعمارية؟! والتاريخ القديم يخبرنا أنّها اشتركت في أربعٍ من الحملات الصليبية على بلادنا هي: الثانية والثالثة والخامسة والسادسة. وقد سار فيها كلها أو قادها أباطرةٌ كبارٌ مثل: فردريك برباروسا، وأندارش الثاني، وفردريك الثاني. وأنّها كانت في العصر الحديث مع الدول الأوروبية، إسبانيا وفرنسا في تنافسٍ على استعمار المغرب العربي بدعمٍ من انجلترا والنمسا سنتي: 1905 و1906م.
أولا يعلم فضيلته أنه على الرغم من اشتراك ألمانيا في الحرب العالمية الأولى مع تركيا، وأنها انكسرت معها في هذه الحرب وتغلَّب عليها الحلفاء، كانت أجراس كنائسها –كما يقول القائد المرحوم عبدالله التل في كتابه المشهور "خطر اليهودية العالمية على الإسلام والمسيحية"– تقرع طرباً لانتصار الحلفاء؛ لأن الحرب عند أهلها حربٌ صليبيةٌ انتصر فيها الصليبُ على الهلال. كما يدل على مثل هذا التعصب من ألمانيا نفسها ضد المسلمين، أنّ السلطات فيها لم تسمح لوفدٍ من البوسنة بالقدوم إلى برلين، ليطلعوهم على أن القتلى من مسلميها بيد الكروات النصارى بلغ مئتي ألف، وأنّ أكثر من هذا العدد بات مشرداً من غير مأوى، كما لم تسمح للشيخ الحسيني باصطحاب سفير كرواتيا والسفر إلى هناك للوقوف على حقيقة الحال في سراييفو عاصمة البوسنة.
وأوضح من ذلك ما قاله هملر للحاجّ الحسيني عن إضاعة الاستفادة من الفتح الإسلامي الأندلسي والعثماني: "ومن المؤسف أنّ الشعب الألماني في كلا الزحفين، كان له النصيب الأكبر في صدهما"!! فهل أدرك سماحته –عفا الله عنه– حقيقة الأمر، وأنه جازف مجازفةً كبيرة في تقريره بأنّ ألمانيا لم يسبق في تاريخها أنْ أساءت للمجتمعين العربي أو الإسلامي يوماً، وأنّ التاريخ يدحض كلَّ ذلك ويفنده؟! بل إنّ التاريخ الحديث يُثبت أنّ ألمانيا لم تقف بجانب ثورة رشيد عالي الكيلاني على الإنجليز في العراق سنة 1941م، على الرغم من تأييد رجال الثورة دول المحور.
إنّ علينا أنْ ندرك جيداً أنّ العالم الغربي جميعه، على الرغم من أنه يبدو مجتمعاً لا دينياً، إلا أنّ الحقيقة أن الدين له تأثيرٌ كبير في توجهاته وسياسته. ومن هنا نرى حقداً من هذه المجتمعات على المسلمين، سواءٌ فيما حدث زمان الحروب الصليبية، أو زمان الاستعمار الحديث، أو في معاملة أهل أوروبا جيرانهم من المسلمين، كما هي الحال في تعامل هؤلاء مع المسلمين من أهل البوسنة والهرسك.
ومن أمثلة ذلك –كما يقول الحاجّ أمين-: أنّ أحد وزراء الصرب كشف عن موقف الصربيين -عندما كانوا يزمعون القيام بالثورة على الحكم التركي في البوسنة والهرسك سنة (1875م)- تُجاه جيرانهم المسلمين فيهما: (إما الردة عن الإسلام، وإلا فإعمال السيف في رقابهم)، ولكنّ الثورة خابت والحمد لله. ويردف الحاجّ أمين أنّ هذا الهدف -وهو التهديد لمسلمي البوسنة والهرسك- تجدّد في الحرب العالمية الأولى وعلى لسان رئيس الحكومة الصربية هذه المرة، بقوله: "إذا اجتاز جيشنا نهر درينا، وهو الحد الفاصل بين صربيا وبوسنة، يُمهَل البوشناق –أهل البوسنة– أربعاً وعشرين أو ثمانياً وأربعين ساعةً على الأكثر للعودة إلى دين أجدادهم، فمن أبى ضربت عنقه"!!
