مقدمة سورة الزخرف
تعرض هذه السورة جانباً مما كانت الدعوة الإسلامية تلاقيه من مصاعب وعقبات ; ومن جدال واعتراضات . وتعرض معها كيف كان القرآن الكريم يعالجها في النفوس ; وكيف يقرر في ثنايا علاجها حقائقه وقيمه في مكان الخرافات والوثنيات والقيم الجاهلية الزائفة , التي كانت قائمة في النفوس إذ ذاك , ولا يزال جانب منها قائماً في النفوس في كل زمان ومكان .
كانت الوثنية الجاهلية تقول:إن في هذه الأنعام التي سخرها الله للعباد , نصيباً لله , ونصيباً لآلهتهم المدعاة . (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً . فقالوا:هذا لله - بزعمهم - وهذا لشركائنا . فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله , وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم). . وكانت لهم في الأنعام أساطير شتى وخرافات أخرى كلها ناشىء من انحرافات العقيدة . فكانت هناك أنواع من الأنعام محرمة ظهورها على الركوب - وأنواع محرمة لحومها على الأكل: (وقالوا:هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء - بزعمهم - وأنعام حرمت ظهورها , وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه). .
وفي هذه السورة تصحيح لهذه الانحرافات الاعتقادية ; ورد النفوس إلى الفطرة وإلى الحقائق الأولى . فالأنعام من خلق الله , وهي طرف من آية الحياة , مرتبط بخلق السماوات والأرض جميعاً . وقد خلقها الله وسخرها للبشر ليذكروا نعمة ربهم عليهم ويشكروها ; لا ليجعلوا له شركاء , ويشرعوا لأنفسهم في الأنعام ما لم يأمر به الله ; بينما هم يعترفون بأن الله هو الخالق المبدع ; ثم هم ينحرفون عن مقتضى هذه الحقيقة التي يقرون بها , ويعزلونها عن حياتهم الواقعة , ويتبعون خرافات وأساطير:(ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن:خلقهن العزيز العليم , الذي جعل لكم الأرض مهدا , وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون , والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا , كذلك تخرجون , والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون , لتستووا على ظهوره , ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه , وتقولوا:سبحان الذي سخر لنا هذا , وما كنا له مقرنين , وإنا إلى ربنا لمنقلبون). .
وكانت الوثنية الجاهلية تقول:إن الملائكة بنات الله ; ومع أنهم هم يكرهون مولد البنات لهم , فإنهم كانوا يختارون لله البنات ! ويعبدونهم من دونه , ويقولون:إننا نعبدهم بمشيئة الله ولو شاء ما عبدناهم ! وكانت مجرد أسطورة ناشئة من انحراف العقيدة .
وفي هذه السورة يواجههم بمنطقهم هم ; ويحاجهم كذلك بمنطق الفطرة الواضح , حول هذه الأسطورةالتي لا تستند إلى شيء على الإطلاق:(وجعلوا له من عباده جزءاً إن الإنسان لكفور مبين . . أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين , وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم . أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين ? وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً , أشهدوا خلقهم ? ستكتب شهادتهم ويسألون . وقالوا:لو شاء الرحمن ما عبدناهم ! ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون . أم آتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون ? بل قالوا:إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون !). .
ولما قيل لهم:إنكم تعبدون أصناماً وأشجاراً وإنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم , وقيل لهم:إن كل معبود من دون الله هو وعابدوه في النار . حرفوا الكلام الواضح البين , واتخذوا منه مادة للجدل . وقالوا:فما بال عيسى وقد عبده قومه ? أهو في النار ?! ثم قالوا:إن الأصنام تماثيل الملائكة والملائكة بنات الله . فنحن في عبادتنا لهم خير من عبادة النصارى لعيسى وهو بشر له طبيعة الناس !
وفي هذه السورة يكشف عن التوائهم في هذا الجدل ; ويبرى ء عيسى - عليه السلام - مما ارتكبه أتباعه من بعده وهو منه بريء:(ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون . وقالوا:أآلهتنا خير أم هو ? ما ضربوه لك إلا جدلاً . بل هم قوم خصمون . إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل . . .). .
وقد كانوا يزعمون أنهم على ملة أبيهم إبراهيم , وأنهم بذلك أهدى من أهل الكتاب وأفضل عقيدة . وهم في هذه الجاهلية الوثنية يخبطون .
