خواطر رمضانية" تَدَبَّر آية " ( الملك ) - خواطر رمضانية" تَدَبَّر آية " ( الملك ) - خواطر رمضانية" تَدَبَّر آية " ( الملك ) - خواطر رمضانية" تَدَبَّر آية " ( الملك ) - خواطر رمضانية" تَدَبَّر آية " ( الملك )
خواطر رمضانية" تَدَبَّر آية " ( الملك:1 )
أيمن الشعبان
@aiman_alshaban
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على قائد الغر الميامين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
هنالك صلة وثيقة ورابط متين بين الصيام والقرآن، ولِعِظَم كلام الله عز وجل ومنزلته الكبيرة ناسب أن ينزله الله في أفضل الشهور، ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ) ، بل نزل جملة واحدة في أشرف الليالي ليلة القدر ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ) ، فأنزل أفضل الكلام بأفضل الليالي والأيام على أفضل الأنام، بلغة العرب الكرام لينذر به قوما عمتهم الجهالة، وغلبت عليهم الشقاوة، فيستضيئوا بنوره ويقتبسوا من هداه ويسيروا وراءه، فيحصل لهم الخير الدنيوي والخير الأخروي.
ولتوكيد هذه الصلة يقول عليه الصلاة والسلام( الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب إني منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، يقول القرآن: رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فيشفعان ) .
ولما كان للنفس إقبال وإدبار، يظهر إقبالها جليا في موسم الخيرات والبركات وتكفير السيئات، إذ يطمئن القلب وينشرح الصدر، فيكون التفاعل مع كتاب الله عز وجل أدعى وأرجى وأكثر، وكم نحن بحاجة لاغتنام الأوقات الموسمية واستثمار أحوال العباد من الإقدام والاهتمام بكلام العزيز العلام، من التلاوة والتأمل والتفكر والانتفاع بآي الذكر الحكيم، الذي لا يتحقق إلا بتدبر وإعمال النظر مليا، واستخراج الدرر والكنوز والجواهر.
في هذه السلسلة الرمضانية، سنقف كل يوم مع آية من سورة الملك، متدبرين ما فيها من معاني وعبر وعظات، عسى أن نخلُص بثلاثين آية علما وتفكرا وانتفاعا وعملا، وما أحوجنا في زمن الفتن وهجران القرآن لتلك الوقفات.
يقول ربنا سبحانه( كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ) ، أي هذا كتاب لمن أراد التمسك بالإيمان والقربة إلينا، إن طريق السعادة الأبدية: هو اتباع القرآن الذي أنزله الله هدى ورحمة للمؤمنين، وهو كثير الخير والبركة، فيه الشفاء النافع لمن تمسّك به، والنجاة لمن اتبعه، وقد أنزله الله تعالى للناس للتدبر والتفكر في معانيه، لا لمجرد التلاوة بدون تدبر وإمعان، وليتعظ أهل العقول الراجحة به وببيانه.
قال الحسن البصري: والله ما تدبره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى إن أحدهم ليقول قرأت القرآن كله ما يرى له القرآن في خلق ولا عمل.
ينبغي أن نتعاطى مع القرآن كأنه يخاطبنا الآن، لا أن نكون بمنأى عن آياته، ففقه الصحابة والسلف الصالح هذه الحقيقة، فتعاملوا معه كأنه رسائل موجهة إليهم بمختلف جوانب حياتهم، يقول الحسن بن علي رضي الله عنهما: إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل، ويتفقدونها في النهار.
سورة الملك من السور المكية، ثلاثون آية، نزلت بعد سورة الطور وكلها محكمة فلا ناسخ ولا منسوخ، لها عدة أسماء ما صح وثبت منها ثلاثة هي ( الملك، وتبارك الذي بيده الملك، والمانعة ).
قال المهايمي: سميت به لاشتمالها على كثير مما ينبغي أن يكون عليه الملك من كثرة الخيرات، وعموم القدرة، والإحياء والإماتة، واختبار أعمال الناس، والغلبة والغفران، ورفع الأبنية لخدامه وعدم التفاوت في رعاياه، وتزيين بلاده، والقهر على الأعداء، والترحم على الأولياء، والأمن ورخص الأسعار، وأن لا يقدر أحد على نصر من عاداه، ولا على رزق من منعه .
ولها فضائل عديدة ومزايا فريدة منها:
1- مانعة من عذاب القبر: يقول عليه الصلاة والسلام(سورةُ تبارك هي المانعةُ من عذابِ القبر ) .
2- يغفر لصاحبها ذنوبه: قال عليه الصلاة والسلام( إن سورة في القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له، وهي: " تبارك الذي بيده الملك" ).
3- سبب دخول الجنة: قال عليه الصلاة والسلام( سورةٌ من القرآنِ ما هي إلا ثلاثون آيةً خاصمتْ عن صاحبِها حتى أدخلَتْه الجنةَ ، وهي تبارك ).
مناسبة بداية السورة لما قبلها أنه لما ضرب مثلا للكفار بتينك المرأتين اللتين قدر لهما الشقاء وإن كانتا تحت عبدين صالحين، ومثلا للمؤمنين بآسية ومريم وقد كتب لهما السعادة وإن كان أكثر قومهما كفارا- افتتح هذه السورة بما يدل على إحاطة علمه عز وجل وقهره وتصرفه في ملكه على ما سبق به قضاؤه.
يدور موضوع سورة الملك حول معنى واحد هو أن نعرف قدر الله عز وجل، للتوصل إلى مقصد هام جدا هو تحقيق خشية الله بالغيب، فإذا تأملنا وتدبرنا جميع الآيات وأمعنا النظر فيها، سنعلم حينها من نعبد، بالتالي سينعكس ذلك على معتقدنا وسلوكنا وانضباطنا في طاعة ربنا، دون انفلات أو تسيب أو عشوائية، لأن أساس الكفر والجحود وعدم الاستجابة لدعوة الرسل الابتعاد عن هذا المعنى، قال تعالى( مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) ، أي ما عظّموه حق التعظيم.