ويرجع هذا الحقد الشديد من هؤلاء على المسلمين البوشناق؛ لأنّهم دخلوا في دين الله زمان الحكم التركي، وأخلصوا له وللخلافة العثمانية، حتى إنهم عندما شنّت النمسا حرباً على البوسنة تريد استئصال شأفة الإسلام فيها، هبّ هؤلاء في وجه النمساويين للذود عن دينهم وعن حمى الدولة العثمانية، مع أنّ الأتراك لم يكونوا فيها لانشغالهم حينها باشتباكٍ مع روسيا القيصرية، فكان النصر حليفهم. وقد أثلج هذا الموقف الرائع صدر السلطان؛ مما جعله ينعم على أحد قوادهم، وهو محمد بك فدائي بلقب الغازي الذي كان أشرف الألقاب وأعلاها وأندرها في الدولة العثمانية كما يقول الحاجّ أمين.
ولقد حاز البوشناق احتراماً كبيراً من الدولة العثمانية؛ لإخلاصهم لدينهم ولدولتهم، حتى إنّ بعضهم وصل لمرتبة الصدر الأعظم في الدولة، وهي تعني رئيس الوزراء، مثل سنان باشا قائد الحملة التركية على مصر سنة (1517م) الذي قتل على إثرها، فحزن عليه السلطان حزناً شديداً.
وإذا كان الدين فارقاً في تعصب الغربيين على المسلمين, تعصب حقد وحنق قاتلٍ ومقِيتٍ, دونما أدنى حدّ للمنطق والحق والعدل, ممّا يدلّ على تأثير الدين المحرك للسياسات بين الأمم, ولا سيّما بالنسبة للغربيين تُجاهنا, فعلينا أن لا ننخدع بالمظهر, ونغفل عن المخبر والحقيقة, فنطمع بتأييدهم لنا كما كان شأن الحاج أمين رحمه الله, والكثيرين من أبناء العرب آنذاك, أقول: إذا كان الأمر يتعلق بالدين الإسلامي فإنّ الطائفية أو المذهبية في الدين عند الغربيين لها أمرها الحاسم في الاصطفافات العسكرية والمناصرات الحربية, ممّا يتجاوز الروابط القومية أو العرقية في البلد الواحد. ومثال ذلك كما يقول الحاج أمين إنّ الانتصار للمذهب الكاثوليكي الذي كانت تتبنّاه دولة الفاتيكان التي تقلّ مساحتها عن نصف كيلو متر مربع, جعل شعباً كالكروات معادياً لدولتي المحور ألمانيا وإيطاليا على الرغم من أنّ هاتين الدولتين كان لهما الفضل الكبير على الكروات بمساعدتهما لهم على التحرر والاستقلال. وكان السبب الرئيس هو تأثير الفاتيكان الديني على الشعب الكرواتي الكاثوليكي المذهب.