فبين لهم في هذه السورة حقيقة ملة إبراهيم , وأنها ملة التوحيد الخالص , وأن كلمة التوحيد باقية في عقبه , وأن الرسول [ ص ] قد جاءهم بها , ولكنهم استقبلوها واستقبلوه بغير ما كان ينبغي من ذرية إبراهيم:(وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون , إلا الذي فطرني فإنه سيهدين . وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون . بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين . ولما جاءهم الحق قالوا:هذا سحر , وإنا به كافرون . . .). .
ولم يدركوا حكمة اختيار الله - سبحانه - لرسوله [ ص ] ووقفت في وجوههم القيم الأرضية الزائفة الزهيدة التي اعتادوا أن يقيسوا بها الرجال .
وفي هذه السورة يحكي تصوراتهم وأقوالهم في هذا الصدد ; ويرد عليها ببيان القيم الحقيقية , وزهادة القيم التي يعتبرونها هم ويرفعونها: وقالوا:لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم:أهم يقسمون رحمة ربك ? نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا , ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات , ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً , ورحمة ربك خير مما يجمعون . ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون , ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكؤون , وزخرفاً . وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا , والآخرة عند ربك للمتقين . .
ثم جاء بحلقة من قصة موسى - عليه السلام - مع فرعون , يبدو فيها اعتزاز فرعون بمثل تلك القيم الزائفة , وهوانها على الله , وهوان فرعون الذي اعتز بها , ونهايته التي تنتظر المعتزين بمثل ما اعتز به: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه , فقال:إني رسول رب العالمين . فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون . وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون . وقالوا:يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك , إننا لمهتدون . فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون . ونادى فرعون في قومه قال:يا قوم أليس لي ملك مصر , وهذه الأنهار تجري من تحتي , أفلا تبصرون ? أم أنا خير من هذا الذي هو مهينولا يكاد يبين ; فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين ! فاستخف قومه فأطاعوه , إنهم كانوا قوماً فاسقين , فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين , فجعلناهم سلفاً ومثلاً للآخرين). .
وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11)
تشهد بالعلم لخالق السماوات والأرض العزيز العليم . وكلها تشعر القلب البشري باليد القادرة المدبرة , في حيثما امتد بصره , وتلفت خاطره وأنه غير مخلوق سدى وغير متروك لقى " وأن هذه اليد تمسك به , وتنقل خطاه , وتتولى أمره في كل خطوة من خطواته في الحياة , وقبل الحياة , وبعد الحياة !
(لعلكم تهتدون). . فإن تدبر هذا الكون , وما فيه من نواميس متناسقة كفيل بهداية القلب إلى خالق هذا الكون , ومودعه ذلك التنظيم الدقيق العجيب . .
ثم يخطو بهم خطوة أخرى في طريق نشأة الحياة والأحياء , بعد تمهيد الأرض للإنسان وتذليل السبل فيها للحياة:
(والذي نزل من السماء ماء بقدر , فأنشرنا به بلدة ميتاً , كذلك تخرجون). .
والماء الذي ينزل من السماء يعرفه كل إنسان ويراه كل إنسان ; ولكن أكثر الناس يمرون على هذا الحدث العجيب دون يقظة ودون اهتزاز , لطول الألفة والتكرار . فأما محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يتلقى قطراته في حب وفي ترحيب وفي حفاوة وفي استبشار ; لأنها قادمة إليه من عند الله . ذلك أن قلبه الحي كان يدرك صنع الله الحي في هذه القطرات , ويرى يده الصناع ! وهكذا ينبغي أن يتلقاها القلب الموصول بالله ونواميسه في هذا الوجود . فهي وليدة هذه النواميس التي تعمل في هذا الكون وعين الله عليها ويد الله فيها في كل مرة وفي كل قطرة . ولا يبرد من حرارة هذه الحقيقة , ولا ينقص من وقعها أن هذا الماء أصله البخار المتصاعد من الأرض , المتكاثف في أجواز الفضاء . فمن أنشأ هذه الأرض ? ومن جعل فيها الماء ? ومن سلط عليها الحرارة ? ومن جعل من طبيعة الماء أن يتبخر بالحرارة ? ومن أودع البخار خاصية الارتفاع ; وخاصية التكثف في أجواز الفضاء ? ومن أودع الكون خصائصه الأخرى التي تجعل ذلك البخار المتكثف مشحونا بالكهرباء التي تتلاقى وتتفرغ فيسقط الماء ? وما الكهرباء ? وما هذا وما ذاك من الخصائص والأسرار التي تنتهي كلها إلى نزول الماء ? إننا نلقي من العلم على حسنا أثقالاً تحجب عنا إيقاع هذا الكون العجيب , بدلاً من أن نتخذ من العلم معرفة ترهف المشاعر وترقق القلوب !
