مذكرات لاجئ على هامش النكبة ... - مذكرات لاجئ على هامش النكبة ... - مذكرات لاجئ على هامش النكبة ... - مذكرات لاجئ على هامش النكبة ... - مذكرات لاجئ على هامش النكبة ...
نص مجتزأ عن النص المشترك... " مجموعة قصصية "
بقلم: مي هديب
كتب النص بالتزامن مع ذكرى النكبة الفلسطينية الستون
ما بعد 15/5/2008
مذكرات لاجئ على هامش النكبة
فوق تلك التلة التي تطل على مخيم البقعة ، باتجاه طريق جرش القديم ، وقف هو وأولاد الحارة ، ينظرون إلى المخيم بهدوء المترقب ، كيف لهذا التجمع الذي يحمل كل آلامهم اليومية أن يكون قطعة فنية من الاسمنت والاسبست تغيب فيها من بعيد ملامح سوق المخيم، والصف المدرسي البارد، نظر إليه من أعلى، ودهش لمجموعة الأضواء البرتقالية البعيدة، كان ماثلا هناك بين التلال ، كأنه يتنفس وحده بعيداً عن كل ما يحيط به من تلال طرزت بأشجارالزيتون، نظر إلى المسافات بينهما، كيف له أن يكون جميلاً بهذه الشاكلة، ومنعزلاًحين لا طرق تؤدي إلى الغرب، الغرب الذي وجده دائماً في خربشة متكررة على خزانات المياه فوق أسطح [ الدور ] كتب عليها الكثير، وممرات تعبر به دائما إلى الغرب،الغرب يمثل في كل شكل يصادفه، وكل التواقيع تكون [ حارة نسيها الزمن] ، أكانت حارة واحدة أم كل الحواري، هل كان مخيم نسيه الزمن، فانقطعت صلته الدائمة بالزمن، هل توقف المخيم عن الزمن، وتمسك وراء حنفيات المياه بأصول الوقت المدرج دائماً أمام لوحة الأنروا [ إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطنيين].
_1_
سعيد أبو الورق هذا ما فهمته تلك الطفلة حين قدمت من أرض بعيدة جداً ، صحراوية جداً، كان يلم الورق في زقاق المخيم، تركزت عيناها معه ، حين كانت تتوجه عبر زقاق المخيم إلى مدرستها، لتراه يلم الورق، كثير هو ورق المخيم ، كل ما كانت تفهمه أن هناك حركشة من أطفال المخيم كافة بهذا الرجل، بينما رجال المخيم ينهرون الأطفال، [انصرفوا ، يلعن أبوك أنت وهو]
لا لماذا يلم الورق ، كان هناك جواب من ضمن ألف إجابة [ من كثر ما قعد ع خازوق كرسي الكهربا ] ربما كان هذا بعد حرب أيلول !!
لم تكن لتعرف هذه الطفلة ماذا يعني كل هذا ، لكن في ذاكرة بعيدة جداً، قال لها أبوها أن هناك وراء الجبال على مسافة غير بعيدة غير قريبة هناك تقع من جعلت سعيد أبو الورق موجودا في طفولتها.
كثر مجانين تلك الخارطة، وكلما كبرت أكثر توضحلها ، أن أكثر الناس ظاهريا عقلانية ، هم أكثر الناس جنونا بتلك الخارطة .
لازالت الطفولة تراوح مكانها بين جنبات القيد وكسره.
_2_
هي شذرات لا تنتهي من طفولة وقف على أعتابها التعب الصباحي ، حين تقف في وسط ساحة تسليم المؤن، كانت تكره ذلك اليوم ، فعليها أن تحرس شولات الطحين والسكر وأكياس الحليب ، وعلب رب البندورة.
المشهد يكتمل بوقوف أمها منذ الصباح في ذلك الطابور حتى تستلم وتبدأ تعطيها هي وأخوتها المؤن ، يجب أن يحرسوا مؤنهم ،لأن يجدو لبن رائب ولبنة نتاج الحليب ، ويجدو خبز ذلك الشهر .
تجار المؤن أصواتهم مزعجة " الطحين مضروب ، بحكوا انه الحليب فاسد ، العدس مدود " أصوات لاتنتهي أبداً ، ومناوشات بينهم وبينها كل شهر ، فلا بد أن تدعي أو يدعى أحدهم أن هذا الشوال له أو لها ، وهم كلهم يقفون للحراسة ، فحراسة مؤنهم أهم وأصعب مهمام هذا اليوم
شذرات التعب التي تكبدتها طويلاً في طفولتها ، امتدت لترى ذلك الصبي الذي يجر العربة، تتمنى لو أنها بها مقدرة على جر العربة معه ، فمنظره يتعبها ، يخلق لديها كافة الأسئلة ، كيف يستطيع ، لا بد أنه متعب .
