وُلِد إسحاق مصطفى درويش في مدينة القدس عام 1896م، وهو ابن شقيقة مفتي فلسطين المجاهد محمد أمين الحسينيّ. تلقّى دروسه الابتدائيّة والإعداديّة في القدس، وقسماً من دراسته العليا في بيروت، ثمّ تخرّج ضابطاً في الجيش العثمانيّ في الحرب العالميّة الأولى.
وبعد الاحتلال البريطانيّ لفلسطين انصرف درويش إلى العمل في مجال الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة من أوّل أدوارها. فاشترك في تأسيس النادي العربيّ وكليّة روضة المعارف الوطنيّة بالقدس، وشارك في تأليف المؤتمرات الفلسطينيّة ولجانها التنفيذيّة.
ولمّا طاردت السلطات البريطانيّة رجال الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة هاجر من فلسطين مع من هاجر من كرام الوطنيّين وقادة الثورات الفلسطينيّة المتعاقبة، فقضى شطراً من حياته في لبنان والعراق وأوروبا برفقة الحاج محمد أمين الحسينيّ، ثمّ استقرّ في مصر عضواً في الهيئة العربيّة العليا لفلسطين، وكان المستشار الأول للحاج أمين الحسينيّ.
وأخيراً، عاد إلى القدس ليقضي فيها سني حياته الأخيرة، حيث وافته المنيّة مساء الجمعة (15 جمادى الآخر سنة 1394هـ-1974م)، ودُفِن فيها.
أحد زعماء آل أبو غوش في النصف الأول من القرن التاسع عشر. تولّى مع أخيه جبر زعامة بني مالك وقيادة صف اليمن مدة طويلة، ولذلك لُقّبا بمشايخ جبل القدس. وشارك في ثورة سنة 1834 على الحكم المصري في فلسطين، فسجنه إبراهيم باشا في عكا. وعقد الأخير صفقة مع آل أبو غوش أطلق إبراهيم بموجبها وعيّن أخاه جبر متسلم (حاكم) سنجق القدس في مقابل انسحابهما من صفوف الثوار، الأمر الذي أضعف تلك الثورة وسهل على إبراهيم باشا عملية القضاء على التمرد.
يتفق معظم المصادر والمرجع العربية والأجنبية على أنّ أصل آل أبو غوش من العساكر الشراكسة ، قدِموا إلى البلد مع الفتح العثمانيّ. وفي القرن السادس عشر عيّنتهم الدولة لحراسة الطريق الرئيسة بين يافا والقدس، فسكنوا قرية العنب وبنوا مركزهم فيها. وأصبح آل أبو غوش بعد ذلك من العائلات الإقطاعية القوية في المنطقة وزعماء صف اليمن في جبل القدس.
ويرتبط اسم العائلة بقرية العنب ومشيختها منذ أواسط القرن الثامن عشر. وقد برز في أواخره الشيخ عيسى أبو غوش الذي يُعتبر مؤسس العائلة. وفي نهاية القرن الثامن عشر توفي عيسى أبو غوش، زعيم العائلة، وخلّف أولاده الأربعة، عثمان وإبراهيم وجبر وعبد الرحمن، الذين أصبحوا مؤسسي فروع آل أبو غوش الرئيسية حتى يومنا هذا.
وبعد وفاة عثمان البكر ورثه إبراهيم في زعامة العائلة ومشيخة ناحية بني مالك. وذلك منذ أواخر سنة 1226ھ/1811م على الأقل. ففي ذلك التاريخ يرد اسمه في سجل المحكمة الشرعية في القدس مقروناً بلقب شيخ مشايخ نواحي القدس. ووطّد إبراهيم زعامته على المنطقة بالتعاون مع إخوته وأقاربه، واصطدم في سبيل ذلك مع العائلات الإقطاعية المنافسة، وعلى رأسها آل سمحان، زعماء صف القيس في جبل القدس. واستمرت المناوشات بين الصفين مدة طويلة، وكانت المعارك بينهم تتجدد بين الفينة والأخرى، لكن التفوّق فيها كان غالباً لآل أبو غوش في ذلك العهد.
وكان لمشايخ النواحي التزام جمع الضرائب في مناطقهم، فقوى ذلك مركزهم الاقتصادي والاجتماعي أيام ضعف الإدارة والحكم العثماني في المنطقة. فقد جمع هؤلاء ثروة كبيرة من وظيفتهم تلك، بالإضافة إلى ضريبة الغفر التي كانوا يجبونها من أهل الذمة المارين على الطريق بين القدس ويافا. وقد وصل مركز إبراهيم وعائلته أوجه في النصف الأول من القرن الماضي وحين قام تمرد في القدس على الحكم العثماني في فترة 1824-1826 لم يستطعْ ولاة الشام وعكا إعادة احتلال المنطقة مدة طويلة. ولم ينجحْ عبد الله باشا، والي عكا، في ذلك إلا بعد استمالة إبراهيم أبو غوش وجماعته وتعهّدهم فتح الطريق أمام جنوده. وفعلاً تقدّم جيشه إلى القدس. وبعد حصارٍ قصير للمدينة فتحت سلماً وعاد الحكم فيها إلى والي الشام.
وحين تقدّمت جيوش محمد علي باشا لاحتلال فلسطين في أواخر سنة 1831، طلب إبراهيم أبو غوش الأمان، وقدّم الطاعة للحاكم الجديد. وكانت سياسة محمد علي وحكمه للمنطقة يتناقضان ومصالح أبو غوش منذ البداية. فقبل فتح عكا اصدر إبراهيم باشا الأوامر إلى علماء القدس وأعيانها بإبطال ضريبة الغفر والأموال المفروضة على الكنائس والأديرة. وأدّت هذه السياسة إلى التذمّر والسخط بين عائلات العلماء والأعيان في لواء القدس، فتخوّف إبراهيم باشا من قيام ثورةٍ قبل تمكّنه من المنطقة. لكن إبراهيم باشا أتمّ احتلال الشام وأقام حكْماً مركزياً قوياً كانت نتيجته الحتمية تضييق الخناق على نفوذ مشايخ الإقطاع في المناطق الريفية، أمثال أبو غوش. ولذا، حين قامت الثورة على الحكم المصري في فلسطين سنة 1834 اشترك فيها آل أبو غوش وعلى رأسهم إبراهيم وأخوه جبر. وألقى إبراهيم باشا القبض على الأخيرين وألقاهما في سجن عكا. لكن محمد علي توصّل معهما إلى اتفاقٍ ينسحبان بموجبه من الثورة في مقابل العفو عنهما وإعادتهما إلى زعامتهما وتعيين جبر متسلماً على القدس. وفعلاً نفّذ الاتفاق ونجح الحكم المصري في القضاء على الثورة في جبل القدس، وعيّن جبر متسلّماً على اللواء في صيف سنة 1834. ولما كان إبراهيم في ذلك الحين عجوزاً هرِماً قام أخوه جبر بالدور الرئيسي في الزعامة والمشيخة. وبقِيَ إبراهيم على قيد الحياة حتى سنة 1836 على الأقل، إذْ يذكر اسمه مع أخيه جبر في حجج بيع وشراء عديدة تم تسجيلها في سجل المحكمة الشرعية في القدس. وتضعضع نفوذ آل أبو غوش في المنطقة مؤقتاً إبان الحكم المصري، وتوفي إبراهيم في أواخر الثلاثينات، لكن ابنه مصطفى قام بدور مهم بعد عودة الحكم العثماني في الأربعينات، كما سيجيء تفصيل ذلك في ترجمته.
توفي سنة 1290ھ/1873م) قائد قلعة القدس (دزدار) في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ومتسلم اللواء، ووكيل المتسلم أكثر من مرة خلال تلك المدة. جمع ثروةً كبيرة واشترى الكثير من الأراضي، وأصبح من أعيان المدينة البارزين في أواسط القرن الماضي.
