حرص مبارك التابع لإسرائيل على النأي بمصر عن محيطها الحيوي العربي بعامة وعن فلسطين بخاصة، وأن ينأى بها عن كل قضايا الأمة، وأن يباعد بين الناس والقيم الدينية في حرب سافرة على كل ما ذكر من دوائر: العروبة والمقدسات والمسرى.. والدين بحد ذاته.. وشاء الله أن ينتقم من هذا الطاغية المتأله وأن يذله وأن يجعله عبرة ودرساً لكل طاغية متجبر متكبر لا يؤمن بيوم الحساب.
وكان زواله وإذلاله نصرة للأمة كلها ولمحيط مصر العربي ولقضية فلسطين بالذات فكانت هي المستفيد الأول والرابح الأول..
وفي مهرجان سنوي يقيم ملتقى القدس يوماً أو أياماً للقدس والأقصى وفلسطين، وقد طلبوا إلي أن تكون لي كلمة في هذا الاحتفال.. وهذه هي الكلمة أوزعها على حلقات حتى لا نطيل المقام والمقال:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله أعزنا بالإسلام.. ووحّدنا بالإسلام ونصرنا بالإسلام وجعل لنا ذكراً بالإسلام وفتح لنا آفاق الأرض بالإسلام.. والصلاة والسلام على معلم الأنام سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام. وبعد.
فشكر الله لهذا الملتقى من أجل القدس والأقصى وفلسطين.. أنهم يتبنون قضية الأمة الأولى في وقت يراد لنا فيه أن تنسى في حرب على الذاكرة لا يهدأ أوارها ولا تخفت نارها. ولئن لم تتحرك الأمة لمسرى سيد النبيين وللأقصى الذي هو قبلتنا الأولى والمسجد الثاني الذي وضع في الأرض لعبادة الله وثالث الحرمين.. فبالله لأي شيء بعده يتحركون؟ إنه الأقصى وكفى.. إنه آية في فاتحة سورة في قلب المصحف مثلما هو نبض حي في قلب كل مسلم.
فمعذرة لله ربنا وربكم أنّا نرى الأقصى يهوّد ونحن أمة قاربت المليارين ثم لا نملك حراكاً.. ما يمنعنا؟ أهو الوهم؟ أهو ضعف اليقين؟ أم ماذا؟ ومعذرة للأقصى أنّا لا نملك سوى الكلمات.. ومعذرة للمسرى مرة أخرى أنه حتى الكلمات عاجزة خامدة.. وكان ينبغي أن تكون متوهجة مشتعلة متفجرة.. لكن ما تقول موهبة عاجزة وهمة متقاعسة؟ ثم معذرة لكم أن أخاطب جمعكم الكريم بضعفي وعجزي وكان ينبغي أن يكون في الموقع هذا والموقف هذا مَن كلماته كطلقات المدافع وزخات الرصاص.. مَن تحرك كلماته راقد الهمم وفاتر العزمات.. مَن توقظ عباراته الناس من سبات..
• كيف نقرأ التاريخ؟
- الحساسية من التاريخ حالة مرضية.
- التاريخ معين التجربة الإنسانية.. ووعاء الخبرة البشرية.
- والتاريخ يقرأ في سياقه.. والتاريخ كالنهر مندفع متدفق يجري.. ونقرأ كل موجة من موجاته في سياقها وظروفها..
- ولا يجوز إسقاط حمولة الحاضر على التاريخ. بمعنى أنّا لا نحمل الأنبياء الكرام خطايا هؤلاء الأشرار اللئام الذين يحتلون أرضنا هذه الأيام..
