المحامية تغريد جهشان
المستشارة القانونية لجمعية نساء من أجل الأسيرات السياسيات
بعيدا عن الأخبار الأخيرة المفاجئة بإتمام صفقة تبادل الأسرى بين «إسرائيل» وحماس، وبعد الانتهاء من نص بيان تضامن من قبل جمعية «نساء من أجل الأسيرات السياسيات», مع مطالب الأسرى المضربين عن الطعام والمناداة بالحرية للأسرى السياسيين وخاصة الأسيرات، وبعد ليلة بيضاء بحثا وراء المحطات الإخبارية المختلفة، ذهبت صباحا إلى سجن الشارون حيث أنّه كان لي ترتيب مسبق لزيارة الأسيرات الفلسطينيات اليوم الذي صادف اليوم الأول بعد إعلان الصفقة لأرى تحقيق طلبنا الذي تحوّل ولو بشكل جزئي إلى واقع.. الحرية لأسرى الحرية.
كان لقائي الأول بالأسيرة منى قعدان. منى والملقّبة ب»أم النور» التي أتعبها سجنها للمرة الثالثة ووفاة والدتها بعد أيام من الاعتقال الأخير، لم تكن لتر ابتسامة حتى ضائعة على محياها، وها هي اليوم تصدح بالسعادة والابتسام، لتقول لي «بلّغي أهلي بأن يحضٌروا لي إكليل ورد لأضعه على قبر والدتي حال خروجي»، وأمور أخرى تريدها بعد ذلك كلقاء الأخوة جميعا في بيت الوالدة المرحومة على فنجان قهوة «سادة».
إلاّ أنّ البسمة تختفي بسرعة ليحلّ محلّها الألم والقلق، فما هو مصير زوجها إبراهيم حسن اغباريه وأخيه من فلسطيني الداخل المحكومين 3 مؤبدات ويقبعون في السجن منذ 20 عام، حيث عقد زواج منى وهي داخل السجن في فترة محكوميتها السابقة في المحكمة الشرعية في الناصرة،هل سيحظى هو أيضا بالحرية؟؟
بعد هذا اللقاء كان لي لقاء آخر أكثر تأثّرا مع الأسيرتين لينا جربوني وقاهرة السعدي اللتان حضرتا للغرفة وكل واحدة تصيح بأعلى صوتها من البعيد وداعا وداعا تغريد، حتى أنني ظننت لوهلة أنّهما ستخرجان في تلك اللحظة، فقلت لهما لينتظرا على الأقل حتى نهاية اللقاء، فقد لا نلتقي مستقبلا خاصة أنا وقاهرة بسبب إقامتها في مخيم جنين, أما لينا فهي من عرابة البطوف.
الزمن لم يعد يحسب له حساب ولم تعد له قيمة لديهن وكل زمان العالم ينحصر على الأيام القليلة القادمة ليضع قاهرة في دوامة من التفكير, بعيونها الحمراء التي ذرفت أنهارا من الدموع ولم تذق طعم النوم, مَن مِن أولادها الأربع ستحتضنه أولا، وهل تستطيع ضمّ أربعتهم معا بعد ما يزيد عن عشرة سنوات من الفراق القسري؟؟
أسئلة كثيرة تسألها وتقوم لينا بتهدئتها، فقاهرة إنسانة عاطفية جدا، وأكثر ما يشغلها هم أولادها وأولاد العالم، لدرجة أنّها كانت تعتبر كل الأسرى الأطفال في سجن الشارون أولادها وكانت تفنى بخدمتهم كلما استطاعت ذلك.
كذلك لقائي بالأسيرة أحلام التميمي كان حارا ومؤثرا فكما يبدو إنّه اللقاء الأخير، إذ أنّ أحلام لا تحمل هوية فلسطينية، لأنّها كانت تقيم في الأردن مع عائلتها ومن السهل إبعادها إلى هناك.