هو أحمد آغا بن فضل الدين آغا العسلي. والعسلي عائلة عريقة في بيت المقدس، عُرِف منها كبار العلماء. لكن بعض أفرادها دخل الجندية، وخصوصاً في حراسة القلعة فعُين منهم قائد القلعة، الدزدار ولما شغل أفراد العائلة هذه الوظيفة جيلاً بعد جيل، غلب هذا الاسم على العائلة. وكان والده دزداراً، وجابياً للضرائب من القرى التابعة للخاص السلطاني. وانضمّ أحمد آغا إلى جند القلعة. ولما توفّي والده انتقلت الوظيفة إليه.
وحين نشبت ثورة 1825-1827 في القدس على رجال الدولة العثمانية، كان أحمد آغا أحد قادة تلك الثورة. وبسبب مؤهلاته العسكرية قاد مع يوسف آغا الجاعوني عملية الدفاع عن القدس بعد طردِ رجال الدولة منها. وطلبت الدولة من عبد الله باشا، حاكم عكا، إعادة فتح المدينة وتخليصها من أيدي المتمردين. وبعد عدة أيام من حصار المدينة وقصفها بالمدافع، توسّط العلماء بين قائد الجيش المحاصِر وبين قادة الثورة. وسُلّمت المدينة شرط العفو عن الثوار وعدم معاقبتهم. فأرسل أحمد آغا ويوسف الجاعوني إلى عكا. وتقرّر العفو عنهما مع نفيهما عن بيت المقدس. وأمّا أحمد فقد أُبعِد إلى نابلس مدة قصيرة فقط، ورجع إلى القدس بعدها وإلى منصبه في قيادة القلعة. وخلال العقد الثاني من القرن الماضي، أُوكِل إلى أحمد آغا منصب الميرالاي أيضاً، وهو قائد أصحاب الإقطاعات من الزعماء وأرباب التيمار في لواء القدس. وبعد عامٍ من تعيينه بالوكالة، عُيّن في تلك الوظيفة بالأصالة سنة 1241ھ/1826م. وفي رمضان 1244ھ/1829م عيّنه والي الشام متسلماً في لواء القدس بالوكالة بعد عزل المتسلم السابق.
ولما جاء الحكم المصري في الثلاثينات، ضعف مركز أحمد آغا في البداية لكنه تأقلم مع الحكام الجدد وتعاون معهم. وعيّنه محمد شريف باشا حكمدار إيالات الشام ليكون متسلّماً للواء القدس في 9 ذي القعدة 1254ھ/24 كانون الثاني (يناير) 1839 وبقِيَ في منصبه ذاك حتى 22ربيع الثاني 1256ھ/23 حزيران (يونيو) 1840م. وأُعطِيَت المتسلّمية إلى حسين راشد آغا. لكن الحكم المصري كان آخر أيامه، لما انسحبوا من البلد وعاد العثمانيون في 6 تشرين الثاني (نوفمبر) عيّنوه متسلماً بالوكالة مرة ثانية. وفي مدة تسلّمه الحكم في القدس في أواخر العهد المصري، أثيرت قضية ساحة البراق التي طالب اليهود بالسماح لهم بتبليطها. وقد عارض المتولّون على وقف أبي مدين الغوث وعلماء بيت المقدس طلبهم هذا، فرُفع الأمر إلى السلطات المصرية العليا. وفي أيار (مايو) 1840م صدر مرسوم محمد شريف بمنع اليهود من تبليط ساحة البراق لأنها (تابعة لوقف أبي مدين ولم يسبقْ لهم هكذا أشياء بالمحل المذكور) ولذا يسمح لهم بالزيارة فقط من دون رفع أصواتهم وقت الصلاة.
وبعد عودة الحكم العثماني واستقراره، لم يتكرّرْ تعيين أحمد آغا متسلماً للواء القدس ثانية. لكنّه عُيّن في عدة وظائف أخرى. فقد عُيّن متولياً على أوقاف خيرية مهمة، بما فيها التكية العامرية، وناظراً لأوقاف خاصكي سلطان، بالإضافة إلى وظيفة الدزدار، قائد القلعة. وفي 19 ربيع الأول 1262ھ/17 آذار (مارس) 1846م عُيّن مأمور ضبطية الخليل. وفي الأعوام التالية استوطن أحمد آغا القدس. وكان ابنه محمد علي ينوب عنه في الكثير من أعماله. وجمع أحمد آغا من خلال عمله ثروة عظيمة، فاستثمر قسماً منها في شراء الأراضي في المناطق القريبة من القلعة. وفي تلك الفترة، في أواسط القرن الماضي، ازدادت أهمية القدس وقدُم الأجانب من مسيحيين ويهود، واستثمروا أموالهم في البناء والإعمار. وبدأت عملية البناء خارج الأسوار، فارتفعت قيمة الأراضي، وتاجر أحمد آغا فيها حتى أصبح من أثرياء القدس وأعيانها البارزين. وفي سنة 1271ھ/1855م باع أحمد آغا موشيه (موزس) مونتفيوري، الثري الصهيوني البريطاني المشهور، قطعة الأرض التي أقيم عليها حي يمين موشيه أو مشكنوت شأننيم، في الجهة الجنوبية الغربية من القلعة. وقبض أحمد آغا ثمن تلك الأرض مبلغاً قدره اثنا عشر غرشاً أسدياً، وهي العملة الدارجة في ذلك العهد. وقد بنى لنفسه، مثل باقي أعيان بيت المقدس، قصْراً فخماً خارج الأسوار، ويُقال إنّ اليهود ساعدوه في بنائه. وقد عمر طويلاً، إذ توفّي سنة 1873، أي بعد عام واحد من وفاة ابنه البكر الذي كان أحمد آغا يعتمد عليه كثيراً.
هو موسى بن إبراهيم بن عثمان بن الشيخ محمد بن بدير بن حبيش الشافعي المقدسي. وُلِد في القدس عام 1871 وتوفي عام 1947. تلقّى علومه في الأزهر الشريف حيث درس الشريعة و الفقه الإسلامي ومن ثم عاد إلى القدس وباشر عمله في الوعظ والإرشاد مستعينا بمكتبة جده الشيخ محمد البديري إلا أنّه عاد والتحق بكلية الشريعة في الأستانة وبعد تخرّجه عاد إلى القدس ليدرس العلوم الإسلامية في المدرسة الصلاحية معزّزاً إياها بحلقات الدروس الدينية والتي كان يعقدها في مكتبة البديري.
عمل الشيخ موسى في القدس قاضياً وتم إبعاده من قِبَل الحاج أمين الحسيني إلى حيفا إثر خلافٍ بينهما حول معارضته استعمال الحاج أمين لأحد الدور الموقوفة في باب السلسلة حيث إنّ الشيخ موسى كان يعارض استغلال أصحاب النفوذ للممتلكات العامة. وبعد عمله في حيفا انتقل إلى مدينة نابلس وعمل أيضاً قاضياً فيها.
عاد إلى القدس وأكمل عمله بالقضاء وانتُخِب كرئيسٍ قيميّ الصخرة المشرفة. وانتخب ليرأس مجلس علماء فلسطين حيث كان له غرفة بالحرم القدسي يعقد فيها الندوات ويدرس فيها الطلبة. درس الشريعة في الكلية الصلاحية التي أنشأها جمال باشا والتي عادت اليوم للرهبان الفرنسيين. كان يستقبل كبار علماء المسلمين وهم في طريقهم للحج والعمرة للتدارس في أمور الإسلام والمسلمين وله عدة مؤلفات ضُمَّت إلى مكتبة جدّه الشيخ محمد بدير.
كان عالماً تقياً ورعاً مستقيماً نزيهاً عن اللسان والبنان سديد الإيمان والتمسك بالإسلام، بروحه وجوهره دون قشوره، يرفض البدع ويتوخّى الدقة والصدق والأمانة والإخلاص في حياته وعمله وقد كان على شدة تدينه والتزامه بتعاليم الإسلام وأوامره ونواهيه متسامحاً مع من يخالفه الرأي إلا في حقيقة الدين، والقرآن، والأحاديث الصحاح المتفقة مع القرآن.