- فهل نقرأ التاريخ بحمولة الحاضر المشحونة بالغصص ونسقطها بأثر رجعي على المرسلين الكرام الذين هم رحمة الأنام!؟ ولو بعث سليمان حياً لما كان إلا في صفنا ضد حلف الشيطان الصهيوني الأمريكي الإمبريالي العدواني الشركي الفاجر الفاسد المفسد. وهل تظنون أن يعقوب يمكن أن ينحاز إلا إليكم كمسلمين موحدين تُعلون كلمة الدين وتنصرون مسرى سيد النبيين؟
- إن إمامة المصطفى للأنبياء واحد من معانيها أن ينقشع من عقلنا مثل هذا الإسقاط من الحاضر على التاريخ. «تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تُسألون عما كانوا يعملون»
• مصر في القرآن.. والأرض المباركة في القرآن.
ذكرت «مصر» في القرآن 4مرات بهذا اللفظ. سوى الإشارات الأخرى الكثيرة لأحداث تمت في هذا المكان وإن لم يذكر المكان. فهو تصريحاً وإشارة أكثر مكان ورد ذكره في القرآن، وما ذاك فيما أرى إلا لأهمية مصر ودورها التاريخي والجيوسياسي.. وهذه مواضع ذكرها: «وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا بمصر لقومكما بيوتاً»87 يونس سورة10. «وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه..» 21 سورة يوسف12. «وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين» 99 سورة يوسف رقم12. «ونادى فرعون في قومه قال: يا قوم أليس لي ملك مصر» 51 الزخرف سورة43.
وذكرت الأرض المباركة بوصف «باركنا فيها» 4مرات سوى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله. وهذه المواضع: «وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها» الأعراف137. «ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين» الأنبياء71. «تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها..» الأنبياء81. «وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة» سبأ18
قلت: إن ملكة باسمها الصريح ذكرت مرتين وبوصف أم القرى مرتين فهذه أربع.
• «والتين والزيتون وطور سينين»
ذكر الله الطور عشر مرات ختمها بسورة التين: «والتين والزيتون وطور سينين» فجمع في هذا القسم بين فلسطين وطور سيناء.. ولاحظ هذا الجمع كذلك: «وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين» والشجرة المقصودة هنا هي شجرة الزيتون. والزيتون رمز فلسطين. بدلالة سورة «والتين والزيتون» وبدلالة الواقع. ومع هذا جعل القرآن شجرة الزيتون رمز فلسطين، مرتبطة بالطور، ليقول لك إن المكانين مباركان وهما منبت الشجرة المباركة وتوحد بينهما الشجرة المباركة، ويشتركان في استنبات هذه الشجرة!
• في قصة يوسف.. وقفات.
- عندما ألقي يوسف في الجب إبعاداً من إخوته له من فلسطين وهذا هو الافتراض المكاني الأقوى.. ولا عقدة عندنا من هذا.. التقطته مصر.. واحتضنته مصر.. وصحيح أنها باعته واشترته وسجنته.. لكنها عادت فأكرمته وسلمته مقاليدها.. فمسحت الإساءة بالإحسان!
- وعندما جاء إخوة يوسف إلى مصر عندما ضربت المجاعة والقحط المنطقة برمتها، وفلسطين منها.. علم إخوة يوسف أن الصدر الحاني هو مصر.. وأن شريان الحياة في مصر ومن مصر وما خاب ظنهم.. وقد جاء إخوة يوسف من فلسطين إلى مصر أربع مرات في أربع رحلات في جميعها كانوا يتلقون الإكرام من مصر ولم يكن عند مصر حساسية أن يحكمها يوسف القادم من فلسطين.. مثلما لم يكن عندها حساسية أن يكون أحد أعظم شيوخ الأزهر فيها الشيخ يوسف خال الدكتور فضل عباس رحمه الله.
- وقوله تعالى في سورة يوسف: «ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون» أفهم أنها وصلت الحد الفاصل بين مصر وفلسطين وهو حد وهمي بطبيعة الحال! لقد أنقذت فلسطين مصر من أزمتها ومجاعة كان يمكن أن تعصف بها من خلال إدارة يوسف لمصر، وقيادة مركبها إلى بر الأمان، في قيادة استراتيجية عبرت الأزمة، واجتازت المحنة في سلاسة ويسر. وردت مصر الجميل بجميل فأنقذت هي بدورها من جاءها من فلسطين من مجاعته ومن الجدب والمحل الذي ضرب الإقليم برمته.
