جماليات المفارقة في قصيدة «متى تغضب؟» للشاعر الدكتور عبد الغني التميمي
جماليات المفارقة في قصيدة «متى تغضب؟» للشاعر الدكتور عبد الغني التميمي - جماليات المفارقة في قصيدة «متى تغضب؟» للشاعر الدكتور عبد الغني التميمي - جماليات المفارقة في قصيدة «متى تغضب؟» للشاعر الدكتور عبد الغني التميمي - جماليات المفارقة في قصيدة «متى تغضب؟» للشاعر الدكتور عبد الغني التميمي - جماليات المفارقة في قصيدة «متى تغضب؟» للشاعر الدكتور عبد الغني التميمي
جماليات المفارقة في قصيدة «متى تغضب؟» للشاعر الدكتور عبد الغني التميمي
د.رمضان عمر
تمثّل المفارقة انحرافا دلاليا يحيل البنية الهيكلية الشعرية إلى رؤية درامية تتكئ على سخرية مقصودة ومتبناة، تعمل على إحداث صدمة ارتدادية ذات تنميط دلالي عبر آليات التأويل البياني، سواء أكانت تلك المفارقة متكئة على مفارقة الكلمة المماثلة للالتفات المعروف لدى البلاغيين، أو مفارقة الموقف المشكل لنواة الحدث الدرامي التهكمي أو الكوميدي كما في الفن المسرحي، أو مفارقة الصورة المبنية على آليات الطباق والمقابلة وما سواهما من قيم بلاغية تعمل على تفتيت المعنى ثم إعادة تشكيله وفق رؤية دلالية محددة.
وقد تصبغ هذه المفارقة بقيم مضمونية ذات دلائل فكرية وسياسية، لتصبح تقنية أسلوبية ذات بعد رسالي، وذلك حينما يكون النص المبني على المفارقة نصا مقاوما كما في قصيدة الشاعر عبد الغني التميمي «متى تغضب».
لكن جماليات المفارقة لا تكتفي بهذا التنميط الدلالي والتوزيع الهيكلي لهذا الانحراف الشعري المبني على جملة الانعكاسات الدلالية المقصودة، وإنّما تبدأ هذه الجمالية حينما تتحول المفارقة إلى تقنية فنية تحمل في ثناياها بذور التشكيل الهندسي البديع، القائم على أسلوبية بيانية تمثّل المفارقة بمفهومها العام سقفا لها؛ أعني أنّ المفارقة تعدّ ظاهرة أسلوبية تعمل مع ظواهر أخرى على رفع سقف القيمة الجمالية للنص.
ولعلّ نصا مثل قصيدة الشاعر التميمي «متى تغضب» يخضع لهذا التصور الإجمالي من خلال تعانق ملحوظ بين الرؤية والتشكيل؛ الرؤية القائمة على تثوير العاطفة الدينية والوطنية لتذود عن حوض الأمة وسياج الوطن ومقدساته العظيمة؛ والتشكيل القائم على هذه المفارقة التصويرية البديعة.
هذه المفارقة تبدأ مع عنوان قصيدة الشاعر ذي الدلالة الانفتاحية بأفقها الواسع «متى تغضب؟»؛ حيث يشكّل الدال الزمني في بنية النص عتبة انحرافية تخرج دلالة الاستفهام من معناه الحقيقي إلى دلالات أخرى ذات بعد تهكمي يشكّل التعجب أو الإنكار واحدا من دلالاتها المعهودة في عرف البلاغيين القدماء، بينما يشكّل العنوان «متى تغضب» صدمة دلالية تبحث عن مدلول مُرجأ قد لا يتحقق وقوعه وفق دلالة المفارقة كما يشتهي الحداثيون من بنيويين أو تفكيكيين أن يسموه؛ أيّ أنّ العنوان يحيل إلى غائب يرتجى وقوعه ويخشى من عدم تحققه، وهنا تصبح القيمة الانفعالية من خلال الدال الزمني في أداة الاستفهام «متى» والأثر الانفعالي في دلالة الفعل «تغضب» هي المشكل الأساس لبوابة المفارقة التي سيعبر من خلالها القارئ إلى فضاءات النص كلها.
