مقدمة في بواكير الاتصال الإسلامي المسيحي - مقدمة في بواكير الاتصال الإسلامي المسيحي - مقدمة في بواكير الاتصال الإسلامي المسيحي - مقدمة في بواكير الاتصال الإسلامي المسيحي - مقدمة في بواكير الاتصال الإسلامي المسيحي
الدكتور راجح السباتين
مقدمةٌ في بواكير الاتصال الإسلاميّ المسيحي
ّ
ممّا لا شكَّ فيه أنّ البادئ بهذا الاتصال كان رسول الله عندما شرع في دعوة زعامات الغرب وشعوبه وغيرهم، للتعرّف على الإسلام والدّخول فيه، وذلك من خلال بعثه سفراء للإسلام، يحملون رسائله إلى الحُكّام والزّعماء في زمانه. ولعلّ أبرز هذه الرسائل وأشهرها على الإطلاق تلك التي حملها دحيةُ بن خليفة الكلبيّ( ) ـ رضي الله عنه ـ إلى هرقل عظيم الروم( ) "في آخر السنة السادسة للهجرة بعد رجوعه، عليه الصلاة والسلام، من الحديبية، فوصل هذا الكتاب إلى هرقل في المحرَّم من السّنة السّابعة للهجرة، وقال أنس بن مالك [كتب النبيُّ إلى كلِّ جبارٍ يدعوهم إلى الإسلام] وسمّى منهم كسرى وقيصر"( ).
وقد أخرج الإمام مسلم ـ رحمه الله ـ في صحيحه نصَّ هذه الرسالة التي حملها دحيةُ واستلمها منه حاكم بُصرى وسلمّها بيده إلى هرقل وجاء فيها:
"بسم الله الرحمن الرحيم، من محمدٍ رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلامٌ على مَن اتبع الهدى. أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتكَ الله أجرَك مرّتين، وإن توليتَ فإنّ عليك إثم الأريسيين( ). و[يا أهلَ الكتابِ تعالوا إلى كلمةٍ سواءٍ بيننا وبينكم ألاَّ نعبدَ إلاّ الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولَّوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون]( ).
لقد اختار رسولُ الله وقتاً مناسباً تماماً لبعث هذه الرسالة إلى هرقل؛ حيث كان هذا الأخيرُ مزهواً بنصرٍ تاريخيٍّ على الفُرس، نصرٍ كان قد انتظره طويلاً ليُتوِّج به سلسلة انتصاراته وإنجازاته العسكرية حتّى إنّه قد عاهد الله على القدوم للحج( ) شكراً إن نصره على الفرس وأعانه على استرداد الصليب المقدَّس الذي سلبوه من الروم.
"وقد جاء نصرُه التاريخي هذا على الفرس، في نهاية حملته الصّليبية التي بدأت لاستعادة القسطنطينية في شتاء عام 621 للميلاد"( ). وقد وصف "أسد رستم"، مؤرخ الكرسي الأنطاكي، هرقل بأنه "الصّليبي الأوّل وذلك نظراً للواجبات التي قام بها في الدفاع عن الدولة والكنيسة والدّين"( ). إذاً فهرقل هذا الذي راسله النبي لم يكن مجرّدَ قائدٍ عسكريٍ لا علاقة له بالدين، ولكنه كان ذا صلةٍ وثيقةٍ بالكاثوليكية، ومن مظاهر هذا أنه "استشفع إلى العذراء في سنة 609 للميلاد عندما بدأ الاستعداد للحملة على القسطنطينية وتقدّم في الرابع من نيسان سنة 622 للميلاد من المائدة المقدّسة متناولاً جسدَ الربّ ودمه، وكان همّه الأكبر في كل حروبه ضدّ الفرس استرداد الصليب وإعادة نصبه في "أورشليم"، وهذا الذي تحقق له فعلاً في شهر آذار سنة 630 للميلاد"( ).
