الإمام القدوة شيخ فلسطين إبراهيم بن أبي عبلة - الإمام القدوة شيخ فلسطين إبراهيم بن أبي عبلة - الإمام القدوة شيخ فلسطين إبراهيم بن أبي عبلة - الإمام القدوة شيخ فلسطين إبراهيم بن أبي عبلة - الإمام القدوة شيخ فلسطين إبراهيم بن أبي عبلة
الإمام القدوة شيخ فلسطين إبراهيم بن أبي عبلة
الدكتور إبراهيم زيد الكيلاني / رئيس جمعية المحافظة على القرآن الكريم
مجلة الفرقان
عرَّفَنا به الإمام الذهبي في (سير أعلام النبلاء) بهذا الوصف، فقال: الإمام القدوة شيخ فلسطين أبو إسحاق العقيلي الشامي المقدسي، من بقايا التابعين، ولد بعد (60) للهجرة وتوفي سنة (152) للهجرة وروى الحديث عن أنس بن مالك وبلال بن أبي الدرداء وخلق سواهم. وقيل: إنه أدرك ابن عمر، وثقه أئمة الحديث يحيى بن معين والنسائي وكانت له مكانة في نفوس الخلفاء وكان الوليد بن عبد الملك يبعثه بعطاء أهل القدس فيفرقه فيهم وبعث إليه الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك ليوليه خراج مصر وقال له: إنا قد عرفناك واختبرناك ورضينا بسيرتك وحالك وقد رأيت أن أخلطك بنفسي وخاصتي وأشركك في عملي وقد وليتك خراج مصر. فأجابه هذا الإمام بقوله: أما الذي عليه رأيك يا أمير المؤمنين فالله يثيبك ويجزيك وكفى به جازياً ومثيباً وأما أنا فمالي بالخراج بصر، ومالي عليه قوة. فاعتذر الإمام إبراهيم اعتذاراً لطيفاً ولكن لم يعجب الخليفة فغضب حتى اختلج وجهه وكان في عينيه حَوَل، فنظر إليه نظراً منكراً ثم قال له: لتلين طائعاً أو كارهاً. قال إبراهيم: فأمسكت، أي حتى هدأت ثورة الخليفة هشام. ثم قلت: أتكلم! قال: نعم. قلت: إن الله سبحانه قال في كتابه: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} [الأحزاب:72] فوا الله ما غضب عليهن إذ أبين ولا أكرههن. فضحك هشام حتى بدت نواجذه – أي أسنانه – وأعفاه.
وهنا نجد خصلتين كريميتن في هذا الإمام المقدسي – شيخ فلسطين –؛ الأولى: زهده في الرتب والرواتب والمناصب، وخراج مصر كان مطمح الولاة ولكنه يأبى ويستعفي منه. والأمر الثاني: رباطة جأشه حين واجه غضب الخليفة الذي تغير وجهه وهدد بقوله: لتلين طائعاً أو كارهاً. فجاء له بحجة عظيمة من القرآن الكريم تدل على فقه شيخ فلسطين وحسن تأتّيه للأمور وإقناع الخليفة حين استأذن بالكلام فأذن له وذكره بأن رب السماوات والأرض عرض الأمانة عليها وأبت فما أكرهها وما غضب عليها فلِمَ تغضب علي وتكرهني؟ فضحك هشام وقبل عذره وعافاه.
وابن أبي عبلة كان من العلماء المربين المجاهدين وهو صاحب القول المأثور: رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر. وهو يقول لمن جاء من الغزو: قد جئتم من الجهاد الأصغر فما فعلتم في الجهاد الأكبر – جهاد القلب؟ كانت مدرسة القدس والمسجد الأقصى كمساجد الإسلام مدارس تربية وإعداد للأمة، وكان المسجد الحرام بمكة والمسجد الأقصى في القدس والمسجد النبوي في المدينة المنورة قلاعاً للحضارة الإسلامية وحصوناً للعلماء يحسنون تعليم الأمة وتربية الأجيال بفقه الأحكام وبفقه النفس حتى تخلص لله رب العالمين.