ثم تُبنى الجملة الشعرية الأخرى من خلال تقنية «الجوقة في الفن المسرحي»، وذلك من خلال ضمير الجمع المسند إلى الفعل الموجه لثنائية التعانق بين الفم والأذن «أعيرونا»، ثم الفعل المعادل للاستجابة الشعورية في دال المفارقة من خلال الضمير المسند إلى الاسم «مدامعكم» الدال على زاوية من زوايا الشعور تمثّل العين دالا مكانيا لها:
أعيرونا مدافعكم ليوم لا مدامعكم
أعيرونا وظلوا في مواقعكم
بني الإسلام
ما زالت مواجعنا مواجعكم مصارعنا مصارعكم
إذا ما أغرق الطوفان شارعنا سيغرق منه شارعكم
ألسنا أخوة في الدين؟
هذا الدال الجمعي الذي ربط برباط العقيدة «أخوة الدين» هو الذي دفع دال المفارقة ليأخذ أقصى بُعد له صارم، من خلال مفهوم الوحدة، هذا المفهوم قد بدده واقع انهزامي أليم، تمثّل في الفرقة والتناجز والتناحر ممّا مثّل جانبا من جوانب الضدية التي نقضت مفهوم التكافل والوحدة:
ألسنا أخوة في الدين قد كنّا وما زلنا
فهل هنتم وهل هنّا؟
أيعجبكم إذا ضعنا؟
أيسعدكم إذا جعنا؟
وإذا كانت المفارقة في مدلولها الشعوري تفصل بين الشكلي والحقيقي، فإنّ الحديث عن خبايا النفس وأعماق القلوب هو الذي يهيئ الاستفهام لبناء جمالية المفارقة الشعورية:
وما معنى بأنّ قلوبكم معنا؟
ألسنا يا بني الإسلام أخوتكم؟
أليس مظلة التوحيد تجمعنا!
من خلال هذا التمازج البنيوي نجد المفارقة وقد تعاورتها قيمتان جماليتان: إحداهما بيانية والأخرى دلالية؛ أمّا البيانية فتبدو أول ما تبدو في ذلك الاستخدام البديع للجناس الناقص «مدامع/ مدافع»، لكنه جناس يحمل في ثناياه مكونا دلاليا للمفارقة تمثَّل في المتوفر المرفوض لا نفاق «مدامع» والغائب المطلوب لأنه تضحية «مدافع»، هذه القيمة الدلاية تمثّل شحنة عاطفية تقود لحرارة الدفق الشعوري، ومن هنا نلاحظ صخب الإيقاع المناسب لذلك القلق النفسي من إفرازات المفارقة المرّة؛ حيث تولد المواجع في السطر الرابع من المقطع الأول وتمتد الكارثة إلى حد توقع وصول الطوفان إلى تلك الديار التي تجمعنا:
أعيرونا مدافعكم ليوم لا مدامعكم
أعيرونا وظلّوا في مواقعكم
بني الإسلام!
ما زالت مواجعنا مواجعكم، مصارعنا مصارعكم
إذا ما أغرق الطوفان شارعنا
سيغرق منه شارعكم
وإذا كانت المفارقة، في هذا المقطع، قد تشكّلت من خلال هذا التشابك الجمعي لأمة واحدة، والتشريح المؤلم لواقع مأساوي حزين، فإنّ المقاطع الأخرى ستنتقل إلى حقل التحميل الفردي لمسؤولية الضياع، ويأتي السؤال الإنكاري ممثلا لأهم أداة محورية تتكئ عليها المفارقة، ثم يحشد الشاعر لمفارقته جملة من المتلازمات البدهية التي تعمق الجرح وتوسع الفجوة، لتكشف المفارقة عن حالة مرضية تستدعي المعالجة العاجلة:
أخي في الله أخبرني متى تغضب؟
إذا انتهكت محارمنا قد انتهكت!
أخي في الله أخبرني متى تغضب؟
إذا انتهكت محارمنا قد انتهكت!
إذا نسفت معالمنا قد نسفت!
إذا قتلت شهامتنا لقد قتلت!
إذا ديست كرامتنا لقد ديست!
إذا هدمت مساجدنا لقد هدمت!
وظلّت قدسنا تغضب ولم تغضب!
فأخبرني متى تغضب؟
إذا لله..للحرمات..للإسلام، لم تغضب!
فأخبرني متى تغضب؟
ويبقى سؤال العقيدة معانقا لسؤال الوطن في تحديد مبررات المفارقة الموضوعية، ومن هنا يتعانق الدين مع الوطن في جدلية الانتماء المحفز لهذا الغضب المقصود تفعيله عبر آليات المفارقة، حيث كانت الدماء تسيل عبر (زقق) مخيم جنين وأترابه من مخيمات ومدن وقرى فلسطين، على يد أعداء العقيدة بينما القيان (تردح) للسكارى التائهين في فنادق العواصم العربية:
رأيت هناك في «جينين» أهوالا
رأيت الدم شلالا
رأيت القهر ألونا وأشكالا ولم تغضب؟
فصارحني بلا خجل..لأيّ أمة تُنسب؟