في ظلال آيات الصيام د. أحمد نوفل - في ظلال آيات الصيام د. أحمد نوفل - في ظلال آيات الصيام د. أحمد نوفل - في ظلال آيات الصيام د. أحمد نوفل - في ظلال آيات الصيام د. أحمد نوفل
في ظلال آيات الصيام
د. أحمد نوفل
مدخل.
نترك التعليق على أحداث مصر، وسخونة الجو السياسي، ونترك الكتابة في هذا التوتر المشحون المزموم المأزوم الملبد بالغيوم، لنستروح ظلال آيات الصيام. على أنّ للأحداث عوداً، وهي على العموم معركة لا بد من خوضها. والمفارقة أنّه كان يحكم مصر رئيس معوق بلا ذكاء مطلقاً، وكان يدّعي أنّه إله في الأرض، كما قال شاعر الحزب الأثيم في قصيده اللئيم في مديح مبارك، وارجع إليها كيف يخاطبه أنت الواحد الأحد، وأنت مثل ربنا..الخ.
والآن يريد العلمانيون رئيساً منزوع الدسم منزوع الصلاحية فاقد الأهلية "شخشيخة" بالمصري.
وأنت تسمع الإذاعات وتشاهد الفضائيات والمناحة المنصوبة على القضاء واحترام الدستور، وما صنع مبارك المحاكم الدستورية إلاّ لتكون قوة ضاربة بيده يضرب بها متى شاء من شاء، ويتجاوزها إن شاء، فالآن تصبح هذه المحكمة المرجع الذي لا يتخطى ولا يتجاوز. نترك كل هذا لنعيش في أجواء الصيام.
آيات الصيام، وما أدراك ما عظمة آيات الصيام! خمس آيات بينات نيرات حكيمات في القرآن، كأنها تشير إلى الخمس الأركان! صفحتان من القرآن حوت هذه الآيات الخمس، وكأنهما تشيران إلى أنّ صفحة النهار وصفحة الليل..
ولذا جاء في الصفحة الأولى: "أياماً معدودات"، "شهر رمضان"، وفي الصفحة الثانية: "ليلة الصيام"، "يسألونك عن الأهلة"، فسبحان من رتّب القرآن هذا الترتيب، ونسّقه هذا التنسيق العجيب، وكأنّ القرآن بهاتين الصفحتين اختزل الزمان، وكثّف الأوقات مثلما تجمّع الزمان وتكثّف في ليلة القدر.
وهذه نظرة عامة على الآيات موقعها وترتيبها ونسقها:
ابتدأت الآيات بالنداء، لينسجم مع جو السورة الذي كثر فيه النداء. وجاءت الآية الأولى أقصر آية رمزاً للتخفيف، واستهلالاً بالمدخل اللطيف. وكانت آخر آية أطول الآيات، لقد روضت النفوس وصارت تتحمل التكليف.
وجاء في وسط الآيات وفي درة عقدها من حيث عدد الآيات العدد (عدد الآيات): "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن".
ولا شك أنّ شهر رمضان واسطة عقد الزمان، وأنّ نعمة القرآن قلب النعم التي منّ بها المنان على أمة الإيمان، أما رأيت إلى سورة: "الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب" وهي سورة الكهف، جاءت في وسط وفي قلب سور الحمد مثلما جاءت آية: "شهر رمضان" في القلب من آيات الصيام.
وأمّا الوسط من حيث المساحات والمسافات: فآية "وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريب"، فكأنه صار للآيات: وسط ووسط. وهذا له ملحظ، فالقرب من الله واسطة عقد أهداف الصيام. فتأمل!