- لقد كانت حركة القوافل نشطة متواصلة لا تكاد تنقطع من خلال إشارات قصة يوسف. أرأيت إلى قول الإخوة: «وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة..» ولم يخب ظنهم فسرعان ما جاءت سيارة كما قال الله: «وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم..» ولو كانت القوافل على غير هذه الوتيرة لقضى يوسف في الجب.. ولكن الله سلم.
إني أعتقد كما قلت قبل سبع وعشرين سنة حين كتبت كتابي عن سورة يوسف إن من أهم مرامي القصة هذا الربط المحكم بين فلسطين ومصر..
د. أحمد نوفل
مدخل..
قلت في حلقة سابقة إن هذا هو نص كلمتي في ملتقى القدس أنشرها على حلقات وهذه هي الحلقة الثانية بينت في الأولى: النظرة إلى التاريخ وكيف نقرأ التاريخ. ثم علاقة سيناء بفلسطين كما جلاها القرآن، وعلاقة مصر عموماً بفلسطين من خلال قصة يوسف.
وفي هذه الحلقة نواصل الحديث، ولكن من خلال قصة موسى عليه وعلى الأنبياء الكرام أزكى السلام، ثم العلاقة التاريخية عموماً بين مصر وفلسطين.
ولأهمية هذه العلاقة، فقد حرص الأمريكان والصهاينة (حلف الشيطان) على حرمان الأمة من معين القوة في العرب من مصر. ورأينا كيف قطع مبارك مصر عن محيطها الحيوي العربي وفلسطين بالذات، وأقام الجدار الحديدي ليحاصر فلسطين (غزة بالذات) وتواطأ مع عباس ليمنع المصالحة، وشدد عليه -وعباس لا يحتاج إلى توصية لمنع المقاومة في طول الضفة وعرضها- وشاء الله أن ينقذ الأمة وينقذ مصر وينقذ فلسطين من هذا المجرم الكبير والخطير الذي كان يقود قاطرة العالم العربي نحو التدمير. وجاءت أيد نظيفة كفؤة تريد أن تدير الأمور فتصدى "المعوّقون" يعرقلون المسير، لتظل مصر في الركود في مستنقع التبعية لأمريكا و"إسرائيل". ولكن الله غالب، وبدأت مصر تتطهر من رموز التبعية، وما أنجز في تركيا في عشر سنين أنجز في مصر في شهرين. فإلى الحلقة الثانية.
* والتاريخ دورات.. موسى بعد يوسف
عندما ضاقت مصر بموسى عليه السلام وخرج منها خائفاً يترقب، جاء إلى مدين، ومدين جنوب الأردن وجنوب فلسطين فيما أرى، وقد احتضنته مدين عشر سنوات، وقال الرجل الصالح في مدين (وليس هو شعيب بالمناسبة؛ إذ الفاصل الزمني بعيد جداً بين شعيب وموسى) قال لموسى بعد أن "جاءه وقص عليه القصص قال: لا تخف نجوت من القوم الظالمين"، ثم بعد السنوات العشر أو العشر سنين بلغ الحنين ذروته واشتاق المهاجر إلى بلده ومسقط رأسه وحنت الديار كذلك لأهلها، قفل موسى راجعاً إلى مصر، وكانت له فيها مواجهات مع طاغيتها، ثم كانت هجرته الثانية إلى الأرض التي بارك الله فيها.
وفي كل ذلك ذهاباً وإياباً.. عبوراً لسيناء.. ومروراً بسيناء.. وتوقفاً في سيناء.. وتلقياً للرسالة في سيناء.. ورؤية المعجزات في سيناء..