وقد كان يستند في هذا إلى أنّ الشريعة الإسلامية هي الشريعة السمحاء ويهتدي بما جاء في قوله جل وعلا "وادْعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ولو كنت فظاً غليظ القلب لنفضوا من حولك". وقد كان يفهم الدين الإسلامي على أنّه ثورة على الوثنية والظلم والتسلّط والاستبداد والاستغلال والأنانية والاحتكار، ودعوة إلى الحبّ والإخاء والمساواة إذْ لا عبودية إلا لله، وأنْ لا فضل لأحدٍ على الآخر إلا بالتقوى وأنّ الخلق كلهم عيال الله أحبّهم إليه أنفعهم لعياله، ودعوة إلى التكافل والتضامن والتعاون والإيثار، "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة"، ورفض الاقتتال والتنابز والأنانية والتنافس إلا في خدمة خلق الله وإحقاق الحق وإعلاء كلمة الله.
ومنذ احتلال القدس في أوائل ديسمبر سنة 1917 م من قِبَل الإنجليز بقيادة الجنرال اللنبي، تعرّض الشيخ موسى لمضايقات السلطات العسكرية فكان كثيراً ما يُستدعى للتحقيق معه في الدروس التي كان يلقيها في الحرم والتي كان يحذّر المسلمين فيها من موالاة الإنجليز والاطمئنان إليهم والتعاون معهم، وكانت عنده حلقات درسٍ في علوم الدين والفقه واللغة العربية والتي كان يعقدها في الجامع والمدرسة الملاصقة لدار البديري الكبيرة في باب الحبس مقابل المجلس الإسلامي الأعلى والتي تضمّ قبْر الجدّ الكبير للعائلة الشيخ محمد بن بدير منشئ الجامع والمدرسة وموقفها.
وقد وقعت مشادّات ومصادمات بين الشيخ موسى البديري وبين الحاكم العسكري آنذاك الجنرال "ستروس" إلى حدّ أنّه فكّر جدياً بالهجرة إلى الحجاز هرباً من أذاهم.
وقبل منتصف سنة 1921 م عُيّن الحاج أمين الحسيني مفتياً خلفاً لأخيه كامل الحسيني الذي توفّي في هذه السنة، وتجدر الإشارة هنا إلى أنّه سبق تعيين المفتي حملة شعبية واسعة تطالب بتعين الحاج أمين الحسيني مفتياً خلفاً لأخيه المتوفّى رغم أنّه لم يفُزْ في الانتخابات التي أُجرِيت بين العلماء وكان ذلك تعبيراً عن التضامن معه كطريدٍ للسلطة وتأييداً له في كفاحه ضد الانتداب ووعد بلفور والهجرة اليهودية الصهيونية. وكان الشيخ موسى البديري من بين المرشحين ونال أصواتاً أكثر من الأصوات التي نالها الحاج أمين الحسيني غير أنّ عائلة البديري عامة والشيخ عبد الرحمن البديري وكامل البديري خاصة كانا من أنصار تعيين الحاج أمين وأنشط الدعاة له. ذلك لأنّ الحاج أمين الحسيني كان من الوجهة السياسية أنسب من الشيخ موسى البديري الذي كان ورعاً تقياً والسياسة تتطلب الخداع والمكر والدهاء.
وُلِد الشيخ فائق الأنصاريّ سنة 1895م "خمس وتسعين وثمانمائة وألف ميلاديّة" في منزلٍ بجبل صهيون قرب مقام نبيّ الله داوود –عليه السلام-، وقد ظلّ فيه حتّى نيّف على العشرين من عمره، ثمّ انتقل إلى إحدى دور الأوقاف بالقرب من باب حطّة بناحية باب الأسباط، ولعد جانْ قضى فيه مع أمّه وأبيه وسائر إخوته نحو تسعة أعوام، بنى لنفسه منزلاً في محلّة الشيخ جرّاح شمال باب العمود.
ابتدأ الشيخ فائق حياته العلميّة بدراسة القرآن وتجويده في المسجد الأقصى، ثمّ التحق بالمدرسة الإسلاميّة الكائنة بظاهر سور المسجد الأقصى من جهة باب الساهرة والتي عُرِفت بعد سيطرة الانتداب البريطانيّ على القدس باسم "كليّة الروضة" والتي ظلّت تتبع دائرة الأوقاف الإسلاميّة حتّى ضمّت القدس وغيرها –ممّا تبقّى من مدن وقرى فلسطين في أيدي العرب- إلى المملكة الأردنيّة الهاشميّة تحت اسم "الضفّة الغربيّة".
وقد تلقّى الشيخ فائق في تلك المدرسة مختلف العلوم الدينيّة واللغويّة بالإضافة إلى اللغة التركيّة التي كان يفرضها العثمانيّون على طلاب المدارس الإسلاميّة في مختلف البقاع الشاميّة.
وكان –رحمه الله- يتردّد بين الحين والحين على مجالس الوعظ وحلقات الفقه ودروس الحديث في كلٍّ من الصخرة المشرّفة والمسجد الأقصى المبارك، وبعد أنْ نال إجازة المدرسة المذكورة التحق بإحدى الوظائف الإداريّة في محكمة الاستئناف الشرعيّة بالقدس، ثمّ نُقِل إلى إدارة الأوقاف، حيث أُسنِد إليه الإشراف على أوقاف التكارنة وتكيّة الأتراك.. وقد ظلّ يباشر مهام منصبه هذا حتّى اصدر المجلس الإسلاميّ الأعلى قراراً بترقيته شيخ سدنة المسجد الأقصى حتّى سنة إحدى وثلاثين وتسعمائة وألف ميلاديّة.
وقد أتاحت له هذه الوظيفة الجديدة فرص المشاركة السريّة والعلنيّة في الأعمال الوطنيّة بعيداً عن أعين الإنجليز، إذْ كان له من وظيفته ما يبعد عنه الشكوك والشبهات، إذْ لم يكنْ يخطر للإنجليز على بال أنّ شيخ سدنة المسجد الأقصى يجيد حمل البندقيّة ويحسن استعمال الأسلحة الأوتوماتيكيّة بل وإلقاء القنابل اليدويّة وتفجير أصابع الديناميت.
الشيخ فائق شحادة حسن الأنصاريّ شيخ الحرم القدسيّ، لم يغادر الحرم طوال فترة القتال 1948
ولا غرو، فقد كان –رحمه الله- قد ضرب بسهمٍ وافر وقام بجهدٍ كبير في محاربة الصهاينة ومقاومة البريطانيّين إبّان ثورة سنة 1936م.
وقد استهلّ جهاده في سبيل تحرير بلاده من حكم البريطانيّين وتطهيرها من دنس الصهاينة الغاصبين بالانتماء إلى جمعيّة "اليد السوداء" التي كان يرأسها "شكيب قطب" والتي كانت تقوم بمختلف الأعمال الفدائيّة ضدّ الصهاينة وعساكر الإنجليز.
وكان أوّل عمليّة فدائيّة أُجرِيَت تحت إشراف الشيخ فائق هي تدمير سيّارة عسكريّة إنجليزيّة كانت تقف خارج باب الأسباط لاعتراض جماهير المسلمين الذين كانوا في طريقهم من المسجد الأقصى إلى محلّة رأس العمود ليستقلّوا السيّارات لزيارة النبي موسى جرياً على العادة المتّبعة كلّ عام، إذْ ظلّ المسلمون منذ أيّام صلاح الدّين الأيّوبيّ يخرجون في شهر نيسان (أبريل) من كلّ عام إلى زيارة النبيّ موسى احتفالاً بمولده –عليه الصلاة والسلام-.
تمّ أكثر –رحمه الله- من العمليّات الفدائيّة داخل القدس وخارجها، فقد حدث أنْ ألقى بنفسه قنبلة يدويّة من خلف سور المسجد الأقصى على جمهرةٍ من الصهاينة أمام حائط البراق.
