حمص من التمحيص إلى التمكين - حمص من التمحيص إلى التمكين - حمص من التمحيص إلى التمكين - حمص من التمحيص إلى التمكين - حمص من التمحيص إلى التمكين
حمص من التمحيص إلى التمكين
د. علي عمر بادحدح
من أصح بلاد الشام، ولها أشجار وزروع كثيرة، مدينة حصينة، أرجاؤها مؤنقة، أشجارها مورقة، أنهارها متدفقة، أسواقها فسيحة.. ذلك بعض ما وصف به المؤرخون حمص، درة الشام، وأهلها عرب لهم فضل وكرم.
من صفحات التاريخ صفحات ترتبط بسيف الله وسيف رسوله سيف الإسلام أبي سليمان خالد بن الوليد -رضي الله عنه- يوم انتقل من فتوح العراق بأمر الفاروق أمير المؤمنين إلى بلاد الشام، وبعد أن منَّ الله -سبحانه وتعالى- عليه وعلى المسلمين بفتح دمشق، جاء التوجه إلى حمص، وانتصر فيها ابن الوليد على قلة متقدمة من الجيش، وفروا هاربين يتحصنون فيها وهي حصن قوي متين، غير أن الحصار استمر ثمانية عشر يومًا فقط، وأسلمت المدينة وسلمت للمسلمين فدخلوها من غير قتال ومن غير إجرام ومن غير أنفس تزهق ولا دماءً تسفك، وبعث أبو عبيدة القائد العام للجيوش الإسلامية إلى الفاروق عمر يبشره قائلاً:
"الحمد لله الذي أفاء علينا وعليك يا أمير المؤمنين، أفضل كورة في الشام أهلاً وقلاعًا، وأكثرهم عددًا وجمعًا وخراجًا، وكانت أيسرهم على المسلمين فتحًا، ونسأل الله مالك الملوك وناصر الجنود أن يعزَّ المسلمين بنصره، وأن يسلم المشرك الخاطئ بذنبه".
تلك صفحة تجذبنا إلى هذه المدينة التي كلنا يعلم ما جرى ويجري عليها، وإذا نظرنا إلى التاريخ فإن فيه المزيد، وفيها جامع خالد بن الوليد يذكِّر بمآثره، يذكر بشجاعته، يذكر بالإسلام وعظمته. وعندما جهَّز الروم جيوشهم وأعدوا -كما ذكرت بعض مصادر التاريخ- نحو مائتي ألف، وقيل أكثر من ذلك، رأى المسلمون من الناحية العسكرية الانسحاب مؤقتًا من حمص، والتراجع إلى المدد الإسلامي وإلى العمق في جزيرة العرب.
وهنا أمر أبو عبيدة القائد العام للجيوش المسلمة، حبيبَ بن مسلمة وكان هو المسئول عن أخذ الجزية، أمره أن يردَّ لأهل حمص ما أخذ من أموالهم، وأن يبلغهم أننا على عهدنا معهم لا نرجع عنه إلا أن يرجعوا عنه، وإنما رددنا أموالكم؛ كراهية أن نأخذها منكم ولا نمنع بلادكم، فإن عدنا بقينا وإياكم على عهدنا.
إنها عظمة الإسلام التي أثبتت وقائع تاريخه الناصعة وشواهد أدلته القاطعة أنه لا يقاتل لإزهاق النفوس، ولا لإرهاب العباد والبلاد، وإنما لإزالة الظلم ورفع المظالم عن الخلق.
وهنا قال أهل حمص: ردَّكم الله إلينا، ولعن الله الذين كانوا يملكوننا من الروم! فلو كانوا أخذوا منا، ما ردُّوا علينا بل غصبونا أموالنا، وأخذوا مع هذا ما قدروا عليه من أموالنا، والله لولايتكم علينا وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم.