ثم عندما قفل موسى عائداً أو مهاجراً هجرته الثانية في الخروج الكبير من مصر عبر سيناء مرة أخرى إلى مدين ثم إلى الأرض المباركة المقدسة وسجلت سورة المائدة هذا المشهد: (وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين. يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم..) عندها وقف الإسرائيليون الموقف الجبان المستخذي والمخزي، فحرم الله عليهم الأرض المقدسة تحريماً أبدياً (قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض) عندها قضى بنو إسرائيل حياتهم في التيه في سيناء، وكان من شأنهم ما كان.
ثم كان دخول الأنبياء إلى فلسطين استثناء من التحريم، والاستثناء لا يأخذ حكم القاعدة، بل يظل استثناء، وتظل قاعدة التحريم هي الأصل والأساس.
أما الآن فهي محرمة عليهم بالقطع والمطلق، لكن تنفيذ الحكم القضائي الإلهي يحتاج إلى أداة تنفيذية هي أيدي المؤمنين!
* العلاقة التاريخية بين فلسطين وأرض الكنانة في العصور القديمة عامة وفي العصر الحديث خاصة.
رأينا كيف يؤصل القرآن للعلاقات بين مصر وفلسطين، وبين الأرض المقدسة والوادي المقدس طوى في طور سينين (فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى) طه 12، وكيف وصف فلسطين بالأرض المباركة ووصف سيناء بالوصف ذاته: (نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة..) القصص30. وكيف ربط بينهما بالشجرة المباركة شجرة الزيتون.
وكيف أقسم بهما معاً مقترنتين: (والتين والزيتون وطور سينين)، ولو كنا ندرك قرآننا ونعمل بمقتضياته وموجباته لكان لنا شأن آخر. ولو كنا نفعّل قضية الولاء المحورية في ديننا ومبدأ النصرة لكان لنا شأن آخر. ولو تجاوزنا القطرية التي زرعها الاستعمار والخرائط التي رسمها ونظرنا إلى أنفسنا أننا أمة واحدة وقضايانا أنها قضية واحدة لكان لنا شأن آخر. إن تبني الأمة كلها كل قضايا الوطن والدين والأمة مصدر قوة للجميع لا مصدر ضعف كما يزعم كل دعي رقيع صنيع من صنائع الاستعمار.
ومرت العلاقة بين مصر وفلسطين، وبخاصة قطاع غزة على خير حال، وخاصة في زمن عبد الناصر رغم ما شاب عهده، لكن هذه الناحية بقيت إلى حد بعيد بخير.
وكم كان عمرو بن العاص استراتيجياً مقداماً مستشرفاً، وبعيد النظر وعميق الفكر وعميق الغور عندما استأذن الفاروق العظيم في فتح مصر، وليس معه إلا أربعة آلاف جندي، فأذن له وكان فتح مصر، وكان من يمن مصر وبركة مصر على الأمة وعلى مستقبلها ما كان.
ثم لما جاء زحف الجراد من الشرق ومن الغرب في آن معاً، التتار من الشرق، وهم قطعة من العذاب وقطعة من الجحيم، والصليبيون من الغرب، وهم طاعون أسود، وموج متدفق لا يتوقف، قارة أوروبا تلقي بفلذات أكبادها علينا عبر البر والبحر في مد لا ينحسر ولا يتوقف وقد كان لمصر قصب السبق في وقف الزحفين.
والتاريخ دورات، فكان أن اختطف الفاطميون في غفلة منا هذا البلد العظيم في إبان تلك الحملات، وعلم صلاح الدين أن كسر شوكة الصليبيين لن تكون إلا بأجناد مصر، فطهرها من الفاطميين عملاء الصليبيين، وطهر بها فلسطين من رجس الصليبيين، وبالذات بيت المقدس الذي جعله رضي الله عنه حلم حياته وأمل أمة الإسلام حتى حققه الله له.