وملاحظة أخرى أنّ الآيات بدأت بالنداء كما سلف، وبالنداء تستجاش الطاقات، وتستجمع القدرات، وتحفز الإرادات والعزمات، ثم بعد النداء "كتب" وقد تعدد في السورة صيغة كتب، فقبل آيات الصيام مباشرة: "كتب عليكم القصاص" "كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت.." وبعد "كتب عليكم الصيام": "كتب عليكم القتال"
ولاحظ التنسيق العجيب: إنّه ما كتب القتال إلاّ بعد تهذيب الأرواح بالصيام لأن الإسلام العظيم حريص على الأرواح وحتى لا يتحول الناس بحمل السلاح إذا لم تتهذب الأرواح، إلى كواسر وضوار، كالذي تراه من الذين حملوا السلاح دون أن تتهذب نفوسهم وطباعهم وأرواحهم وتزكو أخلاقهم فتحولوا إلى وحوش ضارية، تقتل بلا رادع ولا وازع، فتأمل حكمة الباري!
وملاحظة أخرى، أنّ آيات الصيام الخمس ختمت بالفعل المضارع المفيد الحركة، فليس شهر رمضان شهر البطالة والعطالة، ولكنه شهر العمل والقوة، والإنتاج والجهاد. من هنا جاءت فواصل الآيات فعلاً مضارعاً.
وملاحظة أخرى: أنّ أربع آيات من الآيات الخمس ختمت ب"لعلّكم" في أول آيتين، و"لعلّهم" في آخر آيتين. فلم هذا؟ أقول: لعلّ مردّ ذلك أنّ "لعلّكم" بضمير المخاطب والدورة في حالة انعقاد، أمّا "لعلهم" بضمير الغائب، فجاءت بعد أن انقضت الدورة وتوزّع الخريجون على أرجاء الأرض ينشرون تعاليم السماء.
وملاحظة أخرى: أنّ آيات الصيام ختمت في أولها ب"لعلّكم تتقون" وختمت في آخرها ب"لعلّهم يتقون"، فبالتقوى بدأت وبالتقوى ختمت، ليقول لك أنّ روح الصيام وأهم أهداف الصيام هو تحقيق التقوى.
وملاحظة عامة أخرى قبل أن ندخل في تفاصيل تفاسير كلمات الآيات: أنّ آيات الصيام سبقت بقوله تعالى: "ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن.."، واتبعت بقوله تعالى: "وليس البر بأن تأتوا البيوت ظهورها ولكن البر من اتقى.."
ولا بد أنّ في الأمر حكمة عظيمة وسراً عميقاً، وأعتقد أنّه هو التالي: إنّ أخطر ما تتعرّض له العبادات أن تتحول إلى طقوس وشكليات، وتفرغ من الروح والمضمون والفحوى والجوهر. ولعلّ الصيام أكثر عبادة تعرّضت لمثل هذه المسألة، وما زال الإعلام يشغل الناس بالمسلسلات والمسابقات ونشر ثقافة التسلية والترفيه، وأنواع الوجبات والمأكولات حتى يصبح الصيام فريضة كأنها ما فرضت إلاّ من أجل زيادة الاستهلاك، والمزاحمة في الأسواق، وزيادة الأعباء من النفقات، وزحام الطرقات. من هنا جاء سابقاً ولاحقاً: "ليس البر"، أيّ يا مسلمون لا تحوّلوا العبادات إلى عادات وطقوس وشكليات، فليس البر في الشكليات إنّما البر في الجواهر والمحتويات، فتأملوا ترتيب الآيات.
وملاحظة أخرى: أنّه زُعم أنّ في الصيام كثيراً من الأحكام المنسوخة وبعض الكلمات والآيات المنسوخة، وليس في الواقع شيء من ذلك على الإطلاق، فقوله تعالى: "كما كتب على الذين من قبلكم"، والذي زعم أنّه منسوخ، وما به نسخ، فليس المقصود أنّه كتب عليكم بتفاصيله وأحكامه الفرعية كما كتب على الذين من قبلكم. لا، وإنّما كتب عليكم أصل الفريضة، فريضة الصيام كما كتب الصيام في أصله على الذين من قبلكم، فالصوم كالصبر، قانون عام في الدين، لا يعرى منه منهج أنزله رب العالمين، في الأولين ولا في الآخرين.
وكلمة "أياماً معدودات" قيل زعماً أنّه نسختها كلمة "شهر رمضان" فقد كان الصيام أياماً ثم فرض شهراً، ولا والله، ما الشهر إلاّ هذه الأيام المعدودات، فشهر رمضان توضيح وبيان وليس نسخاً للكلمات السابقة.