لقد دلّت هذه الرسالة، وبكلّ وضوحٍ، على حرص الرسول على تعريف شعوب العالم من العرب والأعاجم بالإسلام ودعوتهم إلى اعتناقه وتأكيداً منه على عالمية الدّعوة الإسلاميّة وهذا الدِّين، والذي هو أكبر وأعظم من أن يقتصر على حدود جزيرة العرب. ويشهدُ لصحّة هذا الكلام ذلك العددُ الكبيرُ من الرسائل التي بعث بها النبي، عليه السلام، للحكام من غير العرب، كما كانت هذه الرسائل نواةً أساسيّةً للمخاطبات الرسمية بين رؤساء الدّول ونقطة انطلاقٍ لما يُسمى بـ "حوار الأديان ما بين الشرق والغرب". والقاسم المشترك في رسائل النبي هو حرصهُ، عليه السلام، على تقديم الإسلام والتعريف به لكل الشعوب والأمم وإقامة حجّة التبليغ عليهم بأنّ رسالة الإسلام قد وصلت إليهم عن طريق حكّامهم وزعمائهم. ويُستفاد من الرسالة إلى هرقل وغيرها من الرسائل جدوى وفاعليّة هذا الأسلوب من الأساليب في الدعوة، ويشهد لذلك دخولُ عددٍ كبيرٍ من الناس في الإسلام بسبب هذه الرسائل وذلك بعد إسلام ملوكهم وحكّامهم، ومن هؤلاء "المنذر بن ساوى" والي البحرين، و"الحارث الحميري" ملك اليمن و"جَيْفَر وعبّاد" ملكيْ عُمان آنذاك.
ويُستفاد من هذه الرسائل كذلك أنّ تبليغ دعوة الإسلام للحكّام والملوك هو بالدرجة الأولى من مسؤوليات وواجبات الحاكم المسلم قبل الأفراد المُسلمين؛ "لأنّ ما يقبله الرؤساء من بعضهم قد لا يقبلونه من آحاد الرعيّة"( )، كما يُستفاد كذلك "أنَّ تخصيص الزعماء في إبلاغ الدعوة دليلٌ على عدم وجوب تبليغ كلِّ فردٍ في رعاياهم، لتعذُّر ذلك من جهةٍ، ولأنّ كلَّ زعيمٍ مسؤولٌ عن دعوة قومه إلى ما دُعي هو إليه"( ). ولكنّ السؤال الذي يطرحُ نفسه بقوّةٍ في هذا الموضع، ماذا كان ردّ فعل هرقل العظيم على رسالة النبيِّ سالفة الذِّكر؟ لقد اهتمَّ هرقلُ اهتماماً شديداً بأمر هذه الرسالة وتأمّل في مضمونها بعمقٍ حتى إنّه سأل عن أدق التفاصيل المتعلّقة بأمر بعثة وشخص هذا النبي الجديد، وأمر أتباعه أن يأتوه بأناسٍ من قوم هذا النبي الجديد ليسألهم عن خبره، وقد وافق ذلك مرور رهطٍ من تُجّار قريش متّجهين من الشام إلى غزة من أرض فلسطين في تجارةٍ لهم بقيادة "أبي سفيان"، قبل دخوله في الإسلام، فألقى الجندُ القبضَ عليهم وجيء بهم إلى هرقل وهو لا يزال موجوداً في "إيلياء" (القدس)، فأجلسهم هرقل بين يديه وبجانبهم ترجمانه ووجَّه كلامه لأبي سفيان، الذي روى هذه الحادثة كاملةً فقال: سألني هرقلُ قائلاً: "أخبرني عمّا أسألك من أمره. فقلت: سلني عمّا بدا لك؟ قال: كيف نسبُه فيكم؟ فقلت: محضاً من أوسطنا نسباً، قال: فأخبرني هل كان من أهل بيته أحدٌ يقول مثل قوله فهو يتشّبهُ به؟ فقلتُ: لا. قال: فأخبرني هل مُلكٌ فأسلبتموه إياهُ فجاء بهذا الحديث لتردّوه عليه؟ فقلت: لا. قال: فأخبرني عن أتباعه مَن هم؟ فقلتُ: الأحداث والضعفاء والمساكين فأمّا أشرافُهم وذووا الأنساب منهم فلا. قال: فأخبرني عمَّن صَحِبَهُ أيحبه ويكرمه أم يقليه ويفارقه؟ قلت: ما صحبه رجلٌ ففارقه. قال: فأخبرني عن الحرب بينكم وبينه؟ فقلت: سجالٌ يُدالِ علينا ونُدالِ عليه. قال: فأخبرني هل يغدرُ؟ فلم أجد شيئاً أُغره به إلا هي. قلتُ: لا ونحن منه في مّدةٍ ولا نأمنُ غدره فيها. فوالله ما التفتَ إليها منّي قال: فأعاد عليَّ الحديث، قال: زعمتَ أنه مِن أمحضكم نسباً وكذلك يأخذ الله النبيَّ لا يأخذه إلا من أوسط قومه، وسألتكُ هل كان من أهل بيته أحدٌ يقول مثل قوله فهو يتشبه به؟ فقلتَ: لا، وسألتُك هل كان له ملكٌ فأسلبتموه إياه فجاء بهذا الحديث لتردّوا عليه مُلكه؟ فقلتَ: لا، وسألتُك عن أتباعه فزعمتَ أنهم الأحداث والمساكين والضعفاء وكذلك أتباع الأنبياء في كل زمانٍ، وسألتكَ عمّن يتّبعه أيحبه ويكرمه أم يقليه ويفارقه؟ فزعمتَ أنه قَلَّ مَن يصحبه فيفارقه وكذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلباً فتخرج منه، وسألتكم كيف الحربُ بينكم وبينه؟ فزعمتَ انها سِجالٌ يدالِ عليكم وتدالون عليه وكذلك يكون حرب الأنبياء ولهم تكون العاقبة؛ وسألتكَ هل يغدر؟ فزعمت أنه لا يغدر فلئن كنتَ صدقْتَني ليغلبنَّ على ما تحت قدميَّ هاتين ولوددتُ أني عنده فأغسل عن قدميه"( ).
إنّه من الواضح تماماً أنّ أسئلة هرقل الكثيرة هذه إنما هي أسئلة الباحث عن معرفة الحقيقة، والتي يُستدلُّ من خلالها على صدق نبوّة هذا النبيّ الجديد . في ختام الأمر لم يُسلم هرقلُ، ولربّما كان السبب راجعاً إلى خوفه من ردّ فعل كبراء قومه وحاشيته التي كان فيها عددٌ لا بأس به من البطارقة والرّهبان. ولربّما كان السبب راجعاً بالدرجة الأولى إلى حرصه على المحافظة على عرشه ... ومهما يكن من أمر هرقل السّابق فإنه يُحسَبُ له أنّه أعطى لنفسه الفرصة الكافية والقدر الكافي للتعرّف على حقيقة دعوة الإسلام وأبرز مضامينها وما تدعو إليه، ولم يكن موقفُه موقف المعادي السّاخط الرّاغب في الانتقام من محمدٍ أو الانتقاص من قدره أو المتَّهِم له بالكذب والافتراء.
ومع أن هرقل هذا قد عاصرَ النبيَّ، عليه السلام، إلاّ أنّه لم يقع في عُقدة "الأنبياء الكَذَبة" التي ما فتأت الكنيسة الغربيّةُ تقذفُ بها محمداً ودينه حتّى يومنا هذا، مستندةً في ذلك إلى قول المسيح "لأنّه سيقوم مُسَحَاءُ كَذَبَةٌ وأنبياءُ كذَبةٌ ويُعطون آياتٍ عظيمةً وعجائب حتّى يُضِلّوا لو أمكنَ المختارينَ أيضاً"( )، وِإضافةً إلى ذلك فإنّ هرقل لم يتّهم محمداً، كما فعلتْ كنيستُه الغربيةُ لاحقاً، بأنّه واحدٌ من الكذّابين الذين حذّرَ المسيحُ أتباعه منهم واصفاً إيّاهم بأنّهم (ذئابٌ في ثياب حملان) بقوله "احترزوا من الأنبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب الحملان ولكنهم من داخل ذئابٌ خاطفة"( ).