شذرات لم تنتهي أبدا ، حين كانت تحمل أمها الكرت الأزرق ، تسابق الناس منذ الصباح ، حتى تأخذ مكان مبكراً، فلا تقف طويلاً في برد الشتاء، ولا في لهب الصيف، تلك الصورة التي تكررت شهريا دونما أن تجد إجابة لسؤال بريء [ لو كنا هناك ! هل كنت سأقف دائماً هكذا؟ ] سؤال لم تجد إجابته بعد
شذرات المؤن ، وهو يجر العربة ، وهي تقف لتحرس المؤن ، شذرات ترسخت، حتى وصلت إلى حد الانتفاض على المؤن ، ويوم المؤن
يؤلمني المشهد ...ولكنه يحيى في داخلي ذكرى لكنه أقل ما يقال عنها غالية وثمينة ..
لا أدري لما نحب ذكرانا الأليمة ..ولماذا نتمسك بها لربما لأنها سبباً لأننا تفوقنا على أنفسنا ...
ااااه كان هذا الطفل يجر العربة يوصل المرأة وقد استلمت مونتها 24 علبة سردين وعلبتين لحمة ..وعدس وأرز وقنينة زيت و25 كيلو طحين ..
اااه على ذاك الفتى الذي يجر على عربته "بكس الخضرة" من الحسبة القديمة ويطلع طلوع الطيبات حالياً حتى يوصل سوق الوحدات ...
ليس عيباً الشقاء ..ان كان مدعاة للتحرر
ولكن أن يبقى الشقاءُ شقاءً.....هو المأساة
شتات وشتات وتستمر المسيرة ... نذهب ونبتعد ونقترب لنثبت ان المخيم هو جنة الشتات والابتعاد
قلم يكتب بلا هوادة وينسج الحروف ويصنع منها شالا للمرارة والسعادة معا ... قلم جاء الينا دون مقدمات واعادنا بسخريته وواقعيته الى الماضي والحاضر ... طوبى لك يا وطني طوبى لابناؤك طوبى لقلمك يا مي
دعوني انحني برفق لهذه الكلمات الرائعة
واسمحوا لي فإن دموعي تأبى القيود...
يا وطني ,, ويا ايها الشعب المناضل الصابر
كان الله في عوننا,, وأنال خيرا كل من صبر على جمر تلك النكبات
وكما قال أحدهم :
لا يشعر بالحرب إلا من حمل فراشه على ظهره وأمسك بأولاده هاربا من الموت
فطوبى لكل فلسطيني مهاجر كم من آلام استحمل
آلام الرحيل ومشاااقّه ,,وآلام التمييز والظلم
وللآلام بقية...
إلى من مروا بالذاكرة ... ذاكرتهم هم .. ذاكرتي أنا ... ذاكرة الوطن أسجل التحية والتقدير
من ذاكر الجيل الثالث نسجل :
ما قبل التاريخ :
حين كانوا يلعبون في تلك الصحراء البعيدة عن كافة الأشياء، تلك التي خرجت من آهات سرير رقم ( 12 ) ، وجعلت منهم ينظرون إلى الخوذات على أنها أمر كرتوني ، غير مفهوم بعد، كانت كل الأفكارتتعلق بتقليد توم آند جيري في التعامل معهم ، كانوا دائما يخرجون منتصرين في هذه اللعبة، لم يعرفوا يوماً سوى أحلام النصر ضد كل الخوذات.
الصف الأول
كنّ يلعبنّ دائماً دونما أن يهم أي منهن سوى جكر أولاد الحارة، هناك في تلك الصحراءالغريبة البعيدة .
الصف الثاني
ركضت إلى البيت باكية، تشكو ابنة الجيران لأبيها
قالت له باكية حين وصفتها شرين بالغبية : [ مش أنا فلسطينية ! ]
قال لها : نعم أنتي كذلك
قالت : ولماذا قالت لي شرين أني غبية حين قلت لها أني فلسطينية؟
حاول أن يفهم الموقف أكثر ، فشرين سألتها [ من وين إنتي ! ] ، فكانت إجابتها سريعة [ أنا فلسطينية] ، كانت شرين تحاول أن تفهم من أي القرى هي ، فقد أفصحت عن كونها من الرملة ، بينما هي لم تكن تعرف سوى مكان واحد يدعى فلسطين ، بغض النظر عن باقي التفاصيل التي تحويها.
إجابة أبيها كانت [ فلسطين يا با بلد كبيرة فيها مدن وقرى كثيرة ، وإنتي من قرية ... قضاء ..]