وكذا زعموا أنّه نسخ قوله تعالى: "وعلى الذين يطيقونه فدية"، وأنّه كان الأمر بالتخيير، فمن شاء صام ومن شاء افتدى. ولا والله ما كان، وإنّما معنى يطيقونه: يستطيعونه بمشقة بالغة، فهم على تخوم لا يطيقونه وإن كانوا يطيقونه. فافطن رعاك الله.
وكذا زعموا أنّ "أحلّ لكم" نسخت أحكاماً كان معمولاً بها، وهذا الذي زعموا أنّه معمول به إنّما هو استصحاب الواقع، لا أنّه أحكام شرعت لهذا الواقع. فتدبّر! وللحديث صلة.
في ظلال آيات الصيام (2) . - في ظلال آيات الصيام (2) . - في ظلال آيات الصيام (2) . - في ظلال آيات الصيام (2) . - في ظلال آيات الصيام (2) .
في ظلال آيات الصيام (2) .
د.أحمد نوفل
هبت نسائم رمضان، وهبت روائح الجنة مع هبات نسائم رمضان. يا شهر الإيمان ما أروعك، يا شهر القرآن ما أبدعك، وسبحان من أودعك كل هذه المعاني السامية والقيم العالية، وكما قال يعقوب: (إني لأجد ريح يوسف..)، وكما قال أنس بن النضر: «إني لأجد ريح الجنة دون أحد»، وكما في بعض الآثار: «روائح الجنة في الشباب»، فإن المؤمن يستروح روائح الجنة مع هبوب نسائم رمضان.. فأهلاً رمضان.. مرحى رمضان ومرحباً برمضان.
وإنا مهما قلنا فإن عباراتنا وكلماتنا تعجز عن التعبير عن مكنوننا، ومخزون الفرح عندنا بمقدم رمضان.
وما تصف الكلمات من المشاعر والمعاني وما تعبّر العبارات عن المكنونات، وما تغني وما تسعف الألفاظ في نقل الإحساس.. إنه لا يستطيع ذلك إلا من خلق الإنسان وعلمه البيان.. في آيات القرآن، حيث قال في محكم الآيات: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان..).
وبعد، فنواصل في هذه الحلقة الثانية الملاحظات على الآيات التي تحدثت عن الصيام، وقد سبقت في الحلقة السابقة بعض الملاحظات وهذا بعض آخر من الملاحظات:
ملاحظة أخرى سميتها: اللطف في آيات الصيام، وفيها أقول: القرآن كلام اللطيف الخبير، والصيام فريضة وركن فرضه الله اللطيف بعباده كما قال: (الله لطيف بعباده)، ومن تأمل آيات الصيام وجدها تفيض باللطف فيضاً، فأولاً البدء بالنداء وبأحب الأسماء: (يا أيها الذين آمنوا) وما فيه من معنى التودد والتلطف، فأنت لا تنادي بأحب الأسماء إلا أحب الأشخاص. ثم ما في النداء من حفز وحث وتشجيع واستجاشة للاستجابة، فالنداء مشحون باللطف، وما ناداك بأحب الأسماء وأحسن الأسماء إلا وهو يريد منك أحسن الاستجابة، وإلا وقد أعد لك أحسن الجزاء.
وثانياً قوله تعالى: (كُتب) بالبناء للمجهول، وهذا فيه منتهى التلطف، فالإله العظيم إذا كلف بما فيه مشقة بنى الفعل للمجهول؛ حتى لا يقترن اسمه الجليل الحبيب الله بالمشقة والثقل والتكليف. وتأمل: (كُتب عليكم القصاص)، (كُتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت)، (كُتب عليكم الصيام)، (كُتب عليكم القتال)..الخ.
وتأمل: (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي)، (كتب ربكم على نفسه الرحمة) (أولئك كتب في قلوبهم الإيمان)..الخ. فحيث التجليات والنفحات والرحمات بنى الفعل للمعلوم وذكر اسمه: الله أو الرب أو ضميره سبحانه، فتأمل هذا الكتاب، ولطائف الإشارات!