وهذا ما جعل الحاج أمين يقول في هذا الصدد عن الفاتيكان وتأثير الدين في السياسات العالمية: «فشعرت بأنّ لها رغم ضآلة حجمها وصغر رقعتها أثراً عظمياً, ووزناً ثقيلاً في الميزان الدولي»! ومثل هذا ما ذكره الحاج أمين كذلك أنّ من أكبر أسباب فشل رومل قائد جيوش المحور في الحرب العالمية الثانية, هو انبثاث عملاء الفاتيكان في العاصمة الإيطالية روما, إذ كانت دولته، كما يقول الحاج: «تعمل جاهدة في مكافحة دول المحور ولا سيّما ألمانيا, لأنها كانت تعتبر انتصارها خطراً على الكنيسة الكاثوليكية», وكذلك قوله عن البابا بيوس الثاني الذي كان قاصداً رسوليّاً في برلين, إنّه اطّلع سنة 1933, بداية عهد هتلر على مبادئه النازية, فكان ضدّها لأنه اعتبرها جِدّ خطيرة على العقيدة الكاثوليكية. وهنا أقول بتعجب، لمن يرجو من عدوه في المعتقد أن ينصره أو ينتصر له, كما رجا ذلك من هتلر الحاج الحسيني والكثير من العرب: «كيف نرجو منه ذلك في حين أنّ أهله بسبب خلافهم معه في المذهب فقط, كانوا من أسباب انكساره والتآمر عليه, والوقوف مع عدوه لتوافقهم وإيّاه في النِّحْلة؟!»
وعليه فإنّ الحضن الإسلامي هو الحضن الدافئ دون غيره لقضايانا القومية والوطنية والدينية, لا الحضن الأجنبي مهما بدا مغرياً وجذّاباً, لأن الأمور ليست بظواهرها بمقدار ما هي بمخابرها. ولذلك كان من المستغرب من الشيخ الجليل والحاج الفاضل أمين الحسيني أن يُلقِي ببيضه في سلة هتلر وغيره وهم مشركون, ويطلب منهم النصرة على اليهود والإنجليز وغيرهم, والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّا لا نستعين بمشرك على مشرك»، وقد كان هتلر أو موسوليني وهما في أوج قوتهما, يبدو منهما ومن دولهما العداء لقومنا وأمتنا وديننا في استعمار بعضهم لنواح من بلادنا, وفرح مراكز التأثير في بلادهم بانكسار الإسلام وضياع الخلافة, حتى إنّ العديد من مواطنيهم ومؤسسات التوجيه في بلادهم كانت ضدهم. والشيخ أمين الحسيني يعلم هذا, ويقرّ بأنّ الشعوب الإسلامية لا غيرها هي وحدها التي تناصر بحقٍّ قضايانا كإندونيسيا والبوسنة والهرسك, ممّا دوّنه هو نفسه في مذكِّراته.
فالحاج هو الذي يقول مثلا عن إندونيسيا: «ولقينا من عطف الإندونيسيين على قضية فلسطين ما أذهلنا, ومن عنايتهم باللغة العربية ومحبتهم للعرب ما أدهشنا». وفي حديثه عن شعب البوسنة يذكر ما يرفع الرأس في تطوع العديد منهم في حرب اليهود في فلسطين, دفاعاً عن حمى العروبة والإسلام, وذِياداً عن رابطة الأخوة الإسلامية, ومن ثَمَّ استشهاد الكثيرين, وإصابة الجمّ الغفير منهم في تلك الحرب, وأماكن متعددة من نواحي فلسطين. وفي المقابل يذكر رحمه الله كيف أنّ نهرو في مؤتمر باندونغ 1955, الذي كان يُزْعَمُ أنّه صديق العرب وأنّه من أقطاب عدم الانحياز, رفض أن يطرح قضية فلسطين أو يحضر مندوبون عنها المؤتمر مخافة أن يُغْضِبَ اليهودَ أو مؤيِّديهم, وكيف أنّ سفير الهند في القاهرة لم يسهِّل سفَرَ الوفد الفلسطيني لحضور ذلك المؤتمر, وذلك بالامتناع عن إعطائهم تأشيرات مرور بالهند على الرغم ممّا كان بينه وبين الحاج وإخوانه من صداقة, كما يقول الحاج عينه!