أغضبتها الإجابة لتخرج بكلمات غاضبة [ يعني أنا مش فلسطينية !!! ] هي لم تفهم بعد
وتطرح الورقة الأولى في ما قبل التاريخ ..
ساعة النوم، ساعة الصحو، حركة لا تنتهي عند ساعة طابورالصباح، أماماً عالياً أسفل خبط، كلهم يرددون[ الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين ، إياك نعبد ، وإياك نستعين، اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم، ولا الضالين، آمين ] صدق الله العظيم .تتوجه طوابير البشر الصغيرة نحو تلك الغرف الموزعة في الساحة، إنه كانون الثاني، وغرف الصف الاسبستية، كانت تجلس في الصف الأول من الكراسي، تمنت لو أنها أطول قليلاً حتى تذهب إلى آخر الصف، فالباب لا يٌغلق، والريح الباردة تلسع جسدهاالصغير
- مس بدي أروح ع الحمام
- ممنوع.
[بس لازم أروح ]، ودت لو صرخت بهذه الكلمة عالياً، كانت تنظر إلى ملابس المعلمة، وتحسدها، فهي لا بد تشعر بالدفئ، لكن فكرة أن المعلمة تشعر بالدفئ لم تطرد من رأسها وجوب الذهاب إلى الحمام، بدأت تتحرك في مكانها، حتى لا تتبول في مكانها، بقيت هكذا لخمس دقائق، لكنها لم تستطع أن تصمد أطول من هذا، فبالت في الكرسي، قامت الطالبة التي بجانبها تصرخ.
- الله يقرفك.
بدأت تبكي، فشعورها بالخجل والخوف والارتباك سيطرت على جملة تتردد داخلها [ ما أنا طلبت أروح ع الحمام وبردانة وهي دفيانة وأنا حكيت بدي أروح عالحمام ] ، اقتربت المعلمة، كي تستكشف الحاصل، وبدأت تصرخ في وجهها
- يا حيوانة كان حكيتي، بضلكم ولاد مخيمات.
صفعتها على وجهها، تمنت لو أنها تموت في هذه اللحظة، كرهت المخيم، كرهت أمها التي لم تدفئها جيداً حتى تخرج إلى مواجهة البرد، كرهت أباها الذي لا يعمل، أحست بالعجز التام، ودت لو أنها تركض هاربة من مجموعة العصي التي تلقتها على يدها، ومن نظرات الفتيات في الصف، ومن اشمئزاز زميلتها في الكرسي، كلهم ينظرون إليها كمجرمة، وشعورها بالبرد ازداد من لفحات الهواء التي تبرد جسمها المبلول ووجهها المبتل تماما بالدموع، يومٌ كامل وهي جالسة في آخر الصف، ساقاها تصطكان كأسنانها، الشعور بالبرد، ورائحة ملابسها الكريهة، ومعلمة تنعتها بالحيوانة ، سخرية الأخريات منها، حين انتهى اليوم الدراسي، تأخرت في المدرسة، حتى لا تكون محط سخرية بنات المخيم، وصلت إلى البيت متأخرة، وبدأت تبكي.
كفصل آخر في حياتها، [ بتضلكم ولاد مخيمات... يا مقرفات ... يا حيوانات] هذه اللهجة المدنية الغريبة عن أذنها، كانت تتمنى أن يمر يوماً دونما أن تشعر بالحرج أمام هذا اللسان، إنتفاضة داخلها ضد القهر والفقر والكلام البذيء، كفصل آخر في ذاكرتها، تبقى تراوح أحلامها باتجاه الغرب، قالت لأمها مساءً
- ليش جبتونا ع هانا؟
- يما يا حبيبتي مش احنا الي جبناكم ع هانا.
- مين يما !
- اليهود يما.
عشر سنوات في الحياة، غير متصلة مباشرة بهناك الغربية، فكيف ستصدق أنها أتت هنا دون أن تريد ذلك؟!
حين ذهبت للنوم بقيت تردد [ عاد والله حكتلها إني بدي أروحع الحمام ، بس نيالها أواعيها حلوة ودافية ونفسي يكون عندي زيها].
بعد التحية لكل العائدين تحريراً... لكل المقيمين في الشتات قسراً .. ولكل من مر هنا يحي الذاكرة قليلاً رويداً.. ربما بكثرة
كرت ولون
تلتقي العيون الصغيرة، تتنهد في العودة إلى بعض الذكريات التي ملئت الأفواه وما ملئت القلب إلا بالجزع من الاستمرار، أكان المرض في التسمية أصلاً يعود بنا إلى حيث المربع الأول دائماً، نادت المعلمة في هذا الوقت من هنا لاجئ ومن هنا نازح؟ لم يٌفهم السؤال أو الغرض منه، رفعت تلك الطفلة يدها متسائلة، أطالت المعلمة نظرتها إلى الطفلة، كيف تجيب طفلة لم تتجاوز الست سنين بعد؟ المخرج كان عبر الأهالي، قالت لهن
- اللي عندو كرت أصفر يرفع إيدو
رفعت ثلاثة فتيات أيديهن. ووجهت السؤال مرة أخرى
- اللي عندو كرت أبيض يرفع إيدو..