ولطف ثالث في قوله تعالى: (كما كتب على الذين من قبلكم) وذلك لمؤانسة المؤمنين والتلطف بهم، فأنتم أيها المؤمنون تسلكون طريقاً مطروقاً وسبيلاً مسلوكاً سلكته الأمم كلها من قبلكم، ولستم تسلكون طريقاً موحشاً أنتم فيه وحدكم، فانظروا خلفكم تجدوا كل الأمم وراءكم، أو أمامكم، لا مشكلة إنها المؤانسة والملاطفة مرة أخرى.
واللطف الرابع في قوله تعالى: (لعلكم تتقون) فالإله العظيم القدير ملك السموات والأرض يعلل الأفعال لعباده، حتى يمتثلوا الحكم مستحضرين الحكمة. مع أن العباد شعارهم في معاملة العباد أمثالهم: نفّذ ولا تعترض! والإله العزيز الحكيم يبين حكمة الأفعال التي يطلبها من عباده؛ لينشطوا في الامتثال. وأنا أزعم أن معلمي الكيمياء والرياضيات والفيزياء لو شرحوا للطلاب حكمة دراسة هذه المواد، لأقبلوا عليها إقبالاً مختلفاً، بينما هي الآن من المغلقات المنفّرات المستعصيات.
ولطف خامس في قوله تعالى: (أياماً معدودات) بين يدي قوله: (شهر رمضان)؛ تخفيفاً عنهم ورفقاً بهم وتلطفاً، فهو يهون عليهم المسألة، إن رمضان ليس إلا «أياماً معدودات» فصوموها وامتثلوا أمر ربكم ولا تستثقلوها! وما الشهر وما العمر في النهاية إلا أياماً معدودات.
ولطف سادس في المسارعة بالتخفيف من المولى اللطيف في قوله: (فمن كان منكم مريضاً أو على سفر)، ولاحظ اللطف المضاعف في تضاعيف اللطف الأصلي؛ أنه أولاً سارع إلى الرخصة، ثم ثانياً لم يحدد ما المرض وما شدته وترك لك أنت أن تقدر ما المرض وما الحاجة إلى الإفطار، وكذا «أو على سفر».. فلم يقل لك بالسيارة أو بالباخرة أو بالطائرة أو على ظهر البعير! ولم يقل لك مئة كيلو أو أقل أو أكثر.
ثم لطف آخر في قوله: (فعدة من أيام أخر)، وقد تكون الأيام البديلة متفرقة بدل المجتمعة، وفي الشتاء بدل الصيف، أرأيت إلى اللطف!
ولطف آخر في قوله: (وعلى الذين يطيقونه) فلم يقل لا يطيقونه، لا وإنما «يطيقونه» أي: يستطيعونه ولكنه يشق عليهم. ولطف في قوله: (وأن تصوموا خير لكم) ولم يقل فرض عليكم. ولطف في بيان لماذا الصيام؛ لأنه (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) ولماذا أنزل القرآن؟ (هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه)؛ أي: لتقدروا عظمة المنهج ونعمة المنهج، ثم لطف آخر في تكرار الرخصة: (ومن كان مريضاً..)
ثم لطف آخر في قوله: (يريد الله بكم اليسر) وكان يمكن الاكتفاء بهذا، لكن القرآن أضاف: (ولا يريد بكم العسر)، ثم بين علة أخرى للصوم: (..ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون).
ثم لطف آخر في التقرب من العباد، وأن الصيام يؤهلهم ليكونوا مستجابي الدعوة، ويجعلهم راشدين، وأعظم بها من منن ونعم وحكم، ولاحظ أنه في الآية قدم إجابته للداعي قبل استجابة الداعي: (فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون)، وفي الآية وقفات عديدة ندخرها إلى حين التفسير إنما هذه مقدمات. وأما الرشد فيحتاج وحده إلى وقفة مطولة، ونتركها الآن، وأما الآية الأخيرة ففيها من ألوان اللطف الكثير، وأتوقف عن متابعة الحديث؛ طلباً للإيجاز والاختصار على أن يبين كل ذلك إذا جئنا لتفسير الآية إن وفق الله ويسر.