إنّ قضية فلسطين هي في الحقيقة والواقع قضية إسلامية قبل أن تكون عربية, وقضية عربية قبل أن تكون فلسطينية, وفلسطينية قبل أن تكون شيئا آخر، وهو ما يقول به الحاج الحسيني, ولكن بتعبير أنّها قضية دينية، وهذا وصف مُعَمّى وأفضل منه وصفها بالإسلامية، وأنّها لن تُحَلَّ بالمفاوضات وبالمؤتمرات السياسية, بل بالجهاد والكفاح المسلح كما يقول هو نفسه, ولكن بالاستعانة بالله أولا ومن ثَمَّ بالذات, وليس بمنظمات مقاتلة علمانية, معتمدة في تدريبها وفكرها على أعداء الأمة الإسلامية. ومن هنا يجب أن يُعَدَّ الجيلُ من شباب الأمة إعداداً جهاديّاً كاملاً لاسترجاع حقه, وكسر أنف المعتدين المتوقحين من اليهود, كما تفعل الأمم الأخرى كالألمان الذين يذكر عنهم الحاج أمين أنّ عندهم نِظاماً للتدريب يحتِّم «على كل شاب ألماني دون استثناء أن لا بد له من الحصول على شهادة تدريب عسكري لمدة عام قبل حصوله على أيّة وظيفة في دوائر الحكومة أو الشركات، وبدونها لا يُقْبَل في الجامعات ولا المعاهد العلمية»!
ومن هنا كذلك كان ارتياحه رحمه الله لتشكيل السلطات الأردنية، في الخمسينيات، قوة من الحرس الوطني الفلسطيني التي كان لها أثر واضح في رد كثير من اعتداءات اليهود, رغم قلة عددها وضعف تسليحها, بالنسبة لكثرة المهاجمين من اليهود، وأنّ هذه القوة هي قليل من كثير ممّن يجب عليهم الانخراط في سلك التدريب من أبناء الشعب. وممّا هو قريب من هذا ممّا هو واجب على الأمة أن تهتم بتعليم النشء تعليماً دينيّاً إسلاميّاً, وتعرِّفه بقضايا أمته وعلى رأسها قضية فلسطين، كما يفعل اليهود, والحكمة ضالة المؤمن، الذين يسمون فلسطين أرض الميعاد, ولا يُجِيزون إنشاء أيّ مدرسة علمانية عندهم أو مدرسة نصرانية يدرس فيها أبناء اليهود.
لقد عاش الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين ورئيس الهيئة العربية العليا والمجلس الإسلامي الأعلى، وهو سليل الأسرة العريقة آل الحسيني, وبيت العلم والزعامة في فلسطين، ما يقرب من ثمانين عاما حياةً ملؤها الجِدّ والاجتهاد, والعمل والجهاد, والدعوة إلى الخير والمعروف, صارفاً جُلَّ همّه لقضية فلسطين, وهي قضية العرب والمسلمين الكبرى دون أن يَشْغَلَهُ هذا الاندغامُ الشديد بهذه القضية المقدسة عن قضايا العرب والمسلمين الأخرى، فمن ذلك أنّه سعى وبعض أصحابه أن يصلحوا بين آل سعود وآل حميد الدين في اليمن في مسائل الحدود بينهما، وقد وقف إلى جانب أحرار العراق في ثورتهم على الإنجليز بجانب القائد رشيد عالي الكيلاني, ودعا إلى وحدة أقطار المغرب العربي, وطالب الدول الغربية, ولا سيما ألمانيا بالوقوف إلى جانبها, وخاصة في شأن وحدتها, وسعى إلى إطلاق سراح المجاهد الريفي الأمير عبد الكريم الخطابي.