والأغراض التي في هذه السورة جارية على سنن الأغراض في السور المكية ابتدأت بتعريف المؤمنين معاني من العلم بعظمة الله تعالى وتفرده بالملك الحق؛ والنظر في إتقان صنعه الدال على تفرده بالإلهية فبذلك يكون في تلك الآيات حظ لعظة المشركين.
افتتحت السورة بما يدل على منتهى كمال الله تعالى افتتاحا يؤذن بأن ما حوته يحوم حول تنزيه الله تعالى عن النقص الذي افتراه المشركون لما نسبوا إليه شركاء في الربوبية والتصرف معه والتعطيل لبعض مراده. ففي هذا الافتتاح براعة الاستهلال كما تقدم في طالع سورة الفرقان.
ابتدأت السورة بالحديث عن ملك الله الشامل وقدرته المطلقة على التصرف الكلي في كل الأمور؛ فهو يحيي ويميت، ويُعز ويُذل، ويعطي ويمنع، ويفقر ويغني، ويمرض ويشفي، ويبعد ويقرب، ويرفع ويخفض، ويكشف ويحجب، إلى غير ذلك من شؤون العظمة والتدبير المطلق.
( تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ) أي: تعاظم وتعالى، وكثر خيره، وعم إحسانه، من عظمته أن بيده ملك العالم العلوي والسفلي، فهو الذي خلقه، ويتصرف فيه بما شاء، من الأحكام القدرية، والأحكام الدينية، التابعة لحكمته، ومن عظمته، كمال قدرته التي يقدر بها على كل شيء، وبها أوجد ما أوجد من المخلوقات العظيمة، كالسماوات والأرض.
فملك الله سبحانه ملك مطلق، دون ما سواه من أملاك المخلوقين فهو عارية زائل لا محالة، فهو ملك ناقص ينتهي بموت وزوال صاحبه، فالله سبحانه هو مالك الملك وملك الملوك( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ، فإذا استشعرنا هذه الحقيقة لم يدخل في قلوبنا أي تعظيم لمن ملك الدنيا بأسرها، لأنه ما أخذ معه غير الحنوط والكفن فلنتأمل.
قال القاشاني: الملك، عالم الأجسام، كما أن الملكوت عالم النفوس.
لطيفة في قوله" بيده الملك":
تقديم المسند" بيده" على المسند إليه" الملك" يفيد الاختصاص، أي أن الملك بيده لا بيد غيره، فكل ملك دونه ملك غير تام ناقص زائل( فتعالى الله الملك الحق ) .
"الـ " في " الملك" للاستغراق، إذ تستغرق جميع أفراد وأنواع الملك، وكلها في قدرة الله المعطي المانع.
و الله جل في علاه له الحكم والأمر الشرعي النافذ، فهو المستحق لأن يطاع هو الملك على الحقيقة؛ خلق ودبر ورزق وعدل ورحم، فمن أولى منه بالطاعة والأنقياد وتمام الحب والخضوع؟ فمن نازعه أمر فقد نازعه ربوبيته.
( والله على كل شيء قدير ) مبالِغٌ في القُدرة عليهِ يتصرفُ فيهِ حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكمِ البالغةِ، معطوفة على جملة ( بيده الملك ) التي هي صلة الموصول وهي تعميم بعد تخصيص لتكميل المقصود من الصلة إذ أفادت الصلة عموم تصرفه في الموجودات وأفادت هذه عموم تصرفه في الموجودات والمعدومات بالإعدام للموجودات والإيجاد للمعدومات فيكون قوله ( وهو على كل شيء قدير ) مفيدا معنى آخر غير ما أفاده قوله ( بيده الملك ) تفادي من أن يكون معناه تأكيدا لمعنى ( بيده الملك ) وتكون هذه الجملة تتميما للصلة .
قال بن عاشور: و ( شيء ): ما يصح أن يعلم ويخبر عنه وهذا هو الإطلاق الأصلي في اللغة. وقد يطلق ( الشيء ) على خصوص الموجود بحسب دلالة القرائن والمقامات.
وتقديم المجرور في قوله: على كل شيء قدير للاهتمام بما فيه من التعميم، ولإبطال دعوى المشركين نسبتهم الإلهية لأصنامهم مع اعترافهم بأنها لا تقدر على خلق السماوات والأرض ولا على الإحياء والإماتة.
فكل جبار لا يستطيع أن يحرك ذرة إلا بإذن الله سبحانه، وإنما مكنهم الله فتنة لهم وابتلاء، وحكمة وعدلا، وفي الحياة الحقيقية في الآخرة لا سبيل لذلك .
الآية التي معنا من سورة تبارك جمعت ثلاث حقائق كونية هامة:
الأولى: أن الله تقدس في ذاته وأفعاله وصفاته، عن كل نقص وعيب، فله القدرة الغالبة والتصرف العام والحكم النافذ.
الثانية: الملك كله في يديه سبحانه يدبره بتمام الحمد، والخلق مبتلون بالملك النسبي والسلطان المؤقت الذي هو عارية مستردة.
الثالثة: أنه سبحانه على كل شيء قدير، فلا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ولا يتعاظمه أمر.
اللهم انفعنا بالقرآن، وارفعنا بالقرآن، واجعله شفيعنا يوم نلقاك.
خواطر رمضانية" تَدَبَّر آية " ( الملك:2 )
أيمن الشعبان
@aiman_alshaban
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على قائد الغر الميامين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
بعد أن عرفنا في الآية السابقة معاني عظيمة، من تعاظم وتعالي الجبار المتكبر عن صفات المخلوقين، من بيده الملك والتصرف التام، وهو على شيء قدير، يرفع ويخفض يعطي ويمنع يعز ويذل؛ شرع بعدها يفصل أحكام الملك وآثار القدرة، وما يترتب عليهما من غايات جليلة.