يُستفادُ ممّا سبق أنّ الرسول الكريم، ، كان السبَّاق في مدِّ يده للحوار مع المسيحيين الروم الغربيين، ودعاهم إلى التعرُّف على الإسلام واعتناقه من خلال الرسالة السابق ذكرها، التي بعثَ بها إلى أعظم زعيمٍ وقائدٍ عسكريٍّ في ذلك الوقت وأنزله فيها المنزلة التي تليقُ به ويحبُّها قلبُه فخاطبه بقوله (هرقل عظيم الرّوم)، ويُستفادُ ممّا سبق، كذلك، أنّ هرقل كان عظيماً في أدبه وتعامله مع هذه الرسالة النّبويّة؛ حيث قرأها وتمعّن فيها وسأل عن أدقّ تفاصيل حياة هذا النبيّ الجديد، واستدلَّ من خلالها على علاماتٍ وأماراتٍ لا تتوفّرُ إلاّ في الأنبياء، وقد تبيَّن لنا من خلال ما سبق ذكره من النّصوص اقتناعه بصدق دعوة رسول الله ، بدليل قوله لأبي سفيان [ليغلبنّ على ما تحت قدميّ هاتين، ولوددتُ أني عنده فأغسل عن قدميه]. والجميل في ذلك كلِّه أنّ هرقل استسقى معلوماته تلك، عن النبي والإسلام، من فمِ رجلٍ كان من ألدِّ خصوم الإسلام آنذاك، ألا وهو أبو سفيان بن حربٍ، الذي أنطق اللهُ لسانه بالحقّ والصّدق وقلبه كارهٌ لذلك. ويُستفادُ مما سبق كذلك أنّ هرقل لم يحتكر الحقيقة لنفسه ولم يكتم أمر محمدٍ ودعوة دينه الجديد ولم يعمل على تشويهها، بل عرضَ نصَّ الرسالة التي جاءته كما هو على حاشيته وقال لهم:
"يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبَّتَ لكم مُلككم؟ فتتابعوا لهذا النبي؟ فحاصوا حيصة حمُرِ الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غُلّقت، فلما رأى هرقلُ نفرتهم وأيس من الإيمان قال: ردّوهم عليّ. وقال: إني إنما قلتُ مقالتي آنفاً أختبرُ بها شدّتكم على دينكم فقد رأيتُ، فسجدوا له ورضوا عنه، فكان ذلك آخر شأن هرقل"( ).
