د. أحمد إسماعيل نوفل / كلية الشريعة – الجامعة الأردنية
{اقْرَأ}.. طريق التغيير
حكمة بالغة.. أن يكون أول الغيث من الوحي نزولاً: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]. هل تصوّرتَ الزمان والمكان، والأمّيّة التي تلفّ البيئة المحلية والبيئة العالمية.. ثم يكون أول ما يصافح أُذن الدنيا من الوحي: {اقرأ}؟ ما هذا؟! إنه والله الإعجاز، وإنه والله الدليل أن هذا القرآن ليس إلا من عند الله، ليس من نتاج البيئة، ولا من إبداع بشر، حاشا لجلال كلام الله.. إنه القرآن الكريم، كلام الله العليم الحكيم.
وتأمل التسع عشرة كلمة النازلة في بداية الوحي تجد عجباً، أولها قراءة وآخرها تعليم: {اقرأ}... إلى قوله {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1-5]، ولا شك أن القراءة هي أعظم مصادر التعليم، ثم لاحظ ثانياً أن النبوة رسالة تغيير، وهل يمكن أن يغير الدنيا والمجتمع والناس شيء كالقراءة؛ فالقراءة هي سبيل التغيير، والقرآن أعظم رسالة تغييرية عبر الزمان والمكان والإنسان.. ولأنها رسالة للتغيير فقد كان أول ما نزل منها: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}.
وتأمل ثالثاً: أن هذه الآيات وهذه الكلمات هي أول ما نزل من الوحي؛ فالبداية تناسب بداية وجود الإنسان، البداية من التعليم كأنها خلق وإيجاد من جديد (أعني ربط الخلق بالتعليم)؛ فالخلق إيجاد من العدم، والتعليم إيجاد للإنسان الكامل من العدم الثقافي والتعليمي.. اقرأ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ . الَّذِي خَلَقَكَ..} [الانفطار:6-7]، واقرأ أول الوحي: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ . الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق:3-4]؛ فالكريم خلقك، والأكرم علّمك، فكان التعليم خلقاً جديداً، بل أدلّ على الكرم الإلهي من مجرد الخلق؛ لأن معظم الخلق إلى النار، والعلم سبيل الجنة.
وتأمل رابعاً: أنه في بداية الوحي النازل على النبي الأمي في القوم الأميين في العالم الأمي، يُذكر القلم، وفي سورة من بواكير الوحي المبكرة جدّاً تنزل سورة القلم، وهو أعظم أدوات التعليم، وما الكتابة الحديثة الإلكترونية وغيرها إلا تطوير لأداة الكتابة وهي القلم، ويذكر القلم في سورة القلم مع القسم به: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم:1]، وذلك تعظيماً للقلم ولفتاً للأنظار إليه.
وتأمل خامساً: أن القراءة "باسم ربك" تشمل كل ما يُقرأ من الكيمياء والفيزياء والأحياء والإحصاء.. إلخ.. وكل الفنون والعلوم، يمكن أن تتحول إلى علوم ربانية إذا قُرئت باسم ربك، فما من شيء خارج عن دائرة الربانية شرط أن تقرأه "باسم ربك".
نفهم من هذا إذاً أن الأداة الأولى للتغيير هي القراءة، وإنها لكذلك، وإذا تأملت ما مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم كما بيّنها القرآن تجدها تنحصر في التعليم: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة:151]، وهذا تأكيد أن سبيل التغيير هي القراءة والعلم، وعندما بيّن الله تعالى للملائكة أنه {جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] بيّن أن مؤهله الأول للخلافة هو العلم، ولذا كان أول عمل زاوله آدم هو التعلّم.. وأعظم وسائل التعلّم القراءة، ومهمة المعلم أن يصلك بالكتاب ثم ينسحب ويتركك والكتاب ليعيد تشكيل عقلك وفكرك وفهمك وشخصيتك وثقافتك ومنظومة معارفك، وأنساقك القيمية والفكرية، فإذا كان الكتاب مصفّى من الأكدار، مأموناً من الانحراف فأنت في أيدٍ أمينة، وإلا فإنه الدمار!