وبعد.. فهذه نظرة عامة أخرى وليست أخيرة، وإن كنت ربما ختمت بها وربما أضفت إليها: وهذا ما سميته «خماسيات آيات الصيام»، فأولاً: آيات الصيام خمس كما مر، وكلمة الصيام في سورة البقرة وردت خمس مرات، وشهر رمضان خمس حروف، وكلمة (كتب) بحق هذه الأمة الإسلامية وردت في سورة البقرة خمس مرات، وإن الآيات ختمت بخمسة أفعال مضارعة، وفي الآيات خمسة أفعال أمر غير مقترنة باللام كلها في الآية الأخيرة هي: (باشروهن، وابتغوا، وكلوا، واشربوا، أتموا) وخمس أفعال أمر مقترنة باللام هي: (فليصمه، ولتكملوا، ولتكبروا، فليستجيبوا، وليؤمنوا) والأفعال المضارعة في آيات الصيام 15 (5×3)، والأفعال الماضية 15 (5×3) (استثنيت كان وأثبت كنتم)
وفي ختام هذه الكلمات وفي التعقيب على هذه الملحوظات العابرات على الآيات المتكلمة عن الصيام أقول: ماذا كانت الآية التالية لآيات الصيام مباشرة؟ وتأمل من خلالها نسق القرآن وتناسق القرآن وترتيب القرآن! إنها قوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون).
والملاحظة الأولى على نسق الآية مع آيات الصيام: إن الملحظ الأول في الصيام الامتناع عن الأكل، وتكون الآية الأولى بعد الصيام النهي عن الأكل، لكن بمعناه المجازي: أكل أموال الناس بالباطل وبالإثم.
إن الامتناع عن الاكل درّبك على الامتناع عن أكل خطير.. مدمر لحياة الشعوب وحياة الأمم.. إنه أكل أموال الناس بالباطل. وإذا تأملت واقع الحياة والمجتمعات، وجدت أخطر المقاتل وأفتك الأوبئة الاقتصادية والاجتماعية: أكل أموال الناس بالباطل. فالثمرة الأولى للتقوى التي أنشأها الصيام الذي هو امتناع عن الأكل في معناه الأول، الثمرة الأولى هي الامتناع عن أكل أموال الناس بالباطل.
وملاحظة ثانية: عود إلى أول آيات الصيام الآية 183 وتاليتها الآية 184 تجد الفاصلتين المتتاليتين هما: تتقون، تعلمون.
ولننتقل الآن إلى الختام الآية 187 والآية 188 نجد الفاصلتين المتتاليتين: يتقون، تعلمون.. إنها المنهجية ذاتها: التقوى والعلم في البدء والختام، والعجب الآية التالية: (يسألونك عن الأهلة..) أليس الصيام والفطر من الصيام مرتبطاً بالأهلة؟ بلى بالطبع. وتأمل ختام الآية تجد ما هو أعجب كذلك: (ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون) التقوى التي تقود إلى الفلاح، ثم: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) لقد ربى الصيام الإرادة، والقتال في معناه الأول، إرادة، وإنما الحرب صراع إرادات. والذي ينتصر الإرادة إن قويت.. والذي ينهزم وينكسر الإرادة إن ضعفت.
ولاحظ أن القتال عمل هو مظنة العدوان، من هنا سبقه تهذيب الوجدان بالصيام.
ومن هنا نص على عدم العدوان فقال: (ولا تعتدوا)، ثم برر ذلك بـ(إن الله لا يحب المعتدين) أرأيت المنهجية والعظمة في النسق؟!
هذا ونحن لم ندخل في تفسير الآيات، وإنما هي نظرات في معمار الآيات وترتيب الآيات.
ولا أدري أجعل الحلقة التالية في تفسير الآيات بعد النظرات، أم أنتقل إلى موضوع آخر من الموضوعات!؟ وكل رمضان وأنتم بخير.. وأهلاً رمضان!
هل هلال رمضان.. فأهلاً رمضان. هل هلالك شهر مبارك. هل هلال رمضان. وهلت بشائر النصر والخير من سوريا مع مقدم رمضان.. فأهلاً بشهر البشرى رمضان.