وفي الفاتح من شهر أيّار (مايو) سنة ستّ وثلاثين (1936م)، خرج الشيخ فائق ومعه أربعة من الفدائيّين الذين كانوا يسيرون خلفه دون أنْ يشعر أحدٌ بأنّهم في صحبته إلى جهة محطّة القدس العموميّة للسكك الحديديّة لتنفيذ عمليّة نسف القطار الذي كان قد تقرّر قيامه من المحطّة المذكورة في تمام الساعة الحاديّة عشرة بعد ظهر ذلك اليوم، لينقل مئات الجنود من الإنجليز والصهاينة إلى تل أبيب، للمحافظة عليها من هجمات المجاهدين الذين كانوا يحدقون بها وقتذاك تحت قيادة الشيخ حسن سلامة.
وقد استطاع الشيخ فائق ورفقاؤه من أعضاء جمعيّة "اليد السوداء" أنْ ينسفوا ذلك القطار بعد خروجه من المحطّة بدقيقتيْن فقط، إذْ انفجرت أصابع الديناميت التي وضعوها تحت عجلاته عند مروره فوقها عند أوّل طريق بيت صفافة-القدس. وقد دُمّرت القاطرة وتحطّمت ثلاث عربات، وقُتِل وجُرِح عددٌ كبيرٌ من الإنجليز، أمّا الصهاينة فلم يُصَبْ منهم في تلك الحادثة سوى خمسين فرداً.
وفي شهر آب (أغسطس) من هذا العام نفسه أوكلت قيادة اليد السوداء إلى الشيخ فائق أمر تفجير قنبلةٍ يدويّة في دبابة إنجليزيّة كانت تقف أمام باب الخليل قرب القشلاق، وكانت الحيلة تقضي أنْ يكون الفدائيّ معمّماً كيْ يتسنّى له الاقتراب من تلك لديار دون أنْ يعترضه أحد الجنود.ومّما يثير الدهشة أنّ الشيخ فائق قد ألقى القنبلة بيده في جوف الدبّابة وعيون الإنجليز ترنو إليه. ويقول شهود العيان إنّهم لم يرتابوا فيه، ولا ظنّوا أنّه هو الذي ألقاها. وقد تظاهر بالخوف والفزع وألقى بنفسه على الأرض متظاهراً بالإغماء.
وفي سنة ثمانٍ وأربعين كان الشيخ فائق يقضي الليالي وحده في غرفته بالمسجد الأقصى والأبواب مغلقةٌ عليه، وقنابل اليهود تتساقط من حوله، وقد ذكر لي بنفسه أنّه أحصى ما ألقاه اليهود على الصخرة المشرّفة في ليلةٍ واحدةٍ بألفٍ ومائتيْ قنبلة.
وقال إنّه ذهب في صبيحة ذلك اليوم على رأس وفدٍ من أهالي القدس إلى لكتيبة الأردنيّة التي كانت تعسكر في جبل المكبّر ليطالبهم بالجدّ في المحافظة على المسجد الأقصى والصخرة المشرّفة، وقال لذلك القائد الذي كان يتلقّى أوامره من جلوب باشا الإنجليزيّ: "إذا كنتم لا تريدون المحافظة على المسجد الأقصى فإنّ الجماهير من أهالي القدس مستعدّون للدفاع عنه والمحافظة عليه بأرواحهم، ولا نريد منكم سوى أنْ تعطونا هذه البنادق التي في أيديكم".
وفي أُخريات شهر نيسان (أبريل) سنة ثمانٍ وأربعين (1948م)، قام اليهود بهجومٍ على باب العمود فتصدّى لهم الشيخ فائق على رأس فريقٍ من الحرس الوطنيّ. وقد دامت المعركة نحو ساعتيْن، انجلَتْ بهزيمة الصهاينة وانتصار المسلمين.. غير أنّ الشيخ فائق قد أصيب في صدره بإحدى شظايا قنابل اليهود، ثمّ حُمِل إلى مستشفى المطلع بالطور حيث أُجرِيَت له عمليّة جراحيّة لاستخراج تلك الشظيّة، ولكنّه ظلّ متأثّراً بهذه الجراح حتّى صعدت روحه إلى الملأ الأعلى سنة تسعٍ وأربعين (1949م)، بعد حياةٍ حافلةٍ بأعمال البطولة والفداء.
نشأ هذا الشيخ المجاهد في بلدة من أعمال فاس بالمملكة المغربيّة، وقد استهلّ حياته العلميّة بحفظ القرآن وتجويده على رواية ورش، ثمّ التحق بجامعة القرويّين حيث درس العلوم الدينيّة واللغويّة، وكُلّف أثناء ذلك بحفظ أشعار المشارقة كالمتنبّي وأبي تمّام والبحتريّ وأبي علاء المعريّ. وقد استظهر كتب ابن مالك –كالألفيّة في النحو- ومؤلّفات ابن هشام –كمغني اللبيب في قواعد العربيّة، وشرح حروف المعاني-. كما درس بطريقة التلقّي والرواية كتاب الخليل الكبير في فقه مالك، وصحيح مسلم في الحديث، وكتاب الموطّأ الذي هو من تأليف الإمام مالك صاحب المذهب الفقهيّ الذي يعتنقه جميع عرب المغرب بلا استثناء.
فلمّا ثار الأمير عبد الكريم الخطّابي على الاستعمار الفرنسيّ والأسبانيّ، انضمّ الشيخ مهدي إلى تلك الحركة التحرريّة وانضوى تحت لوائه.
وقد كان ذا حظوةٍ لديه طيلة السنوات الأربع التي حرّر فيها الأمير عبد الكريم جميع البلاد المراكشيّة من جنود الاحتلال، فلمّا عاد الاستعمار الفرنسيّ والأسبانيّ إلى مراكش سنة 1926م وأُسِر الأمير عبد الكريم، خرج الشيخ مهدي مهاجراً إلى بلاد المشرق واستقرّ به المطاف في بيت المقدس، حيث ولاه المجلس الإسلاميّ الأعلى إدارة شؤون أوقاف حارة المغاربة، وسكن الحارة المذكورة في منزلٍ بإزاء سور المسجد الأقصى، على مقربةٍ من حائط البراق الذي كان وما زال يؤمّه اليهود على اختلاف مذاهبهم المليّة ونزعاتهم الدينيّة يبكون وينتحبون على قتل نبيّ الله يحيى –عليه السلام- لاعتقادهم أنّه بقيّة من جدار هيكل سليمان وهو زعْمٌ لم تثبت صحّته حتّى الآن بل إنّ بطلانه في تقدير علماء التاريخ والآثار كان وما زال هو الصحيح.
وقد اشترك الشيخ مهدي في التحريض على الثورة التي اندلعت شرارتها من المسجد الأقصى سنة 1929م، إذْ كان الشيخ مهدي وغيره من علماء الإسلام قد وقفوا يخطبون الناس في يوم الجمعة إثر أداء الصلاة ويحضّونهم على الثورة ضدّ الصهاينة والإنجليز. وقد اندفع في ذلك اليوم الشيخ مهدي من رحاي المسجد الأقصى على رأس جماعةٍ من سكّان باب السلسلة وحارة المغاربة إلى حيّ اليهود بالقدس القديمة فقتلوا عدداً غير قليلٍ ممّن وقع في أيديهم من الصهاينة الدخلاء، وفي اليوم التالي اعتُقِل الشيخ مهدي ووُضِع في سجن المثقوبيّة بظاهر سور القدس جنوب غرب الهوارة. وقد لبث في السجن بضعة أشهر ثمّ أُطلِق سراحه بعد أنْ أكثر السيّد موسى كاظم من بذل المساعي والاتصالات لدى المندوب السامي، وعند الإفراج عنه طالبه الإنجليز بانْ يقسم على المصحف أنّه لن يعود إلى تحريض الناس ضد اليهود ولكنّه امتنع وقال لهم في صراحة وشجاعة ورباطة جأشٍ منقطعة النظير إنّ الجهاد فرض عينٍ على المسلمين إذا ما حلّ بدار الإسلام احتلالٌ أو استعمارٌ أو وقع عليها أيّ لونٍ من ألوان العدوان.
وفي ثورة 1936م اشترك في المعارك التي كان يخوضها المجاهدون بقيادة الشيخ سعيد العاص في جبال القدس والخليل. ويُقال إنّه كان على مقربةٍ منه حينما وقع شهيداً بفعل رصاص الأعداء في قرية حوسان.