وإذا كان التغيير يبتدئ من تغيير ما بالأنفس كما قال الله تعالى: {إِنَّ الله لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11]، فإن أعظم ما في الأنفس هو الفكر، وهذا يتغير ويتشكل بالقراءة، شريطة أن تكون "باسم ربك".. الكتاب ثروة، الكتاب كنز، الكتاب واحة خضراء في قلب الصحراء، وكل كتاب تقرؤه شجرة تزرعها في تربة العقل.. وإلا فإنه صحراء بلا نهاية.
الكتاب تجربة عاشها ذو عقل خصب أودعها في قرطاس، لتظل ثروة على مدى الأجيال.. الكتاب دهشة واكتشاف لعوالم مخفيّة وسعادات لا نهائية، وكم كرّرتُ وقلت: إن أعظم وأجمل ما في الدنيا الكلمة، ولو كان ثمة ما هو أعظم منها ما جعلها الله أعظم معجزات النبي محمد صلى الله عليه وسلم.. مات سيف الدولة وبقيت قصائد المتنبي، ومات المعتصم وبقيت قصائد أبي تمام، الكلمة أخلد من الملك والملوك وأبقى، القراءة اكتشاف، كما تكتشف المعادن الثمينة، فتغدو الدول الفقيرة بثروتها المكتشفة غنية، وإلا فقل لي ما الذي أدخل اليونان التاريخ فصار كل الناس تلاميذ لليونان؟ إنها الكلمة؛ فلسفةً أو شعراً أو مسرحاً، وعندما خرجت اليونان من حلبة الثقافة خرجت من التاريخ ومن الجغرافيا وغرقت في الدَّيْن، وتوشك أن تغرق معها قارة أوروبا واليورو.
إنها كلمات القرآن شكّلت شخصيات الصحابة فغيّروا مجرى نهر التاريخ، وصاروا هم صنّاع الحضارة والتاريخ!
إنك بالقراءة تضيف عقولاً إلى عقلك وفهوماً إلى فهمك، ورُبَّ كلمة تغيّر من وجهتك، إن القرآن كلمات، ولكنها كلمات أحيت حقّاً وفطرة في النفوس، وأماتت باطلاً عشّش طويلاً فيها، كلمات بنت وأعلت، ولذا فأنت أيها المسلم مأمور أن تقرأ القرآن.. يوميّاً إن استطعت، وإلا فلا أقل من ألاّ تتخذه مهجوراً.
إن البدن له ثلاث وجبات كل يوم، والعقل أهم من كتلة اللحم والعظم، فكم وجبته اليومية؟! وإذا جعلنا موازنة الطعام تستهلك مداخيلنا فما موازنة العقل في دخلنا؟ ألا يستحق الكتاب أن نجعل له من الدخل سهماً ونفرح بالكتاب نشتريه فَرَحَنا بالفاكهة ندخلها على بيوتنا.. نُسعد بها أطفالنا، الذين يجب أن يتعلموا السعادة بالكلمة والفرح بالكتاب ويستشعروا نعيم القراءة، وكم قلت: إن كنت آسى من الدنيا على شيء أخلّفه، فإني آسى على كتاب لم أقرأه في مكتبتي وكنت أنتظر أن يأتيه الدور لأكتشف ما فيه من درر!
سعادة القراءة:
أستعير هذا العنوان من عنوان كتاب صدر في العاصمة الفرنسية (باريس) عن دار جاليمار، إحدى أهم دور النشر العالمية، سنة 2011م، وكما تقول (دينا منصور) مَنْ ترجمت وعرّفت بالكتاب: إنه "إضافة قيمة للقارئ المهتم" باستطلاع رؤية نخبة من الكتاب الأوروبيين، حول ماهية الكتابة وكيف رأوا تجاربهم الأولى في القراءة.
يقول جان جاك روسو: لا أعرف كيف تعلمت القراءة، لا أتذكر سوى قراءاتي الأولى وتأثيرها عليّ، إنه الوقت الذي بدأت أؤرخ فيه لوعيي الذاتي، بدأت بالكتب المسلية، ولكن سريعاً ما أصبح الاهتمام حقيقيّاً.. لدرجة أني كنت أقرأ حتى الصباح، وبعد، فنترك ما قال هؤلاء ونعود إلى تراثنا؛ فقارئ نهم كالجاحظ كان يستأجر في الليل دكان الورّاق لينام فيها بربع دينار أو نحوه، فلا ينام، بل يظلّ يقرأ طيلة الليل، حتى صار الجاحظ الجاحظ، وبين كتبه عاش وبين كتبه مات!
