صور مشرقة من بر الوالدين - صور مشرقة من بر الوالدين - صور مشرقة من بر الوالدين - صور مشرقة من بر الوالدين - صور مشرقة من بر الوالدين
كان الإمام أبو حنيفة بارا بوالديه، وكان يدعو لهما ويستغفر لهما، ويتصدّق كل شهر بعشرين دينار عن والديه، يقول عن نفسه: "ربما ذهبتُ بها إلى مجلس عمر بن ذر، وربما أمرتني أن أذهب إليه وأسأله عن مسألة فآتيه وأذكرها له، وأقول له: إن أمي أمرتني أن أسألك عن كذا وكذا، فيقول: أومثلك يسألني عن هذا؟! فأقول: هي أمرتني، فيقول: كيف هو الجواب حتى أخبرك؟ فأخبره الجواب، ثم يخبرني به، فأتيها وأخبرها بالجواب، وفي مرة استفتتني أمي عن شيء، فأفتيتها فلم تقبله، وقالت: لا أقبل إلا بقول زرعة الواعظ، فجئت بها إلى زرعة وقلت له: إن أمي تستفتيك في كذا وكذا، فقال: أنت أعلم وأفقه، فأفتها. فقلت: أفتيتها بكذا، فقال زرعة: القول ما قال أبو حنيفة. فرضيت، وانصرفت".
عن ابن الهداج قال: "قلت لسعيد بن المسيب: كل ما في القرآن من بر الوالدين قد عرفته، إلا قوله: {وقل لهما قولاً كريما} (الإسراء:23)، ما هذا (القول الكريم)؟ فقال ابن المسيب: قول العبد المذنب للسيد الفظّ الغليظ".
عن أبي بردة قال: "إن رجلاً من أهل اليمن حمل أمه على عنقه، فجعل يطوف بها حول البيت، وهو يقول:
إني لها بعيرها المدلل إذا ذعرت ركابها لم أذعر
وما حملتني أكثر
ثم قال: أتراني جزيتها؟ فقال ابن عمر رضي الله عنهما: لا، ولا بزفرة واحدة من زفرات الولادة".
ذكر علماء التراجم أن ظبيان بن علي كان من أبرّ الناس بأمه، وفي ليلة باتت أمه وفي صدرها عليه شيء، فقام على رجليه قائماً حتى أصبحت، يكره أن يوقظها، ويكره أن يقعد.
كان حيوة بن شريح يقعد في حلقته يعلّم الناس، فتقول له أمه: "قم يا حيوة! فألق الشعير للدجاج"، فيترك حلقته ويذهب لفعل ما أمرته أمّه به.
وكان زين العابدين كثير البر بأمه، حتى قيل له: "إنك من أبرّ الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة؟"، فرد عليهم: "أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها؛ فأكون قد عققتها".
وسئل أبو عمر عن ولده ذر فقيل له: " كيف كانت عشرته معك؟"، فقال: "ما مشى معي قط في ليل إلا كان أمامي، ولا مشى معي في نهار إلا كان ورائي، ولا ارتقى سقفاً كنتُ تحته".
وقد بلغ من بر الفضل بن يحيى بأبيه أنهما كانا في السجن، وكان يحيى لا يتوضأ إلا بماء ساخن، فمنعهما السجان من إدخال الحطب في ليلة باردة، فلما نام يحيى قام الفضل إلى وعاء وملأه ماء، ثم أدناه من المصباح، ولم يزل قائماً والوعاء في يده حتى أصبح.
وقال جعفر الخلدي: "كان الإمام الأبار من أزهد الناس، استأذن أمه في الرحلة إلى قتيبة، فلم تأذن له، ثم ماتت فخرج إلى خراسان، ثم وصل إلى "بلخ"، وقد مات قتيبة، فكانوا يعزونه على هذا، فقال: هذا ثمرة العلم؛ إني اخترت رضى الوالدة. فعوّضه الله علما غزيراً".
أويس القرني، اسم مرّ على ذاكرة الزمان فأغناها برا وصلاحا، وسيرة ذكرتها صفحات الكتب، فأضاءت بنورها النفوس الباحثة عن مواطن البر، والعمل الصالح، والزهد الورع، المنبثق عن مخافة الجليل، والرضا بالقليل، والعمل بالتنزيل، وصدقة بالمستطاع وفوق المستطاع، ذاك هو أويس، بر بالوالدة الضعيفة، وبر بالقلوب اليائسة، وبر بالأكباد الجائعة، ودعوة مستجابة، واستغفار للمؤمنين، وحزن مقيم في قلب طاهر، لا أنس له إلا بمن خلقه، وافاض عليه من الإيمان والرضا واليقين والرحمة، فكان القول فيه ما قاله الحبيب المحب لأمته: (أويس القرني خير التابعين بإحسان}.