(والذي نزل من السماء ماء بقدر). .
فهو مقدر موزون لا يزيد فيغرق ; ولا يقل فتجف الأرض وتذبل الحياة ; ونحن نرى هذه الموافقة العجيبة , ونعرف اليوم ضرورتها لإنشاء الحياة وإبقائها كما ارادها الله .
(فأنشرنا به بلدة ميتاً). .
والإنشاء الإحياء . والحياة تتبع الماء . ومن الماء كل شيء حي .
(كذلك تخرجون). .
فالذي أنشأ الحياة أول مرة كذلك يعيدها ; والذي أخرج الأحياء أول مرة من الأرض الميتة , كذلك يخرج الأحياء منها يوم القيامة . فالإعادة من البدء ; وليس فيها عزيز على الله .
ثم هذه الأنعام التي يجعلون منها جزءاً لله وجزءاً لغير الله , وما لهذا خلقها الله ; إنما خلقها لتكون من نعم الله على الناس , يركبونها كما يركبون الفلك , ويشكرون الله على تسخيرهما , ويقابلون نعمته بما تستحقها:
(والذي خلق الأزواج كلها , وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون . لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه , وتقولوا:سبحان الذي سخر لنا هذا , وما كنا له مقرنين , وإنا إلى ربنا لمنقلبون). .
والزوجية هي قاعدة الحياة كما تشير إليها هذه الآية . فكل الأحياء أزواج , وحتى الخلية الواحدة الأولى
وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ (14)
تحمل خصائص التذكير والتأنيث معها . بل ربما كانت الزوجية هي قاعدة الكون كله لا قاعدة الحياة وحدها إذا اعتبرنا أن قاعدة الكون هي الذرة المؤلفة من الكترون سالب وبروتون موجب , كما تشير البحوث الطبيعية حتى الآن .
وعلى أية حال فالزوجية في الحياة ظاهرة ; والله هو الذي خلق الأزواج كلها من الإنسان وغير الإنسان:
(وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون). . .
يذكر الناس بهذه الإشارة بنعمة الله عليهم في اصطفائهم بخلافة هذه الأرض , وبما سخر لهم فيها من قوى وطاقات . ثم يوجههم إلى الأدب الواجب في شكر هذه النعمة وشكر هذا الاصطفاء ; وتذكر المنعم كلما عرضت النعمة , لتبقى القلوب موصولة بالله عند كل حركة في الحياة:
(لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا:سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين). . فما نحن بقادرين على مقابلة نعمته بنعمة مثلها , وما نملك إلا الشكر نقابل به هذا الإنعام .
ثم ليتذكروا أنهم عائدون بعد الخلافة في الأرض إلى ربهم ليجزيهم عما فعلوا في هذه الخلافة التي زودهم فيها بأنعمه . وسخر لهم فيها ما سخر من القوى والطاقات:
(وإنا إلى ربنا لمنقلبون). .
هذا هو الأدب الواجب في حق المنعم , يوجهنا الله إليه , لنذكره كلما استمتعنا بنعمة من نعمه التي تغمرنا , والتي نتقلب بين أعطافها . . ثم ننساه . . !
والأدب الإسلامي في هذا وثيق الصلة بتربية القلب وإحياء الضمير . فليس هو مجرد طقوس تزاول عند الاستواء على ظهور الفلك والأنعام , ولا مجرد عبارات يتلوها اللسان ! إنما هو استحياء للمشاعر لتحس بحقيقة الله , وحقيقة الصلة بينه وبين عباده ; وتشعر بيده في كل ما يحيط بالناس , وكل ما يستمتعون به مما سخره الله لهم , وهو محض الفضل والإنعام , بلا مقابل منهم , فما هم بقادرين على شيء يقابلون به فضل الله . ثم لتبقى قلوبهم على وجل من لقائه في النهاية لتقديم الحساب . . وكل هذه المشاعر كفيلة باستبقاء القلب البشري في حالة يقظة شاعرة حساسة لا تغفل عن مراقبة الله . ولا تجمد ولا تتبلد بالركود والغفلة والنسيان .