ومّا ألّف السيّد شكيب قطب جماعة الفدائيّين الذين قاموا بإغلاق مدينة القدس سنة 1937م كان الشيخ مهدي يقود إحدى مجموعاتهم التي كانت تعسكر عند باب الشهباء المؤدّي إلى جبل صهيون، وقد ظلّ على ذلك الحال 40 يوماً ثمّ قرّرت حكومة الانتداب أنْ تستولي على القدس القديمة بالقوّة والعنف، فأرسلت نحو ستّة آلاف جنديّ مسلّحين بالمدافع الرشاشة والبنادق سريعة الطلقات وبالقنابل والمتفجّرات. ولمّا لم يكنْ الفدائيّون يملكون غير المسدّسات وبعض البنادق العتيقة وقد نفد ما لديهم من ذخيرة، فقد انسحبوا أمام الإنجليز وكان في مقدّمة المنسحبين شكيب قطب نفسه، أمّا الشيخ مهدي فإنّه قد ظلّ حيث هو يُطلِق النار تجاه جموع عساكر الإنجليز من خلف احد الجدران حتّى نفدت ذخيرته، ولولا أنْ أخذه الشيخ عارف الشريف إلى منزله حيث أخفاه هناك عن أعين الإنجليز لأسروه وقتلوه ولكنّ الله سلّم، إذْ قُدِّر له أنْ يعيش حتّى عام 1045م، ثمّ فاضت روحه إلى بارئها وهو يتلو القرآن، تحت قبّة الصخرة المشرّفة.
وقد قال الذين اجتمعوا به في أخريات حياته إنّه كان يأسف على نجاته من رصاص الإنجليز، إذْ كان يودّ أنْ يظفر بالشهادة أُسوةً بسلفه المجاهدين من أمثال الشيخ سعيد العاص، وعبد الرحيم الحاج محمد وعزّ الدين القسّام.
اشتهر الشيخ عبد القادر المظفّر –في حياته- بالصدق في القول والإخلاص في العمل، والتفاني في سبيل الله والوطن، وكان محبّباً لدى أصدقائه ومخالطيه موقّراً عند خصومه ومخالفيه، فلم يُسمَع ذمّه من أحد، ولا طعن في عرضه إنسان، يل كان يذكره الجميع برباطة الجأش وقوّة الشكيمة ومضاء العزيمة وحسن التديّن وعمق الإيمان.
وُلِد الشيخ عبد القادر المظفّر بالقدس القديمة، سنة اثنتين وتسعين وثمانمائة وألف ميلاديّة (1892م) في بيت علمٍ وأدب، إذ كان والده يشغل منصب مفتي الحنفيّة بمدينة القدس، ويشرف على إدارة الوعظ والإرشاد في مختلف أنحاء البلاد، وكان معروفاً بالتقى والورع، مشهودٌ له بالتفوّق على أقرانه في الفقه ورواية الحديث.
وقد عُنِيّ الشيخ المظفّر بتربية ابنه تربيةً دينيّة ونشئه تنشئةً وطنيّة– إذ كان يحفّظه بنفسه القرآن ويعلّمه تجويده، ويدرّسه كتب الفقه، ويروي له أشعار لحماسة، وأخبار الأبطال المكافحين.
وقد ظلّ يأخذ العلوم الدينيّة واللغويّة عن أبيه حتّى توفّاه الله وكانت سنّه وقت أنْ قُبِض والده نحو الخامسة عشرة فكفله عمّه الذي كان آنذاك ضابطاً في الجيش التركيّ وكان أحد جماعة الضبّاط العرب الذين كانوا يعملون على تخليص الشعوب العربيّة من نير الدولة العثمانيّة. وبعد وفاة الشيخ المظفّر بنحو سنتين ارتحل الشيخ عبد القادر إلى القاهرة حيث انتسب إلى رواق الشوام بالأزهر، وقد ظلّ في جواره يستظهر العلوم الدينيّة واللغويّة حتّى نال الشهادة الأهليّة المؤقّتة سنة 1918م.
ثمّ عاد إثر انتهاء الحرب العظمى إلى فلسطين ليجد الحال فيها قد تبدّل من شيّء إلى أسوأ إذ كان الإنجليز قد خلفوا الأتراك في احتلال البلاد وأخذوا يعيثون فيها فساداً.
ولا غرو فقد استهلّ الإنجليز حكمهم فلسطين بفتح أبواب الهجرة اليهوديّة على مصراعيها من جهة، ونقل ملكيّة الأراضي الأميريّة إلى الأيدي الصهيونيّة من جهةٍ أخرى؛ الأمر الذي أثار حفيظة الشيخ عبد القادر ضدّ الصهاينة وأحنقه على الإنجليز، فراح يخطب الناس إثر صلاة الجمعة في المسجد الأقصى تارةً، وفي مسجد عمر بن الخطّاب تارةً أخرى، يحثّهم على الثورة والجهاد للمحافظة على الأرض من اغتصاب الصهيونيّين وتحرير البلاد من حكم الانتداب، فأغضب بذلك البريطانيّين وأقضّ مضاجع الصهيونيين، فأوعزت الوكالة اليهوديّة إلى المندوب السامي الإنجليزي أنْ يأمر باعتقاله فتردّد بادئ الأمر، ولكنّه عاد فاستجاب لزعماء الصهاينة ونفّذ لهم ما طلبوه، إذْ انتهز فرصة الثورة التي اشتعلت سنة 1920م للمطالبة بوقف الهجرة اليهوديّة وإلغاء وعد بلفور وإقامة حكومة عربيّة مستقلّة في البلاد، فأمر باعتقال الشيخ عبد القادر المظفّر ووضعه في سجن المسكوبيّة بتهمة تحريض الجماهير على الثورة ضدّ الصهاينة والبريطانيّين؛ ثمّ رأى المندوب السامي أنْ يكسب ودّ هذا الخطيب المفوّه عسى أنْ يتحوّل عن مبدئه، ويصبح أحد صنّاع الإنجليز، فأخرجه من السجن، وأسند إليه منصب الإفتاء.. غير أنّ ذلك لم يكنْ بالطعم الذي يوقِع الشيخ عبد القادر في الشَرك الأثيم، أو يخرجه من حلبة المكافحين وزمرة المجاهدين بل ظلّ –رحمه الله- ينافح عن الأماكن المقدّسة، ويكافح في سبيل تحرير فلسطين..
ففي شهر آب (أغسطس) سنة 1922م كان الشيخ عبد القادر في مقدّمة الداعين إلى المؤتمر العربيّ الفلسطينيّ الخامس الذي انعقد في نابلس والذي أقرّ فيه المؤتمرون بالإجماع الميثاق الوطنيّ التالي:
"نحن ممثّلي فلسطين، أعضاء المؤتمر العربيّ الفلسطينيّ الخامس، نقسم أمام الله والأمّة والتاريخ بانْ نواصل المساعي المشروعة لتحقيق الاستقلال والاتّحاد العربيّ، ورفض الوطن القوميّ اليهوديّ، والهجرة الصهيونيّة..".
وفي اليوم الثالث عشر من شهر تشرين الأول (أكتوبر) سنة ثلاثٍ وثلاثين وتسعمائة وألف (1933م) خرج الشيخ عبد القادر المظفّر من المسجد الأقصى يقود جماهير المصلّين في مظاهرةٍ عارمة، تندّد بالانتداب البريطانيّ، وتستنكر في شدّة وعنف فكرة إنشاء وطنٍ قوميّ يهوديّ في فلسطين، وتطالب في إلحاحٍ وتصميم بوقف الهجرة اليهوديّة إلى فلسطين، وقد أمطر عساكر الإنجليز جموع المتظاهرين بوابلٍ من رصاص بنادقهم، فاستشهد عددٌ غير قليل وأصيب خلْقٌ كثير بجراحات مختلفة، ثمّ قبضوا على الشيخ عبد القادر المظفّر وعلى اثنيْن آخرين من رجال الوطن المخلصين، وبعد أنْ قضوا في قشلاق البوليس بقلعة القدس زهاء عشرين يوماً حوكموا محاكمةً صوريّة، ثمّ صدرت الأحكام عليهم بالإعدام، وبذلك نال الشيخ عبد القادر شرف الاستشهاد.
