اعلم – رعاك الله – أن طلب الحلال واجب على كل مسلم , وقد جاء الشرع الحنيف بالحث على السعي في تحصيل المال واكتسابه على أنه وسيلة لغايات محمودة ومقاصد مشروعة، وجعـل للحصول عليه ضوابط وقواعـد واضحة المعالم، لا يجوز تجاوزها ولا التعدي لحدودها كي تتحقق منه المصالح للفرد وللجماعة.
قال تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (168) سورة البقرة.
وقال : {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (69) سورة الأنفال.
وقال : {فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (114) سورة النحل.
ولقد نهى الإسلام عن الكسب الحرام لأنه شؤم وبلاء على صاحبه، فبسببه يقسو القلب، وينطفئ نور الإيمان، ويحل غضب الجبار، ويمنع إجابة الدعاء ,بله إن وبال الكسب الحرام يكون على الأمة كلها فبسببه تفشو مساوئ الأخلاق من سرقة وغصب ورشوة وربا وغش واحتكار وتطفيف للكيل والميزان وأكل مال اليتيم وأكل أموال الناس بالباطل , وشيوع الفواحش ما ظهر منها وما بطن .
ولقد أخبرنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم بأنه سوف يأتي على الناس زمان يتهاونون فيه في قضية الكسب فلا يدققون ولا يحققون في مكاسبهم . فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه، أمن الحلال أم من الحرام؟). أخرجه البخاري في البيوع (2059) .
بل إن بعض الناس لطمعه وشجعه يفتأت على ربه فيجعل الحرام حلالا والحلال حراما ,
قال تعالى : {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ} (59) سورة يونس.
الخوف والحياء من الله تعالى وحسن مراقبته كلها تقي المسلم وتحميه من الوقوع في الحرام , ولقد عرف النبي صلى الله عليه وسلم الحياء الحقيقي تعريفا جامعاً مانعاً فقال , عنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:اسْتَحْيُوا مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ ، قَالَ : قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالْحَمْدُ ِللهِ ، قَالَ : لَيْسَ ذَاكَ ، وَلكِنَّ الاِسْتِحْيَاءَ مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ : أَنْ تَحْفَظَ الرَّاْسَ وَمَا وَعَى ، وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى ، وَلْتَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبِلَى ، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا ، فَمَنْ فَعَلَ ذلِكَ ، فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ.
أخرجه أحمد 1/387(3671) ( الترمذي 4/567 ) . قال الألباني : حديث حسن ،
الروض النضير ( 601 ) ، المشكاة ( 1608 ) .
فإذا نزع الحياء من المرء فانه لا يبالي أكان مكسبه من حلال أم من حرام ؟ .
روى أبو مسعود البدري مرفوعا " إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت " . صحيح ابن ماجة ( 4183 ) // ، الصحيحة ( 684 ) ، صحيح الجامع ( 2230 ).
يقول الشاعر :
إذا لم تخش عاقبة الليالي *** ولم تستح فاصنع ما تشاء
فلا والله ما في العيش خير *** ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
يعيش المرء ما استحيا بخير *** ويبقى العود ما بقي اللحاء
وقال آخر :
ورب قبيحة ما حال بيني *** وبين ركوبها إلا الحياء
فكان هو الدواء لها ولكن *** إذا ذهب الحياء فلا دواء
تقول عائشة -رضي الله عنها-: إنكم لتغفلون عن أفضل العبادة: الورع.
ويقول الفاروق عمر: كنا ندع تسعة أعشار الحلال مخافة أن نقع في الحرام.
ولقد بلغ الأمر عند السلف أنهم إذا جلس الواعظ للناس قال العلماء: تفقّدوا منه ثلاثاً:
فإن كان معتقداً لبدعة فلا تجالسوه فإنه عن لسان الشيطان ينطق،
وإن كان سيء الطُعمة فعن الهوى ينطق،
فإن لم يكن مكين العقل فإنه يفسد بكلامه أكثر مما يصلح فلا تجالسوه.
ولقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمرة حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن)) رواه البخاري ومسلم.
قَالَ أَبُو حَسَّانٍ عِيْسَى بنُ عَبْدِ اللهِ البَصْرِيُّ: سَمِعْتُ الحَسَنَ بنَ عَرَفَةَ يَقُوْلُ:قَالَ لِي ابْنُ المُبَارَكِ: اسْتَعَرتُ قَلَماً بِأَرْضِ الشَّامِ، فَذَهَبتُ عَلَى أَنْ أَرُدَّهُ، فَلَمَّا قَدِمْتُ مَرْوَ، نَظَرْتُ، فَإِذَا هُوَ مَعِي، فَرَجَعتُ إِلَى الشَّامِ حَتَّى رَدَدْتُهُ عَلَى صَاحِبِهِ.( الزهد لابن المبارك 19 , الذهبي : سير أعلام النبلاء 15/411 ,صفة الصفوة لابن الجوزي 2/239 ).