وأويس المطلوب لعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، مطلوب لكي يستغفر لهما، وهما يسعيان للقائه، تنفيذا لوصية الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر: (يأتي عليك أويس بن عامر مع امداد أهل اليمن، من مراد ثم من قرن، كان به برص فبرأ إلا موضع درهم، له والدة هو بها برّ، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل).. والفاروق يبحث عن كل ما من شأنه طاعة الله ورسوله، وعن كل ما يكون سببا للمغفرة، فكيف يضيعها فرصة من يده، أن يستغفر له رجل صالح، أوصاه نبيه الحبيب صلى الله عليه وسلم، أن يحصل منه على الدعاء بالمغفرة من الله، وأخرى مؤكدة: (يا عمر، يا علي إذا انتما لقيتماه فاطلبا منه أن يستغفر لكما يغفر الله لكما).
عشر سنين وهما ينتظران ذلك اللقاء الاخوي العزيز، حتى وجداه على عرفات يصلي، ويطول شرح الموقف الأخوي، العابق بذكر الله، ووصية حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم، والمحاورة المحلقة بالأرواح، في مراقي اليقين والتواضع، والتخفّف من أثقال الدنيا، وجبال أوزارها، فتبرز وضاءة الروح، وخفة حملها، وهي تحلق عاليا في مدى الحب الإلهي، والتوكل الموقن بالمن والفضل منه سبحانه، وتتألق الكلمات الناصحة للخليفة المؤتمن على الأمة، بكل أطيافها وشؤونها وهمومها، وتتجلى الرحمة الأخوية، والتعزيز والشكر للأمير الذي قام بحق الرعية، وأخيه كرم الله وجهه: (السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته وانت يا علي بن أبي طالب فجزاكما الله عن هذه الامة خيرا}، ويمتلئ قلب الخليفة بالود الأخوي، ذلك الود الذي لا يدرك كنهه إلا من ذاقه، حين تتآلف الأرواح، وتتلاقى القلوب، وتتوحد المساعي، فتلتقي على الحب في الله وتفترق عليه، يعرض امير المؤمنين على اخيه أويس العطاء والكساء، من خالص ماله وعطائه، فيكون الرفض المقرون بالنصح المشفق، {يا أمير المؤمنين إن بين يدي ويديك عقبة كؤودا لا يجاوزها إلا ضامر مخفّ مهزول فأخفف يرحمك الله}، وتنطلق صرخة الخليفة الأمين الذي أثقله حمل الأمة: (ألا ليت عمر لم تلده أمه.. ألا من يأخذها بما فيها ولها؟) يقصد بذلك الحكم والخلافة.
ذاك أويس يسعى إليه الفاروق ليستغفر له، فما كان عملك يا أويس؟ وما أنت في الناس؟ لقد منعك برك بام عليلة ضعيفة، تحنو عليها وتحدب، من أن تحظى بلقاء الحبيب في المدينة المنورة، خشية أن تتركها في رحلتك تلك، فلا تجد راعيا ولا واصلا ولا برا ولا خادما، فأورثك ذلك برا عند الله ورسوله، وملأ قلبك حنانا وعطفا على امة محمد صلى الله عليه وسلم، حتى كنت تتصدق بلقيماتك وتبيت على الطوى، وتلتقط كسيرات الخبز التي ألقاها المتنعمون، وتغسلها وتأكل منها وتتصدق بها على تلك الأكباد الجائعة المحرومة، في خطوة تصلح أن تظل تتلى وتعاد، على مسامع الأمة التي كثر فيها المترفون والجياع على حد سواء، فأين نحن من اعتذارك لربك عن ما رأيته تقصيرا منك، وانت لا تملك شيئا ولا تدخر حتى قوت ساعة، (اللهم إني ابرأ إليك من كبد جائعة)، (اللهم من مات جوعا فلا تؤاخذني به، ومن مات عريانا فلا تؤاخذني به).
فأين نحن منك؟
أين كدر أرواحنا من صفاء روحك؟
وأين حنان قلبك ورقته من قسوة قلوبنا؟
وأين تعاهدك للمحتاجين من إخوتك المسلمين من إعراضنا عن ذوي الحاجة المحرومين؟
إنها معرفة الله وتوقيره وخشيته، والفهم الكامل لشرعه، واليقين الخالص بعظمته، والطاعة المطلقة لأمره، سكبت في قلبك، حتى افاضت ندى ورفقا، وبرا وصلاحا، زهدا وورعا، فانطلق لسان حالك بالوصايا المخلصة لإخوتك في الدين: (توسد الموت إذا نمت، واجعله نصب عينيك، وإذا قمت فادع الله ان يصلح لك قلبك ونيتك، فلن تعالج شيئا أشد عليك منهما، بينا قلبك معك ونيتك إذا هو مدبر، وبينا هو مدبر إذا هو مقبل، ولا تنظر في صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى عظم من عصيت).
لقد بررت فوصلت وحنوت فنجوت يا خير التابعين بإحسان (ربنا لاتؤاخذنا إن نسينا أو اخطأنا).