فقال سبحانه( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم )، هنا لابد من استشعار عِظم قدرة الله سبحانه، إذ بعد الإجمال والشمول في صفة الملك والقدرة، بدأ بالتفصيل وأعظم الأوجه التي تتجلى فيها صفة القدرة هي صفة الخلق، ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.
لذلك استدل سبحانه على المشركين بعجز آلهتهم عن الخلق وضعفها عن الإيجاد فقال( أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ) ، وقال سبحانه( أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ) ، وقال جل في علاه( أأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ ) ، وغيرها من الآيات.
وعن قتادة في قوله: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ) قال: أذل الله ابن آدم بالموت، وجعل الدنيا دار حياة ودار فناء، وجعل الآخرة دار جزاء وبقاء.
ومعنى (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ) خلق لكم الحياة ليختبركم فيها وخلق الموت ليبعثكم ويجازيكم بأعمالكم.
خلق الحياة للامتحان، وخلق الموت للجزاء كما قيل: لولا المحن لقدمنا مفاليس، وذلك أن الله تعالى، خلق الجنة. وخلق لها أهلاً، وخلق النار وخلق لها أهلاً، وابتلاهم بالعمل والأمر والنهي، فيستوجبون بفعلهم الثواب والعقاب. والابتلاء من الله تعالى، أن يظهر من العبد ما كان يعلم منه في الغيب.
لماذا تقدم لفظ " الموت " على " الحياة" على الرغم من أن الابتلاء في الأعمال يحصل في الحياة الدنيا والظاهر السياق ذلك، فالجواب كما يلي:
1- في التسلسل الزمني الموت يسبق الحياة، قال تعالى( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) .
2- الموت أعظم في بيان القدرة والملك فهو قهر عظيم لكل حي و لا يخرج أحد من سلطان الموت مهما بلغ سلطانه في الدنيا و هو أهيب في النفوس من ذكر الحياة.
3- الموت هنا تقدم لأن الموت أشد على النفوس وأعظم رهبة وأكثر زجراً، والمقام مقام وعظ وتذكير، فتقديمه أدعى للمبادرة بالأعمال الصالحة، من ذكر وتقديم الحياة فتأمل.
و " أحسن " تفضيل أي أحسن عملا من غيره فالأعمال الحسنة متفاوتة في الحسن إلى أدناها ، ولم يقل سبحانه " أكثر " أو " أزيد" للدلالة على أن ثواب الأعمال غير متعلق بالكثرة والعدد والصورة والهيئة، وحتى يتصف العمل أنه " أحسن" وبالتالي مقبول لابد فيه من إخلاص واقتداء.
سُئل الفضيل بن عياض عن قوله تعالى ( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا ) فقال: هو أخلص العمل وأصوبه. قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال : إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا وصوابا، فالخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة .
والإخلاص: هو إفراد الحق سبحانه بالقصد في الطاعة، وأن يبتغى بهذا العمل وجه الله، بعيدا عن طلب الثناء والشهرة والمحمدة، وأن يكون الله عز وجل الشاهد الوحيد على العمل وطلب الثواب منه.
قال تعالى( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ) ، فالإخلاص طريق الأنبياء وأتباعهم، يقول سبحانه عن الخليل عليه السلام( قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ) .
وتجارة النيات مع أعظم التجارات، فهي تجارة العلماء الفطناء الحكماء الأذكياء العقلاء، فكان سلفنا الصالح يتفقدون نواياهم بل يتعلمون الإخلاص، يقول يحيى بن أبي كثير: تعلموا النية فإنها أبلغ من العمل .
وقد حرص السلف على إخفاء العمل الصالح إلا أن يكون في إظهاره مصلحة، فهذا داود بن أبي هند رحمه الله صام عشرين سنة، ولم يعلم به أهله، كان يأخذ غذاءه ويخرج إلى السوق، فيتصدق به في الطريق، فأهل السوق يظنون أنه قد أكل في البيت، وأهل البيت يظنون أنه قد أكل في لسوق.
ورب عمل عظيم صغرته النية، وعمل يسير عظمته النية، بالنية الصالحة تتحول العادة إلى عبادة، وبالنية الفاسدة تتحول العبادة العظيمة إلى هباء منثورا، يقول معاذ بن جبل رضي الله عنه: إني أحتسب عند الله قومتي وقعدتي.
يقول ابن القيم: العمل من غير إخلاص ولا اقتداء كالمسافر يملئ جرابه رملا يثقله ولا ينفعه.
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في دعائه: اللهم اجعل عملي كله صالحا واجعله لوجهك خالصا ولا تجعل لأحد فيه شيئا.
وقد نستغرب لو عرفنا بأن أسباب النصر والتمكين والعز والرفعة لهذه الأمة يبدأ من الإخلاص، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح(هَلْ تُنصَرُون إِلَّا بِضُعفائِكُمْ؟ بِدعْوتِهمْ وإِخْلاصِهمْ ) .
وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح( بَشِّرْ هذه الأُمةَ بِالسَّناءِ، والدِّينِ، والرِّفعةِ والنَّصرِ، و التَّمكينِ في الأرضِ، فمَنْ عَمِلَ مِنهمْ عَمَلَ الآخرةِ للدُّنْيا، لَمْ يَكُنْ له في الآخرةِ من نَصيبٍ ) .
ولابد أن تكون أعمالنا موافقة لهدي النبي عليه الصلاة والسلام حتى تقبل، قال عليه الصلاة والسلام( من عملَ عملا ليسَ عليهِ أمرُنا فهو ردٌّ ) ، أي مردود على صاحبه.
يقول أبو الدرداء رضي الله عنه: اقْتِصَادٌ فِي سُنَّةٍ خَيْرٌ مِنَ اجْتِهَادٍ فِي بِدْعَةٍ إِنَّكَ إِنْ تَتَّبِعْ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَبْتَدِعَ وَلَنْ تُخْطِئَ الطَّرِيقَ مَا اتَّبَعْتَ الأَثَر.