مكانة القدس في نفوس الخلفاء ودورهم في تعميرها:
منذ عهد عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- الذي حرّر القدس وتسلّم مفاتيحها بقي ليلة الفتح في المسجد الأقصى قائماً راكعاً ساجداً حتى عاد الجنود في اليوم الثاني وصلى بهم صلاة الفجر وقرأ فيهم سورة الإسراء وسورة (ص) التي ذكر الله فيها داود وسليمان وكان هذا بشارة بأن محمداً –صلى الله عليه وسلم- هو وارث الأنبياء جميعاً ووارث داود وسليمان، ومن يوم الفتح وعبر القرون كان همّ الأمة الإسلامية تعمير المسجد الأقصى بالبناء وتعميره بالعلم والعلماء الذين رابطوا في جواره وبنوا المدارس والمعاهد قربه وأقاموا حلقات العلم وتعليم القرآن وتلاوته في رحابه وبذلوا دماءهم وأموالهم لتحريره وتطهيره، وقد أنجبت بلاد فلسطين العلماء الذين أشرقت أنوارهم على من حولهم في بلاد الإسلام، وكان منهم العلامة عبد الغني النابلسي، وكان منهم ابن قدامة المقدسي، وكان منهم جند الإسلام الذين رحلوا إلى العراق والتحقوا بمدرسة الشيخ عبد القادر الكيلاني يتعلمون الفقه وتزكية النفس ويلتحقون بجيش نور الدين وصلاح الدين ليكونوا رجال الفتح بفضل الله، وكان منبر نور الدين الذي أركزه صلاح الدين بعد انتصار حطين شاهداً على التقاء العلم والدعوة مع السيف والجهاد في حفظ القدس والأقصى، وقد نبّهنا القرآن الكريم إلى هذا الدور العظيم المطلوب من أمة الإسلام في المحافظة على المسجد الأقصى وأن لا تكون الولاية فيه إلا للمسلمين بقوله تعالى في سورة البقرة: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ الله أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:114]. ويُفهم من الآية – كما قال العلماء – أن مساجد الله التي خربها الرومان واليهود كانت المسجد الأقصى وما حوله من المساجد، وأن تخريبهم لها كان بالاعتداء على رسالة الأنبياء في التوحيد وفي تخريب هذا المسجد من أن تقام فيه عبادة الله وحده.
وبيّن القرآن أن غير المسلمين ما كان لهم أن يدخلوا هذه المساجد إلا بإذن من المسلمين يزيل خوفهم، وهذا يعني أن الولاية في هذه الأرض وفي القدس والأقصى لا تكون إلا للمسلمين. وإن القدس الشريف في أيامنا هذه يتعرض لأخطر مؤامرة تهويدية تريد أن تقضي على المعالم الإسلامية فيه بالمستوطنات وبتغيير جغرافية الأرض المباركة وبالحفريات تحت المسجد الأقصى ليهدموه، وهذا يقتضي أن تقوم الدول الإسلامية بواجبها في نصرة أهل القدس وفلسطين وغزة وأن لا يقفوا متفرجين وأن لا يتآمروا على المجاهدين بزجّهم في سجونهم وسجون العدو اليهودي.