رفعت الفتيات أيديهن الصغيرة وبقي ذات الطفلة بعيونها تتسائل ماهو الكرت الأبيض وماهو الكرت الأصفر؟ اقتربت منها وطلبت إليها أن تسأل أمها، وكررت الطلب إلى باقي طالبات الصف، لتتأكد كل واحدة منكن ماهو الكرت الذي يحملها أهلها.
بعد كل هذه السنين لا زال الموقف يتكرر كرت أصفر كرت أبيض وأضيف إلى معرفتها وجود كرتين آخرين هما الأزرق والأخضر، وتبقى الألوان تحدد مكان وسير الحياة لديهم أجمعين، هل كان هناك ظلمٌ واضح في كل هذا؟ أم أنه مجرد قدر البشرية يفرض نفسه بألوان الوثائق، يتبادر إلى ذهنها دائما ذلك التساؤل هل كان هناك من يملك الجبة كاملة حتى يوزع الناس ألواناً وأرقاماً، من لا يحمل الرقم تنفى عنه فكرة الوجود، وكم تعرف من لا وجود لهم ضمن سلسلة الأرقام التي لا تقبل أن تكسر أنين الصمت في عيشهم مهما تلون، لا نتحدث هنا عن من نفذوا من السكين، ولا نتحدث هنا عن من لم يرتشف من فنجان التدفق الجارح لديهم، بل نتحدث عن من سكنوا تسعين متراً كبيت، فقط تسعين متراً، لا ليس عنصرية وليس إلتجاء مغاير، إنما فقه اللغة هو، فقه الواقع هو، ما هو إلا شعور بالغربة يلاحقها دائماً، لا تستطيع أن تصرخ بتلك العبارة لكل من يغربها " أنا عربي يا حمار " ، وأوجعها كم المطلوب في الهوية، تتذكر بكل سلاسة أن الهوية بنت اللحظة، ولكن الإرث لن يغفر لها أن تتجاوز ذلك، فلا هوية هنا لتكن بنت الولادة، ولا ولادة هنا أصلاً، هنا مجرد تكاثر متسلسلٌ يطفوا على سطحه بعض التفكير، وبعض الاهتمام ومملحة تدعى أن الموت سبيلٌ للتغير، وأن الحياة قيمة لا معنى لها أصلاً، يخطر ببالها لا إنسانية الشقيق حين اشتمت غاز مسيل للدموع لم ينقذها يومها سوى البصل والسجائر، أضافوا إلى ذلك غاز الأعصاب، ومات حمزة بهرواة الشقيق، على مدار تلك السنين مات أكثر من حمزة، لكن حمزة هذا لم يكن سوى طفل لم يتعدى السبع سنين! لماذا؟ فقط لأنهم رغبوا قليلاً بأن يبكوا بصوت عالٍ حباً في الوطن.
تصادر الرغبات هنا، فأنت أن جاهرت بها عالياً تدوسك الأقدام أقدام الأشقاء وغيرهم، حتى أبناء جلدتك يوجهون لك تهمة الاغتراب، يأتيها ذلك السؤال
- ولك ع شو بتدوري ع فلسطين ؟
كيف تثبت أن فلسطين ليست مجرد رقم وهوية، وأنها مجردة عن هذا، كيف تثبت لأبناء الجلدة أنها مسؤولة تجاه نفسها، وتجاههم هم؟ أسئلة تحضر بقوة في بال المكروب بأبناء الوطن، وبالوطن نفسه، يحضرها الشاعر حين يقول
وأنا حسبي أني ولدتني كل نساء الأرض
وأن إمرأتي لا تلد ...
إنما تصرخ فقط للتنويه أنها هي من لم تلد، وأنها تبحث عن الولادة مراراً وتكراراً، حتى تحمل تلك الهوية دون أرقام، يحملها الوطن ويحملها الشتات ويحملها الرقم، وهي تحمل كل هذا دون تثبت الهوية.
ذاكرة لا تنتهي يوماً إلا حين تقطر الدماء صاعدة لا نازلة تحاسب كل نفحة غاز شقيق، كل هرواة قتلت حمزة، تحاسب كل أشقر هيمن يوماً عليها تكابده مرارة عيشها واغترابها، تحاسب هذا التاريخ وموسيقى لم توجه البوصلة يوماً إلى نفحات القدس دون ثمن ...
