في ذكرى رحيل غســــــــــان كنفـــــــــاني .. من يدق جدار هذا العالم المجنون...؟
في ذكرى رحيل غســــــــــان كنفـــــــــاني .. من يدق جدار هذا العالم المجنون...؟ - في ذكرى رحيل غســــــــــان كنفـــــــــاني .. من يدق جدار هذا العالم المجنون...؟ - في ذكرى رحيل غســــــــــان كنفـــــــــاني .. من يدق جدار هذا العالم المجنون...؟ - في ذكرى رحيل غســــــــــان كنفـــــــــاني .. من يدق جدار هذا العالم المجنون...؟ - في ذكرى رحيل غســــــــــان كنفـــــــــاني .. من يدق جدار هذا العالم المجنون...؟
حين دوى انفجار الحازمية وتداعت جدران بيروت صباح الثامن من تموز عام 1972 هرعت آني كنفاني الى الشارع لتكتشف الفاجعة... لقد تناثرت اشلاء الكاتب والانسان والزوج غسان كنفاني لتغطي الاسفلت والرصيف وأغصان الأشجار والنوافذ المهشمة وإلى جانبه ابنة شقيقته الطفلة لميس التي أبت إلا ان تكون آخر وردة يتوسد ذراعها غسان في رحيله عن هذا العالم المجنون.
تقول آني: بعد دقيقتين من مغادرة غسان ولميس للبيت سمعنا انفجاراً رهيباً... تحطمت كل نوافذ البيت... نزلت السلم راكضة لكي أجد البقايا المحترقة لسيارتنا الصغيرة... وجدنا لميس على بعد بضعة أمتار ولم نجد غسان ، ناديت عليه...ثم اكتشفت ساقه اليسرى ووقفت بلا حراك في حين أخذ فايز « الابن» يدق رأسه بالحائط وليلى ابنتنا تصرخ ...بابا... بابا...
بإحساسه المدمى وادراكه المتألم أيقن ابن الثانية عشرة حين ودع عكا آخر مرة ان نكبة 1948 هي بوابته نحو الموت، فتعفر بترابها وذرف في أزقتها دموع العاشق المقهور... وبدا ومنذ خطوته الاولى في عالم المنافي والتشرد ومخيمات اللجوء يرسم نهايته بقلمه الذي يقطر دماً وبريشته المبللة بتنهدات الاف المنكوبين بوطنهم، لقد تغلغل تراب عكا في مسام جلده وتسربل واختلط في نبضه ودمه ، ونسي في غفلة العاشق ان ينفض عن جفنيه ووجنتيه غبار الذكريات .
ومنذ دخوله اول خيمة وعبوره أول مخيم ودع غسان كنفاني طفولته الى الأبد... وأحرق المسافات والخطوات الأولى وتنكب كل مفردات المواجهة، ومضى ينثر تراب عكا وهواءها في كل زاوية وعلى أديم اي أرض وطأتها قدماه، لتنبت زهور الأمل وتتطاول سنابل الحالمين بالموت والعودة.
وأمام سكوت العالم وصمته وقف غسان كنفاني ليفتح نافذة وبصيص ضوء لشعراء وكتاب الوطن المحتل، وليؤسس لنهج جديد في الصراع الوجودي يقوم على مواجهة الموت بالكتابة والغناء، وتعزيز ثقة الانسان بكلمته المقاومة ودورها في دحر الاحتلال فكان كتابه « الادب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948- 1968».
لقد أراد كنفاني ومن خلال هذا الكتاب أن يصرخ في وجه العالم أن هذه الارض مسكونة بعشاقها وذكرياتها وأنها لم تكن يوماً ما ساحات وقرى ومدناً وسهوباً خاوية ، وأن الشعب الذي عاقر خصوبتها وتنسم عبق وعبير البيلسان والبرقوق والنرجس ، وتفيأ بيارات البرتقال والليمون والزيتون... يهب اليوم وفي كل آن للدفاع عن كل حبة رمل وذرة تراب وقطرة ماء ، وهو قادر بكلمته وبندقيته وإرادة مقاوميه ان يهز ويحطم جدار الصمت في هذا العالم المجنون.
ستة وثلاثون عاماً عاشها الشهيد غسان كنفاني كانت كافية ليدرك الطغاة ان استمرار هذا المد الوجداني سيقلب كل مفاهيم وطموحات هرتزل وبن غوريون وعصابات شتيرن والهاغانا، فكان قرار الاغتيال لينسف بذور الوعي وروح المواجهة... ستة وثلاثون عمراً وغسان يوزع تراب عكا المتغلغل في دمه وروحه من بيروت الى دمشق والكويت وكل مخيم فلسطيني ، ويرسم على كل غروب طريقاً ودرباً بلا نهاية لكنه بالتأكيد سيقود الى فلسطين .
لقد دعا كنفاني في كل اعماله القصصية والروائية الى التمسك بالوطن وأنه لافرق في مواجهة العدو بين فلسطينيي الداخل المحتل وبين فلسطينيي الشتات ومخيمات اللجوء، وكان في ذلك كله يؤكد ان الفرار من الوطن هو شكل من اشكال الموت، ولعل رواية «رجال في الشمس » 1963 قرينة دالة على ذلك ، فقد انتهى أبو قيس وأسعد ومروان الى « مزبلة» رماهم فيها ابو الخيزران لأنهم لم يصرخوا أو يقرعوا جدار الخزان الذي سيقودهم الى منابع الثروة والعيش الرغيد .
أما « أم سعد» 1969 فتقول: ليس هناك في خارج الوطن إلا الموت، الموت في زنزانة الحياة ، في المنافي ...فليس لكم الا العودة الى الارض الأم، إلى المواجهة.
إذاً، فقد تنبأ ابن الثانية عشرة حين نزح عن عكا أنه ماضٍ الى موته وأن الوطن لن يكون الا للعائدين او الشهداء... لقد اختصر غسان المسافة بين الحياة والموت فكانت قصصه ورواياته ودراساته أول خندق في مواجهة الغدر والاغتيال، وكانت حياته الممتدة من عكا ويافا الى دمشق وبيروت الشعلة التي اهتدى بها الفدائيون العائدون وقد نفضوا عن هاماتهم ذل الخيام وبؤس المخيمات
غسان كنفاني أيها الموغل في الغياب ...وقد ازداد الموت والدمار طغياناً ننحني امام ذكراك ونحن نلملم اشلاءك فينا ونتنسم عبير كلماتك النابضة في جراحنا النازفة أبداً... نشعل شمعة كئيبة تضيء هذا الليل الذي يسير بالدنيا نحو المجهول لنصرخ:
الكلمة أقوى وأخطر من الرصاص
رصاصة واحدة قد تقتل رجلاً واحداً ... ولكن كلمة قد توقظ الاف النائمين والحالمين ...قد تبعث الأمل بالاف القانطين اليائسين المحبطين