(1897-1984) موسى فيضي العلميّ هو سليل آل العلميّ الذين يعود بهم النسب إلى الحسن بن فاطمة الزهراء –رضوان الله عليهما-، وموسى فيضي هو ابن فيضي العلميّ أفندي، رئيس بلديّة القدس المتوفّى سنة 1924م، وجدّه هو أحد أعيان القدس البارزين في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، ومن آثاره المصنّفة كتاب: "فتح الرحمن لطالب آيات القرآن" المطبوع فيبيروت
وُلد موسى قيضي العلميّ عام 1897م على الأرجح، في بيت المقدس ودرس فيها علومه الأولى، وقد تلقّى دروساً في "المدرسة الدستوريّة" بالقدس لمؤسّسها خليل السكاكينيّ وأمضى فيها سنتين، ومنها انتقل إلى كليّة "الفرير" بالقدس وقضى على مقاعد الدراسة ثلاث سنوات، وبعد نشوب الحرب العالميّة الأولى دخل الجنديّة، وتنقّل بين دمشق وإسطنبول، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها قصد جامعة "كامبردج" في بريطانيأ حيث درس الحقوق (1919-1922)، وكان اول شابٍ فلسطينيّ يدخل تلك الجامعة ويتخرّج فيها، ثمّ التحق بمعهدٍ مختصّ للحقوق وتخرّج فيه عام 1923م وعاد إلى فلسطين. في العام 1925م عُيّن العلميّ في وظيفة كبرى بدائرة النيابات العامّة بالقدس وأصبح سكرتيراً "للمندوب السامي البريطانيّ"، ويُقال غنّها أعلى وظيفة أُسندت لعربيّ في فلسطين، لكنّه استقال من منصبه سنة 1937م مع اشتداد النقمة على البريطانيّين، ولجأ إلى سوريّة ثمّ عاد إلى فلسطين عام 1940م. عندما دعت بريطانيا إلى "مؤتمر فلسطين" في لندن عام 1939م كان العلميّ أحد أعضاء الوفد الفلسطينيّ المفاوض، ومع بداية الحرب العالميّة الثانيّة أُبعد موسى إلى العراق، وظلّ فيه إلى أن دخله الإنكليز عام 1940م، فسمحوا له بالعودة على فلسطين والإقامة في قرية "شرفات" التي يملكها آل العلميّ بالقرب من مدينة بيت لحم، إقامة جبريّة لمدة سنة، ثمّ عاد إلى القدس وزاول المحاماة. مثّل موسى فيضي العلميّ عرب فلسطين في اجتماعات جامعة الدول العربيّة التأسيسيّة عام 1940-1945م، وأصبح عضواً في للجنة العربيّة العليا عام 1945م لمدّة قصيرة، ثمّ عمل في السياسة بعد عام 1948م، ثمّ اعتزل الحياة السياسيّة ولتزم مزرعته في أريحا، إلى أن توفّيَ عام 1989م، تعرّض خلالها لأكثر من عشر محاولاتٍ لاغتياله. ويُنسب للعلميّ أنّه اقترح في 1 تشرين أول 1944م تأسيس صندوق قوميّ عربيّ عام تشترك فيه جميع الأقطار العربيّة وتشرف على إدارته، فتوقف للعرب أراضي فلسطين الباقية لتظلّ في أيديهم. من آثاره العلميّة: كتابٌ قيّم أسماه "عبرة فلسطين". طُبِع ثلاث طبعات في عام 1949م، وقد كتب عنه الكثيرون. ويؤخذ على العلميّ قبوله "الوظيفة" في الإدارة البريطانيّة، وصداقته لـ"تيدي كوليك" الذي أصبح رئيساً لبلديّة الاحتلال في القدس لكنّ المدافعين عنه يذكرون أنّ منصب "الإفتاء" نفسه كان يُعتبر ذلك "وظيفة"، وكان المندوب السامي هو الذي يختار من يريد لهذا المنصب من بين عددٍ من المرشّحين، وانّه تعاون مع الحاج أمين الحسينيّ أثناء ثورة 1936م، على الرغم من موقعه الوظيفيّ، وأنّه استقال من منصبه سنة 1937م ولجا إلى سوريّة، وأنّه كان يُعتبر خصماً لدوداً لرئيس بلديّة الاحتلال في القدس على الرغم من حرصه على التواصل معه . حياة موسى العلميّ أثارت جدلاً واسعاً، ويظهر أنّ الرجل قد تُجُنّيَ عليه، وقد بولغ في الأمور التي أُخذت عليه، وقد أثبت له الخصوم والمؤيّدون شدّة دفاعه عن فلسطين، ونزعة وحدويّة كبيرة، وقد ظلّ موسى فيضي العلميّ يُردّد على ما قبل وفاته مقالته الشهيرة: "إنّنا لن ننتصر على إسرائيل النصر النهائيّ حتّى ننتصر على أنفسنا"
وُلد إميل الغوري في القدس عام 1907م. أتمّ دراسته الثانويّة في مدرسة المطران بالقدس، وتخرّج منها سنة 1922م. ثمّ انطلق إلى الحياة العمليّة، وساهم بالعمل الوطنيّ، وانتُخِب لعدّة سنوات سكرتيراً للنادي العربيّ الأرثوذكسيّ بالقدس.
وفي عام 1929م، قصد الولايات المتّحدة الأمريكيّة ونال شهادات في تاريخ الشرق الأوسط. وفي عام 1933م، عاد إلى فلسطين فأصدر صحيفة أسبوعيّة باللغة الإنجليزيّة، أغلقتها السلطات البريطانيّة بعد تسعة أشهر من تاريخ صدورها. وفي العام نفسه، انتُخِب عضواً في اللجنة التنفيذيّة للمؤتمر الفلسطينيّ السابع، فأسهم في الحركة الوطنيّة وفي أعمال الجهاد الفلسطينيّ، فاعتقلته السلطات البريطانيّة.
وفي عام 1934م، أصدر الغوري مجلة أسبوعيّة باسم "الشباب" وجريدة يوميّة باسم "الوحدة العربيّة"، لكنّ سلطات الاحتلال البريطانيّ أعلقتها وصادرت المطبعة. وفي هذه الفترة، نال شهادة دبلوم في الحقوق، وأُجيز كمحامٍ، لكنّه انصرف إلى العمل الوطنيّ فانتُخِب عام 1935م عضواً في الوفد الفلسطينيّ الذي اتّجه إلى لندن لشرح القضيّة الفلسطينيّة. وفي عام 1937م انتدبته اللجنة العربيّة العليا في فلسطين عضواً في وفدها إلى جنيف للدفاع عن القضيّة الفلسطينيّة أمام عصبة الأمم، ثمّ في لندن.
وفي العام نفسه انتدبته اللجنة العربيّة في فلسطين لتأسيس المكتب العربيّ الفلسطينيّ للدعاية والإعلام في لندن. ثمّ عاد إلى بيت المقدس، حيث تولّى رئاسة تحرير جريدة "اللواء" اليوميّة الناطقة باسم الحاج أمين الحسينيّ.
وفي عام 1938م مثّل الغوري اللجنة العربيّة العليا في المؤتمر البرلمانيّ المنعقد في القاهرة. وفي عام 1946م تولّى تحرير جريدة "الوحدة" المقدسيّة، وبعد تشكيل الهيئة العربيّة العليا لفلسطين خلال الدورة الاستثنائيّة لمجلس جامعة الدول العربيّة المنعقد في بلودان بسورية، انتُخِب عضواً في هذه الهيئة.
وفي عام 1947م كان من ممثّلي الهيئة العربيّة إلى مؤتمر المائدة المستديرة المنعقِد في لندن، وانتدبته الهيئة سكرتيراً لوفدها إلى الأمم المتّحدة لحضور دورتها الاستثنائيّة في أيّار/مايو 1947م.