ولا ينبغي لأحدٍ أن يُقلِّلَ من أهمية وفائدة مثل هذا النوع من المراسلات التي سنّها رسولُ الله ، بين الدّول والحضارات ذات الأديان والثقافات المختلفة المتنوّعة، فقد نشط مثل هذا النوع من المراسلات بين كبار بابوات الكنيسة الكاثوليكيّة في روما وبين الحكّام المسلمين، خصوصاً بعد أن استشعر رجالات الكنيسة الخطر الإسلامي ـ كما يصفونه ـ المحدق ببلادهم وكبريات عواصمهم، والتي كانت تتهاوى أمام المدّ والفتح الإسلامي واحدةً تلو الأخرى ... وقد جاءت هذه الرسائل التي بعث بها هؤلاء إلى الحكّام المسلمين وشعوبهم كردِّ فعل على ما كانوا يسمّونه "المشكلة الإسلامية"، عبّروا من خلالها عن اعتزازهم بدينهم المسيحي، وحذّروا المسلمين من الاغترار بانتصاراتهم، ودعوهم إلى اعتناق المسيحيّة كسبيلٍ وحيدٍ للحصول على رضا الربّ والخلاص من عذاب الدنيا والآخرة. ومن أشهر هذه الرسائل التي سجّلها التاريخ الأوروبي ونقلها إلينا رسالتان؛ أولاهما تلك التي بعث بها البابا "إيناس سلفيوس"( ) الملقّب بـ (بيوس الثاني) إلى السلطان العثماني محمد الثاني( ) الملقب بـ (محمد الفاتح) ومما جاء في هذه الرسالة( ): "إنك لا تجهل أمورنا، ولكنك قد لا تعرف قوة الشعب المسيحي: إسبانيا المرابطة، الغال "فرنسا" المولعة بالحرب، ألمانيا الكثيفة بالسكان، بريطانيا القوية، بولندا الجريئة، المجر النشيطة، إيطاليا الغنية التي تملك روحاً عاليةً وخبرةً بفنون القتال. هناك نقاط عديدة من الاتفاق بين المسيحيين والمسلمين: الإله الواحد خالق العالم، الإيمان بضرورة الدين، الجزاء والعقاب في الحياة المستقبلية (الآخرة)، خلود الروح، الاستعمال المشترك للعهد القديم على اعتبار أنه الأساس، كل ذلك أرضية مشتركة، ولكننا نختلف حول طبيعة الرب فقط. شيءٌ بسيطٌ، يمكن أن يجعلك أعظم وأقوى وأشهر رجلٍ في زمانه، وإذا سألت ما هو؟ فليس من الصعب إيجاده، ولن تبحث عنه بعيداً، إنه موجودٌ في العالم كلّه، قليل من الماء تَتَعَمَّدُ به، وتتحول إلى المسيحية المقدّسة، وتؤمنُ بالإنجيل. إفعلْ هذا، ولن يكون في العالم أميرٌ يتفَّوقُ عليك في العظمة، أو يوازيكَ في القوة، وسنجعلك إمبراطور اليونان والشرق. إنّ الأرض التي تحتلُها الآن بالقوة ستحكمها بالحق، وإنّ جميع المسيحيين سيبجّلونك ويجعلونك قاضيهم، ومن المستحيل أن تنجحَ ما دمتَ على شريعة محمد. ولكن فقط إذا تحولتَ إلى المسيحية فستصبحُ أعظمَ رجلٍ في زمانه وبرضاء العالم وموافقته"( ).
وقبل ذكر أبرز الملاحظات على هذه الرسالة فإنه من المستحسن ذكر الرسالة الشهيرة الأخرى، وهي التي بعث بها الراهب الفرنسي الشهير "بطرس المبجَّل( ) لعموم العرب والمسلمين، وجاء فيها: "من بطرس الفرنسي الجنسية، المسيحي العقيدة، الأباتي في الخدمة الكنسية، من أولئك الذين يُطلق عليهم الرهبان ... إلى العرب، أبناء إسماعيل، الذين يتبعون الرجل الذي يُدعى محمداً. قد يبدو غريباً، ومن الممكن أنه كذلك، أنني إنسان كم أنا بعيد عنكم موطناً، وأتكلمُ لغةً أخرى، وأفكّر بصورةٍ مختلفةٍ، وأعرف أن عاداتكم ونمط حياتكم مغايرة لحياتنا ونمط معيشتنا، ومع ذلك أكتب إليكم من عمق الغرب، إلى شعوب الشرق والجنوب، الذي أرجح أنني لن أتمكن من رؤيتهم أبداً"( ). "لكنني أردت أن أجيء إليكم ليس بالسلاح، كما يفعل مسيحيونا في أغلب الأحوال، وإنما بالكلمة، ليس بالبغض والكراهية، وإنما بالمحبة، تلك المحبة، التي يجب أن تكون بين أولئك، الذين يجلُّون المسيح، وأولئك الذين استداروا عنه، بتلك المحبة التي وُجِدَت بين رسل المسيح "تلامذته وحوارييه" والوثنيين. وهكذا، فأنا أيضاً، واحد من عددٍ لا يُحصى من خدم المسيح، بل الأصغر من بينهم ... إنني أحبكم، وبمحبةٍ أكتب إليكم، داعياً إياكم للخلاص، ليس ذلك الخلاص الذي يزول ويتبدّل، وإنما إلى الخلاص الذي يبقى ويدوم ... ليس إلى الخلاص الذي ينتهي مع انتهاء هذه الحياة القصيرة، وإنما إلى ذلك الخلاص الذي يستمر في الحياة الأبدية"( ).