وقوله: ( وهو العزيز ) يقول: وهو القوي الشديد انتقامه ممن عصاه، وخالف أمره ( الغفور ) ذنوب من أناب إليه وتاب من ذنوبه.
في سورة الإنسان قال تعالى( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ) ، فجاءت " نبتليه" بالتثقيل، بينما في الآية التي معنا " لنبلوكم" بالتخفيف، والجواب: لأن نهاية الآية " العزيز الغفور " والمغفرة فيها رحمة بالتالي خفة، فناسب أن تكون مخففة، بالإصافة إلى أن أسباب الابتلاء ذكرها ربنا مفصلة في سورة الإنسان فناسب التثقيل، ولم تذكر إلا مجملة في تبارك فتأمل.
نسأل الله أن يجعل أعمالنا كلها صالحة، ولوجهه خالصة وأن لا يجعل لأحد فيها شيئا.
خواطر رمضانية" تَدَبَّر آية " ( الملك:3 )
أيمن الشعبان
@aiman_alshaban
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على قائد الغر الميامين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
قال تعالى( الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ) .
أي هو الذي أوجد سبع سموات بعضها فوق بعض في جوّ الهواء بلا عماد، ولا رابط يربطها مع اختصاص كل منها بحيز معين ونظم ثابتة لا تتغير بل بنظام الجاذبية البديع بين أجرام الأرضين والسموات.
لما كان الإنسان هو المقصود من الانتفاع بتلك الآيات الكونية، بدأ بتذكيره بخلقه ثم انتقل لذكر دلائل قدرته المشاهدة للعيان، فقال( الذي خلق سبع سماوات طباقا ) بعضها فوق بعض، غلظ كل سماء منها مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام .
قال المهايمي: أي يوافق بعضها بعضا بلا تضاد، ليتم أمر الحكمة في الكوائن والفواسد.
طباق تأتي جمعا لطبقة ومصدرا من طابق، فهي طبقات واحدة فوق الأخرى وكأنها متطابقة ومتناظرة ومتشابهة في وجودها فتعطي معنى مضاف لمجرد أنها طبقات وشرائح شيء فوق شيء.
وطباقا جمع تكسير فهي أفصح وأبلغ من جمع المؤنث السالم، وهي أشمل وأوسع من كلمة طبقات.
دلالة استخدام كلمة الرحمن في الآية:
بداية السورة تتحدث عن اله سبحانه " بيده الملك" و " هو على كل شيء قدير"، فالي خلق السماوات هو الرحمن، وأمر آخر للإشارة إلى الله خلقها بقدرته القاهرة رحمة وتفضلا.
ومع أن الآية تتحدث عن خلق السماوات إلا أن انعدام التفاوت في كل المخلوقات، لذلك قال " ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت"، ولو قال " ما ترى في خلق السماوات من تفاوت" للزم أن يكون هنالك تفاوت بمخلوقات أخرى فتأمل، فنفى التفاوت عن السماوات وسائر المخلوقات فتأمل.
قال الجمهور إن الأرض مستديرة كالكرة، وأن السماء الدنيا محيطة بها من كل جانب إحاطة البيضة بالمح، فالصفرة بمنزلة الأرض، وبياضها بمنزلة الماء، وجلدها بمنزلة السماء، غير أن خلقها ليس فيه استطالة كاستطالة البيضة، بل هي مستديرة كاستدارة الكرة المستديرة الخرط.
( ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت ) أي: ما ترى في خلق الرحمن من تناقض ولا تباين ولا اعوجاج ولا تخالف، بل هي مستوية مستقيمة دالة على خالقها، وإن اختلفت صورها وصفاتها فقد اتفقت من هذه الحيثية.
( فارجع البصر ) أي كرره، والرجع العود إلى الموضع الذي جاء منه، ( هل ترى من فطور ) أي: نقص واختلال ، أي لا ترى أيها الرائي تفاوتا وعدم تناسب، فلا يتجاوز شيء منه الحد الذي يجب له زيادة أو نقصا.
والمقصود منه التعريض بأهل الشرك إذ أضاعوا النظر والاستدلال بما يدل على وحدانية الله تعالى بما تشاهده أبصارهم من نظام الكواكب، وذلك ممكن لكل من يبصر، قال تعالى: أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج.
فكم نحن بحاجة لإحياء عبادة التأمل، من خلال إمعان النظر والتكرار لعظيم مخلوقات الله، والمشاهدة بدقة وروية وتفكر، ما يؤدي إلى استشعار عظمة الخالق الذي أتقن كل شيء صنعه.
قام - أي رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ - ليلةً من الليالي فقال: يا عائشةُ ذَريني أتعبَّدُ لربي قالت: قلتُ: واللهِ إني لَأُحبُّ قُربَك وأحبُّ أن يُسرَّك قالت: فقام فتطهَّر ثم قام يصلي فلم يزلْ يبكي حتى بلَّ حِجرَه ثم بكى فلم يزلْ يبكي حتى بلَّ الأرضَ وجاء بلالٌ يُؤذِنه بالصلاةِ فلما رآه يبكي قال يا رسولَ اللهِ تبكي وقد غفر اللهُ لك ما تقدَّم من ذنبِك وما تأخَّر قال أفلا أكونُ عبدًا شكورًا ؟ لقد نزلتْ عليَّ الليلةَ آياتٌ ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكَّرْ فيها { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } الآية.
نسأل الله أن يجعل أعمالنا كلها صالحة، ولوجهه خالصة وأن لا يجعل لأحد فيها شيئا.
خواطر رمضانية" تَدَبَّر آية " ( الملك:4 )
أيمن الشعبان
@aiman_alshaban
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على قائد الغر الميامين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
قال تعالى( ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ) .