بعد النكبة عام 1948م انتُخِب الغوري سكرتيراً عاماً للمجلس الوطنيّ الفلسطينيّ المنعقد في مدينة غزّة، وهو المجلس الذي أعلن قيام "حكومة عموم فلسطين". ثمّ أصبح ممثّلاً للهيئة العربيّة في بيروت عام 1950م إلى 1952م، ثمّ انتقل إلى مصر كرئيسٍ لدائرة الدعاية ورئيسٍ للدائرة السياسيّة حتّى عام 1966م.
اشترك الغوري في الوفود الفلسطينيّة، ومثّل فلسطين في عدّة مؤتمرات. وفي عام 1966م انتُخِب نائباً عن القدس ومنطقتها في مجلس النوّاب الأردنيّ. وفي عام 1969م عُيّن وزيراً للشؤون الاجتماعيّة والعمل في الحكومة الأردنيّة. وفي عام 1971م عُيّن وزير دولةٍ لشؤون رئاسة الوزراء.
ترك إميل الغوري تراثاً فكريّاً حافلاً، فمن مؤلّفاته: "المؤامرات الكبرى واغتيال فلسطين"، "المعذّبون في أرض العرب"، "قضيّة فلسطين في الأمم المتّحدة"، و"الشقيريّ في الميزان".
كان رحمه الله مجاهداً مستتراً، قد بالغ في التقية، وأحاط أمره بسياجٍ سميك، من الكتمان فلذلك جهله أكثر الناس، ولم يعلم بأمره إلا القليل.
وُلِد الشيخ أمين ببلدةٍ في شرق شمال فلسطين اسمها "بيت عور"، ثمّ اصطحبه أبوه إلى القدس وهو في العاشرة من عمره حيث ولِيَ منصباً رفيعاً في إدارة الإفتاء بالمجلس الإسلاميّ الأعلى.
ولمّا أشرفت سنّ الشيخ أمين على العشرين؛ أرسله أبوه إلى مصر لأجل تلقّي العلم بالأزهر، فجاور فيه نحو اثنتيْ عشرة سنة، نال في نهايتها شهادة العالِميّة المؤقّتة، ثمّ عاد إلى فلسطين حيث ولِيَ منصب قيّم الصخرة المشرّفة ببيت المقدس، ولم يلبثْ أنْ رقّاه المجلس الإسلاميّ الأعلى إلى منصبٍ أجلّ وأخطر من الناحيتيْن الدينيّة والإداريّة، إذْ أُسند إليه منصب أمين عام سرّ الإفتاء، ثمّ أضيفت إليه وظيفة مدرّس التفسير بمسجد الصخرة شرّفها الله، وقد ظلّ يدرّس كتاب جامع البيان في تفسير القرآن للعلامة القرطبيّ، مع قيامه بمهام منصبه في إدارة الفتوى بالمجلس الإسلاميّ الأعلى حتّى نال الشهادة.
كان الشيخ أمين –رحمه الله- موضع ثقة جماهير المجاهدين، ومستودع سرّ قادة المناضلين في كلٍّ من القدس ونابلس والخليل، طيلة أيّام ثورة 1936م، كما كان يتمتّع بتقدير رئيس وأعضاء اللجنة العربيّة التي كانت تتولّى وقتذاك أمْر الإشراف على سيْر الثورة الفلسطينيّة تنظيم شؤون المجاهدين، ومنْ ثمّ أصبح الشيخ أمين يمثّل حلقة الاتصال بين اللجنة العربيّة وقادة الثورة في جنوب فلسطين وشمالها، إذ كان -رحمه الله- يتنقّل بين الخليل والقدس وبين القدس ونابلس لمباشرة عمليّة توزيع الأسلحة على جماعات الثوّار، في تلك الجهات، وللوقوف على احتياجات المجاهدين ليبلّغ بها المسؤولين في اللجة العربيّة من جهة؛ ويتقل أوامر وتوجيهات اللجنة المذكورة إلى قادة المقاتلين في تلك الأنحاء من جهةٍ أخرى.
ولم يقتصرْ نشاط الشيخ أمين على حمل الأسرار والتنقّل بالأخبار بين اللجنة العربيّة وبين الثوّار، كما لم يقف كذلك جهاده –رحمه الله- في سبيل تحرير فلسطين من طغيان الصهاينة وعسف البريطانيّين إبّان ذلك الحين، عند مهمة نقل الأوامر والتوجيهات وإبلاغ الرغائب وسط الحاجات في ترداده بين مختلف قيادات المجاهدين في جبال السامرة والقدس والخليل –من ناحية- وبينهم وبين أعضاء اللجنة العربيّة من ناحيةٍ أخرى، بل شارك –طيّب الله ثراه وأكرم مثواه- مشاركة فعليّة في العمليّات العسكريّة ووضع الخطط التكتيكيّة لكيفيّة الإغارات الليليّة على المستعمرات الصهيونيّة والمعسكرات البريطانيّة..
وقد اخبرني شاهد عيانٍ، أنّ الشيخ أمين العوري قاد بعض فصائل المقاتلين من المجاهدين الفلسطينيّين، في المعارك التي دارت رحاها بين "العيزريّة" و"أبو ديس" على الطريق بين أريحة والقدس وفي جهة الطور وسلوان وقريتيْ شعفاط وقلندية.
وفي اليوم الحادي والعشرين من شهر نوفمبر (تشرين) سنة ستّ وثلاثين، خرج الشيخ أمين من داره الكائنة في حارة السعديّة بالقدس القديمة، ميمّماً شطر المسجد الأقصى لأداء صلاة العصر، إذْ كان قد اتّفق من قبْلُ على "مهمّة سريّة" مع أعضاء اللجنة العربيّة تستهدف نسف قطار البضائع القادم إلى القدس من تلقاء يافا، وكان من المقرّر أن يتلقّى-رحمه الله- إشارة البدء في تنفيذ تلك الخطّة إثر انقضاء صلاة العصر ذلك اليوم، وقد شرع الشيخ أمين في تنفيذ الخطّة المذكورة حيث أظهر أمام المصلّين اعتزامه القيام بجولةٍ تفتيشيّة حول مساجد قرى بني حسن الواقعة جنوب عرب بيت المقدس، أذكر منها على سبيل المثال بلدة عين كارم وقرية الروحة ومحلّة تتر، وذلك بناءً على قرارٍ صادر من المجلس الإسلاميّ الأعلى بندبه للقيام بتلك المهمّة الذي اتّخذ فعلاً بقصد صرف أنظار الناس عن حقيقة المهمّة الوطنيّة التي نيطت به –رحمه الله- ليكون في أدائها بمأمنٍ من عيون الإنجليز.
خرج الشيخ أمين من باب السلسلة متّجهاً نحو باب الخليل وهو أحد أبواب القدس الشهيرة، فلمّا جاوزه أخذ سمته تجاه حي دار أبي ثور وظلّ سائراً على قدميْه حتّى انتهى إلى بركة السلطان حيث كان ينتظره أحد التكارنة وبين يديْه حقيبة لا يختلف مظهرها في شيء عن حقائب رجال الوعظ المتنقّلين بين مختلف القرى في فلسطين أثناء ذلك الحين، فتابع معه السير حتّى بلغا حيّ اليونان بالقدس الجديدة عند أول طريق بيت صفافة، فقابلهما رجل يقود سيّارة متوسّطة الحجم، فأومأ إلى الشيخ أمين بإشارةٍ متّفقٍ عليها أنْ اركب معي، فأخذ –رحمه الله- الحقيبة من ذلك التكريريّ وأمره أنْ يعود من حيث أتى دون أنْ ينبس ببنت شفة كي تظلّ المهمّة خفيّة حتّى يقدّر لها النجاح، ثمّ اتّجه الشيخ أمين بصحبة قائد السيّارة إلى بيت صفافة جنوب القدس الجديدة فبلغها وقت أنْ تعسجد الشفق واحتدمت زرقة السماء، وهناك أدّى الشيخ أمين صلاة المغرب ثمّ تابع سيْره إلى بتير فوصل إليها قبيل العشاء بقليل حيث التقى هناك بعض المجاهدين المنوط بهم تنفيذ عمليّة نسف القطار المذكور آنفاً، فأعطاهم الشيخ أمين الحقيبة طبقاً للخطّة المرسومة وكانت مليئة بالديناميت والمتفجّرات.