وكم من مرة وصل فيها صلاح الدين حافة الهلك،ة فما كان ينقذه إلا أجناد مصر تصل في اللحظة الحرجة فتقلب سير المعركة.
وإني أزعم أن القضية الفلسطينية كانت محركاً مهماً لثورة 23 يوليو 52، ولا أريد أن أقول إنها كانت المحرك الأول.
وإن القضية الفلسطينية، وارتهان مبارك لأمريكا و"إسرائيل" كان محركاً مهماً للثورة المصرية التي صححت مسار الثورة الأولى ثورة 52 بثورة 25.
ومن لم تحركه القضية الأولى للمسلمين قضية فلسطين، وقضية مسرى سيد المرسلين فليشك في إيمانه وإسلامه وانتمائه لهذه الأمة.
والشعب المصري ما كان إلا أروع الشعوب العربية تديناً وعاطفة وولاء وانتماء للأمة وقضاياها، وما نكص يوماً ولا نكل مرة، لكن موقف الشعب شيء، والقيادات المفروضة على الشعب شيء آخر.
والآن وقد انتصرت ثورة شعب مصر، فإن العلاقة من المفترض أن تمتّن وأن تتوثق، وأن تتوقف كل معكرات صفو هذه العلاقة، فقد زال المحرض على شعب فلسطين وقضية فلسطين لصالح العدو، زال مبارك ونظام البلطجة، وحل محله رئيس منتخب من شعب مصر الذي لا يمكن أن يكون إلا لفلسطين.
ولذلك فقد كانت فرحة قطاع غزة بفوز مرسي، لا أبالغ إن قلت إنها تفوق على فرحة أهل مصر وشعب مصر؛ لأن المستفيد الأول من هذا التغيير هو شعب القطاع أولاً وبالذات
ولست أبالغ أيضاً إذا قلت إن الله تعالى بحكمته البالغة يهيئ الأجواء لتحرير فلسطين ومسرى سيد النبيين، بحراك الجماهير التي أسقطت نظام حراسة "إسرائيل" وحماية المحتلين ومحاصرة غزة الصمود والمقاومة. ما كان يمكن أن تعود فلسطين إلى الحمى قبل أن تعود الدول الحارسة لـ"إسرائيل" إلى حظيرة الأمة وإلى الولاء للأمة وقضاياها.
ما جرى عظيم، وبالذات على صعيد القضية الفلسطينية. وهل تعجبون أن يقول العدو عن خطوة إزاحة العسكر إنها أخطر من النووي الإيراني؟ وهل تعجبون إذا قرأتم قول يهودي قال: من يقاتل عنا معاركنا في سيناء وغيرها بعد الآن؟
الله يجزيك الخير أخي الكريم " ليفربولي " على متابعاتك الدائمة واثرائك لمختلف المواضيع وجهودك الموصولة
بارك الله فيك
وكما تفضلت تبقى للدكتور نوفل نظراته الأخاذة واستشرافاته الخاصة بارك الله فيه وأطال عمره كم حببنا في الأوطان وفي الجهاد وفي القرآن العظيم جزاه الله عنا خير الجزاء
هذه هي الحلقة الثالثة والأخيرة من هذه السلسلة التي هي في الأصل كلمة ألقي موجزها في ملتقى القدس الذي يعقد سنوياً ويتضمن عدة نشاطات. وكنا تكلمنا في الحلقتين السابقتين عن التاريخ وعن علاقة مصر بفلسطين وسيناء بالذات، وذلك من خلال قصص القرآن ويوسف وموسى بالذات.
والعجيب أن كتب قصص القرآن ما تركت نبياً إلا وجعلت له رحلة إلى مصر إن بحق وإن بغيره. لكن هذا بحد ذاته مؤشر على مركزية مصر، ومحورية مكانتها ودورها وموقعها الجيوسياسي كما يقول جمال حمدان عن مصر في عبقرية المكان.