بعد أن أثبت الله سبحانه روعة ودقة خلق السماوات، وامتناع التباين والعيب والنقص، يحث على تكرار النظر والتأمل والإمعان بتشبيه عجيب وكأن البصر أمر محسوس مشاهد، والسماوات كائن حي.
( ثم ارجع البصر كرتين )، قال ابن عباس: مرة بعد مرة، ينقلب، ينصرف ويرجع إليك البصر خاسئا، صاغرا ذليلا مبعدا لم ير ما يهوى، وهو حسير، كليل منقطع لم يدرك ما طلب.
قال الحسن: لو كررته مرة بعد مرة إلى يوم القيامة لم تر فيه فطورا .
أفاد هذا التعبير " خَاسِئًا " قوة في المعنى المراد، لما في اللفظ من دلالة على معنى الطرد مع الذلة، وأبرزت الآية إحكام عالم السماوات إبرازاً عظيماً بهذه العبارة أيضاً، حيث صورتها لشدة إحكامها كأنها كائن حي يحس بالبصر يتجسس عليه بحثاً عن خلل فيه، فيطرده شر طردة، كما يطرد الكلب بقماءة وذلة، فيرجع البصر من محاولته العنيدة.
التدبر الصحيح بإعمال العقل في معطيات الكتاب و السنة الصحيحة من أعظم ما يعين على فهم حقائق الكون و تخليص القلب من سلطان الحياة المادية.
إن تكرار النظر وتجوال الفكر مما يفيد تحقيق الحقائق، وإذا كان ذلك النظر فيها عند طلب الخروق والشقوق لا يفيد إلا الكلال والحرمان، تحقق الامتناع وما أتعب من طلب وجود الممتنع.
من فوائد الآية العملية:
1- أهمية النظر والتأمل المتكرر في مخلوقات الله، لنرى دقة الصنع وكمال الخلق، يقودنا لإعمال الفكر وانعكاسه على زيادة الإيمان والمبادرة للعمل الصالح.
2- من أعظم وسائل وأسباب تدبر القرآن الكريم تكرار الآيات والنظر بما فيها من كنوز ودرر.
3- أن لا نستعجل بالحكم على الآخرين بمجرد النظر لجزئية معينة، بل لابد أن تكون النظرة شمولية من جميع الجوانب.
4- أي دراسة أو بحث قبل كتابته لابد من استيعاب وافي لجميع حيثيات البحث حتى يكون متكامل، ولا ينبغي الاستعجال في الحكم من خلال نظرة واحدة، فقد يغفل بداية عن أشياء يستدركها لاحقا.
خواطر رمضانية" تَدَبَّر آية " ( الملك:5 )
أيمن الشعبان
@aiman_alshaban
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على قائد الغر الميامين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
قال تعالى( وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ ) .
بعد أن بين الله سبحانه ملكه المطلق وقدرته التامة، وخلقه المتقن للسماوات وامتناع العيب والخلل فيها، شرع في بيان نعمة جديدة ومنة عظيمة، هي تلك النجوم المضيئة والكواكب المنيرة في السماء، فقال ( ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح )، وتسمى الكواكب مصابيح لإضاءتها.
انتقل من دلائل انتفاء الخلل عن خلقة السماوات، إلى بيان ما في إحدى السماوات من إتقان الصنع فهو مما شمله عموم الإتقان في خلق السماوات السبع وذكره من ذكر بعض أفراد العام كذكر المثال بعد القاعدة الكلية.
( وَلَقَدْ زَيَّنَّا السماء الدنيا ) بيانٌ لكونِ خلقِ السمواتِ في غايةِ الحسنِ والبهاءِ إثرَ بيانِ خُلوِهَا عن شائبةِ القصورِ وتصديرُ الجملةِ بالقسمِ لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بمضمونِهَا أي وبالله لقد زيَّنا أقربَ السمواتِ إلى الأرضِ ( بمصابيح ) أي بكواكبَ مضيئةً بالليلِ إضاءةَ السرجِ من السياراتِ والثوابتِ تتراءى كأن كُلَّها مركوزةٌ فيها مع أنَّ بعضَها في سائرِ السمواتِ وما ذاكَ إلا لأنَّ كلَّ واحدةٍ منها مخلوقةٌ على نمطٍ رائقٍ تحارُ في فهمِهِ الأفكارُ وطرازٍ فائقٍ تهيمُ في دركِهِ الأنظارُ ( وجعلناها رُجُوماً للشياطين ) وجعلنَا لها فائدةً أُخرى هي رجمُ أعدائِكُم بانقضاضِ الشهبِ المقتبسةِ من نارِ الكواكبِ وقيلَ معناهُ وجعلنَاهَا ظنوناً ورجوماً بالغيبِ لشياطينِ الإنسِ وهم المنجمونَ ولا يساعدهُ المقامُ والرجومُ جمع رَجْمٍ بالفتحِ وهو ما يُرجمُ بهِ ( وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ ) في الآخرةِ ( عَذَابِ السعير ) بعد الاحتراقِ في الدُّنيا بالشهبِ.
عن قتادة ( وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ ) إن الله جلّ ثناؤه إنما خلق هذه النجوم لثلاث خصال: خلقها زينة للسماء الدنيا، ورجومًا للشياطين، وعلامات يهتدي بها؛ فمن يتأوّل منها غير ذلك، فقد قال برأيه، وأخطأ حظه، وأضاع نصيبه، وتكلَّف ما لا علم له به .
وأعتدنا للشياطين في الآخرة عذاب السعير، تُسْعَر عليهم فتُسْجَر .
وذكر التزيين إدماج للامتنان في أثناء الاستدلال، أي زيناها لكم مثل الامتنان في قوله: ولكم فيها جمال في سورة النحل، وأصل أعتدنا أعددنا أي هيأنا، قلبت الدال الأولى تاء لتقارب مخرجيهما ليتأتي الإدغام طلبا للخفة.