1- المولود الجديد
تولد الأهلة كما تولد الأجنة، فللزمان مواليد، ألم يقل الناس: إن الليالي حبالى يلدن كل عجيب.
وكما يبتهج الناس بمولود جديد يملأ الدار بشراً وسروراً.. يفرح الناس بمولود الزمان الجديد رمضان.. فتمتلئ الدور وتمتلئ النفوس بالحبور والسرور.. فقد ولد شهر القرآن شهر النور.. فامتلأت النفوس بأسباب الهناء.. وغمرها السرور.
وكما تدار أصناف الحلوى للمولود الجديد من الناس، تدار أصناف الحلوى لمولود الزمان.
وللمولود اسم يتميز به بين الأقران، فلرمضان اسم ميزه الله به من بين كل شهور الزمان.. فسماه "شهر رمضان"
وكما يتدرج الوليد صغيراً ثم يكبر حتى يكتمل ثم يطويه الزمان. يتدرج مولود الزمان هلالاً يختلف الناس في رؤيته لضآلته ثم يكبر ويستدير وجه قمر الزمان ثم يتراجع إلى أن ينطوى ابن الزمان في بحر الزمان، ولا أقول يطويه الزمان ويطويه النسيان. لأنه يتجدد في الزمان إلى أن ينتهي الزمان. ولدت الهمة والعزمة، بل ولدت الأمة بمولد رمضان، وبلغت القمة برمضان في رمضان.
2- عودة الروح
أ- كما تعود الروح إلى الرميم فيحيا.. تعود بعودة رمضان.. الروح إلى النفوس فتحيا.. وتعود الروح إلى العزائم والهمم فتنبعث من رقدة العدم. ولا ريب أن رمضان روح تسري في الزمان فتبعث الحياة في الهامدات والجامدات.
أما رأيت كيف يودع الناس التبطل العبادي ويستبدلون به الإقبال العبادي فتمتلئ المساجد، وحلق العلم، وإذ بالنفوس الزاهدات في التعلم قبل رمضان تقبل على الدروس وحلق العلم.. كأنها هبت من سبات.
وفعلاً إن رمضان روح نزل فيه كتاب هو روح، ليكون الكتاب للروح روح الروح، فتدب الحياة في النفوس بهذه الأرواح.
ب- ولعودة الروح مفهوم آخر.
فقد عمل أعداء رمضان.. وأعداء منهج السماء.. عملوا على إفراغ رمضان من روح العبادة.. روح رمضان. ويجب أن نعمل كما عملوا ونجتهد كما اجتهدوا ونخطط كما خططوا لعودة الروح في رمضان، ولعودة الروح إلى هذا الركن العظيم وهذه العبادة العظيمة.
وليس الأمر سهلاً لكنه ليس مستحيلاً. ليس سهلاً لأن الذي عمل على إفراغه من الروح مؤسسات شيطانية عالمية. مُمَكّن لها في الداخل العربي في تواطؤ خفي: "أطلقوا يدنا والباقي علينا" وهذه المؤسسات ذراعها الأعتى والأقوى: الإعلام. ألا ترى إلى الإعلام العربي هذه الأيام كيف يحاول جاهداً على إفراغ هذه العبادة بما ينشط له من مسلسلات وبرامج ترفيهية هابطة.. ومقدمين ومقدمات يتسابقون على تقديم المسابقات.. وبرامج اللامحتوى واللاهدف واللاجدوى؟
3- الأستاذ جمعة رمضان
الأستاذ جمعة رمضان أستاذ كبير قدير، بالتوقير جدير، فهو يعطي أعظم الدروس وأبلغ العظات وأوضح العبارات، ويحفر عميقاً في النفس والعقل والروح والقلب دروسه النافعة الجامعة الرائعة. أستاذ كامل شامل يقلب توجهات الطلاب ونفوسهم بتشويق وحب ولغة سهلة مهضومة مفهومة. وبعض الطلاب يسرح والأستاذ رمضان يشرح، والعيب ليس في الأستاذ، إنما العيب فيمن لا يركز ولا ينتبه. يضرب الأمثال، فينشغل الناس بتفاصيل المثل عن مقصده وروحه.