إنّه من المفيد بعد إيراد نصِّ الرسالتين المذكورتين ونصّ رسالة النبي السابقة إلى هرقل، المقارنة بينها وذلك كما يلي:
أولاً: جاءت رسالة النبي دون مقدماتٍ وغير مرتبطةٍ بحدث معينٍ، إنما كانت امتثالاً لأمر الله تعالى الذي أمره بدعوة الناس كافّةً لهذا الدّين، دون أن ينتظروا مقابل ذلك مغنماً أو مكسباً أو مردوداً دنيوياً، والنبي عندما عرض على هرقل الدخول في الإسلام لم يعرض عليه ـ إن هو أسلمَ ـ أيَّ مقابلٍ أو مردودٍ أو تعويضٍ متوقعٍ في حالة خسارته لعرشه إنّما تلخَّصَ العرضُ في (يُؤتك اللهُ أجرَكَ مرّتين) بينما جاءت رسالة البابا إلى السلطان العثماني، إن هو اعتنق المسيحيّة، تعرضُ عليه المزيد من المكاسب والمغانم كتنصيبه إمبراطوراً لليونان والشرق وجعله قاضياً لجميع المسيحيين.
ثانياً: حملتْ رسالة النبي اعترافاً صريحاً وإعلاناً واضحاً بأنّ المسيحيين أهلُ كتابٍ سماويٍّ، وذلك جليٌّ واضحٌ في الآية القرآنية التي خُتمِت بها الرسالة (وقل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سواء... الآية)( ). بينما لم تعترف رسالة البابا بيوس الثاني بالإسلام كدينٍ سماويٍ، ولم تعترف بنوة محمدٍ . وهذا ليسَ موقفاً غريباً أو متفرِّداً لهذا البابا؛ فقد دأب البابوات حتّى يومنا هذا على إنكار نبوّة محمدٍ وعدم الاعتراف بها وطعنوا فيها على الدّوام، وكان إنكارهم لها وطعنهم فيها من أبرز مداخلهم للطعن في الإسلام.
ثالثاً: كان البابا بيوس واضحاً وصريحاً في تشخيصه لأبرز نقطة خلافٍ بين المسيحيّة والإسلام، حسب الفهم المسيحي لها، ألا وهي الخلاف (حول طبيعة الرب)، أي وبتعبيرٍ آخر الخلاف حول ألوهيّة المسيح، والتي ينكرها الإسلام تمام الإنكار وذلك من خلال تقريره لبشريّة المسيح عليه السلام.