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الدَّلِيلُ الثَّانِي عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى قَادِرًا عَالِمًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ نَظَرًا إِلَى أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ وَمُخْتَصَّةٌ بِمِقْدَارٍ خَاصٍّ، وَمَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ، وَسَيْرٍ مُعَيَّنٍ، تَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَانِعَهَا قَادِرٌ وَنَظَرًا إِلَى كَوْنِهَا مُحْكَمَةً مُتْقَنَةً مُوَافِقَةً لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ مِنْ كَوْنِهَا زِينَةً لِأَهْلِ الدُّنْيَا، وَسَبَبًا لِانْتِفَاعِهِمْ بِهَا، تَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَانِعَهَا عالم، ونظير هذه الآية في سورة الصفات إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ.
( وجعلناها رجوما ) أي جعلنا شهبها، فحذف المضاف، والدليل قوله تعالى( إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب ) ، وَالرُّجُومُ جَمْعُ رَجْمٍ، وَهُوَ مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ مَا يُرْجَمُ بِهِ.
ومصباح جمع مصباح وهو السراج وتنكيره للتعظيم والمدح اى بكواكب مضيئة بالليل اضاءة السرج من السيارات، وجمع الشياطين على صيغة التكثير لكثرتهم في الواقع.
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ إلخ كلام مسوق للحث على النظر قدرة وامتنانا. وفي الإرشاد بيان لكون خلق السماوات في غاية الحسن والبهاء إثر بيان خلوّها عن شائبة العيب والقصور وتصدير الجملة بالقسم لإبراز كمال العناية بمضمونها أي وبالله لقد زينا السماء الدُّنْيا منكم أي التي هي أتم دنوا منكم من غيرها فدنوها بالنسبة إلى ما تحت وأما بالنسبة إلى من حول العرش فبالعكس.
والخلاصة- أن نظام السموات لا خلل فيه، بل هو أعظم من ذلك، فقد زينت سماؤه القريبة منا بمصابيح، هي بهجة للناظرين، وعبرة للمعتبرين، كما إن السماء قد أضاءت على البر والفاجر، فالفجار حصروا أنفسهم في شهواتهم، فلم ينظروا إليها نظر فكر وعقل، بل نظروا إليها باعتبار أن بها تقوم.
خواطر رمضانية" تَدَبَّر آية " ( الملك:6 )
أيمن الشعبان
@aiman_alshaban
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على قائد الغر الميامين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
قال تعالى(وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) .
وهيأنا للذين كفروا بربّهم، وكذبوا رسله، عذاب نار جهنم، وبئس المرجع وما يصيرون إليه، وهو جهنم.
هذا تتميم لئلا يتوهم أن العذاب أعد للشياطين خاصة، والمعنى: ولجميع الذين كفروا بالله عذاب جهنم فالمراد عامة المشركين ولأجل ما في الجملة من زيادة الفائدة غايرت الجملة التي قبلها فلذلك عطفت عليها.
وتقديم المجرور للاهتمام بتعلقه بالمسند إليه والمبادرة به.
وجملة وبئس المصير حال أو معترضة لإنشاء الذم وحذف المخصوص بالذم لدلالة ما قبل بئس عليه. والتقدير: وبئس المصير عذاب جهنم.
والمعنى: بئست جهنم مصيرا للذين كفروا.
وفي وصفهم بالكفر بربهم بيان لعظيم إجرامهم، فقد خلقهم وأنعم عليهم ورحمهم، حتى أنه من رحمته زين لهم سماء الأرض التي يحيون عليها، وهو القدير الغني عنهم وهم أفقر ما يكون إليه و مع ذلك يكفرون به.
( وبئس المصير ) الذي يهان أهله غاية الهوان.
وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير أي المرجع ذلك العذاب المحرق.
قال الناصر: هذا من الاستطراد. لما ذكر وعيد الشياطين، استطرد ذلك وعيد الكافرين عموما.
قد سبق قضاؤنا، وجرت سنتنا أن من أشرك بنا، وكذب رسلنا، فقد استحق عذاب جهنم، وبئس المآل والمنقلب.
والتقدير: وبئس المصير عذاب جهنم والمعنى: بئست جهنم مصيرا للذين كفروا.
و قد وصف الله سبحانه النار في كتابه في تسع مواضع بأنها بئس المصير و في ثلاث مواضع أنها بئس المهاد و في موضع أنها بئس القرار و في أخر أنها بئس مثوى الظالمين فليس هناك بؤس أشد من ذلك .
ولأهل النار مشاهد منذ إلقائهم فيها ومع مرور العذاب، نذكر منها للتأمل والاعتبار:
المشهد الأول: بعد دخولهم يطلبون من العزيز الجبار أن يخرجهم شريطة أن لا يعودوا لما كانوا عليه في الدنيا، قال تعالى( أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ . قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ . رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ) ، فيأتي الجواب مباشرة من رب العزة( قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ ) .
المشهد الثاني: يبدأ العذاب العظيم والصغار المهين لأهل النار، وترتفع الأصوات والبكاء والصراخ، فيتكرر الطلب بالخروج، قال تعالى عن أهل النار( وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ) ، وهكذا يزداد كربهم وتنقطع آمالهم بالخروج.
المشهد الثالث: بعد انقطاع أملهم بالرجوع للدنيا على أمل تغيير الحال، يستمر العذاب ومن شدة عطشهم ونصبهم يطلبون من أهل الجنة الماء أو شيء من الطعام، قال تعالى عن أهل النار( وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ) .
المشهد الرابع: هنا يبدأ سقف المطالب ينخفض شيئا فشيئا، أيسوا من الخروج وشرب الماء يطلبون الآن من خزنة جهنم التخفيف ولو ليوم واحد من العذاب، قال تعالى عن أهل النار( وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ. قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ) .
المشهد الخامس: فشلوا بكل شيء ومن هول العذاب وشدة الألم بقي أن يطلبوا القضاء عليهم والاستراحة مما هم فيه لكن هيهات لهم، قال تعالى عن أهل النار( وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ . لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ) .