إلى من مروا بالذاكرة ... ذاكرتهم هم .. ذاكرتي أنا ... ذاكرة الوطن أسجل التحية والتقدير
من ذاكر الجيل الثالث نسجل :
ما قبل التاريخ :
حين كانوا يلعبون في تلك الصحراء البعيدة عن كافة الأشياء، تلك التي خرجت من آهات سرير رقم ( 12 ) ، وجعلت منهم ينظرون إلى الخوذات على أنها أمر كرتوني ، غير مفهوم بعد، كانت كل الأفكارتتعلق بتقليد توم آند جيري في التعامل معهم ، كانوا دائما يخرجون منتصرين في هذه اللعبة، لم يعرفوا يوماً سوى أحلام النصر ضد كل الخوذات.
الصف الأول
كنّ يلعبنّ دائماً دونما أن يهم أي منهن سوى جكر أولاد الحارة، هناك في تلك الصحراءالغريبة البعيدة .
الصف الثاني
ركضت إلى البيت باكية، تشكو ابنة الجيران لأبيها
قالت له باكية حين وصفتها شرين بالغبية : [ مش أنا فلسطينية ! ]
قال لها : نعم أنتي كذلك
قالت : ولماذا قالت لي شرين أني غبية حين قلت لها أني فلسطينية؟
حاول أن يفهم الموقف أكثر ، فشرين سألتها [ من وين إنتي ! ] ، فكانت إجابتها سريعة [ أنا فلسطينية] ، كانت شرين تحاول أن تفهم من أي القرى هي ، فقد أفصحت عن كونها من الرملة ، بينما هي لم تكن تعرف سوى مكان واحد يدعى فلسطين ، بغض النظر عن باقي التفاصيل التي تحويها.
إجابة أبيها كانت [ فلسطين يا با بلد كبيرة فيها مدن وقرى كثيرة ، وإنتي من قرية ... قضاء ..]
أغضبتها الإجابة لتخرج بكلمات غاضبة [ يعني أنا مش فلسطينية !!! ] هي لم تفهم بعد
وتطرح الورقة الأولى في ما قبل التاريخ ..
ساعة النوم، ساعة الصحو، حركة لا تنتهي عند ساعة طابورالصباح، أماماً عالياً أسفل خبط، كلهم يرددون[ الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين ، إياك نعبد ، وإياك نستعين، اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم، ولا الضالين، آمين ] صدق الله العظيم .تتوجه طوابير البشر الصغيرة نحو تلك الغرف الموزعة في الساحة، إنه كانون الثاني، وغرف الصف الاسبستية، كانت تجلس في الصف الأول من الكراسي، تمنت لو أنها أطول قليلاً حتى تذهب إلى آخر الصف، فالباب لا يٌغلق، والريح الباردة تلسع جسدهاالصغير
- مس بدي أروح ع الحمام
- ممنوع.
[بس لازم أروح ]، ودت لو صرخت بهذه الكلمة عالياً، كانت تنظر إلى ملابس المعلمة، وتحسدها، فهي لا بد تشعر بالدفئ، لكن فكرة أن المعلمة تشعر بالدفئ لم تطرد من رأسها وجوب الذهاب إلى الحمام، بدأت تتحرك في مكانها، حتى لا تتبول في مكانها، بقيت هكذا لخمس دقائق، لكنها لم تستطع أن تصمد أطول من هذا، فبالت في الكرسي، قامت الطالبة التي بجانبها تصرخ.
- الله يقرفك.
بدأت تبكي، فشعورها بالخجل والخوف والارتباك سيطرت على جملة تتردد داخلها [ ما أنا طلبت أروح ع الحمام وبردانة وهي دفيانة وأنا حكيت بدي أروح عالحمام ] ، اقتربت المعلمة، كي تستكشف الحاصل، وبدأت تصرخ في وجهها
- يا حيوانة كان حكيتي، بضلكم ولاد مخيمات.
صفعتها على وجهها، تمنت لو أنها تموت في هذه اللحظة، كرهت المخيم، كرهت أمها التي لم تدفئها جيداً حتى تخرج إلى مواجهة البرد، كرهت أباها الذي لا يعمل، أحست بالعجز التام، ودت لو أنها تركض هاربة من مجموعة العصي التي تلقتها على يدها، ومن نظرات الفتيات في الصف، ومن اشمئزاز زميلتها في الكرسي، كلهم ينظرون إليها كمجرمة، وشعورها بالبرد ازداد من لفحات الهواء التي تبرد جسمها المبلول ووجهها المبتل تماما بالدموع، يومٌ كامل وهي جالسة في آخر الصف، ساقاها تصطكان كأسنانها، الشعور بالبرد، ورائحة ملابسها الكريهة، ومعلمة تنعتها بالحيوانة ، سخرية الأخريات منها، حين انتهى اليوم الدراسي، تأخرت في المدرسة، حتى لا تكون محط سخرية بنات المخيم، وصلت إلى البيت متأخرة، وبدأت تبكي.