وعلى الجانب الآخر تُشيرُ الرسالةُ الأخرى (رسالة بطرس المبّجل) إلى محمدٍ ـ عليه السلام ـ بعبارة [إلى العرب أبناء إسماعيل الذين يتّبعون الرجل الذي يُدعى محمداً]، وهذا لفظٌ غير مُستغربٍ من كبير رهبان فرنسا الكاثوليك الذين كانوا ولا يزالون يُنكرون نبّوة محمد عليه السلام، وهي عبارةٌ فيها من الانتقاص من قدر العرب وقدره عليه السلام، الشيء الكثير خصوصاً إذا ما تذكرنا نصوص العهد القديم (والتي وصفها البابا بيوس في رسالته السابقة بأنّها الأساس) التي تصف إسماعيل وأمه وذريته بأقذع الألفاظ والأوصاف، ولننظر كذلك إلى عبارات البابا بيوس التي تسفِّهُ محمداً والشريعة التي جاء بها [ومن المستحيل أن تنجحَ ما دمتَ على شريعة محمدٍ، ولكن فقط إذا تحولت إلى المسيحيّة فستصبحُ أعظم رجلٍ في زمانه وبرضاء العالم وموافقته]. إنّ الرّبط بين شريعة محمدٍ والفشل من جهةٍ وبين المسيحيّة والعظمة ورضا العالم من جهةٍ أخرى واضح تماماً في الرسالة السّابقة، وليس من المبالغة القولُ إنّ المسيحيين الغربيين وحتى هذه الساعة، لم يستطيعوا أن يُخرجوا أنفسهم من عقدة المقارنة الدّائمة بين محمدٍ والمسيح، عليهما السلام، وهي مقارنة نتيجتها لديهم، أنّ المسيح أفضلُ من محمدٍ؛ لأنَّ الأول إله تجسَّد في صورة الإنسان أمّا الثاني فهو مُجَرّد إنسان ادّعى النبوّة وزعم أنّ وحيّاً سماوياً تنزّلُ عليه!!.
رابعاً: في الوقت الذي اتّسمت به رسالةُ النبي السابقة بافتتاحيّة [سلامٌ على من اتبع الهدى] نرى أن رسالة البابا بيوس اتسمت بروحٍ عدائيّةٍ وحملت طابع التهديد المبطَّن، وركَّزت على استعراض قوّة الشعب المسيحي والدّول المسيحيّة التي وصفها بـ [المرابطة] و[المولعة بالحرب] و[القويّة] و[الجريئة] و[التي تملكُ روحاً عاليةً وخبرةً بفنون القتال] وهذا يُثبتُ أن هذه الرسالة كانت وبالدرجة الأولى، ردَّ فعلٍ على التفوق والمدّ الإسلامي العثماني آنذاك، وكانت "قد كُتبتْ، على ما يبدو، ليسَ من أجل السّعي إلى التفاهم اللاهوتي، وإنما لأهدافٍ سياسيّةٍ وديبلوماسيةٍ ودعويَةٍ"( ). ومن المُستغرَبِ عند الحديث عن مثل هذا النّوع من الرسائل أنْ نرى انحيازاً واضحاً من بعض المؤرّخين لطرفٍ دون آخر من الأطراف التي بُعِثت إليها الرسائل فنرى، على سبيل المثال، أن ريتشارد سوذرن( ) قد أثنى على رسالة البابا بيوس السابقة ثناءً عظيماً، بعد ذكره لترجمتها الكاملة بقوله( ): "ولا أتمالك هنا أن أعبِّرَ من جديدٍ عن إعجابي برسالة بيوس الثاني إلى محمد الثاني، فهي عملُ رجل دولةٍ خبيرٍ بالعالم. لقد جمع كلَّ حجج الأقدمين والمعاصرين في صعيدٍ واحدٍ بطريقةٍ جديدةٍ، فيها السياسة وفيها الجدل. إنها الطريقة التي استُخِدمتْ في مواجهة قسطنطين وكلوفيس واهتديا بها. لكن في حين جرى التركيز هناك على قضايا السياسة والاجتماع؛ جرى التركيز هنا على العقل والمنطق والفوائد العملية التي يمكن أن تتحول إلى بديهيّات. ولم يكتف بيوس بذلك؛ بل ضَّمن ذلك كله في لغةٍ نهضويةٍ رائعةٍ". وقد جاء ثناء "سوذرن" المبالغ فيه على هذه الرسالة كتذييلٍ في ختام مداخلاتٍ وتعليقاتٍ كثيرةٍ رافقت سرده لترجمة نصّ الرسالة، لم يلتزم عند كتابتها أدنى درجات الحياد أو التجرد أو الموضوعية ويشهدُ على ذلك قوله: "تعتبر هذه الرسالة نموذجاً رائعاً للرسائل من هذا النوع؛ تبدو فيها بلاغة إينياس العالية، وحكمته، وعمقه في فهم نفسية العثمانيين،وقدرته على مجاراتهم في كبريائهم. وقد رَكَّز فيها على المسائل الأساسية المؤثرة، وعمد إلى تنظيم البراهين والحجج بطريقةٍ منطقيةٍ واضحةٍ تُظهر فضائل المسيحية ومواطن القوة فيها. ولا تتضمن الرسالة ما يمكن أن يخدش مشاعر العثمانيين وسلطانهم لا من حيث المضمون، ولا من حيث التأدب في مخاطبة السلطان"( )!!!