فلنتدبر حال الكافرين في الدنيا، وتجبرهم واستكبارهم وعنادهم مع تمتعهم فيها، وللنظر مآلهم في الآخرة من الذل والصغار والعذاب والهوان، بذلك تشفى صدورنا من الأمراض التي تلابسها، فالإنسان بطبيعته يغفل ويزل ويسهو، فلما يرى مصير الكافرين يرجع لرشده إما طمعا بما عند الله من النعيم، أو خوفا من مصير الكافرين، والناجي من أنجاه الله وهداه سبل السلام.
المتأمل لأحوال الكفار في الدنيا سيما أوقات الفتن والمحن وتكالبهم مع المنافقين على المؤمنين؛ والمسلمون يعيشون غربة قاسية ومخاض عسير، ومصيرهم يوم القيامة، تعطي هذه الآية حافز ودافع بأن الله غالب على أمره وناصر عباده فتسكن نفسه وتهدأ وتزداد تفاؤلا، لأن الدنيا لحظات وتزول ثم في الآخرة، فريق في الجنة وفريق في السعير.
خواطر رمضانية" تَدَبَّر آية " ( الملك:7 )
أيمن الشعبان
@aiman_alshaban
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على قائد الغر الميامين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
قال تعالى(إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ ).
ثم يشرع الله سبحانه بذكر فظائع من أحوال أهل النار، فقال سبحانه( إِذَا أُلْقُوا فِيهَا ) أي طرحوا كما يطرح الحطب في النار العظيمة ويرمى بهم، ولم يقل سبحانه( أدخلوا ) مع أنهم داخلون للنار، لبيان شدة عذابهم وصغارهم ومهانتهم وتحقيرهم حال دخولهم نار جهنم، كما يشير ( ألقوا ) أن النار سفلية فيلقى بهم من أعلى لأسفل.
ونظير ذلك ما بينه الله سبحانه في آيات أخرى وكيفية سحبهم ودفعهم في النار، قال تعالى( يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا. هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ) ، أي يدفعون إليها دفعا ويساقون سوقا، وقال عز وجل( إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ. فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ) ، وقال جل وعلا( يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ) .
قالوا: الشهيق فى الصدر، والزفير فى الحلق،أو شهيق الحمار آخر صوته، والزفير أوله، والشهيق: رد النفس، والزفير: إخراجه.( وَهِيَ تَفُورُ ) أي والحال أنها تغلى بهم عليان المرجل بما فيها من شدة التلهب والتسعر؛ فهم لا يزالون صاعدين هابطين كالحب إذا كان الماء يغلى به لاقرار لهم أصلا،والفور شدة الغليان.
قَالَ الثَّوْرِيُّ: تَغْلِي بِهِمْ كَمَا يَغْلِي الحَبّ الْقَلِيلُ فِي الْمَاءِ الْكَثِيرِ.
والآية كأنها تشير لقوله تعالى في موضع آخر أن الناس والحجارة هم وقود النار وحصب جهنم، إذ يقول سبحانه(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ) ، فالهيئة والصفة التي يدخلون بها كصفة صب الوقود على النار المستعرة، كما أن طريقة إلقائهم تؤكد ذلك.
وهنا صورة جديرة بالتأمل يعطيها لنا القرآن؛ وهو مشهد النار كسجن كبير بعيد القعر تستعر ناره بشدة، ويلقى فيه أعداء الله مهانين صاغرين أذلاء، فيشهق إليهم ويفور بهم ويغلي ويرتفع ويحطم بعضه بعضا، أو صورة النار كقدر كبيرة تستعر النيران فيها فإذا ألقى فيها الكافرين شهقت من شدة الغليان بهم ولك أن تجلس فتتدبر وتنظر كم سيكون هناك من صراخ يصم الأذان وآلام وخوف وحسرات واضطراب ولعنات ورعب وذل ونحوذلك .
كان عليه الصلاة والسلام كثيرا ما يستعيذ من النار ويأمر بذلك في الصلاة وغيرها، وقال أنس رضي الله عنه: كان أكثر دعاء النبي عليه الصلاة والسلام ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) .
وبين عليه الصلاة والسلام بأن جهنم يؤتى بها ولها مرابط عظام وملائكة يجرونها، إذ يقول عليه الصلاة والسلام( يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها ).
ويقول عليه الصلاة والسلام( لا تزال جهنم يلقى فيها و تقول: { هل من مزيد } حتى يضع فيها رب العزة قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط و عزتك و كرمك ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا آخر فيسكنهم في فضول الجنة ).
ويقول عليه الصلاة والسلام( ما رأيت مثل النار نام هاربها ولا مثل الجنة نام طالبها ).
ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه( يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه فيطيف به أهل النار فيقولون:يا فلان! ما أصابك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: بلى قد كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه ).
كان السلف الصالح يستحضرون عذاب النار وما فيه من أهوال خوفا وشفقة، حتى انعكس على حالهم وأقوالهم، قال عمر رضي الله عنه: لو نادى مناد من السماء: أيها الناس إنكم داخلون الجنة كلكم إلا رجلا واحدا لخفت أن أكون أنا هو.
قال يحيى بن معاذ: مسكين ابن آدم، لو خاف النار كما يخاف الفقر دخل الجنة.
وقال محمد بن واسع: إذا رأيت في الجنة رجلا يبكي ألست تعجب من بكائه؟
قيل: بلى..
قال: فالذي يضحك في الدنيا ولا يدري ماذا يصير هو أعجب منه.
وكان طاوس يفرش فراشه ويضطجع عليه فيتقلى كما تتقلى الحبة في المقلاة، ثم يقوم فيطويه ويصلي إلى الصبح ويقول: طيّر ذكر جهنم نوم الخائفين .
ولله در مضاء بن عيسى يقول: من رجا شيئا طلبه، ومن خاف شيئا هرب منه، ومن أحب شيئا آثره على غيره.