كفصل آخر في حياتها، [ بتضلكم ولاد مخيمات... يا مقرفات ... يا حيوانات] هذه اللهجة المدنية الغريبة عن أذنها، كانت تتمنى أن يمر يوماً دونما أن تشعر بالحرج أمام هذا اللسان، إنتفاضة داخلها ضد القهر والفقر والكلام البذيء، كفصل آخر في ذاكرتها، تبقى تراوح أحلامها باتجاه الغرب، قالت لأمها مساءً
- ليش جبتونا ع هانا؟
- يما يا حبيبتي مش احنا الي جبناكم ع هانا.
- مين يما !
- اليهود يما.
عشر سنوات في الحياة، غير متصلة مباشرة بهناك الغربية، فكيف ستصدق أنها أتت هنا دون أن تريد ذلك؟!
حين ذهبت للنوم بقيت تردد [ عاد والله حكتلها إني بدي أروحع الحمام ، بس نيالها أواعيها حلوة ودافية ونفسي يكون عندي زيها].
يتبع ....
يا الهي ... هذه الأحداث ..كانت ترافقنا أينما ارتحلنا ... في الصغر لم أكن أعلم لماذا أبي العجوز يصر على تعليمنا رغم ضيق الحال ..لماذا؟!!
لماذا لأنه الاصرار على الخروج من بوتقة العجز والصمت عن أسئلة الأبناء لماذا ...
الطفل الذي لم يكن بحوزته سوى "القرطة" ولكن ثمن "الساندوشة" شلن !!
والطفل الذي لا يملك اباه ثمن كاز البابور ليسخن الماء فيتحمم ..وأولاد صفه يعايروه !!
كم كنت أدافع عن هؤلاء ليس لاني واعٍ بهذا القدر حينها بل لما كان يزرعه فيني ابي واخوتي :..كن مع الناس البسطاء ..هذول من ثوبنا ..ساعد غيرك غيرك بساعدك ..لا تتكبر الله أكبر ..
لماذا عندما كان أخي يسالني وين رحت بمصروفك ..كنت أخاف اقله اعطيت الولد منه فيقلي "اخص خاوة عليك الولد ..ضحك عليك" ولكن عندما كشفني تفاجأت قلي مش غلط ..الله يعين الناس
ذلك الرجل الذي طالما أطلق عليه لقب المسكين الغبي ، أشكال من الوصف التي لم تنتهي في وصفه بالسذاجة ، وعدم القدر على فرض نفسه في تاريخ تلك العائلة كرجل ، بينما كانت تتسرب سلطته التقليدية إلى زوجته ، كان هو يغيب في كتمان الطي ، في كافة المجالس التي يعرفها الرجال ، حمل ضعفه الموجود من قريته إلى كافة أشكال الحياة ، في أبسط تصرفاته لم يكن ينتمي إلى أحد منهم ، هو مجرد رجل وجد لينجب الكثير من الأبناء ،الذين لم يظهروا في صورة كاملة في عيون عفراء ، فقط هي من كان يقدم له وقتا معيشيا في اللعب بين أشجار بيته الجميل ، وفي مطبخه الرث المتهالك ، كان يعيش وحيدا ، رغم كثرة أبنائه ، وقرب إبنته منه ، لم يكن يشكل محورا بكل الأحوال لأي من أفراد هذه العائلة الكبيرة جدا ، التي وزعت نفسها بشكل متناسق في أحياء عمان ، فقط هو وأشجاره من كان يسكن ذلك البيت ، لكن تسلل عفراء إلى حياته اليومية ، جعل لوقته معنى آخر ،جعله يخاطبها كأنها الوحيدة التي أنجبها ، وهي لم تنفي بدورها هذا الوضع ، علمها كيف تخاطب الشجر ، تلك الاثنا عشر شجرة من العنب ، وشجرة الخوخ المطلة على الشارع، وتلك التينة الغضة، كلها كانت تكبر مع ذلك الرجل، شعرت للحظات كثيرة أن هذه الأشجار هي ملكها ، وهو أيقن ذلك بكل ود ، فيما هو يعد ساعاته الأخيرة في تلك الدنيا ، كان قد بدأ يفقد عقله بشكل واضح ، ويعاني من سنون تسعين لم تحمل له سوى أولاد لم يفهموا تعلقه بالشجر ، والمهنة الوحيدة التي يفهمها ، ترك وحيدا في ذلك البيت ، حتى بوجود عفراء فكان وحيدا تماما ، لكن أكثر ما آلم عفراء موته