كما وقف إلى جانب قضايا إندونيسيا وطالب باستقلالها, وبجانب شعوب البوسنة والهرسك وإنصافهم من أعدائهم وتحريرهم من ظلم الكروات والصرب، وسعى باجتهاده للاستنجاد بالألمان على الإنجليز واليهود آملا أن تنتصر دول المحور فيثأروا للعرب من مستعمريهم الإنجليز وغاصبي ديارهم اليهود, ولكنّ الرياح جرت في هذا الأمر بما لا تشتهي السفن, فانهزم المحور هتلر وموسوليني, إذ كلاهما كان رجلاً متجبِّراً أشدَّ التجبّر, متغطرساً غاية الغطرسة, متعصِّباً لجنسه تعصّباً لا يُحَدُّ. ولعلّ في هذا سقطتهما معاً, إذ ماتا ميتة شنيعة أحدهما قتْلاً والآخر سَمّاً, إضافة إلى أنّ أعلى مؤسسة دينية في الغرب, ومن ثَمَّ في بلديهما, الفاتيكان كانت ضدهما, وتعمل على إسقاطهما!
ولا بأس أن أذكر أدنى شاهد على تجبر موسوليني مثلا، كما يذكر الحاج الحسيني, وهو في هذا أقلُّ تجبُّراً من هتلر، هو أنّه سنَّ نِظاماً لا يُجِيز أن يجلس الوزراء بحضرته إذا كان في مقابلة رسمية! ومن ذلك ما أشار إليه الحاج أمين من أنّ الكونت شيانو وزير الخارجية أثناء مقابلة الحسيني لموسوليني في دار الحكومة بقي واقفاً لمدة ساعتين كاملتين, مع أنّ هذا الوزير كان أقرب المقربين إلى الدوتشي (موسوليني), وكان أيضا زوج ابنته!
ومن ملاحظاتي على سيرة الراحل العظيم والزعيم الكبير والعالم الجليل والمجاهد الذي لم يكل أو يمل في الدفاع عن شعبه وأمته ووطنه الحاج أمين الحسيني, أنه غلّب جانب العمل السياسي في هذه القضية على جانب العمل المسلّح, وصرف عليه من جهده الشيء الكثير, واثقاً أحياناً بمن لا يُوثق بهم ولا يُركن إليهم من دول الغرب أو دول العرب. ولعلّه من هنا حصل بينه وبين الشهيد عز الدين القسّام مفارقة كبيرة, إذ لم يَرَ القسّام طريقه, ولم يستجب لدعوته إلى هذا المسار، فقد كان القسّام رحمه الله منصرفا بكلِّيّته إلى الجهاد الفعلي بالسلاح والمال والرجال, غير مطمئن إلى خطّ السياسة ومناهج الساسة, بل يبدو غير واثق بهم أصلاً. وإذا كان الحسيني قد قدّر أنّ قضيته لا تحلّ إلاّ بالكفاح المسلّح, فقد بقيت المسألة عنده بشكل عام نظريّةً, غير أنّ القسّام أخذ بها مُعتَقَداً وعملا ًوتطبيقاً, ودفع جراءها حياته وماله, فذهب شهيداً, وضرب المثل الأروع في الفداء, وفي الثقة بنصر الله وحده.
من هنا عندما نذكر موضوع الجهاد في فلسطين وتاريخ المقاومة فيها ينصرف الذهن رأساً إلى عزّ الدّين القسّام لا إلى الحاج أمين, مع أنّ أميناً رحمه الله لم يهمل مسار الجهاد الذي كان يقوده ابن عمه الشهيد عبد القادر بطل معركة القسطل رحمه الله, ولكن لم يكن عنده الأصل. ولعلّ تباين النظرتين لأسلوب المقاومة بين القسّام والحسيني، جعل الحسيني، غفر الله له، لا يشير إلى حركة القسّام, بل لم يذكر اسمه في مذكراته ذات الخمسمئة صفحة, حتى مجرد ذكر. وهذه غلطة, بل سقطة من الحسيني تُؤخذ عليه مأخذاً كبيراً, وخاصةً أنّه خصص لكفاح الشعب الفلسطيني حيّزاً كبيراً من كتابه يقرب من مئتي صفحة, غطّاه الفصل الثالث منه, وخاصةً أنّ حركة القسّام لم تَمُتْ باستشهاده, بل خلفه عليها غيره, وفي مقدمتهم الشيخ الشهيد فرحان السعدي, وبقيت إلى حرب 1948. ومع أنّ الحسيني نوّه بجهاد الإخوان المسلمين وباسم مرشدهم الشهيد حسن البنا ودوره في المساعدة على جمع السلاح للمعركة, إلاّ أنّ الذي كان مُنْتَظَراً منه أن يذكر أكثر ممّا ذكر لجماعة كانت أكبر فصيلٍ شعبي في العالمين العربي والإسلامي يقاتل في فلسطين وأنقاه.