وفي تمام الساعة الحادية عشرة من مشاء ذلك اليوم، تمّ نسف القطار تحت إشراف وملاحظة الشيخ أمين الذي استشهد في تلك الحادثة إذْ شَجّتْ رأسه إحدى الشظايا المتناثرة، واستقرّت في مخّه رحمه الله.
وُلِد الشيخ أديب السرّاج سنة إحدى وتسعين وثمانمائة وألف ميلاديّة، في مدينة القدس القديمة، بمنزلٍ في حيّ باب الواد شمال غرب المسجد الأقصى المبارك، وكان أبوه يشغل وظيفة إمام جامع عمر بن الخطّاب الكائن بجوار حارة النصارى بمدينة القدس.
وكان الشيخ إبراهيم –رحمه الله- شديد العناية بتربية ابنه أديب، كثير الحرص على تنشئته تنشئة دينيّة، ومن ثمّ وجدناه يلحقه وهو لا يزال في صباه بالمدرسة الإسلاميّة بحيّ باب الساهرة الواقع في شمال شرق الصخرة المشرّفة، وفيها درس العلوم الدينيّة كالفقه والتفسير والحديث وعلم الكلام والتوحيد والعلوم اللغويّة كالنحو والصرف والمعاني والبيان والبديع بالإضافة إلى اللغة التركيّة؛ ولكنّه لم يتمّ دراسته فيها إذ رأى والده أنْ يلحقه بالمعهد الأحمديّ في عكّا، وهناك أتمّ حفظ القرآن، وأتقن تجويده، واستظهر بعض كتب الفقه على مذهب أبي حنيفة –رضي الله عنه- وحفظ طائفةً من الأحاديث الصحيحة ويُقال إنّه كان يحفظ ألفيّة ابن مالك في النحو، ومتن السلم في المنطق، ومتن الهداية في الفقه على المذهب المذكور.
وبعد أنْ قضى في المعهد الأحمدي بجامع الجزّار في مدينة عكّا نحو ثمانية أعوام عاد إلى القدس حيث ولّى منصب شيخ سدنة الصخرة المشرّفة، وبقِيَ يباشر مهام هذه الوظيفة حتّى سنة إحدى وعشرين وتسعمائة وألف (1921م)، حيث أصدر المجلس الإسلاميّ الأعلى قراراً بتعيينه رئيس هيئة الوعظ بالمسجد الأقصى، وبقِيَ يباشر مهام منصبه ذاك حتّى نُقِل إلى المحكمة الشرعيّة بالقدس القديمة، ولكن عمله هذا الأخير لم يمنعه من مواصلة دروس الوعظ والإرشاد في المسجد الأقصى إذْ بقِيَ يجلس بعد صلاة العصر من كلّ يومٍ قرب بئر الأرواح بداخل المسجد الأقصى للوعظ والتدريس.
وقد حضرت عليه في صيف عام 1935م، وكنت لا أزال في عهد الصبا فأفدت منه كثيراً في الفقه والحديث، وكان الناس وقتذاك يصفونه بالعمق في العلم والغزارة في الحفظ والوضوح في الشرح وقّوة التأثير في الوعظ والإرشاد.
وقد استهلّ –رحمه الله- جهاده في سبيل تحرير بلاده من الانتداب البريطانيّ والمحافظة عليها من العدوان الصهيونيّ، بتلك الخطبة المثيرة التي ألقاها في جموع المصلّين إثر صلاة الجمعة من شهر أيّار (مايو) سنة إحدى وعشرين وتسعمائة وألف (1921م) في مسجد الصخرة المشرّفة، وذلك إثر قيام بعض الصهاينة بقيادة فلاديمير جابوتنسكي بالهجوم على بعض حوانيت العرب في حيّ الباشورة الواقع بجوار حارة اليهود.
وقد أثار الشيخ أديب حماس المصلّين فخرجوا من المسجد غاضبين ثائرين على أولئك الصهاينة المعتدين، فاتّجهت جماعات منهم، وكان في مقدّمتهم الشيخ أديب، نحو حيّ الباشورة، لينطلقوا منه إلى حارة الصهاينة، فاعترضهم الإنجليز الذين جاؤوا للمحافظة على الصهاينة من غضبة جماهير العرب الثائرين، ولم يكونوا وقتذاك يحملون سوى العصيّ، ومع ذلك فإنّهم لم يرهبوا رصاص الإنجليز ولا خافوا بنادقهم، بل اندفعوا نحو حارة اليهود في غضبة عارمة الأمر الذي جعل الإنجليز يمطرونهم بوابلٍ من الرصاص فاستشهد بسبب رصاص الإنجليز الآثمين نحو ثمانية أشخاص وجُرِح نحو خمسة وعشرين بجراحات مختلفة.
ثمّ قُبِض على الشيخ أديب وبعض رفقائه وأودِعوا في القشلاق بقلعة القدس. كما اعتقل الإنجليز عدداً من الصهاينة وفي مقدّمتهم جابوتنسكي. ثمّ أصدر المندوب السامي أمره بالإفراج عن جابوتسكي وجميع الذين اعتقلوا معه من الصهيونيّين من غير محاكمة على الرغم من أنّهم كانوا هم البادئين بالعدوان، فاتّخذ من ذلك موسى كاظم حجّةً للمطالبة بالإفراج عن الشيخ أديب وأصحابه.
وقد استجاب المندوب الساميّ لهذا الطلب فأمر بالإفراج عنهم متظاهراً بالمساواة في الإجراءات بين العرب واليهود.
وفي سنة اثنتين وعشرين وتسعمائة وألف (1922م) عاد الشيخ أديب إلى إثارة الجماهير ضدّ الصهاينة والبريطانيّين، حيث خرج إثر صلاة الجمعة من أيّام شهر نيسان (أبريل) على رأس جمهرة المصلّين واتّجه بهم إلى سراي الحكومة للاحتجاج على جلب الحكومة البريطانيّة بضعة آلاف من الصهاينة المهاجرين من أوروبا إلى فلسطين في ذلك الحين، وقدّم على المندوب السامي مذكّرةً وقّعها معه وجهاء مدينة القدس للمطالبة بوقف الهجرة الصهيونيّة والعمل على استقلال البلاد.
وفي سنة 1929م كان الشيخ أديب أحد زعماء الثورة التي اندلعت شرارتها من المسجد الأقصى في تلك السنة، ضدّ الصهاينة والبريطانيّين والتي عمّتْ جميع قرى ومدن فلسطين.
ويُقال إنّه كان مع الشيخ مهدي حسين، خرج هذا الأخير على رأس جمهرةٍ من المصلّين في أثناء تلك الثورة لمهاجمة الصهاينة عن طريق حارة المغاربة.
وقد ظلّ –رحمه الله- يشارك مشاركة فعليّة في جميع الثورات والمظاهرات الوطنيّة حتّى انضوى جنديّاً تحت لواء الشيخ سعيد العاص في ثورة 1936م بصحبة السيّد عبد القادر الحسينيّ.
وقد خاض –رحمه الله- مع الشيخ سعيد العاص معارك كثيرة ضدّ المستعمرات الصهيونيّة والمعسكرات البريطانيّة، أذكر منها على سبيل المثال معركة وادي السرار ودير الشيخ وشعفاط، ومعركة حسّان المشهورة التي وقعت في أخريات شهر أيلول (سبتمبر) سنة 1936م، وهي التي أصيب فيها الشيخ أديب السرّاج بنحو خمس رصاصات رماه بها أحد الجنود البريطانيّين فاستقرّ بعضها في جوفه وبعضها الآخر في رأسه فوقع على ثرى الوطن المقدّس مخضّباً بدمه الشذى ثمّ لحقت روحه بأسلافه المجاهدين من رجال الدين المخلصين في جنّات النعيم.