القدس في تاريخ الإسلام:
والذي يزور المسجد الأقصى يجد أمرين: يجد الآثار الإسلامية لخلفاء الإسلام من عهود الأمويين والعباسيين والمماليك والأتراك إلى يومنا هذا في تعمير بعد تعمير كان آخره ما قامت به الأردن في تعمير المنبر والمحراب، ولكن هذا التعمير كان يصاحبه تعمير آخر بالعلماء ورجال الفكر الذين كانوا يحضنون هذا المسجد ويقيمون حلقات العلم في رحابه، وكان شيخ فلسطين بقية التابعين حامل إرث رسول الله –صلى الله عليه وسلم- القدوة الصالحة إبراهيم بن أبي عبلة من هؤلاء الأعلام الذين حملوا اسم فلسطين والقدس، وجمعوا بين العلم والحضارة والسيف والجهاد فإن أبطال الإسلام الذين قدموا النماذج الكريمة في الدفاع عن شرف الأمة كانوا من مدرسة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- الذين ساروا على طريق عمر وصلاح الدين في تحرير هذا المسجد وتطهيره وحشد العلماء الصالحين ليُعدّوا الأمة ويعبئوها للقيام برسالة التحرير والإنقاذ، وإنني أرى أن كتائب عز الدين القسام العالِم المجاهد نزيل (يَعْبَد) الذي استشهد هناك تحمل دلالة تاريخة حضارية أن العالِم المجاهد هو طريق التحرير. وإذا وجدنا أن أبطال الإسلام في غزة وفلسطين من حفظة القرآن الكريم يتقدمهم الشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وسعيد صيام ونزار ريان ويحيى عياش وأبو هنود كلهم من حفظة القرآن الكريم، فإننا نجد بشائر النصر قادمة وبشائر الخير تعطي عطرها وكرامتها وتقول لنا: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139]. هذه الأرض المباركة – أرض فلسطين – أنجبت العلماء والمجاهدين والقادة، وكلما خطط العدو ليقضي على الحركة الجهادية بقتل المقاومة وباغتيال القادة ظهر قادة من جديد يذكروننا بقوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23]، {مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ الله وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ الله الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الفتح:29].
فما أشبههم بالزرع كلما حُصد عاد نضيراً كما كان، وهكذا أبطال فلسطين وعلماؤها وقادتها لا يزيدهم الموت والاغتيال إلا قوة.
ولا بد أن نقف وقفة قصيرة عند غابة (يَعْبَد) التي تحصّن بها الإمام المجاهد عز الدين القسام، وهي أن في هذه الغابة دُفن عالِم مربٍّ مجاهد هو الشيخ زيد الكيلاني من أبناء الشيخ عبد القادر الكيلاني رحمهم الله، وكان لهذا العالم أثر في مواجهة الصليبيين في زمن الخلافة العثمانية، وقد أبلى بلاءً حسناً في إحدى المعارك البحرية مما جعل الخليفة العثماني ينعم عليه بأراض واسعة في يعبد وجنين وما يتصل بها من أرض فلسطين، ولا تزال هذه الأراضي باسم أبناء العائلة إلى يومنا هذا. وقد جاء الشيخ عبد الغني النابلسي وهو من علماء بلاد الشام وفلسطين وزار نابلس وزار يعبد والتقى بأبناء الشيخ وكان هذا تكريماً للرجل العالم المجاهد الذي أراد الله أن يجمعه بعز الدين القسام حيّاً وميتاً في معنى الجهاد ومعنى المرابطة في سبيل الله. ولا بد أن نذكر هنا أن مصر التي قدمت خراجها سبع سنوات لإعمار المسجد الأقصى المبارك بأمر الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك كانت شاهدة على أنها وبلاد الشام في إعمار المسجد الأقصى قلب واحد وجسد واحد، وأن مسجد الصخرة المشرفة الذي عمره الخليفة الأموي ووكل إلى عالمين جليلين هما رجاء بن حيوة والزهري الإنفاق والبذل عليه من خراج مصر لمدة سبع سنوات، حتى عمروه أحسن تعمير، وكان خيرة المهندسين البنائين قد قاموا ببنائه ليجعلوه درة يتيمة في البناء والإعمار. هذا المسجد الذي اتصل بمصر في البناء والإعمار بالخلافة الإسلامية في التدبير والإحكام يحتاج اليوم إلى أئمة علماء وإلى قادة أمراء يعرفون كيف ينقذون المسجد الأقصى من الهدم والتدمير والتهويد.