ومن ملاحظاتي الرئيسة كذلك على هذه المذكِّرات, أنّ صاحبها رحمه الله لم يكن له موقف واضح أو كافٍ من إنكار التآمر على الخلافة الإسلامية والعمل على إسقاطها, ومن قبلُ التآمر على السلطان عبد الحميد صاحب الموقف المشهور والمشرِّف تُجاه قضية فلسطين المقدسة, بما لم يقترب من طهارته أيُّ موقف لأيّ حاكمٍ من حكام العرب الذين أتوا بعده أو بكلامٍ أصرح على أنقاض حكمه بالتعاون مع دول الغرب المتآمرة على الإسلام والمسلمين, وهو العالِم المسلم والضابط السابق في الجيش العثماني. كما أنّه لم يدقَّ كثيراً على أنّ قضية فلسطين قضيةٌ إسلامية بالدرجة الأولى, ولم يعمل لهذا المفهوم جهده, ويجعله همه ووكده, ويفتِّق فيه القول, ويرسم له الخطط, وينبّه إليه الأمة, ويدعوها إلى هذا المبدأ بعيداً عن أيّة رابطة أخرى قومية أو فيها أيّة رائحة لها أو للإقليمية، ففلسطين فُتِحت بالإسلام وحده واستُعِيدت بالإسلام وحده, ولن ترجع إلاّ بالإسلام وبالإسلام وحده, دون أيّة راية عِمية لا تتبنّى الإسلام فكرة ومنهاجا ونظام حياة, والأيام سابقا ولاحقا وحاضرا أثبتت صدق هذه النظرة وستثبتها بلا أيّ شك في قابل الأيام.
ويُحْمَد للحاج، وهو أمر طبيعي، عدمُ موافقته بتاتاً على قرار التقسيم الذي بدأ سنة 1937, وقررته الأمم المتحدة نهائياً في 29/11/1947, كما لم يوافق عليه عامة العرب ولكنْ يؤخَذ عليه تأثره بالأفكار التي كانت تسعى حثيثاً لإدخال القضية الفلسطينية بنفق مظلم وتحت شعارات أو مصطلحات ليست نقية ولها شِعاب ودروب قد يضيع فيها الحق أو يموت، ومن ذلك مناشدته، كما جاء في مذكراته باسم الهيئة العربية العليا لفلسطين, وباسم عرب فلسطين، ممثلي الدول العربية المجتمعين في صوفر بلبنان «أن يتفضّلوا بتأييد مطالبهم بدولة عربية ديمقراطية مستقلة»، وإذا فهمنا كلمة مستقلة فلسنا ندري ماذا يقصد بكلمة «ديمقراطية»! ألمقصودُ بها علمانية لا دينية, أم خليطاً من العرب واليهود, ولمن يكون الحكم فيها حينئذٍ؟! وهي مطالبةٌ تبدو لي لا تختلف كثيراً عن مطالبة عرفات في أثناء عمليات الكفاح المسلح بأن تُشَكَّل في فلسطين بعد تحريرها دولةٌ لا لون ولا طعم ولا رائحة فيها للإسلام، أو عمّا كان يطالب به الملك عبد الله الأول ملك شرق الأردن، وهو الذي يُعَدُّ خصم الحاج أمين التقليدي، وذلك، كما جاء في مذكراته، بأنْ تنشأ في فلسطين «دولة موحدة تضم شرق الأردن وفلسطين، يكون فيها لليهود استقلال ذاتي في المناطق اليهودية، والحق بالهجرة إليها» إلاّ هذه الأخيرة فلم يكن يقرها الحاج أبداً.
