يوم الفرح الأكبر - يوم الفرح الأكبر - يوم الفرح الأكبر - يوم الفرح الأكبر - يوم الفرح الأكبر
يوم الفرح الأكبر
د.أحمد نوفل
"قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا"..إنّها دعوة من الله تعالى لعباده المؤمنين، بالفرح. نعم إنّها دعوة للفرح، دعوة للحبور والسعادة، ودعوة للسرور، والبهجة وأخذ الزينة: "قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق"، ودعوة التمتّع بطيّبات الرزق. والدين كله دعوة، إلى السلم والسلام النفسي والأسري والمجتمعي والاجتماعي والعالمي، لكنّه القائم على الحق والعدل. واستمع إلى الله تعالى يأمرنا أن ندخل في السلم وبحبوحته، أيّ الإسلام الذي روح منهجه هذا السلم: "يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة"، واستمع إلى الله تعالى يدعوك إلى دار السلام عنده في الجنة ويضع لك خارطة طريق للوصول إليها: "والله يدعو إلى دار السلام..ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم."
أيها الأحباب، نخطئ أحياناً فنعطي عن ديننا العظيم السمح والجميل، صورة منفّرة قاسية قابضة، إذ نقرأ قرآن ربّنا قراءة مجتزأة مشطرة، أو كما قال القرآن "عضين" أيّ تفاريق وأوزاعاً، أو نفسّر ما نقرأ تفسيراً يليق بنا لا بجلال النص الكريم.
فبعضنا يركّز نظره على مواضع من القرآن ثم يفسّرها تفسيراً مقلوباً أو مغلوطاً. وما من عوز في النص القرآني ليكمل، وما به من ثغر فيسد، ولا من خلل أو تناقض فيحل، معاذ الله، بل هو الكمال المطلق والجمال المطلق. فعندما نهى القرآن عن الفرح في مثل قوله تعالى في قصة قارون عندما قال له قومه: "لا تفرح إنّ الله لا يحب الفرحين"، فهذا نهي لا عن الفرح مطلقاً، معاذ الحق، الذي أراد لنا بدينه منتهى السعادة، وإنّما النهي عن فرح الأشر والبطر والكبر والازدهاء بالدنيا وزينتها، والتعظّم بها، والتنفج والانتعاش والتيه على العباد، بما امتحنه الله به من مال وكنوز.
هذا الفرح القائم على الغرور والذي زيّنه الغَرور إبليس، والذي به تاه صاحب المال على من لا مال له، فأدخل الانكسار "والقصور" على قلوب الفقراء والمساكين، بدل أن يوسّع أصحاب القصور على المحاويج والمعاويز، قاموا ينكّلون بهم نفسياً بالتباهي وإظهار الزينة والرياش وفاخر العربات والثياب.."فخرج على قومه في زينته"، وهل لاحظت حروف الجر، "على" المفيدة الاستعلاء، و"في" المفيدة الاستغراق والشمول والإحاطة، أيّ بهذه الزينة، هذا هو المنهي عنه..
وفي هذا السياق النهي عن الفرح الذي ينشأ من الزائل، وينتهي إلى زوال، كما في قوله تعالى مصوّراً حال الكافرين والمغترّين بالدنيا ومتاعها: "فرح المخلّفون بمقعدهم خلاف رسول الله"، "إذا أذقنا الإنسان منّا رحمة فرح بها" الشورى48، "وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلاّ متاع" الرعد26، "وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها" الروم36، "فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم" غافر83، "ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون، ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين" غافر75-76. هذا الفرح المقترن بالبطر، والمغْفل الآخرة، والناسي رب الناس، هذا الفرح وخيم العواقب.."فلمّا نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين" الأنعام44.
هذا كله بمعزل عن أنّ فرحنا بديننا وبفضل ربنا علينا ونصره لنا على عدونا، واستمع من سورة الروم: "لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم"5. أمّا المؤمنون ففرحون دائماً بالله وفضل الله وهدى الله، سعداء بسكينتهم وطمأنينتهم وراحة بالهم وصلاح حالهم، وحق لهم، لأنّهم يرجون نتيجة عند الله راضية مرضية، والشهداء قمة الفرحين بما حصلوا وحازوا وشاهدوا: "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون. فرحين بما آتاهم الله من فضله، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون" آل عمران169-170. ومراراً كررت أنّ الحزن لم يرد في القرآن إلاّ مسبوقاً بنفي أو بنهي. (وهو معنى خطر لي أول مرة في مواساة آل الفقيد قنديل شاكر يوم وفاته رحمه الله!)
وأمرنا القرآن أمراً بالفرح إذ قال آمراً نبيه أن يبلّغنا: "قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون"، والنبي الكريم صلى الله عليه وسلم يأمرنا ويحثّنا على إظهار السرور "ليعلم يهود أنّ في ديننا فسحة"، ويأمر عائشة رضي الله عنها وعن أبيها وذويها أن تدخل السرور على قلوب الأنصار بشيء من الغناء تغنّيه النسوة، بمعنى الحديث، فتسأله: ماذا نقول؟ فيقول لها ماذا تقول صلى الله عليه وسلم، ويعلل ذلك بأنّ الأنصار فيهم هذا الأمر أيّ الفرح وحب المرح، وعبارة الحديث (من الذاكرة): "فيهم لهو"، أو كما قال صلى الله عليه وسلم!
