هذه جملة من آخر آية من سورة آل عمران، وهي قول الله عز وجل: }يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلّكم تفلحون{ (آل عمران: 200).
وسورة آل عمران سورة المعركة والمواجهة مع الباطل، وهذه المعركة لها جانب نظري، يقوم على الجدال والنقاش والحجة والإقناع، وعرض الأدلة والبراهين، ونقض ودحض ما عند الباطل.. ولها جانب عملي واقعي ميداني يقوم على القتال والحرب وإطلاق النار.
وكان النصف الأول من سورة آل عمران يتحدث عن المعركة في ميدانها النظري، وفيه نقاش أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ورد على شبهاتهم ونقض آرائهم، وبيان أن الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الدين الوحيد المقبول عند الله، وأن غيره من الأديان السابقة منسوخ عند الله، ودعوة جميع أتباع الديانات للدخول فيه.
وكان النصف الثاني من سورة آل عمران يتحدث عن المعركة في ميدانها العملي العسكري، حيث عرضت لقطات ومشاهد من غزوة أحد، التي وقعت في السنة الثالثة من الهجرة، وقد كان النصر للمسلمين في الجولة الأولى من المعركة، لكنهم وقعوا في خطأ قاتل، فانتصر عليهم المشركون في الجولة الثانية من المعركة، وكفّ الله أيدي المشركين عنهم بعد ذلك، واستفاد المسلمون دروساً عديدة من المعركة، فكانت في النهاية انتصاراً عظيماً للمسلمين، وقد تكفلت آيات القسم الثاني من السورة بالوقوف أمام دلالات ودروس وعبر تلك المعركة.
وتختم آيات السورة بعرض أهم صفات "أولي الألباب" من جنود الله، الذين انحازوا للحق، وتقرر تلك الخاتمة سنة ربانية مطردة في انتصار الحق وهزيمة الباطل في النهاية.
وبما أن سورة آل عمران هي سورة المعركة والمواجهة والتحدي، فقد جاءت الآية الأخيرة فيها توجيهاً من الله للمؤمنين، وتكليفاً لهم بأربعة واجبات، عليهم القيام بها وتنفيذها، لينالوا النصر، ويحققوا الفلاح، وهي: الصبر، والمصابرة، والمرابطة، وتقوى الله.
وأحب أن أُذكِّر إخواني وأخواتي بالطبيعة البارزة لهذا القرآن العظيم.. إنه كتاب معركة، وكتاب مواجهة، وكتاب تحدٍّ للباطل، وكتاب توجيه وقيادة للمسلمين في معركتهم الحتمية مع الباطل..
وإن هذا القرآن الحي القائد الموجِّه، يريد أن يحوِّل قارئيه ليكونوا جنوداً ربانيين في هذه المعركة، ويريد أن يغرس في كيان كل صالح وصالحة الشعور بجنديته لله، واتباعه للحق، ووجوب انحيازه له، ويريد أن يملأ قلب كل صالح وصالحة تصميماً على مواجهة الباطل، والثبات أمامه، حتى يهزمه.
وكل من قرأ القرآن بفطنة ووعي وبصيرة، وبحيوية وفهم وتفاعل، فإنه يخرج منه بهذه النتيجة، فيشعر بأنه جندي لهذا الدين، ومنحاز له ولأهله، ومواجه لأعدائه.. إنه لا يجيز لنفسه أن يقف متفرجاً على المعركة التي يخوضها القرآن ضد الأعداء، ولا أن يدعي عدم الانحياز للقرآن..
وليس معنى انحيازه للحق وأدائه واجب الجندية؛ أن يحمل السلاح العسكري، ويتوجه إلى إحدى ساحات القتال لإطلاق النار، ولكن أن يلتزم بالإسلام، وأن يُقْبل على القرآن، وأن يقوم بواجب الدعوة والنصيحة، وأن يوقن بأنه صاحب قضية ومهمة ووظيفة، وهي حمل لواء القرآن، وأن يوقن بأن أصحاب الباطل لن يتوقفوا عن محاربة الحق وأهله، فيزداد تصميماً على مواجهتهم وتحديهم، وإبطال مكائدهم والوقوف أمامهم، والاستمرار على هذا حتى يلقى الله.
وبعدما تملأ سورة آل عمران كيانه شعوراً بهذه الحقيقة، توصيه الآية الأخيرة منها بالصبر والمصابرة والمرابطة وتقوى الله: }اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلّكم تفلحون{.
الصبر: بأن يثبت على الحق، ويؤدي التكاليف، ويصمم على الوقوف أمام الباطل، والدفاع عن الدين والوطن والأهل..
والمصابرة: بأن يواجه صبر الأعداء على باطلهم بصبر من عنده، فالأعداء يصبرون على المواجهة والمعركة والحرب، ويتحمّلون المشقة، ويبذلون كل شيء، وأصحاب الحق أولى منهم بالصبر، ولا يقضي على صبرهم إلا مصابرة أهل الحق لهم.
والمرابطة: بأن ينحاز إلى الحق، ويتخذ له موقعاً جهادياً يتفق مع قدراته وعلمه، كأن يكون ملتزماً بحديث وخاطرة، أو كتابة مقال، أو إعداد كتاب، أو متابعة إعلامية.
وتقوى الله: حالة عامة دائمة يعيشها هذا الجندي وهو يصبر ويصابر ويرابط..