لقد شكا الحاج أمين في تأريخه لنصرة قضية فلسطين والعمل لإنقاذها كثيراً من تقاعس الدول العربية, بل تخاذلها عن بذل الوسع للدفاع عن هذه الأرض المقدسة، وهو واجبٌ تمليه روابط الدين والعروبة والتاريخ والجيرة، ولا سيِّما اللجنة العسكرية في سوريا برئاسة طه الهاشمي، المنبثقة عن جامعة الدول العربية، ومماطلتها في رصد السلاح المطلوب للمجاهدين للقتال في فلسطين. كما لم يكن مرتاحاً أصلاً بإنشاء الجامعة. ومثل موقفه هذا، بل أوضح وأصرح موقف الكاتب الإسلامي الكبير أمير البيان شكيب أرسلان رحمه الله الذي كان مُرتاباً أنْ تكون بريطانيا وراء إنشائها. كما لم يخفِ الحاج رحمه الله شكواه، بل عتبه أو لمزه أحياناً حكومة شرق الأردن وموقفها من ثورة رشيد عالي الكيلاني ومن الجهاد في فلسطين.
ومن ذلك قوله، في المذكرات، بأنّه على الرغم من أنّ الجنرال الإنجليزي ويفل قائد القوات البريطانية في الشرق الأوسط، لم يستجب لأمر تشرشل وزير المستعمرات البريطاني، بإرسال قوة لقمع ثورة الكيلاني، غير أنّ كلوب قائد الجيش العربي حينئذٍ 1941، استطاع، كما يقول، ومع الأسف الشديد أنْ يقود بعض القوات العربية لمقاتلة الجيش العراقي كقوة الحدود، وقوة البادية وغيرهما، وأنْ يؤثر تأثيراً سيئاً في المعركة، كما يشكو من سياسة الأردن ممثلةً بقائد الجيش كلوب في إقصاء الفلسطينيين عن ميادين القتال مع اليهود في حرب 1948، وذلك بمنع الأسلحة والأموال عن أبنائهم، ومهاجمة قواته لقوة الجهاد المقدس في منطقة رام الله، وتشتيتها والاستيلاء على سلاحها ولوازمها. كما يشكو بمرارةٍ من موقف بعض القادة في الجيش العربي الأردني مثل ساري فنيش وأميل جميعان في حرب فلسطين 1948، وخاصة في معركة «صفد»، إذ تغيَّب فنيش عن المعركة، وغادر إلى دمشق، وسحب جميعان جنوده من المعركة إلى عمّان، وكان عددهم مئتي جندي، إضافةً، وذلك في 9/5/1948، أنّ الملك عبدالله لما طلب منه أهل صفد مساعدة أهل الأردن لإنقاذ المدينة اعتذر عن ذلك قبل مغادرة الإنجليز لها في 15/5/1948.
وأخيراً، إنّ بعض السياسيين أو الدارسين يلمزون الحاج أمين الحسيني في منهجه وعمله ويشكك فيه، وأقول: لكلٍّ أنْ يعبِّر عن رأيه، ويرى المسألة من وجهة نظره، ولكنني أوقن أنّ الحاج أمين كان صادقاً في جهده وجهاده، ولا أزكِّيه على الله، محباً لبلده، لم يترك باباً فيه خدمة لشعبه إلاّ طرقه، ولم يدّخر، حسب رأيه واجتهاده، من وسعه شيئاً، فرحمه الله رحمةً واسعة, وأسكنه فسيح جنانه.