فعيسى كما قالوا زار مصر ويحيى زار مصر وإبراهيم زار مصر، ولا يكادون كما أسلفت يتركون أحداً إلا «ويزورونه» مصر.
ويكفي مصر أن واحدة من أمهات المؤمنين من مصر هي مارية القبطية. وزعموا بحق أو بغيره أن هاجر امرأة إبراهيم وأم إسماعيل أبي العرب مصرية، فتكون اكتملت الحلقات وأحطنا بمصر من جميع الجهات.
على أننا لسنا أنانيين إذ نتكلم عن هذه الصلة، لكن شروط الزعامة متوفرة في مصر ولا يجوز لها أن تتخلى عن موقع وضعها الله فيه.
فإلى الحلقة الثالثة نبتديء باللغة ثم عن إدراك العدو لمكان ومكانة مصر ثم خلاصة وتوصيات.
* «كنن» في لسان العرب
قال ابن منظور في اللسان في معاني الجذر كنن: «كنن: الكِن والكنة والكنان: وقاء كل شيء وستره. والكن: البيت أيضاً. والجمع أكنان. وفي التنزيل العزيز: «وجعل لكم من الجبال أكناناً» وكل شيء وقى شيئاً فهو كنه وكنانه. وأكن الشيء: ستره وفي التنزيل: «أو أكننتم في أنفسكم» وفي التنزيل كذلك: «كأنهن بيض مكنون» أي مستور عن الشمس وغيرها. ومن معناه: مصون. والكنانة: جعبة السهام تتخذ من جلود. وكنانة: قبيلة من مضر». أ.هـ. بإيجاز شديد.
قلت: ولم يتعرض اللسان لوصف مصر بالكنانة أو أرض الكنانة، لكن المعاني اللغوية منطبقة على مصر: فهي وقاء الأمة ودرعها عبر التاريخ، وإن أراد لها الخونة أن تنكفي وتتخلى عن رسالتها. وأسوأ دعوة: القطرية المقيتة وهي أسرع السبل للانتحار والاندثار والانهيار.
ومصر مصونة إذ يسميها أهلها: مصر المحروسة، وهي جعبة السهام أي مستودع الرجال ومستودع القوة والطاقة، والقوة الناعمة والخشنة مستقرها مصر، والعالم العربي بلا مصر خفيف الوزن قليل الحيلة قليل الدفع والنفع! ومصر «بيت العرب» وقد جاء وقت زمن ناصر كانت جامعات مصر مفتوحة بالمجان للعرب والأفارقة والآسيويين.
وقال في المعجم الوسيط: «كن الشيء كنوناً: استتر. وكن الشيء كناً: ستره. وأكن الشيء: كنه. «إن ربك ليعلم ما تكن صدورهم» كنَّن الشيء مبالغة في كن، يقال: اكتنت المرأة إذا غطت وجهها حياء. استكن الشيء: استتر. والكنان: الغطاء. «وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه» الكنانة: جعبة صغيرة من أدم للنبل. والكنانة: أرض مصر على المجاز. والكن: كل ما يرد الحر والبرد من الأبنية ونحوها والجمع أكنان وكنان: «ومن الجبال أكناناً» والمكنون: المستور عن الأعين» «في كتاب مكنون».. الخ.
* العدو أكثر إدراكاً لأهمية العلاقة بين مصر وفلسطين
حرص العدو من وقت مبكر أن يخرج مصر من معادلة الصراع، واستغل وجود قيادة عميلة معجبة بالغرب مفتونة به هي السادات ثم مبارك، لتعميق الشرخ بين مصر والعالم العربي. فبدأ السادات من قمة انتصار الجيش المصري في حرب رمضان/ أكتوبر73 من تلك النقطة بدأ عرض السلام مع «إسرائيل» والذهاب إلى القدس. فكأن النصر ما أنجز، وكأن الحرب ما كانت حرب تحرير وإنما حرب تحريك لعملية سلام. بدأها السادات! ورفع السادات شعار مصر أولاً وأراد به عزل مصر عن محيطها العربي، وأن مصر تعبت من القتال من أجل «الآخرين» وبالذات من أجل فلسطين.