وهنا ربما ننظر إلى هذا الواقع من جانبين اثنين: جانبٌ هو التمحيص الذي اقتضته سنة الله سبحانه وتعالى، وجانب آخر هو التمكين الذي هو مقتضى وعد الله سبحانه وتعالى. وبين التمحيص والتمكين يثبت من يثبت، ويسقط من يسقط، ويتعرى من يتعرى، ويرقى من يرقى، والله سبحانه وتعالى له الحكمة البالغة والمشيئة النافذة؛ {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 2، 3].
تأملوا أيها العرب وأنتم تقرءون كلامًا عربيًّا فصيحًا مبينًا، إنها سنة ماضية؛ إذ إن ابتلاء المؤمنين هو الذي يميز الصفوف، ويمحص القلوب، ويمتحن خبايا النفوس التي تُخرِج المخبوءات المكنونة، سواء كانت يقينًا راسخًا وإيمانًا شامخًا أو كانت نفاقًا كاذبًا وضعفًا سافلاً، فإن كل ذلك يحتاج إلى هذه المعمعة التي يجري بها قدر الله سبحانه؛ {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 141]، {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف: 51]. هناك في هذه المحن تتجلى المواقف وتبدو.
وهنا قبل أمضي بكم أسأل نفسي وإياكم، وكلنا كان يسمع أو يرى ما يجري من الفظائع والجرائم.. هل ضاقت صدورنا؟ هل اغتمت قلوبنا؟ هل ذرفت بالدمع عيوننا؟ هل كنا نستيقظ جزعين من نومنا؟ هل كنا نشعر بالأسى والألم الذي يمر به أهلنا وأمواتهم أمام أعينهم في الطرقات لا يستطيعون إليهم وصولاً، وأطفالهم يموتون في المستشفيات لا يملكون لهم حولاً ولا طولاً، والمآسي التي لا يستطيع المرء أن يتحدث عنها؟!!
لئن لم يكن ذلك، فنحن نحتاج إلى مراجعة..!!
هل يتحقق فينا قول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الأنبياء: 92]؟ أيتحقق فينا قوله صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ في تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى"؟
إنها ليست شكوى إنها صرخات! إنها أعظم مما يمكن أن تصفه الكلمات والعبارات! فأين التداعي؟ أين السهر؟ ونحن ما تزال القنوات ترقص وتغني، والعواصم تستضيف مغنيات كافرات عاهرات لإحياء الليالي الحمراء وغيرها؟ أين الحُمَّى؟ هل أصابنا شيء منها؟ هل مرضنا؟ هل شعرنا بأسى حقيقي؟!!
أحسب أننا نحتاج إلى أن نستعيد الكثير والكثير من آيات القرآن التي نتلوها، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي نسمعها؛ "الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ وَلاَ يَحْقِرُهُ"، "بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ". ما الوصف الذي يمكن أن نقوله عن إخواننا اليوم في بلاد الشام عامة، وفي حمص خاصة، أليسوا قد أُسلِموا لعدوِّهم؟ أليسوا قد خُذلوا في نصرهم؟ أليسوا قد ظُلموا بالسكوت عما يجري لهم؟!
ألسنا جميعًا مشتركين، شئنا أم أبينا، في شيء من المسئولية عما يجري لهم؟!
لا أريد أن نبرئ أنفسنا ونقول: إن الحكام وجامعتهم العربية الكسيحة لم تفعل شيئًا! لا أريد أن نقول: إن الكافرين من الدول العظمى لم يقدموا المطلوب.
لكننا أنا وأنت أيضًا لم نقدِّم المطلوب الذي هو في مُكْنَتِنا.. أليست دمعتنا عندنا؟ ألسنا نبكي إذا فاتنا شيء من حظ دنيانا، أو ودعنا أخًا أو عزيزًا علينا؟ أين هذه المعاني الإيمانية الإسلامية ونحن نستمع إلى أنه بالأمس فحسب كان حصاد الإجرام واحدًا وأربعين ومائة نفسٍ، منها واحد وعشرون طفلاً وسبع نساء؟! وخلال أسبوع واحد من الجمعة التي انصرمت إلى بدء هذه الجمعة 10 فبراير 2012م، كان الحصاد في حمص سبعمائة وخمسة وخمسين مسلمًا موحدًا من أهل السنة في غالبهم، منهم واحد وسبعون طفلاً واثنتان وثلاثون امرأة!!
