وراء البقرة أم أمامها؟! . - وراء البقرة أم أمامها؟! . - وراء البقرة أم أمامها؟! . - وراء البقرة أم أمامها؟! . - وراء البقرة أم أمامها؟! .
وراء البقرة أم أمامها؟! .
" جيل دعدع يأكل ولا يشبع، يروح ولا يرجع، وتناديه ولا يسمع!".
.د. ديمة طارق طهبوب -
يروي الدكتور علي عثمان في سيرته "طالب فلسطيني" كيف أن والده باع جزءا من أرضه لكي يعلمه، وكيف أن أهله كانوا يشترون الملابس أكبر من حجمه بمرات حتى تكفيه أطول فترة ممكنة، وكيف كانت والدته تخيط له حقيبة المدرسة من أي قماش متوفر، حتى المنصوري الذي كان يستعمل للثياب الداخلية، وكيف أن والده كان يعنفه عندما يطيل في الدراسة ويستهلك لمبة الكاز فيخرج إلى الشارع لعل القمر يتعاطف معه وينير له ليتمكن من إكمال استذكار دروسه.
وبالرغم من كل هذه الصعوبات خرج ابن القرية ليتعلم ويبز أبناء المدينة ويتفوق عليهم، ولكن التفوق العلمي لم يمنع أبناء المدينة أن ينظروا إليه شزرا كفلاح لا ينبغي له أن يتعلم أو يتجاوز طبقته الاجتماعية، بل كانت السبة في ذلك الوقت أن يقال للمرء "جاي من ورا البقر" أي فلاح، وهذا ما صوره دراميا الدكتور وليد سيف في التغريبة الفلسطينية، ولكن ذلك الفلاح صمم على النجاح وحصل الدكتوراه بعد النكبة بقليل، واستقبله أهله استقبال الفاتحين وتنقل في المؤسسات التعليمية والدولية ومن ورائه آلاف المتعلمين من أهل القرى، غير أن استصغار القرويين وتفضيل أبناء المدينة عليهم ما زال يتحكم في مجتمعاتنا العربية حتى الآن في أمور الزواج والنسب والنظرة الاجتماعية، مع أن التعليم انتشر حتى في القرى وزالت في عصرنا نظريا الطبقات والإقطاعيات والبشويات والألقاب في العالم كله، الا أن الفلاح في أيامنا بقي فلاحا يحمل ذات اللقب وينتسب إلى بلده ومكان سكناه الريفي ولو كان لا يعرف الألف من كوز الذرة كما يقول إخواننا المصريون، ولا يعرف الحمار من الحصان ولا الكوسا من الباذنجان، وليس عنده ولا حتى متر أرض باسمه!
وبقيت المدينة وأهلها يستأثرون بنصيب الأسد من جودة التعليم وجودة الخدمات وتقدم الاتصالات والتكنولوجيا وبقيت القرية والريف يرتعان في الجهل، بل إن بعض المدارس لا يوجد فيها معلمون، وبعضها لا ينجح فيها أي طالب في امتحانات الثانوية، وبعضها يتسرب طلابها باحثين عن العمل إلى غير رجعة!
في الحلم الأمريكي شيء واحد يستحق الإشادة وهو أن الإنسان محكوم عليه بعمله لا بشيء آخر، والمرء قد يكون وراء الشمس وفي آخر السلم فينهض بعلمه وعمله ليعتلي سدة الحكم والثراء، لا أحد يسأل ولا يتعقب الجذور والأصول والفروع إلى سابع جد، ولعل هذا الحلم ليس أكثر من الفكرة الإسلامية في الآية الكريمة "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" والحديث الشريف "لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض الا بالتقوى، الناس من آدم وآدم من تراب" وقد رفض الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعظمه الصحابة كما كان الناس يعظمون ملوكهم وقال "إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد (الخبز الجاف) بمكة" وهذا الإعلاء من قيمة الإنسان كإنسان ينتسب إلى القيم ومعالي المبادئ هو ما خلد بلالا الحبشي في الدنيا والآخرة، وجعل سادة قريش كأبي لهب والوليد بن المغيرة نماذج للثبور والخسران
هي ذاتها النصيحة التي أسداها الشاعر يوما فقال:
كن ابن من شئت واكتسب أدبا يغنيك محموده عن النسب
إن الفتى من قال ها أنا ذا ليس الفتى من قال كان أبي
إن قصة الدكتور عثمان تحمل معنى آخر في حرص الجيل المعذب الفقير على اكتساب العلم؛ لأنهم رأوا فيه يوما ما هو أهم من الأرض والغذاء واللباس، وخروجا من القمقم ومقاومة للاحتلال. كان العلم هو سبيل النجاة من كل الشرور، وأنتجت قلة ذات اليد أجيالا وأعدادا من الأساتذة والأطباء والمهندسين كانت الطليعة الأولى في بناء الكثير من الدول العربية الشقيقة قبل وبعد الطفرة النفطية.