وهل حفظ العربية إلا الأفذاذ من أمثال الأصمعي والكسائي والخليل وسيبويه وابن فارس وابن منظور والفيروزآبادي؟
وهل حفظ العربية في زمن الانحطاط إلا أمثال شوقي وحافظ ومصطفى صادق الرافعي والمنفلوطي –رحمهم الله–؟
يا أمة اسم كتابها القرآن مشتق من القراءة، وأول وحي ربها إليها: {اقرأ} ومنهج تغييرها القراءة، فهل تظل بعد هذا متأخرة في القراءة؟!
إني أرى أن تُعقَد للقراءة مسابقات، وأن تُناقَش الكتب في حلقات للدرس والبحث، مثلما كان يصنع العقاد وأنيس منصور ولفيف من مثقفي ذلك الزمان، يتسابقون في التعرف إلى الكتب والتهامها.
يقول أنيس منصور: كنا نحاول أن نسابق العقاد فما سبقناه مرة، وهل تعلم أن أنيس منصور ترك من مؤلفاته أكثر من مئتي كتاب، ومثله عبدالرحمن بدوي؟
وهل تعلم كتاباً كـ(التصوير الفني) و(ظلال القرآن) كم غيّرا في نظر الناس إلى القرآن وفي فهم القرآن؟
الكتاب أيها الأحباب، وقراءة الكتاب مع الاستيعاب، وحسن الفهم، وحسن انتقاء الكتاب، وحسن الانتفاع بما فيه من كنوز وثروة، أعظم ألف مرة من ثروة النفط!
ـ فأنا اليوم ، وأنا بالأمس ، كما كنت في الصغر أمضي يومي أكثره في الدار أقرأ ، وربما مر علي يوم أقرأ فيه ثلاثمئة صفحة . ومعدل قراءتي مئة صفحة ، ومن سنة 1340هـ إلى هذه السنة 1402هـ اثنتان وستون سنة ، احسبوا كم يوماً فيها واضربوها بمئة تعرفوا كم صفحة قرأت .
العلامة الأديب علي الطنطاوي رحمه الله
مقال رائع وانتقاء أروع من الاخ يحي ذكّرني بأيام الطفولة حنما كنت أنهي واجباتي البيتية والمدرسية لأستلقي في الفراش واتلذذ بقراءة قصص المكتبة الخضراء...القراءة نعمة وتوجيه من الله نسأله إياها.
مقال رائع وانتقاء أروع من الاخ يحي ذكّرني بأيام الطفولة حنما كنت أنهي واجباتي البيتية والمدرسية لأستلقي في الفراش واتلذذ بقراءة قصص المكتبة الخضراء...القراءة نعمة وتوجيه من الله نسأله إياها.
شكرا أخي الحبيب على ردك اللذيذ بارك الله فيك
ومنذ الصغر أيضًا اهتم الشهيد جمال منصور بالقراءة، وشراء الكتب رغم ضيق ذات اليد وقلة الموارد المالية إلا أنه كان يحرص على التوفير من مصروفه اليسير فيشتري به بعض الكتب، وتكونت لديه مع الزمن مكتبة ضخمة، وقال الشهيد عن نفسِهِ: إنه قرأ كتاب إحياء علوم الدين للإمام أبي حامد الغزالي، وهو في الصف الثالث الإعدادي.
وكان للشهيد جمال منصور نظرة خاصة وثاقبة في نوعية الكتب وطبيعتها، فها هو يضيف إلى عبارة ابن المقفع ما يكملها ويتمم معناها، فابن المقفع يقول: "اقرءوا أفضل ما تجدون، واكتبوا أفضل ما تقرءون، واحفظوا أفضل ما تكتبون"، فأكمل جمال منصور العبارة بالجملة التالية: "وكان على ابن المقفع أن يقول: واعملوا بأفضل ما تحفظون، تكونوا أفضل الناس".