أقول هذا بمناسبة يوم الأضحى..يوم النحر..يوم الحج الأكبر..يوم العيد الأكبر..أو العيد الكبير، كما يسميه عندنا الكبير والصغير. هذا اليوم يوم عيد، وقبله يوم عرفة يوم عيد. فيه يجتمع الحجيج في يوم الموقف العظيم "الوقفة"، كما يسمّيها العامة..الوقوف بعرفة، الذي هو جوهر الحج وعمدته إذ "الحج عرفة". وما تجلّت على الناس الرحمات من الله عز وجل كما هو الحال في يوم عرفة، وما رؤي الشيطان أغيظ منه ولا أحقر منه، كما هو حاله في يوم عرفة؛ فاجتهاده سنة بطولها يمحى في يوم واحد، إذ تتجلّى النفحات والأعطيات والهبات والبركات والمنح والمغفرة والعفو ويكثر العتقاء والطلقاء.
في هذا اليوم نزلت الآية الكريمة: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً". وقد جاء يهودي إلى عمر رضي الله عنه، فقال: لو علينا معشر يهود نزلت هذه الآية لجعلنا يوم نزولها عيداً، فأفهمه عمر أنّها كذلك بالنسبة لنا، فيوم عرفة يوم تجليات وبركات، فهو عيدنا كما هو الأضحى عيدنا. وأعيادنا بفضل الله عبادة وتتويج لعبادة.
أرأيت إلى عبادة الأسبوع كيف تتوّج بيوم الجمعة يوم عيد ويوم عبادة، وصومنا يتوّج بيوم عيد الفطر، ونبدأ اليوم بصلاة العيد، وركن الحج يسبق يوم النحر، فعبادة الحج توّجت أيضاً بيوم عيد هو عيد الأضحى. يبدأ المسلمون يومهم بصلاة العيد ثم نحر الأضاحي شكراً لله، وإدخالاً للسرور على النفوس صغاراً وكباراً وإطعام الأفواه الجائعة، وصلة الأرحام.
هذا هو دينكم، قوة وصلة وسرور وتراحم وسعادة وفرح بالله وعبادته، فلا شرك ولا كبر ولا عبادة للمال ولا تعظيم للدنيا، ولكن تكبير وتهليل وسعادة بالعبادة، وعطاء وبذل وجود وسخاء لتعميم الرخاء.
وهذه هي روح عيد الأضحى، فالأمة كلّها في عيد وليس فقط من كانوا في موسم الحج، ولكن من هم معهم بالروح والوجدان، وذلك يشمل الأمة كلها، فالأمة كلها في عيد في يوم الأضحى.
ولئن كان يعقوب عليه السلام فقد بصره أو "وابيضت عيناه من الحزن" أسفاً على يوسف وفقد يوسف، فإنّ بصره عاد إليه بالفرح بريح يوسف: "إنّي لأجد ريح يوسف"، "فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيراً."
أليس هذا مرشداً إلى ضرورة أن تفرح الأمة وألا يهدّها الحزن. وكم أحسن إخواننا المصريون إذ اجتازوا نهر الأحزان بجسر النكتة، وقنطرة الفرفشة، وعبارة القفشة الظريفة، والطرفة وخفة الدم، و"القافية" المحببة! ولو بنا مرّ ما مرّ بهم من ضيق عيش، وقلّة ذات اليد، وأشغال شاقة، لمتنا هماً وغماً وكمداً..
والحمد لله على توزيع الأرزاق، وخفة الدم رزق، وسّع الله على إخواننا في مصر به ومنه، ليعبروا بحر الأحزان والشدائد التي تشيّب الولدان، والإفقار المتعمّد، والتضييق المفتعل والمتقصد.
وإنّما عنيت بالفرح الأكبر..الفرح الأكبر في هذه الحياة. أمّا الفرح الأكبر المطلق، فبلقاء الله، أخذاً من حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: "فرحة يوم فطره..وفرحة بلقاء ربه".
في يوم النحر يعلو التكبير نشيداً تلهج به الحناجر، فتشقّ به عنان السماء، وترتجف له قوى الكفر: "الله أكبر الله أكبر كبيراً". ما أروع هذا اليوم، وما أروع العبادة فيه، وما أروع التكبير! في يوم النحر يتعلّم الناس درس التضحية، وهي أعظم الدروس، إذ بدونها لا يقوم دين ولا تغيير ولا حضارة ولا تنهض أوطان ولا يحرس استقلال، ولا تتحرر بلاد مستعمرة، ولا يفكّ أسر المسرى الأسير!
وختاماً، يتقبّل الله منا ومنكم الطاعات. وكل عام والأمة والأوطان والمقدسات بألف خير.