تلك النخبة التي احتملت شظف الحياة هي التي انتجت بعض ما تنعم به أجيال الحاضر من الرخاء والتقدم، أما جيلنا المرفّه فسجله حافل بالمفاخر ففيه 70 مليون أمي، يقرأ في المعدل ربع صفحة من كتاب في العام، وينفق على البحث العلمي 10 دولارات للفرد الواحد، و500 بليون دولار على التبغ والدخان بحسب آخر احصائيات تقرير التنمية البشرية، والشباب يبحثون عن الثراء السريع الذي يشتري زوجة وبيتا وسيارة تسد عين الشمس، ويحلم بوظيفة مدير ورئيس قسم ولو كان كانت مؤهلاته لا تزيد على الثانوية، وينتظر أن يبتسم له الحظ ويأخذ بيده.
وأنا أقرأ سيرة الدكتور عثمان ابتسمت بألم على حقيبة القماش، وما يروى عن حقائب اللاجئين المدرسية التي كانت تخيطها الأمهات من أكياس طحين الأنروا، وتذكرت كيف جعلتني ابنتي أدور عمان من أقصاها إلى أقصاها بحثا عن حقيبة من ماركة جان سبورت Jan Sport ميزتها عجلاتها الدوارة التي تخفف عن الطالب عناء حمل الكتب التي تثقل كاهله وتحني ظهره.
عند البائع انصدمت من سعر هذه الجان سبورت الذي يقارب مئة دينار والتي كانت قد نفذت تماما من السوق كما قال البائع، رغم انهم جلبوا آلافا منها مع بداية العالم الدراسي، فكم عائلة تستطيع أن تشتري لأولادها هذه الحقيبة؟ وأي فتوح علمية ستهل على الأمة العربية من وراء هذه الشنط المدرسية التي يساوي ثمنها ثلث أو نصف راتب مدرس مكسورة نفسه للقمة العيش أمام طالب يلمزه بين الحين والآخر بأن أهله يدفعون راتبه، وأن شكوى منهم بتحريض منه قد تجعله في عداد العاطلين عن العمل! هل يستطيع مثل هذا المعلم أن يدرس أو يربي ولو كانت حقائب التلاميذ مصنوعة من الذهب؟
قيل إن الحرمان يولد الإبداع والحاجة تلد الاختراع، وربما يكون سبب قلة الابداعات في زمننا هو قلة التحديات لأن عموم الجيل لم يذق مرارة السعي وراء العلم ومشقة صعود الجبال، ولا نعلم سبب شعورنا كأهل بعقدة الذنب وأن علينا أن نوفر كل شيء لأبنائنا ولو كان لبن العصفور، ومن أجل ذلك نتحمل الغربة والهجرة ونقضي حياتنا وساعات أيامنا في العمل بين وظائف نهارية وليلية لعل وعسى يرضى جيل الدعدع، هذا الجيل التي تصفه جدتي فتقول" جيل دعدع يأكل ولا يشبع، يروح ولا يرجع، وتناديه ولا يسمع!".
كانوا فلاحين فقراء وأقل حظا ولكنهم لم يرضوا بالبقاء وراء البقرة وفي ذيل قافلة الإنسانية حقيقة ومجازا، وأصبحنا أكثر تقدما وثراء ولكننا عالم ثالث بيننا وبين التقدم مراحل!
أن تكون وراء البقرة أو أمامها منزلة لا نكتسبها أو نفر منها بالحسب والنسب، وإنما بالعلم والعمل. وبهذين الميزانين أين تجد مكانك يا ترى؟