وروي عن امرأة صالحة أنه قد أتاها نعي زوجها ( خبر وفاته ) وهي تعجن العجين فرفعت يدها , وقالت : هذا طعام قد صار لنا فيه شريك ( تعني الورثة ).
بعض الناس يستعجلون في قضية الرزق فهم يريدون الحصول على المال من أي جهة وبأي طريق حتى لو كان من حرام , فالمكسب السريع عندهم هو الغاية المرجوة والهدف المنشود , وقد يتأخر الرزق عن بعض الناس لحكمة يعلمها مقدر الأرزاق ومقسمها ؛ فيحمله استبطاء الرزق على أن يطلبه بمعصية الله و ولقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال فيما رواه عنه ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ليس من عمل يقرب من الجنة إلا قد أمرتكم به ولا عمل يقرب من النار إلا وقد نهيتكم عنه فلا يستبطئن أحد منكم رزقه فإن جبريل ألقى في روعي أن أحدا منكم لن يخرج من الدنيا حتى يستكمل رزقه فاتقوا الله أيها الناس وأجملوا في الطلب فإن استبطأ أحد منكم رزقه فلا يطلبه بمعصية الله فإن الله لا ينال فضله بمعصيته " . (رواه الحاكم , الصحيحة ( 2607 ) ، المشكاة ( 5300 ) .
وجاء في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله - عليه الصلاة والسلام - إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض قيل وما بركات الأرض قال زهرة الدنيا . (البخاري في صحيحه ج 5/ ص 2362 حديث رقم: 6063).
على المسلم أن يعلم علم اليقين أن الأرزاق مقسمة كالآجال , روي عنه عليه الصلاة والسلام- أنه قال: " إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه. والذي نفسي بيده لا يُسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمَن جاره بوائقه " قالوا: وما بوائقه يا نبي الله؟ قال: " غشمه وظلمه، ولا يكسب عبد مالاً من حرام فينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتصدّق به فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث " أخرجه الإمام أحمد في المسند وإسناده ضعيف.
ففي الحرص لا يخلو المرء من تعب وفي الطمع لا يخلو من ذل, وقديما قيل " أذل الحرص أعناق الرجال" . وقال ابن أدهم " قلة الحرص والطمع تورث الصدق والورع وكثرة الحرص والطمع تورث كثرة الغم والجزع " والطمع يُعمي الإنسان عن حقائق الأمور ويُخفي عنه معالمها. وأنشد أحدهم :
جمع الحرام على الحلال ليكثره * * * دخل الحرام على الحلال فبعثره
كثير من الناس يجهل خطورة الكسب الحرام وحكمه وأثره السيئ عليه , ويتهاون في معرفة ما يحصله من أموال , وما يتناوله من طعام .
روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان لأبي بكر الصديق رضي الله عنه غلام فجاء له يومًا بشيء فأكل منه، فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟! فقال أبو بكر: وما هو؟ فقال: تكهَّنتُ لإنسان في الجاهلية وما أُحسنُ الكِهانة إلا أني خدعته، فَلقينِي فأعطاني بذلك هذا الذي أكلتَ منه، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه [ وفي رواية أنه قال: لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها اللهم إني أبرأ إليك مما حملت العروق وخالط الأمعاء [ البخاري في كتاب المناقب، 3554.
ورُوي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شرب لبنًا فأعجبه، فقال للذي سقاه: من أين لك هذا؟ فقال: مررت بإبل الصدقة وهم على ماء فأخذت من ألبانها، فأدخل عمر يده فاستقاء.
وأوصت إحدى الصالحات زوجها وقالت له: يا هذا، اتق الله في رزقنا، فإنا نصبر على الجوع ولا نصبر على النار.
رأيتُ حَلالَ المالِ خيرَ مغَبةٍ * * * وأجدرَ أن يبقى على الحدَثَانِ
وإِياكَ والمالَ الحرامَ فإِنه * * * وبالٌ إِذا ما قدّم الكفانِ
وقال آخر :
لا ترغبنْ في كثيرِ المالِ تكنزهُ * * * من الحرامِ فلا ينمى وإِن كَثُرا
واطلبْ حلالاً وإِن قلَّتْ فواضلهُ* * * إِن الحلالَ زكيٌ حيثما ذُكِرا
ولقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ ، وَمِنْ قَلْبٍ لاَ يَخْشَعُ ، وَمِنْ نَفْسٍ لاَ تَشْبَعُ ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لاَ يُسْتَجَابُ لَهَا. أخرجه أحمد 4/371(19523) .
ولتجعل شعارك : " أما الحرام فالممات دونه " .
فاللهم ارزقنا الحلال وبارك لنا فيه , وجنبنا الحرام وبغضنا فيه .
أيا من عاش في الدنيا طويلا *** وأفنى العمر في قيل وقال
وأتعب نفسه فيما سيفنى *** وجمّع من حرام أو حلال
هب الدنيا تقاد إليك عفوا *** أليس مصير ذلك للزوال
جزاك الله خير الجزاء اخي الفاضل الكريم.