ولا يصحُّ أن يُفهم ممّا سبق أنّ كلَّ المؤرخين الأوروبيين لا يلتزمون الحياد فإنّ هذا الفهم يجانب الصواب؛ لأنَّ منهم المعتدِل ومنهم الباحث عن الحقيقة ومنهم المدافع عن الحق حتى لو كان في غير صفِّه وعلى غير مذهبه، قديماً وحديثاً، ومن هؤلاء كارين آمسترونج التي ذكرت الرسالتين السابقتين ووصفت بطرس المبجّل بتنحيته التعقُّل والموضوعيّة عندما يتعلّق الأمر برؤية الإسلام، فقالت: "حتى رجل مُنصفٍ كبطرس المبجَّل لم يستطع، إلا أن ينحّي جانباً التعقُّلُ والموضوعية عندما وصل الأمر إلى رؤية الإسلام، وكان لا يزال بحاجةٍ ماسّةٍ إلى رؤيته كدينٍ قائمٍ على العنف وعدم التسامح"( ). وقد جاء وصف آرمسترونج هذا لبطرس المبجل بعد حديثها عن ترجمته المُغْرِضة للقرآن الكريم وتعليقاً على رسالته السابقة للمسلمين، تلك "الرسالة التي ادّعى أنها تتقدم من المسلمين بمشاعر الودّ، ولكنّ عنوان الرسالة وحده يكشف بأية روح كُتبتْ: [موجزٌ بكامل هرطقات مذهب السراسنة الإبليسي] إنه ليتعذر على المسيحية، فيما يبدو، أن ترى الإسلام على أية صورةٍ إلا باعتباره نسخةً فاشلةً من المسيحية. والانتقاد العنيف للمسلمين الذي تطوَّرَ في العصور الوسطى، ولا يزال يؤثر في الطريقة التي يرى بها الغربيون الإسلام اليوم"( ).
يُسَجَّلُ في ختام هذه المقدّمة أنّ الرسائل السابقة التي بعث بها بعضُ كبار المسيحيين الغربيين لزعماء وشعوب العالم الإسلامي إنما كانت تنطلقُ، بالدرجة الأولى، من نظرة الكنيسة الغربية للإسلام وفهمها له، هذا الفهم الذي توافرت له مجموعةٌ من العوامل التي خرجت به عن جادّة الصّواب والسلامة والاستقامة، فكان فهماً عوجاً يستلزم النهوض لتقويمه وتوضيحه وتصويبه. إنّ فهم البابا بيوس الثاني للإسلام إنّما يجسِّدُ ويمِّثلُ فهم كلّ البابوات الذين جاؤوا من قبله للإسلام، وهذا الفهم، الخاطئ طبعاً، لم ينقطع بموت بيوس الثاني بل امتدَّ واستمرَّ حتى هذه السّاعة، وكذا الحال بالنسبة للرهبان؛ فإنّ فهمهم الخاطئ للإسلام هو الآخر لم ينتهِ، ولم يمت بموت بطرس المبجّل، بل استمرَّ حتّى هذه الساعة. وبطبيعة الحال فإنّ فهم الرهبان للإسلام إنما هو امتدادٌ طبيعيٌ لفهم رئيسهم ومُلهِمهم المعصُومِ "البابا".