فإن قال قائل: لماذا عبر في هذه الآية الكريمة بلفظ: الشهيق، وفي الآية الأخرى بلفظ الزفير؟ الشهيق -كما هو معلوم لديكم- إدخال الهواء بشدة إلى الجوف, فكأن جهنم عندما يلقى فيها الكفار تشهق شهقة تأخذهم وتسحبهم إلى جوفها من الداخل، أما (إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) فكأنها كانت تكتم شيئاً في صدرها، فأخرجت النفس ارتياحاً لأنها رأت بغيتها! فلما رأتهم من مكان بعيد أخرجت الهواء الذي بداخلها ثم لما ألقوا فيها سحبتهم بشهيق زائد حتى أدخلتهم في جوفها حتى يتمكنوا فيها من الداخل, والله أعلم.
اللهم أعذنا وأجرنا من عذاب النار، وأدخلنا الجنة مع الأبرار يا عزيز ويا غفار.
خواطر رمضانية" تَدَبَّر آية " ( الملك:8 )
أيمن الشعبان
@aiman_alshaban
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على قائد الغر الميامين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
قال تعالى( تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ) .
تكاد جهنم تتفرق من شدة الغضب عليهم؛ أي: يقرب أن يتمزق تركيبها، وينفصل بعضها عن بعض. شبه اشتعال النار بهم في قوة تأثيرها فيهم، وإيصال الضرر إليهم باغتياظ المغتاظ على غيره المبالغ في إيصال الضرر إليه، فاستعير اسم الغيظ لذلك الاشتعال استعارة تصريحية. قال الإمام: لعل سبب هذا المجاز أن دم القلب يغلي عند الغضب، فيعظم مقداره، فيزداد امتلاء العروق حتى يكاد يتمزق.
والله لو أن إحراق النار بمفرده يوم القيامة للكافرين لكفى به عذابا، لكن هنالك أنواع من العذاب الحسي والمعنوي، ليزداد عذابهم عذابا، وبلائهم بلاء، وألمهم ألما، من ذلك أن النار تكاد تتقطع وتنشق وتتميز وتنفصل من شدة غيظها وحنقها على الكافرين.
والغيظ: هو أقصى وأعلى درجات الغضب، و" تميز " بالأصل " تتميز" وحذف حرف التاء في إشارة إلى أن من شدة غيظ النار على الكافرين وكأنها تنفصل وتتقطع وترجع بسرعة لا تدرك فناسب اللفظ "تميز" فتأمل.
وقوله ( تكاد تميز من الغيظ ) خبر ثان عن ضمير ( وهي ) مثلت حالة فورانها وتصاعد ألسنة لهيبها و رطمها ما فيها والتهام من يلقون إليها بحال مغتاظ شديد الغيظ لا يترك شيئا مما غاظه إلا سلط عليه ما يستطيع من الأضرار .
وهل هناك بلاء فوق أن تسلم لعدوك الذي يتغيظ عليك أشد الغيظ ؟ وهل هناك عذاب فوق أن يكون عدوك هذا نارا مستعرة متأججة تغلي و تفور؟ فهي نار محرقة تحترق غيظا على أعداء الله فاللهم أجرنا من النار فوالله لو سلط الله على الكفار كلابا مسعورة لكان عذابا عظيما فما بالك بنار تكاد تتقطع من الغيظ .
الفوج: هو العدد الكثير من الناس، وفيه دلالة بأن أهل النار يدخلون دفعات كما أن أهل الجنة يدخلون جماعات قال تعالى( وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا ) ، والمعنى أن كل فوج يطرح ويلقى في النار لابد يُسأل هذا السؤال من قبل الخزنة ( ألم يأتكم نذير ؟).
و" الخزنة " جمع خازن وهو الحافظ والموكل، وهو مالك خازن أهل النار كما ثبت في القرآن والأحاديث الصحاح، وأعوانه من الزبانية وعددهم تسعة عشر، ومعهم مساعدين قال عليه الصلاة والسلام(يؤتَى بجَهنَّمَ يومئذٍ لَها سبعونَ ألفَ زمامٍ. معَ كلِّ زمامٍ سبعونَ ألفَ ملَكٍ يجرُّونَها ) ، أما اسم خازن الجنة "رضوان !" لم يثبت ذلك لا بالقرآن ولا بالسنة الصحيحة، وما نقل من روايات ضعيفة أو موضوعة.
( سألهم ) أي: سأل الفوج سؤال توبيخ وتقريع، وضمير الجمع باعتبار المعنى( خزنتها )، أي: خزنة النار، وهي مالك وأعوانه من الزبانية، ليزدادوا عذابا فوق عذاب وحسرة، أي: ليزدادوا العذاب الروحاني على العذاب الجسماني ... وقالوا لهم( ألم يأتكم ) أيها الكفرة الفجرة في الدنيا ( نذير ) أي: منذر يتلو عليكم آيات ربكم، وينذركم لقاء يومكم هذا، ويحذركم منه. والإنذار: الإبلاغ، ولا يكون إلا مع التخويف.
ذكر الله سبحانه مشهد آخر لحوار يحصل في النار بين بعض تلك الأفواج، قال سبحانه عن أحد الأفواج مخاطبا فوج آخر في النار ويتحدث عن فوج ثالث سيلقى في النار( هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ ) ، فيجيب الفوج الداخل ( قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ . قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ ) .
ثم يتفقدون أناس كانوا يسخرون منهم في الدنيا ويستهزئون بهم ( وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ ) ، ثم يجيبوا أنفسهم ( أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ ) ، فلا تحزن طالما أنت على الحق مهما سخر منك الآخرون فالعبرة بالنتيجة والمآل فتأمل، ثم يقول سبحانه ( إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ) .
نسأل الله أن يعيذنا وإياكم من عذاب جهنم، وأن يرزقنا حسن الختام وأعلى الجنان.