بعيدا عن شجره ، حين جاءها الخبر وهي في مريولها الأزرق على عتبات الخروج من مدرستها ، أتت إبنة عمتها لتقول لها " سيدي حسن مات" ، أتاها الخبر كأنه صاعقة ، وقفت قليلا مرت الشهور الأربعة التي عرفت فيها جدها حسن ، شعرت أن تلك الشهور القليلة إنما كانت أطول أيام عمرها ، في ذلك الحين إعتقد الكثير أنها لن تسمح لأحد بأن يمس تلك الشجيرات ، إلا أنها اعتقدت أن موعد موت الشجر كان لا بد أن يدنو ، لاعتقاد حميمي منها أنها روح جدها ويجب أن تهدأ ، ويجب أن تذهب ، فكلما رأت تلك الداليات شعرت أنها تبكي ويجب أن يكف البكاء ، فالرجل عاش وحيدا ، ومات وحيدا ، عاش مهانا ومات مجنونا ، لم ترغب بأن تسمع أحكام الجميع عنه ، فهو ليس ساذج ، إنما مهادن في ريح عائلة زوجته القوية ، وربما كان يعرف أنه كان دخيلا على تلك العائلة ، مجرد رجل تزوج فتاة في سن الخامسة عشر ، في وقت عرف أن سن الزواج كان التاسعة أو العاشرة، لم يستغل تلك النقطة لأنه أيضا متأخر جدا في الزواج ، لم يرغب أحد في تزويج إبنته من إبن رجل عرف عنه الربى والظلم ، تأخر كثيرا في الزواج حتى بلغ الثلاثين ، في ذلك الوقت حين تزوج من أم أبنائه كان غير مرغوب به ، وكانت تلك الفتاة العانس ، عانسا لأن أحد من أبناء القرية لم يكن جديرا بدفع مهرها ، خوف والدها من أن تستمر في عدم الزواج جعله يرتضي بإبن المرابي زوجا لها ، معادلة من الظلم الذي مورس عليه، ليتحمل ربى والده وظلمه ، في حين حاول دائما محو هذه الصورة ، استمتع الكثير من رجال القرية في استعادة مالهم بالاحتيال عليه ، طالما اعتقدوا أنه ساذج ، لكنه كان يتخلص من مال الحرام الذي أورثه إياه والده ، حتى لا ينجب أبناء عقوق ،إنما إزدراء زوجته وعائلتها له ، وعدم احترام الجميع له ، وماضي والده القاسي ، لم يشفع له بأبناء يحبونه ، بل دفع إليه ثلاثة أبناء من الذكور وخمس من البنات كلهم ينظرون إليه بعين الجميع ، الساذج ابن المرابي ، حتى عاش لأكثر من خمس وعشرين عاما في بيت الوكالة وشجره الذي زرعه بعناية فائقة ، وحيدا كامل الوحدة ، حتى زوجته تركت البيت في آخر عشر سنين من حياتها لتصبح جارته في بيت ابنتها
بعد التحية لكل العائدين تحريراً... لكل المقيمين في الشتات قسراً .. ولكل من مر هنا يحي الذاكرة قليلاً رويداً.. ربما بكثرة
كرت ولون
تلتقي العيون الصغيرة، تتنهد في العودة إلى بعض الذكريات التي ملئت الأفواه وما ملئت القلب إلا بالجزع من الاستمرار، أكان المرض في التسمية أصلاً يعود بنا إلى حيث المربع الأول دائماً، نادت المعلمة في هذا الوقت من هنا لاجئ ومن هنا نازح؟ لم يٌفهم السؤال أو الغرض منه، رفعت تلك الطفلة يدها متسائلة، أطالت المعلمة نظرتها إلى الطفلة، كيف تجيب طفلة لم تتجاوز الست سنين بعد؟ المخرج كان عبر الأهالي، قالت لهن
- اللي عندو كرت أصفر يرفع إيدو
رفعت ثلاثة فتيات أيديهن. ووجهت السؤال مرة أخرى
- اللي عندو كرت أبيض يرفع إيدو..
رفعت الفتيات أيديهن الصغيرة وبقي ذات الطفلة بعيونها تتسائل ماهو الكرت الأبيض وماهو الكرت الأصفر؟ اقتربت منها وطلبت إليها أن تسأل أمها، وكررت الطلب إلى باقي طالبات الصف، لتتأكد كل واحدة منكن ماهو الكرت الذي يحملها أهلها.