هل أسرد القصص؟ هل تعلمون أننا خلال هذا اليوم مع انشقاق فجره وإلى الآن سترجعون إلى بيوتكم ونرجع جميعًا لنأكل الطعام ونشاهد الأرقام التي تظهر على الشاشات، وقد أدمنا النظر إليها على أنها أرقام تُضاف إلى أرقام، وكأن هؤلاء ليسوا من الناس، ليسوا من بني آدم، مع أنهم مسلمون، وبيننا وبينهم آصرة الإسلام والإيمان؟!! ألا لعنة الله على الظالمين! ألا لعنة الله على القادرين المتخاذلين بكل صورة من الصور وكل حالة من الأحوال.
إن أهل حمص مُحِّصوا فثبتوا بحمد لله، ونحن نستمع إلى أصوات القصف ومعها أصوات التكبير تدوي في المساجد، وهم يقولونها صريحة قوية مدوية: ليس لنا إلا الله سبحانه وتعالى!
لكن التمحيص خارج حمص ما زال يخرج نفاقًا وخذلانًا، وما يُنفق تآمرًا وتعاونًا وتثبيتًا وتأييدًا للباطل والإجرام نسمعه صريحًا واضحًا، ونراه في صور من الصمت المهين، ومن التآمر الخفي الذي تتجلى صوره واضحة جلية؛ إذ لم يعد يخفى اليوم أن هناك من يقاتل مع عصبة بشار المجرم من أهل إيران أو من أهل الحزب الذي يدَّعِي المقاومة! في صورة كشفت كل المستور، وأظهرت كل الحقائق؛ ليظهر لنا الأمر بينًا؛ {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42].
والتمحيص لنا ما يزال أيضًا: هل سنحقق الانتصار للحق وأن نكون في صفِّه، وأن نُعلِن الحقائق واضحة جلية، وأن نتقدم لإخواننا بالنصر ولو بهمِّ القلب، ولو بدمعة الليل، ولو بدعوة جوف الليل، ولو بالمال الذي نبذله، وقد فُتحت الأبواب الآن في مكاتب الندوة وغيرها لإعانة إخواننا؟!
يجب علينا ذلك؛ فإن هذا تمحيص إيماننا، وصورة مُقدّمة لتمكُّن وتمكين الإيمان وحقائقه والتسليم بالوعود الربانية، كما أخبر الله سبحانه وتعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]، {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج: 38].
كل ذلك لا بد أن يكون يقينًا جازمًا، وإن رأينا الواقع كأنما يسير بعكسه، فنحن نوقن بأن بعد العسر يسرًا، وبأن بعد الضيق فرجًا، وبأن بعد كل هذه المآسي نصرًا مبينًا قريبًا عاجلاً بإذنه سبحانه وتعالى.. لا تشُكُّوا في ذلك مطلقًا؛ لأن سنن الله -سبحانه وتعالى- قد أثبتت ذلك وبيَّنته؛ {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227].
وإن عاقبة الظالمين كما نعلم عاجلاً غير آجل ستكون هي الاندحار والزوال الذي يقتلعه من جذوره، لو كان الأمر هينًا لربما لم يكن ما يقضيه الله عز وجل، أو ما يكون في حكمته من استئصال الجرم واستئصال امتداداته واستئصال إمداداته؛ حتى يكون الأمر في عاقبته -رغم كل ما قد يكون من التضحيات- أعظم خير وأكبر تطهير يمنُّ الله به على أمة الإسلام والمسلمين.