4- عبادة متميزة
ما من عبادة تستغرق الوقت ليله ونهاره طيلة شهر كامل مثل الصوم فهو من هذه الناحية عبادة متميزة. وما من موسم يقبل فيه الناس على مصدر النور والخير والبركة والهدى والسعادة: القرآن، كما يفعلون في شهر الصيام، فهو من هذه الجهة أيضاً عبادة متميزة. وما من عبادة ينصبغ فيها العابد صبغة، وينقع في جو العبادة نقعاً، ويستغرق استغراقاً كاملاً، مثل عبادة الصيام فهو كذلك من هذه الزاوية عبادة متميزة. وما من عبادة أخرى يعان عليها المسلم بتصفيد عدوه الشيطان بل أعدائه الشياطين، مثلما يعان على هذه العبادة، فالصيام من جهة المعونة عبادة متميزة. وما من عبادة تستغرق كل شرائح الناس الصغار قبل الكبار والفقراء وأهل اليسار كما تستغرقهم وتوحدهم هذه العبادة فهي أي هذه الفريضة من هذا القبيل وهذه الحيثية عبادة متميزة. وما من عبادة يتراحم بها وفيها ومن خلالها الناس فيشعرون بمشاعر بعضهم ويتشاركون كما تفعل بهم هذه العبادة.
وما من شعيرة يتعلم الناس فيها الجود كما تفعل هذه الشعيرة. فهي كما أمر المعلم صلى الله عليه وسلم تريدنا أن نحرص على تفطير الصائم حتى نأخذ مثل أجره وما أدراك ما مثل أجره؟!
وأبلغ من هذا أن الصيام معلق لا يرتفع العمل إلى رب العمل سبحانه إلا إذا مهر الصيام بصدقة الفطر أو الفطرة، فهي فريضة متوقفة على العطاء والجود والسخاء والبذل، وصدقة الفطر مطلوبة من الغني والفقير، ليتعلم الجميع الجود فالصيام من هذه الناحية عبادة متفردة.
ولا نستطيع أن نواصل لأنه سيطول المقام والكلام، ولكن يغنينا عن طول الكلام كلام الملك العلام سبحانه إذ قال في الحديث القدسي، وهو بعد خير الكلام خير الكلام قال: "كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به"، وتأمل من معاني هذا النص ما يلي: الصوم العبادة الوحيدة التي لا يطلع عليها الناس فهو أدعى للإخلاص الذي هو روح الأعمال. فهو من ناحية الإخلاص عبادة متميزة.
والصيام عبادة لم يعبد بها إلا الله، فقد ركع الناس للناس، وسجد الناس للناس، وذبح الخلق للخلق، ولكن لم يصم أحد لأحد إلا لمولانا الصمد، فالصوم إذاً تفرد من هذه الناحية فكان لله فكان مضاعف الأجر.
ولو أرادت دولة أن تفرض الصوم على شعبها، لاحتاجت جهازاً تنفيذياً ضخماً، ولاحتاج كل مواطن إلى رقيبين يتناوبان عليه، ولما أفلحوا جميعاً، لكن الله تعالى فرض الصوم بكلمة: (كتب عليكم الصيام) ولم يعين الدين جهازاً تنفيذياً للإشراف على تنفيذ عبادة الصوم، فالصوم متميز من هذه الجهة كذلك، لكل ذلك، فإن الملائكة تضع أيام الصيام في خانة العمل، ولا تضع الجزاء المقابل لأنه لا يحسبه ولا يحصيه ولا يحيط به إلا الله.
فالصيام إذاً لله لا يحصي أجره إلا هو وهو يجزي به، جنات عرضها السموات، ويقال للصائم: ادخل الجنان من أي أبواب الجنان وإن شئت من باب الريان.
وللترحيب برمضان حلقة أخرى إن شاء الله، فإلى لقاء مع شهر الجنة والرحمة والمغفرة والرضوان، وكل رمضان والأمة في خير ونصر.