بعد كل هذه السنين لا زال الموقف يتكرر كرت أصفر كرت أبيض وأضيف إلى معرفتها وجود كرتين آخرين هما الأزرق والأخضر، وتبقى الألوان تحدد مكان وسير الحياة لديهم أجمعين، هل كان هناك ظلمٌ واضح في كل هذا؟ أم أنه مجرد قدر البشرية يفرض نفسه بألوان الوثائق، يتبادر إلى ذهنها دائما ذلك التساؤل هل كان هناك من يملك الجبة كاملة حتى يوزع الناس ألواناً وأرقاماً، من لا يحمل الرقم تنفى عنه فكرة الوجود، وكم تعرف من لا وجود لهم ضمن سلسلة الأرقام التي لا تقبل أن تكسر أنين الصمت في عيشهم مهما تلون، لا نتحدث هنا عن من نفذوا من السكين، ولا نتحدث هنا عن من لم يرتشف من فنجان التدفق الجارح لديهم، بل نتحدث عن من سكنوا تسعين متراً كبيت، فقط تسعين متراً، لا ليس عنصرية وليس إلتجاء مغاير، إنما فقه اللغة هو، فقه الواقع هو، ما هو إلا شعور بالغربة يلاحقها دائماً، لا تستطيع أن تصرخ بتلك العبارة لكل من يغربها " أنا عربي يا حمار " ، وأوجعها كم المطلوب في الهوية، تتذكر بكل سلاسة أن الهوية بنت اللحظة، ولكن الإرث لن يغفر لها أن تتجاوز ذلك، فلا هوية هنا لتكن بنت الولادة، ولا ولادة هنا أصلاً، هنا مجرد تكاثر متسلسلٌ يطفوا على سطحه بعض التفكير، وبعض الاهتمام ومملحة تدعى أن الموت سبيلٌ للتغير، وأن الحياة قيمة لا معنى لها أصلاً، يخطر ببالها لا إنسانية الشقيق حين اشتمت غاز مسيل للدموع لم ينقذها يومها سوى البصل والسجائر، أضافوا إلى ذلك غاز الأعصاب، ومات حمزة بهرواة الشقيق، على مدار تلك السنين مات أكثر من حمزة، لكن حمزة هذا لم يكن سوى طفل لم يتعدى السبع سنين! لماذا؟ فقط لأنهم رغبوا قليلاً بأن يبكوا بصوت عالٍ حباً في الوطن.
تصادر الرغبات هنا، فأنت أن جاهرت بها عالياً تدوسك الأقدام أقدام الأشقاء وغيرهم، حتى أبناء جلدتك يوجهون لك تهمة الاغتراب، يأتيها ذلك السؤال
- ولك ع شو بتدوري ع فلسطين ؟
كيف تثبت أن فلسطين ليست مجرد رقم وهوية، وأنها مجردة عن هذا، كيف تثبت لأبناء الجلدة أنها مسؤولة تجاه نفسها، وتجاههم هم؟ أسئلة تحضر بقوة في بال المكروب بأبناء الوطن، وبالوطن نفسه، يحضرها الشاعر حين يقول
وأنا حسبي أني ولدتني كل نساء الأرض
وأن إمرأتي لا تلد ...
إنما تصرخ فقط للتنويه أنها هي من لم تلد، وأنها تبحث عن الولادة مراراً وتكراراً، حتى تحمل تلك الهوية دون أرقام، يحملها الوطن ويحملها الشتات ويحملها الرقم، وهي تحمل كل هذا دون تثبت الهوية.
ذاكرة لا تنتهي يوماً إلا حين تقطر الدماء صاعدة لا نازلة تحاسب كل نفحة غاز شقيق، كل هرواة قتلت حمزة، تحاسب كل أشقر هيمن يوماً عليها تكابده مرارة عيشها واغترابها، تحاسب هذا التاريخ وموسيقى لم توجه البوصلة يوماً إلى نفحات القدس دون ثمن ...
يتبع ..
عروبتنا أدمتنا ... أنحن بعثنا اليها أم أنها كانت معنا بالوراثة ..ما ذنبنا ان ولدناً عرباً وأننا كسينا بجلد عربي ..اذا تخلينا عنه تعرينا!!
أيها المارون على كلمة العروبة خذوا ما شئتم منها وانصرفوا..فما تبقى منها يستحق الحياة !!
من قلب المخيم .. عائد إلى حيفا
ومن رحم المعاناة ستولد عودة وتبعث من جديد
بورك قلمك يا مي
مفتاح الدار ما زال في يدي معلقا بين رصغي وحقلي وبيارتي
وذاكرتي لن تمل اجترار الحكايا عن هناك!