أحلام كانت رمزا للشموخ الفلسطيني الأسير الذي لم يستطع السجن والسجّان أن يحطّمه ولا حتى لحظة من اللحظات، لا ولا حتى الحكم الذي فرض عليها بالسجن 16 مؤبدا لم يخمد من إيمانها بالطريق الذي اختارته طوعا.
أحلام تزوّجت وهي داخل السجن من ابن عمها الأسير نزار التميمي، الذي من المرجح أنّه من المفرجين عنهم، وقد جرت احتفالات كبيرة من قبل عائلتهم خارج السجن بهذه المناسبة السعيدة الحزينة لوجود العريس والعروس داخل السجن.. تصوروا عرسا بدون عريس وعروس.
وفي هذه الأثناء حضرت مديرة قسم الأسيرات ومعرفتي بها طويلة جدا، سنين كثيرة سادت بيننا علاقة من الاحترام والمهنية، وكان أيضا وداعا حارا، إذ أنّها بنظري تمثّل السجّان أو السجّانة الذي يمكن أن يتحلّى أو تتحلّى بصفات إنسانية بغضّ النظر عن موقعها, وكلماتها لا تزال تدوي في أذني «زه أوشر .. زه أوشر» أيّ «هذه سعادة..هذه سعادة». ولم أكن أشكّ للحظة أنّها تعني سعادة للأسيرات، حيث ذكرت تحديدا عددا من الأسيرات ومنهن قاهره السعدي. طبعا لا أقصد بهذا التعميم فليس كل السجانين والسجانات سواسية وكم من معاناة كانت من نصيبي من قبل الكثيرين منهم لدرجة أنّه في فترة زمنية سابقة وقبل أكثر من خمس سنوات كنت أردد أنني سوف أصاب يوما بالسكتة القلبية أثناء زيارة لسجن نفيه ترتسا.
لقائي الأخير كان حزينا إلى حدّ ما، وأعذروني لعدم ذكر الاسم إذ أنّ الأسيرة وبالرغم من فرحتها كانت تواجه أسئلة صعبة تعبّر من المؤكد عن أسئله للكثير من الأسيرات... ماذا ستفعل عند الافراج؟ هل سيسمح لها أهلها بمتابعة التعليم؟ كيف سينظر إليها المجتمع وكيف سيتقبّلها؟ لمن تتوجه عند مواجهة المشاكل؟ كيف ستتأقلم بعالم تركته منذ أكثر من سبع سنوات وهي بدون شهادة تعليمية ولا مهنة؟ حتى أنّها لا تعرف شكل الحاسوب!
أنهيت زيارتي بمزيج من السعادة والفرح المشوبين بالألم، فهل يا ترى ستكتمل سعادة الأسيرات بالإفراج؟، فهناك الكثير من الغموض الذي يسود مصير عددا من الأسيرات.. إلى أين ستبعد الأسيرة آمنة منى؟ هل يا ترى إلى غزة؟ وهل معنى هذا أنّها لن تستطيع رؤية أهلها مستقبلا؟ بعكس الحال وهي في السجن، فالجميع يعلم صعوبة الحصول على إذن بالدخول إلى غزة.
وما هو مصير الأسيرة ايرينا بوليشوك الأوكرانية الأصل المتزوجة من أسير فلسطيني، ولهما ابنتان ياسمين مع أمها في أوكراينا، وغزالة عند أهل الزوج في القدس.. كيف وأين سيتم جمع شمل العائلة... وأمور وحالات أخرى من السعادة والفرحة والألم لا زالت مطوية في صفحات التاريخ.
( بنحس أعاديك دار الفلك ... وما دار يوما بسعد فلك )
( وإن هم دهر بما لا أقول ... فنفسي الفدا وعلي الدرك )
( بقيت جوادا فلا تحزنن ... لفقد الجواد الذي قد هلك )
( فإن أذنب الدهر في أخذه ... فخير من الطرف ما قد ترك )