وإنه في الوقت الذي لا يجد المصريون فيه الفول والطعمية يتمتع غيرهم بخيرات وفيرة وحياة رغدة كريمة، فلماذا نضحي من أجل الآخرين؟ هكذا كان منطق الإعلام المصري! ثم جاء مبارك فتجاوز السادات بسنوات ضوئية في التبعية! وفي إقصاء مصر عن محيطها العربي.
وبرز من الإعلاميين التابعين للسياسات الرسمية المصرية من كرر النغمة ذاتها والمعزوفة المعروفة إياها، حتى عمقوا في وجدان بعض فئات الشعب المصري هذه القضية. ولكن الجمهرة في الأعماق بقيت مع فلسطين! وسلوك المصريين نحو غزة برهان على ما أقول!
ولأن العدو أكثر إدراكاً لأهمية العلاقة بين مصر وفلسطين وقطاع غزة بالذات فقد قام بعملية قتل الجنود المصريين، وحرك أدواته في مصر من فلول نظام مبارك ورجالات الإعلام العملاء والمرتزقة، فكان هتافهم من أول ساعة ضد فلسطين وضد غزة وضد المقاومة وضد حماس.. فما سر هذا الهجوم؟ إن هذا بحد ذاته يكشف اليد التي صنعت أحداث رفح المصرية وعملية سيناء. إنهم الأعداء وليس مهماً من ينفذ وتحت أي شعار. فالحمقى كثر. والعملاء كذلك.
* خلاصة وتوصيات
القرآن العظيم كنزنا المعرفي وكنزنا الاستراتيجي وراسم خارطة طريقنا نحو العزة والمنعة والنصر والتمكين، وقد بين كتابنا الرابطة الوثقى بين مصر وفلسطين وكيف ينبغي أن تكون.
وبيّن واجب النصرة وحق الأخوة، وما علينا إلا لنعمل لتفعيل هذه القيم، كما يعمل العدو لتفكيك منظومة هذه القيم من أمثال محطة «الفراعين» وغيرها كثير من محطات التجهيل والتضليل وخدمة مخططات العدو.
ولئن كانت محطات الفجور تنتشر في الفضاء العربي انتشار الفطر، فإن واجبنا الحتمي مقارعة ما يجري في عالمنا العربي وإعلامنا العربي من تدمير الأخلاق ومنظومة القيم.
أن تكون كنانة الله مصر هذا شرف ما بعده شرف، وأن تكون مصر الكنانة مستودع الطاقة والرجال والأبطال والقادة والعلماء والرواد والمبدعين وصناع الحضارة فهذا اختيار الله، وأن تكون مصر الكنانة لفلسطين ومع فلسطين وللقدس وللأقصى مهما بلغت التضحيات فهذا اصطفاء لا يحوزه أحد، أضف إلى أنه منطق الدين والعقل والسياسة والتاريخ والجغرافيا والواقع والاستراتيجية والمصلحة، فبأي حديث أو منطق بعده يتكلمون.
وإنما تعظم الأمم والشعوب بالتضحيات وبذل الإمكانات لا بالانكفاء على الذات وادخار الطاقات، وما جرى في مصر من تحولات نصر للقدس والأقصى والمقدسات، ومصر لن تكون إلا عند الأمل بها وعند أقدار الله لها.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
جميل ورائع جداً
من أجمل ما قرأت للدكتور أحمد نوفل حفظه الله ونفعنا به كثيراً
جزاك الله خيراً يا أخي الكريم يحيى على كل ما تقدمه لنا من مواضيع مفيدة وقيّمة
في ميزان حسناتك